الكاهن الأبرشي

في فكر الحبر الروماني الطيب الذكر قداسة البابا غريغوريوس الكبير

وبما أن الكنيسة الكاثوليكية تعيش في مسيرة السنة الكهنوتية التي قد أعلنها الحبر الروماني قداسة البابا بندكتوس السادس عشر، ننشر ما كتبه البابا غريغوريوس عن الإرشادات  للكاهن الأبرشي وحبّه الأبويّ لجميع كهنة المعمورة بأجمعها.    

 

وُلد قداسته في مدينة روما سنة 540، من أسرة أرستقراطية متدينة، ووالده جورديانوس هو أحد أعضاء مجلس الشيوخ، ووالدته تدعى سلفيا، له أخ يدعى بالاتينوس وثلاثة أخوات هنَّ: تارسيلا، وأميليانا، وجورديانا عاشنّ حياة البتولية ولكن جورديانا تزوجت المسئول عن تدبير ممتلكاتها. أمّا غريغوريوس نبغ في المنطق والبلاغة والنحو، ودرس القانون، وفي السنة 572 أصبح حاكما لمدينة روما، ورئيسًا لمجلس الشيوخ. وكان في نحو الخامسة والثلاثين من العمر، فوزع كل ما يملك وترهبن، وأسس في بيته الأبوي ديرًا باسم دير القدِّيس أندراوس، وأنشأ في أملاك الأسرة بصقلية ستة أديرة، وكان الراهب فالنتينس على رأس دير بيت والده، وأما غريغوريوس فظلّ إلى جانبه راهبًا بسيطًا نحو خمس سنوات. في سنة 579 رسم شماسًا إنجيليًّا، وأرسله الحبر الأعظم البابا بيلاجيوس الثاني (579- 590) إلى مدينة القسطنطينية سفيرًا بابويًّا لدى الإمبراطور تيباريوس الثاني الذي خلفه الإمبراطور مورسيوس.  في يوم 3 سبتمبر590 رُسم أسقفًا على كرسي القدّيس بطرس هامة الرسل بعد وفاة البابا بيلاجيوس سنة 590. وضع قداسته كتابه المشهور الراعوي أو قانون الرعاية هذا الكتاب ردًا على يوحنا أسقف رافنّا الذي أخذ عليه تهرّبه من أسقفية روما والكتاب يقع في ثلاثة أقسام غير متساوية في الطول، عالج فيها صاحبه مقتضيات الحياة الأسقفية، وبما يتطلبه الواجب الأسقفي (11 فصلاً)، وقانون حياة الراعي الحقيقي (11 فصلاً)، وقوانين الوعظ والتعليم الديني(40 فصلاً)، ويختم كلامه بفصل تناول فيه عاهته الجسدية الشخصية، الكتاب قيم يشهد لصاحبه بالحكمة وروح الاعتدال، وبحس سيكولوجي عميق، إن قداسة البابا غريغوريوس شاهد أسرار الله، ومعلّم المسكونة بإيمانه وقداسته. ورقد في الأخدار السمائية في يوم 12 مارس 604. وهذه الأقوال مقتبسة من كتابه الشهير «الرعاية»، ترجمة، الإسكندرية، الطبعة الأولى 1960، والطبعة الثانية 2003، وأتمنى أن يُطبع هذا الكتاب مرة أخرى بمناسبة السنة الكهنوتية.

1- يجب أن يكون الراعي قدوة في سلوكه حتى يُعلِّم رعيته بحياته الشخصية كيف ينبغي أن يسلكوا؟  فعندما يتبع قطيع الغنم إرشادات الراعي وتوجيهاته يسير إلى الأفضل عن طريق القدوة، وليس عن طريق الكلام. لأن الراعي الذي يدعوا الآخرين أن يكونوا مثاليين في سلوكهم، يجب أن يقدم لهم نموذجًا حيا للمثالية في سلوكه. وبذلك يكون لكلامه أثر عظيم على سامعيه، حيث تتطابق طريقة حياته مع أقواله. فإن القدوة الصالحة تكون أقوى عامل في تنفيذ أقواله. 

