القيامة تجعلنا رجالاً فصحيين

بقلم الأب الياس شخطورة الأنطوني

الخميس 29 أبريل 2010 (Zenit.org)

أقيامة المسيح هي حدث حقيقي؟ أم لا؟ بعد مرور ألفي عام على هذا الحدث التاريخي و"الخارج عن مفهوم وقدرة فهم الإنسان"، تبقى شعوب عديدة، بكافة فئاتها وأقسامها وعلى اختلاف وتنوّع ألوانها وثقافاتها، ترفع راية هذا الحدث عاليا معبرة به عن إيمانها وعن وحدتها بقيامة يسوع الناصري من بين الأموات. حدث لم يُر له مثيل لدى أي ديانة أخرى: لم يُر إله تواضع، أحبّ خليقته، صنْعَ يديه، ولكثرة هذا الحب تنازل من عليائه نحو شعبه، صار مثله وتشبه به "ما عدا الخطيئة"، عرّفه بذاته، علّمه، أرشده إلى الطريق المستقيم نحو العلى، ساعده على عيش الحب، أنمى فيه روح الخدمة والطواعية، وأعظم من كل ذلك، بذل نفسه عنه، بكليته، قابلاً أقسى أنواع الآلام بتعلقه على صليب العار، ليبرهن للإنسان مدى قيمة الحب الإلهي وحقيقته، وما هي قيمة الإنسان في عين الله، خالقِه. وقد سارت الكنيسة، وليدة جرح جنب المسيح من على الصليب، على درب نور القيامة، حاملة نصب عينها المسيح هداية للأمم، مستندة على تعاليمه وعلى شهادة القديسين الآباء العظام، رواد وسفراء كلمة الحياة بشرى خلاص للنفوس المتعطشة للخلاص الحقيقي.

ونحن، بعد ألفي عام على مرور هذا الحدث، نحتفل به حقيقة كل مرة نكسر خبز الإفخارستيا ونجعله تقدمة، كفارة عن خطايانا وخطايا كثيرين، مستذكرين آلام، موت وقيامة المسيح، ومنتظرين مجيئه الأبدي. أَمَا زِلنا نحمل إيمان الرسل والمسيحيين الأول ورجاءهم في القيامة؟ أما زلنا نحمل هذا الأمل الكبير في حياتنا كل مرة نسقط في هفوة ما؟

"المسيح مات ثم قام"، هل نحن على يقين بأن هذه العبارة تُلخص كل الإنجيل؟ بأن هذه البشرى الخلاصية ليست مجرد كتاب ولا قانون عيش، ولا تعليم مسلك حياة ولا حتى رتب أسرارية؟ هل نلاحظ بأن عالمنا يخجل بالتكلم عنها، فيحوّل مغذاها وشكلها الروحي إلى احتفالات بحت مادية حيث تفتقر إلى روح المسيح وعمله الفدائي؟ لم يبقَ لنا سوى الاسم دون الهوية والمضمون؛ بيد أن المسيح مات وقام من أجلنا، هذا هو فعل إيماننا، هذه هي حقيقة هذا الحدث الذي أحدث صخباً في تاريخ البشرية وغيّر الكثير من معالمها، إذ طعّمها بإلوهيته وجوهر حبّه.

واليوم، القيامة هي صراخ الكنيسة الذي أبطل مفاهيم فلسفية وشعائر وثنية وكمّل معتقدات يهودية فأعطاها معناها الحقيقي بتخطّيها الحرف وتبنيها الروح.

القيامة، هو اليوم الذي فيه تدعونا الكنيسة إلى التأكد من حقيقة معتقدنا بعد فترة صوم طويل فيه أجرينا التدقيق اللازم في كافة أحوالنا وطرق عيشنا والتزامنا المسيحي، إنه امتحان لشخصنا الجسدي والروحي على ضوء القيامة، فلا معنى للصوم دون القيامة، كما لا معنى لمسابقة رياضية دون الهدف بإحراز كأس الانتصار، فلا حاجة لأن نصوم إذا لا يوجد في انتظارنا مكافأة قيّمة، قيمتها تتعدى حاجتنا ودوافعنا.

