العظة خلال القداس في ذكرى وفاة يوحنا بولس الثاني

"عاش الألم حتى النهاية للمحبة وبمحبة"

حاضرة الفاتيكان، الثلاثاء 30 مارس 2010 (Zenit.org)

ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها أمس بندكتس السادس عشر في قداس أقيم بالفاتيكان في الذكرى الخامسة لوفاة البابا يوحنا بولس الثاني. وقد توفي الحبر الأعظم في الثاني من أبريل 2005.

***

أيها الإخوة الأجلاء في الأسقفية والكهنوت،

أيها الإخوة والأخوات الأحباء!

إننا نجتمع حول المذبح قرب ضريح الرسول بطرس لنقدم الذبيحة الإلهية من أجل الراحة الأبدية لنفس الحبيب يوحنا بولس الثاني، في الذكرى السنوية الخامسة لوفاته. ونقوم بذلك قبل أيام قليلة لأن الجمعة العظيمة تصادف هذه السنة في الثاني من أبريل. في كل الأحوال، نحن في أسبوع الآلام – السياق الملائم للتأمل والصلاة الذي تحثنا فيه الليتورجيا على عيش الأيام الأخيرة من حياة يسوع على الأرض بطريقة مكثفة. أرغب في التعبير عن امتناني لجميع المشاركين في هذا القداس، وأوجه تحية قلبية إلى الكرادلة – وبخاصة إلى رئيس الأساقفة ستانيسلاو دجيفيتش – والأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات، وإلى الحجاج المجتمعين من بولندا، وإلى حشود الشباب والمؤمنين الذين لم يرغبوا في تفويت هذا الاحتفال.

في القراءة البيبلية الأولى التي تليت على مسامعنا، يقدم النبي أشعيا شخصية أحد خدام الله الذي هو في الوقت عينه مختاره الذي سرت به نفسه. سيتصرف العبد بحزم وبطاقة لا تضعف حتى ينجز المهمة التي أوكلت إليه. مع ذلك، لن تكون في متناوله الوسائل البشرية التي تبدو أساسية للعمل على مخطط بهذه العظمة. سيظهر بقوة القناعة، وسيمنحه الروح الذي وضعه الله فيه القدرة على العمل بوداعة وقوة، مؤكداً له على النجاح النهائي.

إن ما يقوله النبي أشعيا عن العبد ينطبق على حبيبنا يوحنا بولس الثاني. فالرب دعاه لخدمته، وعندما أوكل إليه مهمات تتطلب مسؤولية أكبر، رافقه أيضاً بنعمته وعونه الدائم. خلال فترة حبريته الطويلة، بذل نفسه لإعلان الشريعة بحزم، من دون ضعف أو تردد، بخاصة عندما كان يواجه المقاومة والعدائية والرفض. لقد علم أن يد الرب ترعاه، وهذا ما سمح له بتأدية خدمة مثمرة نقدم لله الشكر عليها.

يأخذنا الإنجيل الذي أعلن للتو إلى بيثاني حيث أقام لعازر ومرتا ومريم وليمة عشاء للمعلم، حسبما يذكر الإنجيلي (يو 12، 1). تتسم هذه الوليمة التي أقيمت في بيت ثلاثة من أصدقاء يسوع بالشعور السبقي بالموت الوشيك: قبل الفصح بستة أيام، اقتراح الخائن يهوذا، إجابة يسوع التي تذكر بأحد أشكال الدفن التقية التي استبقتها مريم، التلميح إلى أنه لن يكون عندهم في كل حين، والتصميم على القضاء على لعازر مما يعكس التصميم على قتل يسوع.

في هذه الرواية البيبلية، ترد بادرة أرغب في لفت انتباهكم إليها: أخذت مريم "مناً من عطر الناردين الخالص الغالي الثمن، ودهنت به قدمي يسوع، ثم مسحتهما بشعرها" (12، 3). تشكل بادرة مريم تعبيراً عن عظمة إيمانها بالرب ومحبتها له. بالنسبة لها، لم يكن كافياً غسل قدمي المعلم بالماء، بل دهنتهما بكمية كبيرة من العطر النفيس الذي – وحسبما قال يهوذا – كان يمكن بيعه بثلاثمئة دينار؛ وبالتالي فإنها لم تسكب العطر على الرأس كما كانت تجري العادة، بل على القدمين. تقدم مريم أثمن ما لديها ليسوع ببادرة من التفاني الكبير. فالمحبة لا تحسب ولا تقاس، ولا تهتم بالنفقات، ولا تضع الحواجز، وإنما تعطي بفرح، وتسعى فقط إلى خير الآخر، وتتخطى عوامل البخل والاستياء وضيق الأفق التي يحملها الإنسان أحياناً في قلبه.

تضع مريم نفسها عند قدمي يسوع بموقف متواضع من الخدمة، كما سيفعل المعلم نفسه في العشاء الأخير عندما – بحسب الإنجيل الرابع – "نهض عن مائدة العشاء، وخلع رداءه وأخذ منشفة لفها على وسطه، ثم صب ماء في وعاء للغسل، وبدأ يغسل أقدام التلاميذ" (يو 13: 4، 5) لأنه يقول "اعملوا مثل ما عملت أنا لكم" (آية 15): إن حُكم جماعة يسوع هو حكم المحبة القادرة على الخدمة حتى بذل الذات.

دُهن العطر "فملأت الرائحة الطيبة أرجاء البيت كله" (يو 12، 3)، وفقاً للإنجيلي. إن معنى بادرة مريم التي تعتبر إجابة عن محبة الله اللامتناهية انتشر بين كل الضيوف؛ هذا يعني أن كل بادرة محبة وتفانٍ حقيقي تجاه المسيح لا تبقى حدثاً شخصياً ولا ترتبط فقط بالعلاقة بين الفرد والرب، وإنما تتعلق بجسد الكنيسة أجمع لأنها معدية تبث المحبة والفرح والنور.

