إلى أين؟

 

المطران بطرس المعلم

أمس في نيجيريا، وقبله في نجع حمادي، وقبله في ماليزيا والهند والسودان والجزائر والعراق… قتلى المسيحيين بالمئات وجرحاهم بالآلاف، ومشرَّدوهم بمئات الآلاف، ومهجَروهم بالملايين، وكنائسهم وأديرتهم، ومدارسهم ومستشفياتهم، ومياتمهم ومستوصفاتهم، ومكتباتهم ومتاجرهم وبيوتهم، المهدّمة أو المحروقة أو المنهوبة، لا تعَدّ ولا تحصى. فتداركا للخطر، ونحن نرى النار تنتشر وتقترب، رأينا أن نلفت نظر قرائنا ومواطنينا الكرام إلى بعض ما يتهددهم في هذا الشأن، إن لم تكن حملة توعيةٍ بصيرة من قِبَل كبار المسؤولين.

 

الظاهرة ليست بجديدة، فقد كان دوما بعض احتكاكات طائفية بسيطة، سرعان ما كان العقلاء من مختلف الأطراف يحتوونها بالحكمة. ولكنها كانت على تنامٍ مطرد. ومع مطلع القرن الحالي، تنبّهَ لخطرها كبار مفكّري الأمة، ولم يكن المسلمون أقل يقظة من إخوانهم المسيحيين. ففي 25-12-2000، أي قبل وفاته بأيام، وعلى ضوء الخبرة الأليمة التي عاشها لبنان في حرب الخمس عشرة سنة، سجّل المغفور له الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين، نائب رئيس المجلس الشيعي الأعلى في بيروت، سجّل بصوته ما نُشر لاحقا في كتابه "الوصايا" : "القضية التي بدأت تثير قلقا متزايدا في الأوساط المسيحية، العربية والأجنبية، هي وجود المسيحية في الشرق، وحضور المسيحية في الشرق. وأنا أرى أن من مسؤولية العرب والمسلمين، أن يشجّعوا كل الوسائل التي تجعل المسيحية في الشرق تستعيد كامل حضورها وفعاليتها ودورها في صنع القرارات، وفي تسيير حركة التاريخ، وأن تكون هناك شراكة كاملة في هذا الشأن بين المسلمين والمسيحيين في كل أوطانهم وفي كل مجتمعاتهم. ومن هنا فإني أشعر أن المراجع الإسلامية الكبرى مسؤولة عن هذا الأمر، وأن المراجع الفكرية والتوجيهية في الإعلام وفي الثقافة وغيرهما، يجب أن تركّز على هذه النقطة بكل ما يمكن من قوة وفاعلية…".

 

وبعد 11 أيلول 2001، تضاعف خطر التطرف الديني، وتضاعف معه لدى بعض القادة والمفكرين تحسس هذا الخطر، والمسؤولية في تداركه. أليس هذا بالذات ما أطلقه، من بيروت أيضا، نداء الأمير طلال بن عبد العزيز آل سعود، في 29-1-2002، وقد بدأ يستشعر الخطر الداهم: "يتعرّض العالم العربي لنزيفٍ بشريّ واجتماعيّ وثقافيّ وسياسيّ واقتصاديّ، على جانب كبير من الخطورة، هو هجرة العرب المسيحيين… إنه واقعٌ صعب ستخرج عنه آثارٌ بعيدة على مصير عالمنا العربي, وسيغيّر من طبيعة المنطقة، ومن أسس ازدهارها وسلامها واستقرارها، إنْ لم يتخذ العرب، مسلمون ومسيحيون على السواء، قرارا بالتصدي لهذه الظاهرة… كان العرب المسيحيون، ولا يزالون، نتيجةً لثقافتهم المتنوعة المناهل، يخلقون تحدّيا مستمرا في الثقافة والفكر، وهجرتُهم تلغي هذا المعنى… وجود المسيحيين في العالم العربي يعني بقاءهم الفاعل فيه، فهم فيه من عناصر التكوين الأولى، التي يمنع بقاؤها بيئة تفترض التعصب والتطرف، وبالتالي العنف المؤدّي إلى كوارث تاريخية… بقاؤهم قوة لقضايا العرب… أما هجرتهم فقوة معاكسة. بقاؤهم خيار عربي باعتماد الديمقراطية، وانتهاجها في الاحتكام الى الإنسان والمُواطن والعقل والحق والحرية والإبداع…- باختصار، إن هجرة العرب المسيحيين ، في حال استمرارها، هي ضربة عميقة الى صميم مستقبلنا، ومهمّتُنا العاجلة هي منع هذه الهجرة…".

