بقلم فادي حليصو*
القاهرة، الثلاثاء 2 مارس 2010 (Zenit.org).
هنالك عبارة ما ننفك نسمعها وهي أن الله محبة، إنه لا شيء سوى المحبة. ولكن لهذه المحبة شكل مميز هو الرحمة. ورحمة الله هي محبته للخطأة، لمن هم بعيدون عنه سواء من خلال الرفض أو اللامبالاة. ولكي نفهم عرض، طول، ارتفاع وعمق هذا السر العظيم، سر محبة الآب ورحمته، فقد روى لنا يسوع هذا المثل الجميل، والذي لربما ينبغي تغيير اسمه من مثل "الابن الضال" إلى مثل "الأب الرحيم".
نعم، الأب الرحيم الذي لا يحبنا فقط بالرغم من خطايانا، وإنما يحبنا بسبب خطايانا التي تستثير شفقته علينا، هذا ما يقوله لنا القديس بولس في رسالته إلى أفسس "ولكِنَّ اللهَ الواسِعَ الرَّحمَة، لِحُبِّه الشَّديدِ الَّذي أَحَبَنَّا بِه، مع أَنَّنا كُنَّا أَمواتًا بِزَلاَّتِنا، أَحْيانا مع المَسيح" (أف 2: 4-5). وهو ما يقوله المسيح ذاته في إنجيل يوحنا: " فإن الله أحبّ العالم حتى إنه جاد بابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3: 16).
لمن يروي يسوع هذا المثل؟ يخبرنا القديس لوقا في أولى آيات الفصل الخامس عشر "وكان الجباة والخاطئون يدنون منه جميعا ليستمعوا إليه". كما يبدو أنه يرويه أيضاً لمجموعة من الفريسيين والكتبة، الذين وبالرغم من الصورة السلبية التي نكونها عنهم من خلال صفحات الإنجيل، فإنه لا يمكننا أن ننكر أنهم كانوا يهوداً تقاة ومستقيمين، يطبقون الشريعة بحذافيرها لا بل ويتفننون في وضع التعليمات الصارمة المتعلقة بمختلف مجالات الحياة حتى أنه يقال بأن هذه التعليمات بلغت السبع آلاف! لقد كان هؤلاء الفرّيسيون والكتبة يتمتمون فيما بينهم متذمرين من يسوع لأنه يستقبل الخاطئين ويأكل معهم! (لو 15: 2). لقد ارتاعوا من قرب يسوع من هؤلاء الأشخاص المرفوضين، الخاطئين من كل نوع: زناة، عشّارين، متعاونين مع الاحتلال الروماني… وما الذي يفعله يسوع في هذه الحالة؟ إنه يروي هذا المثل ليكشف لنا من خلاله عن نظرة الله تجاه الخطاة. عن موقف الله من هؤلاء الأشخاص.
هكذا إذاً يضعنا لوقا في بداية الفصل الخامس عشر أمام هذا الصراع، قرب يسوع من الخطاة ونفور الفريسيين والكتبة. نفور الطبقة المتدينة اليهودية من تصرفه هذا. ألا يتكرر ذلك في عالمنا اليوم؟ ألا نجد أنفسنا بعض الأحيان في مواقف شبيهة؟
بدوره يسوع، ولكي يساعد هاتين المجموعتين من الناس، فإنه يروي ثلاثة أمثلة في هذا الفصل من إنجيل لوقا، هي في الواقع تشكل مثلاً واحداً للكيفية التي يضيع بها الناس في الخطيئة:
– يروي أولاً مثل الخروف الضائع الذي يمثّل الأشخاص الضائعين بسبب إهمالهم الشخصي.
– ثم يروي لنا مثل الدرهم المفقود، الذي يمثل الأشخاص الضائعين بسبب إهمال الآخرين.
– ثم مثل الابن الضال الذي يمثّل الأشخاص الضائعين بسبب تمردهم الصريح وقلّة طاعتهم.
– وأخيراً، ينهي يسوع بالأخ الأكبر، الضائع بسبب موقفه الأناني.
عندما يجد الراعي خروفه الضائع فإنه يفرح به ويحتفل مع الأصدقاء والجيران ويختتم يسوع المثل قائلاً: " أقول لكم: هكذا يكون الفرح في السماء بخاطئ واحد يتوب" (لو 15: 7).