"قد جاء إلى من كانوا خاصته، ولكن هؤلاء لم يقبلوه" (يو 1، 11): لكن نقيض تصرف مريم يتبلور في كلمات وموقف يهوذا الذي يخفي بذريعة مساعدة الفقراء، أنانية وكذب الإنسان المنغلق على ذاته، والمكبل بجشع التملك، الإنسان الذي لا يسمح لنفسه بالتمتع بعطر المحبة الإلهية. يهوذا يحسب حيث لا يستطيع أحد أن يقوم بذلك، ويدخل بروح من الدناءة إلى مكان تملأه المحبة والمجانية والتفاني. أما يسوع الذي ظل صامتاً حتى تلك اللحظة تدخل لصالح بادرة مريم قائلاً: "دعها! فقد احتفظت بهذا العطر ليوم دفني" (يو 12، 7).

يسوع يدرك أن مريم استشعرت بمحبة الله، ويشير إلى أن "ساعته" تقترب، الساعة التي يتجلى فيها أسمى تعبير عن المحبة على خشبة الصليب : ابن الله يبذل ذاته لتكون للإنسان حياة، وينحدر إلى لجة الموت ليرفع الإنسان إلى أعالي الله؛ لا يخاف من الاتضاع ويصبح "طائعاً حتى الموت، موت الصليب" (في 2، 8). في العظة التي يعلق فيها القديس أغسطينوس على هذا المقطع الإنجيلي، يدعونا بكلمات ملحة إلى الدخول في دائرة المحبة هذه، مع الاقتداء ببادرة مريم واتباع يسوع. ويكتب أغسطينوس: "كل نفس ترغب في أن تكون أمينة، تتحد مع مريم لسكب العطر الغالي الثمن على قدمي الرب. […] ادهنوا بالعطر قدمي يسوع: اتبعوا خطى الرب من خلال عيش حياة فاضلة. وامسحوا قدميه بشعركم: إن فاض عنكم شيئاً، اعطوه للفقراء، فإنكم بذلك تكونون قد مسحتم قدمي الرب" (In Ioh، 50، 6).

أيها الإخوة والأخوات الأحباء! لقد اتسمت كل حياة الحبيب يوحنا بولس الثاني بهذه المحبة، هذه القدرة على بذل الذات بسخاء، من دون تحفظات أو حساب. تأثر بمحبة المسيح الذي كرس له حياته وخصه بمحبة وافرة وغير مشروطة. بتقربه أكثر فأكثر من الله بالمحبة، تمكن من جعل نفسه رفيقاً للإنسان المعاصر، ونشر في العالم عطر محبة الله. وتمكن كل من سره التعرف إليه والتقرب منه، من لمس إيمانه الحي بمعاينة "جودة الرب في أرض الأحياء"، كما سمعنا في المزمور (26، 13)؛ إنه إيمان رافقه طيلة حياته، وتجلى بخاصة في الفترة الأخيرة من رحلة حجه على هذه الأرض: فالضعف الجسدي المتزايد لم يؤثر في إيمانه القوي كالصخر، وفي رجائه النير ومحبته الحارة. لقد وضع نفسه في تصرف المسيح من أجل الكنيسة والعالم أجمع، وعاش الألم حتى النهاية للمحبة وبمحبة.

في العظة التي ألقاها في الذكرى الخامسة والعشرين لحبريته، قال أنه شعر في قلبه، لحظة الانتخاب، بالسؤال الذي وجهه يسوع لبطرس: "أتحبني؟ أتحبني أكثر مما يحبني هؤلاء؟…" (يو 21: 15، 16)؛ وأضاف: "في كل يوم، يشهد قلبي الحوار عينه بين يسوع وبطرس. بالروح، أتأمل نظرة المسيح القائم من بين الأموات المفعمة بالخير. فهو الذي يدرك ضعفي البشري، يشجعني على الإجابة بثقة كبطرس: "يا رب، أنت تعلم كل شيء. أنت تعلم أني أحبك" (يو 21، 17). ومن ثم يدعوني إلى تحمل المسؤولية التي أوكلها إلي" (16 أكتوبر 2003). هذه الكلمات مفعمة بالإيمان والمحبة، محبة الله التي تخضع كل شيء".

وقال بالبولندية:

ختاماً، أرغب في توجيه التحية إلى البولنديين الحاضرين هنا. لقد اجتمع كثيرون بينكم حول ضريح خادم الله الحبيب بشعور استثنائي، كأبناء وبنات البلاد عينها الذين تربوا على الثقافة والتقاليد الروحية عينها. يمكن أن تكون حياة وأعمال يوحنا بولس الثاني البولندي العظيم مدعاة فخر لكم. إنما من الضروري أن تتذكروا أيضاً أنها دعوة عظيمة لتكونوا شهوداً أمناء للإيمان والرجاء والمحبة، حسبما علمنا من دون انقطاع. فلتساعدكم بركة الرب دائماً بشفاعة يوحنا بولس الثاني.

وتابع بالإيطالية:

فيما نواصل الاحتفال الافخارستي، ونستعد لعيش أيام آلام الرب وموته وقيامته المجيدة، دعونا نوكل أنفسنا بثقة – متبعين مثال الحبيب يوحنا بولس الثاني – إلى شفاعة مريم العذراء المباركة، أم الكنيسة، لتساندنا في التزامنا بأن نكون في كل الظروف رسلاً أقوياء لابنها الإلهي ولمحبته الرحيمة. آمين!

نقلته إلى العربية غرة معيط (Zenit.org)

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2010