لقيامة المسيح شاهد " غير مباشر" لكنه شاهدٌ بالإيمان على حقيقة هذا الحدث، فقرر الإبلاغ عنه، الشهادة له والاستشهاد في سبيله. إنه بولس، رسول الأمم، في خطابه مع الفلاسفة في كتاب أعمال الرسل (17، 16-34): بولس في أثينا ينتظر سيلا وطيموتاوس أمام مشهد الأصنام في أنحاء المدينة وانهماك أبنائها في العبادة لها. وبعد مجادلة مع بعض الفلاسفة، دُعي إلى محفل:

"فوقف بولس في وسط الأريوباغُس وقال: «يا أهل أثينة، أراكم شديدي التديّن من كلِّ وجه. فإني وأنا سائر أنظر إلى أنصابكم وجدت هيكلا كُتب عليه: إلى الإله المجهول، فما تعبدونه وأنتم تجهلونه، فذاك ما أنا أبشّركم به. إن الله الذي صنع العالم وما فيه، والذي هو ربّ السماء والأرض، لا يسكن في هياكل صنعتها الأيدي، ولا تختدمه أيدٍ بشرية، كما لو كان يحتاج إلى شيء. فهو الذي يهب لجميع الخلق الحياة والنفس وكل شيء… لأنه حدّد يوما يدين فيه العالم دينونة عدلٍ عن يد رجلٍ أقامه لذلك، وقد جعل للناس أجمعين برهانا على الأمر، إذ أقامه من بين الأموات». فما إن سمعوا كلمة قيامة الأموات حتى هزئ بعضهم…"

إنها السنة الخمسين من مجيء المسيح، بولس يجول في أنحاء أثينا حيث وقع نظره على هذه الأصنام والمعابد، ما دفعه للكلام عن الإله المجهول عن أهلها؛ كمصدر حياة أبدية تكلم عنه. الجديد الذي قدمه بولس، خضّ مضجع أهل أثينا، إنها عقيدة جديدة تطغى على عقائد آلهتهم، إذ لم يسمعوا بها قط. هنالك إله واحد، خالق كل شيء، تجرّأ النزول من عليائه كي يصبح مثل خليقته بهدف رفعها من أوحال الخطيئة، وجَعْلِها إلهاً على صورته ومثاله.

على مسامع بولس علا صراخ السخرية من قوله هذا، إذ أن للإنسان، بالنسبة إلى أهل أثينا، روح خالدة محبوسة في جسد فان، عليها التحرر لبلوغ المجد السماوي. عقيدة بولس سخيفة، مضيعة للوقت، ورغم ذلك، كان لكلماته وقع في قلوب البعض القليل من الذين تبعوه، إذ مسّت النعمة قلوبهم وضمائرهم.

بعد هذا الحدث، توجه بولس من أثينا إلى قورنتس بحسب رواية لوقا، ليُبَلِّغ حقيقة القيامة لأهلها (1 قور 15، 3-9).

اجتهد بولس بأن يؤسس كنيسة (جماعة مسيحية) في مدينة قورنتس المعروفة بمرفأيها والمشهورة بالتجارة. ولكن كحال أيِّ جماعة، لا بُدّ من وجود بعض التساؤلات والشكوك. لذلك يذكّر بولس في هذا النص بجوهر الإيمان ويصيب بكلامه قلب الإيمان المسيحي:

"… وهو أن المسيح مات من أجل خطايانا كما ورد في الكتب، وأنه قبر وقام في اليوم الثالث كما ورد في الكتب، وأنه تراءى لصخرٍ فالاثني عشر، ثم تراءى لأكثر من خمسمائة أخٍ معاً لا يزال معظمهم حيّاً وبعضهم ماتوا، ثم تراءى ليعقوب، ثم لجميع الرسل، حتى تراءى آخرَ الأمر لي أيضاً أنا السِّقْط. ذلك بأني أصغر الرسل، ولست أهلاً لأن أدعى رسولاً لأني اضطهدت كنيسة الله…".