وكذلك الأمر بالنسبة للمرأة التي تمتلك عشر دراهم من الفضة، فإنها ما أن تفقد أحدها، حتى تترك كل شيء وتبحث عن درهمها المفقود وعندما تجده تفرح علناً. وهنا أيضاً يختم يسوع بذات العبارة " أقول لكم: هكذا يفرح ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب" (لو 15: 10).هكذا إذاً، يسعى الله دوماً إلى رد الخاطئين إليه. وهكذا يفرح عندما يعود هذا الخاطئ.
هكذا كان الحال دوماً، فمنذ أن وقع آدم في الخطيئة والله يبحث عن وسيلة يرده بها إليه: "فنادى الرب الإله الإنسان وقال له: أين أنت؟" (تك 3: 8). الله حزين بسبب خطيئة آدم، ليس يبحث عنه ليعاقبه، وإنما ليخلصه. إنه يعد إبراهيم فيما بعد "ويتبارك بك جميع عشائر الأرض" (تك 12: 3). حتى إنه أرسل يونان لينذر أهل نينوى. "فإن الله لم يرسل ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم" (يو3: 17). والإنجيل مليء بالقصص عن سعي يسوع إلى إعادة الخطأة: الرّجل المسكون بالشياطين والذي يسكن المقابر، المرأة النازفة التي لمسته، ، زكّا العشّار، اللّص على الصّليب…
بهذا الشكل إذاً، يمهد يسوع لمثله الثالث، عن أب له ابنان…
لا يمكننا إلا أن نتخيل دهشة وصدمة الفريسيين أثناء سماعهم لهذا المثل. ففي ذلك المجتمع وذلك الزمان، لا بل حتى الآن في مجتمعاتنا الشرقية، فالأمر يشكل فضيحة: أن يطالب أحد الأولاد أباه بحصته من الميراث. إنه كمن يقول لوالده: آن لك أن تموت، إذ لم أعد بحاجة إليك. إنها لفضيحة كبيرة وتصرف شائن بكل المقاييس.
الابن الأصغر يطالب بحصته من الميراث ليقوم بتبذيرها في حياة الفجور. لعلها حالتنا نحن أيضاً: تلقينا هبة الحياة ونبددها بطريقة أو بأخرى. لقد تلقينا في المعمودية ميراثاُ عظيماً: عطية الروح القدس الذي يجعلنا من خلال يسوع أبناء الله "والدليل على كونكم أبناء، أن الله أرسل ابنه إلى قلوبنا، الروح الذي ينادي أبّا يا أبت" (غل 4: 6). وعندما نشك بوجود الله في حياتنا، بحبه، عندما نرفض أن نضع ثقتنا فيه… عندما نفعل هذه الأشياء فإننا نشبه الابن الضال: نبدد الميراث الذي حصلنا عليه.
لا بد أن الابن "الضال" قد دهش للسهولة التي تمكن فيها من مغادرة أبيه والبيت. لعله فوجئ بأن والده لم يحاول أن يزجره أو يعاقبه حتى، يمكنني أن أتخيل أنه طالبه بكل صدق ولوعة أن يبقى في البيت، ولكنه في النهاية لم يملك سوى الاستجابة إلى رغبة ابنه ومنحه ما أراد. ولا بد أيضاً من أنه دهش للسرعة التي فقد بها كل ما لديه وكل ما كان عليه. لقد كان بعيداً عن وطنه وبعيداً عن قيود الحب الأبوي كما كان ليسميها. تصرّف بحرية إلى أن فقد كل شيء: فقد صداقة أبيه، احترامه لنفسه إذ يتمنى أن يأكل مما تأكل الخنازير، وفقد ميراثه.
لقد وصل إلى الحضيض، خسر كل شيء وتخلى عنه الجميع ويكاد يموت من الجوع. تماماً كحالتنا عندما نبتعد عن الله لبعض الوقت. عندها فقط أدرك شناعة فعلته، ووجد نفسه أمام خيارين: إما أن يتابع تمرده وابتعاده عن أبيه ويظل في بؤسه المدقع الذي سيقوده إلى الموت، أو أن يتواضع ويعود إلى رشده.