 

ويتفاقم الوضع بعد حرب العراق، ولكنْ، لحسن الحظ، فالوعي أيضا يتزايد معه عند المفكرين. ففي 25 أيلول 2008 نسمع مثلا السيد دريد كشمولة، محافظ الموصل المسلم، يصرّح: "إن أعمال العنف ضدّ المسيحيين أدّت الى نزوح أكثر من ألف وثلاث مئة عائلة، غادرَت منازلها خلال الأيام القليلة الماضية، وذلك في أعقاب مقتل أحد عشر مسيحيا، بينهم الطبيب والمهندس والصيدلاني…وقد تمّ العثور أيضا على سبع جثث لمسيحيين قتِل أصحابُها بالرصاص…". ويقول السيد رضوان السيد، العضو المسلم في لجنة الحوار المسيحي الإسلامي في لبنان: "ليس شيء من هذا التوتر والتوتير والتمييز عفويا أو تلقائيا، بل هو مخطط ومنظم… الوضع في العراق معقد، لكن الجميع، عربا وأكرادا، في تلك المنطقة، هم من المسلمين، فلا شك أن الذين يهَجِرون المسيحيين هم من المسلمين، وينتمون الى هذا الفريق أو ذاك. والمراد من التهجير التأثير على التوازنات السكانية. ففي الصراع بين العرب والأكراد، يكون المسيحيون عامل خير وتوازن. ولذلك يقومون بتهجيرهم".

 

بين العرب والأكراد، بين السنة والشيعة، بين المسلمين والدروز، المسيحيون العرب كانوا دوما، ولا يزالون، عامل خير وتوازن، وجسر تلاقٍ وسلام وأخوّة بين الجميع. "ولذلك يقومون بتهجيرهم". فمن هو، في النهاية، صاحب المصلحة في إيذائهم وإحراجهم، بغية إخراجهم وتهجيرهم؟ أفما آن للذين ينفذون، عن إدراك أو غير إدراك، هذا المخطط الجهنمي، أن يعوا الى أي كارثة يسيرون، وأنهم إنما مؤامراتٍ شيطانية ينفذون، لأنهم يلحسون المبرد ولا يعلمون، وأنهم بأنفسهم قبل غيرهم الإساءةَ والأذى يُلحِقون؟

 

هذا ما تنبّه اليه عدد من القادة وعلماء المسلمين، من رجال دين وفكر، وأساتذة جامعات، في مختلف أنحاء العالم، فتنادى ثلاث مئة وثمانية عشر من كبارهم، فوقّعوا تلك الرسالة الشهيرة، بعثوا بها صبيحة عيد الفطر بالذات، في تشرين الأول 2007، الى قداسة البابا بندكتس السادس عشر، والى كبرى القيادات المسيحية الأخرى، بعنوان "تعالوا الى كلمة سواء"، يدعون فيها الى تناسي الصراع بين الأديان، والى مسيرة التفاهم والتعاون بين المسيحية والإسلام. ثم كانت الزيارة التاريخية التي قام بها، في 6-11-2007، الى الفاتيكان، العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز، "خادم الحرمين الشريفين"، للقاء قداسة البابا بندكتس، "خادم خدّام الله"، ثم ما كان من استقبال البابا نفسه لوفد ممثّلي أصحاب الرسالة. ثم المؤتمراتُ الدولية على أعلى المستويات، في قاعات هيئة الأمم المتحدة بالذات، برئاسة أمينها العام، ومشاركة مختلف طواقمها، وبحضور الملوك ورؤساء الدول والوزارات أنفسِهم  على رأس وفود دولهم. ولا تزال تلك الحركات المباركة على تزايد حتى اليوم. فهل هو انقلاب عليها، وعلى ما توسم فيها روّادها الخيّرون من خير للأمة جمعاء، ما نراه اليوم من مظاهر التزمت والتطرف والعنف المستشري؟

 

أمام الخطر الداهم ندعو الى التعقل والحكمة، والتصدي لهستيريا التعصب والانغلاق الديني، أيّا كان مصدره، تمشيا مع إرشادات قداسة البابا، التي وجهها الى العالم أجمع يوم الأحد الماضي من كنيسة القديس بطرس في رومة. وكان الرؤساء الروحيون المسيحيون عندنا قد أطلقوا قبل أسابيع، من القدس ملتقى الديانات، الوثيقة التاريخية "نداء الحق"، موجَها الى الضمير العالمي، يشرح له، بشجاعة نادرة، أن المشكلة المركزية لجميع أزمات الشرق الأوسط  والمنطقة، وربما الأزمات الدولية، إنما تكمن في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني العربي، والذي بسببه أدخِلت الأديان أحيانا كثيرة كغطاء للصراع السياسي. فالحل السياسي بقوة والحق والعدل وكرامة الإنسان، لا بحق القوة والبطش وإذلال الإنسان، هو الطريق لإبطال الصراع الديني وإفراغ تشنجاته.

عن أبونا