حدث ظهور المسيح القائم من الموت لبولس، حدث غيّر مبادئ ومفاهيم حياتية، كلّفه حمل البشارة للشعوب كافة. فقيامة المسيح ليست إذن متوقفة فقط على دليل "القبر الفارغ" ولكن أيضاً على تأكيد وشهادة الكثيرين من الذين التقوه، تكلموا معه وقد أحدث بهم تغيير جذري.

بعد هذه المقدمة، يكمل بولس حديثه مذكراً بِرُكْنٍ أساسي للقيامة، وهنا المعنى الجوهري للحياة المسيحية، إذ يقول: "إن كان المسيح لم يقم، فتبشيرنا باطل وإيمانكم أيضاً باطل" (1 قور 15، 14)؛ يعني بذلك أنه، بدون القيامة، يبقى المسيح شهيداً كباقي شهداء كثر، ونحن نصبح بذلك تلامذة صف "أخلاقيات". والنقطة الأهم هي بأنه لا يجب علينا أن نعتقد بأن القيامة هي مجرّد إعادة إحياء جثمان rianimazione)). في القيامة، قام المسيح بكامله ولكن بحُلة جديدة، جسم روحاني ومعه بشرية جديدة. هذا لا يعني أننا لن نكون مع جسدنا بكلّيته، ولكن الإيمان، من الآن وصاعدا، يعطينا في هذه الحياة معنى جديدا لحياة جديدة، روحا جديدا، كما يقول المزمور 51: "قلباً نقياً أخلق فيّ يا الله وروحاً مستقيماً جدّد في داخلي"، القلب الصافي وروح الحق يعطيان جسدا جديدا، كائنا متجددا بالله، مكوناتُه قلب وروح الله. بهذا نحافظ الآن وحتى لحظة اللقاء بالله على أمل قوي بأننا سنقوم نحن أيضاً، على أمل لنا بنصيب في هذه القيامة؛ وأمّا الموت فسيُغلب على أمره وللأبد، ويصبح الله للكل وفي الكل.

إذا كانت قيامة الأجساد غير معقولة بنظرنا، فالطبيعة بذاتها تُلمّح على هذا السر العظيم وتعطي دلالة عليه: نزرع ونطمر بذورا تحت التراب فتنبت وتنمو وتعطي ثمر، نزرع حبوبا فتصبح أشجارا. وعلى سبيل المثال ندفن جسداً ترابيّاً ليقوم جسداً روحانياً، إنه الشخص نفسه ولكنه "مُرَوحَن" بروح الله، فلا يعود قابلا للفساد بل ممجدا.

في الرسالة نفسها إلى أهل قورنتس (1 كور 15، 57-58)، يختم بولس وهو مملوء غبطة: "فشكراً لله الذي منحنا الغلبة بربنا يسوع المسيح. إذن يا إخوتي الأحباء كونوا راسخين غير متزعزعين مستزيدين في عمل الرب كل حين إذ تعلمون أن تعبكم ليس بباطل في الرب".

يدعو بولس الكنيسة ألا تهمل ما تقوم به وأن تثابر على الشهادة الحقّة؛ فالغلبة الحقيقية على الموت لا تحصل عليها إلا من الرب يسوع القائم من الموت، ولكن عليها أن تمر بصعوبات، متحديةً إياها بقوة المسيح. والقيامة تعطينا كل شيء شريطة أن نبقى أوفياء لعمل المسيح فينا، "أن نبقى ثابتين غير مزعزعين"؛ فجسد المسيح القائم من الموت عليه أن يظهر ويتجلى في الجسد الإفخارستي والكنسي. قوة حدث القيامة وهبات الروح القدس الفاعل فيه يحملوننا أبداً لنعيش في غمرة القيامة ولتجسيدها دائماً.