لحسن حظه أن اختار الحل الثاني، اختار التوبة! لقد أدرك مدى سوء حالة الخطيئة التي يعيشها بالمقارنة مع ما كان يعيشه في بيت أبيه في حالة النعمة. فقرّر أن يتغير ويتواضع. اعترف بأنه غير مستحقٍ لرحمة أبيه ومغفرته وتخلّى عن كبريائه. فهل سيستقبله أبوه؟ صحيح أنه لم يكن متيقناً من موقف أبيه، لكنه قرر أن يسلم نفسه لرحمته ويطلب بكل تواضع أن يقبله كخادم لديه.
هذه هي علامات التوبة الحقيقية: أن أعترف أولاً بخطيئتي، ثم أتواضع وأقرر أن أتغير ثانياً، عالماً بأني غير مستحق لحب الله الآب لي، وأن أستسلم كلياً له.
عندما أكتشف خطيئتي وأعترف بها يمكنني أن أفرح ألم يقل لنا "فإني ما جئت لأدعو الأبرار، بل الخاطئين" (مت 9: 13). نعم يجب أن أفرح لأني سأكتشف أن لي مكاناً عند الآب وهو ينتظر عودتي إليه بفارغ الصبر. هذا ما يحاول يسوع أن يقوله لنا عندما يخبرنا عن الأب الجالس على باب المنزل بانتظار عودة صغيره الضال. " وكان لم يزل بعيدا إذ رآه أبوه، فتحركت أحشاؤه وأسرع فألقى بنفسه على عنقه وقبله طويلا". لقد كان أبوه ينتظره منذ رحيله، وما أن رآه قادماً من بعيد، حتى تناسى الألم الذي تسبب له به وتعاطف مع ابنه المجروح بفعل خطيئته. وعوض أن ينتظر سماع أعذار ابنه، قاطعه ولم يسمح له بإكمال "اعترافه" فعانقه وقبله، فرغبة الآب هي دوماً إعطاء الحب. لم يقبل أن يعود ابنه كعبد أو خادم بل كابن وارث من جديد. فالله يريدنا كأبناء له، لا أقل من ذلك. وليؤكد على هذه الحقيقة فإنه يلبس ابنه "أفخر حلة".
لكي نستحق الثوب الجديد يجب أن ننزع عنا القديم المتسخ بخطايانا. هذا هو جوهر سر المصالحة والاعتراف: إنه يتيح لنا أن نرتدي أفخر حلة، حلة أبناء الله، من خلال الانفصال عن الخطيئة. إذ أن هنالك من حمل ويحمل عنا هذه الخطيئة.
وهكذا يفرح الآب بعودة ابنه الخاطئ، إنه يقيم احتفالاً كبيراً لأن ابنه "كان ميتاً فعاش، وكان ضالاً فوجد." رحمة الآب تعيدنا إلى الحياة. إنها تقيمنا.
ولكن المشهد الجميل لا يكتمل للأسف، فالخطيئة رابضة على الباب. وهي تتجسد هذه المرة بالابن الأكبر الذي يرفض الدخول إلى المنزل والمشاركة في حفل أخيه الضال، لأنه لا يعرف الرحمة. إنه لا يعيش إلا وفق عدالة القانون، لا يعيش إلا بحسب الشريعة.
هنا أيضاً يمكن للكثيرين منا أن يجدوا أنفسهم في هذا الموقف بالتحديد. إنهم، دون أن يدروا، يتقمصون دور الابن الأكبر، دور فريسيي هذا الزمان، الذين يريدون أن يكونوا مستحقين لعطايا الآب من خلال أعمالهم الحسنة! من خلال قواهم الذاتية. مثل العديد من المؤمنين الذين يسعون للحصول على الملكوت من خلال أعمالهم التقوية فقط، دون أن يمتلكوا الرحمة والمحبة. لم يفهموا بأنه مهما بذلنا من جهد –وهذا ما يجب فعله بالطبع- فإننا لا نكون أبداً مستحقين لأن نكون أبناء الله. هذه هي نقطة الخلاف الأساسية مع الفريسيين ألم يقل لهم "لا أريد ذبيحة بل رحمة".
من خلال رفضه للغفران والاعتراف بأنه بدوره خاطئ، فإن الابن الأكبر يبعد نفسه عن الحفل وعن الحياة. يجب علينا إذا أن نختار: إما أن نعترف بخطيئتنا ونستقبل الحياة بأن ندع الآب يظهر لنا حبه، أو أن نعتقد بأننا بارون ونرفض كل أنواع الرحمة، فنبقى في هذه الحالة جاهلين لفرح أن نكون محبوبين من قبل الآب.
* راهب يسوعي