في القيامة يقول القديس يوحنا فم الذهب:

"من حمل ثقل الصوم، ليأتي الآن ويأخذ حقّه؛

من عمِل منذ الساعة الأولى، لِيَنل اليوم حق أجره؛

من أتى الساعة الثالثة، ليحتفل بهذا العيد بعمل النعمة؛

من وصل بعد الساعة السادسة، ليكن لديه كل الثقة لن يكون مرذولاً؛

وإن كان أحد قد تأخر حتى الساعة التاسعة، ليقترب دون تردد؛

وإن كان هنالك من أبطأ حتى الساعة الحادية عشر، فلا يستحينّ بتأخّره لأن السيد الكريم يستقبل الأخير كالأول؛

فيعطي الراحة لعامل الساعة الحادية عشر كما هي حال عامل الساعة الأولى؛

يرحم هذا ويغمر ذاك، يعطي الواحد ويُنعم على الآخر؛

يستقبل الفقراء ويقبل بقلب كبير الإرادة الطيبة، يُعظم العمل ويُكرّم المقصد الصالح".

القيامة دعوة عامة للنظر في أفق واسع حيث يعيش الكل في رحمة الإله مترفّعين عن كل دنس وعيب. إن رحمة إلهنا كبيرة لا يحدّها عقلنا، لذا يصعب علينا استيعاب هذا الحدث الكبير لأسباب عدة منها قلة إيماننا.

في القيامة لا يجب علينا أن نبحث عن براهين علمية لإثباتها ولإقناع ذواتنا أو محاولة إقناع ذواتنا، بل كل ما يجب القيام به هو أن نؤمن بحرية وبتسليم كلي لإرادته، والتقرب منه للإتحاد به، كي ما نكون على مثال خالقنا أداة خلاص للذات وللآخرين. لنسمع شهادات من رأوا وسمعوا واستشهدوا في سبيل قيامة الإنسان وحب الله له. لنستقي من شهادة وخبرة الجماعة المسيحية الأولى للقيامة،  جماعة تكون صورة حقيقية للإنسان الفصحي:

كانت العادة لدى الأسقف أو الكاهن وبعد إلقاء العظة أن يدعو المؤمنين إلى الاستدارة نحو الله، يعني بذلك:

 أولاً التوجه أو الاستدارة بالجسد نحو الشرق، حيث يشرق نور المسيح، علامة على حضوره وعودته من جهة. ومن جهة أخرى التوجه نحو المذبح الموضوع عند الجهة الشرقية، لتناول جسد الرب والإتحاد به.

ثانياً  ولأسباب عدة تحوّل هذا "التوجه نحو الشرق" جسدياً ليصبح مفهوماً روحياً، داخلي. فمع الاستدارة نحو الشرق، تُوَجّه الدعوة إلى التحول الداخلي نحو نور الغفران والتوبة، مركزين النظر على صليب المسيح والبصيرة نحو الله الحي.

التعبير الذي كان ينادى به لهذا التحوّل أصبح اليوم جزءاً ثابتاً ودعوة واضحة في الإفخارستيا. عندما يتوجه الكاهن بالنداء إلى الشعب في بداية النافور: "لنرفعأفكارنا قلوبنا وعقولنا نحو العلى"، ويُجيب الشعب " إنها لديك يا الله"، يعني بذلك رفعَ كل رغائبنا، أنظارنا، همومنا، ألامنا وطلباتنا نحوه، أي ذاتنا بكلّيتها لنتقدس جسداً وروحاً. إنها لحظة تجديد لمواعيد المعمودية، وفي الوقت نفسه تذكير وتنبيه دائم لنا بالعودة إلى الطريق الصحيح في حياتنا، إلى الطريق والحق والحياة، إنها دعوة لنتجدد عبر توبتنا فنصبح أطهارا، إذ أن وجهة سيرنا الدائمة هي المسيح. هي دعوة لترك عقولنا وقلوبنا وأفكارنا منجذبة نحوه ومأخوذة ببهاء قوته وجماله، دعوة لرفع ذاتنا المتدنّية بثقل الخطيئة نحو العلى، بالمحبة والحق الكامِلَين.

إن هذا الانجذاب يجعلنا رجالاً فصحيين، من هنا يحق لي أن أحتفل، أن أعلن وأن أشهد على قيامة المسيح من بين الأموات وتغلّبه على الموت لأنه علمني – بانجذابي نحوه أي برفع ذاتي بكليتها إليه، بعد ارتفاعه هو على الصليب-، أن أتغلب بواسطته على الموت فأصبح من جماعة النوريين "الحواريين" المغمورين بقوة نار المسيح وحبه اللامتناهي.