2- ينبغي أن يكون الراعي طاهر الفكر دائما لكي لا تستطيع الخطيئة أن تدنسه وهو الذي أخذ على عاتقه أن يعمل على تطهير قلوب الآخرين من الدنس، لأن اليد التي تريد أن تزيل القذارة عن الآخرين ينبغي أن تكون هي نفسها نظيفة، حتى لا تزيد من تلمسهم قذارة بما علق بها من أوساخ يقول النبيّ:« تطهَّروا يا حاملي آنية الرب» (أش 52/11) إنّ الين يحملون آنية الرب هم الذين أخذوا على عاتقهم أن يجتذبوا نفوس الذين حولهم إلى النعيم الأبدي، معتمدين في ذلك على قدوتهم الصالحة.

3- فليكن الراعي قريبًا من الجميع بعطفه عليهم، وليتسامى تفكيره على الجميع حتى يستطيع بمحبته القلبية أن يعرف نقائص رعيته ويحملها وعن طريق سمو تأملاته فإنه يتسامى حتى على ذاته في شوقه للأشياء غير المنظورة، وإلا فإنه إما سيهمل نقائص رعيته وضعفاتهم، ويتغاضى عنها بانشغاله في تحقيق آماله العالية أو على العكس يرتبك بالأمور  الدنيوية، ويكف عن السعي إلى ما هو أفضل.

4- إن الرعاة جميعًا هم رؤوس للرعية ويتحتم على الرأس أن تتطلع إلى الأمام من فوق حتى تستطيع السير على الأقدام للأمام في طريق مستقيم. أما إذا أعوجت هيئة الجسم المستقيمة، وانحنت الرأس حتى الأرض، تثاقلت القدم في سيرها في طريق الاستقامة. فكيف يسمح ضمير الراعي له بالتمتع بكرامة الكهنوت عند الآخرين إن كان قد انشغل بالأمور الأرضية التي كان عليه أن يوبخ الآخرين بسببها؟ هذا هو حقًا ما توعده الرب في غضب مجازاته العادلة بالنبيّ القائل:«فيصيرُ مَثَلَ الشعب مَثَلَ الكاهن» (هو4/9).

5- يُختبر صبر الراعي في تحمل أخطاء الرعية أثناء بحثه عن فرصة لإصلاحهم. ولهذا قال صاحب المزامير:«على ظهري حرث الحارثون وطوَّلوا أتلامهم» (مز129/2) لأننا نحمل الأثقال على ظهورنا. هكذا يشكو داوود من أن الخطاة قد أثقلوا ظهره وكأنه يريد أن يقول:« أن أولئك الذين لا أستطيع إصلاحهم أحملهم كحمل ثقيل » ومع ذلك فإن هناك بعض الأمور السرية التي يجب البحث فيها بتدقيق فإذا ظهرت بعض الأعراض أمكن للراعي أن يكتشف كل ما يُعمل داخل عقول الرعية، وبالتوبيخ في الوقت المناسب يمكنه أن يستخلص من الأشياء غير المهمة أشياء مهمة. ولهذا قيل لحزقيال النبيّ:«يا ابن الإنسان، أُنقُب الحائط. فنقبت الحائط، فإذا بمدخل. فقال لي: أُدخل وانظر القبائح الخبيثة التي يصنعوها هنا. فدخلتُ ونظرتُ، فإذا كلُّ شكلٍ من الزَّحَّافات والبهائم القذرة وجميع قذرات بيت إسرائيل مرسومة على الحائط على محيطِه» (حز8/8-10).

يرمز حزقيال النبيّ إلى أصحاب السلطة ويرمز الحائط إلى عصيان الرعية، والنقب في الحائط هو الكشف عن قسوة القلب بالملاحقة الدائمة. وعندما نقب حزقيال الحائط وجد بابًا. هذا يرمز إلى أنه عندما تتكشف قسوة القلب بالملاحقة المدققة أو التوبيخ الحكيم يظهر باب فيُرى من خلاله كل الأفكار الداخلية. ويتبع ذلك هذه الكلمات المناسبة: «أُدخل وانظر القبائح الخبيثة التي يصنعوها هنا». فهو يدخل ليرى القبائح. وكذلك عندما يرى الراعي الأعراض الخارجية فإنه ينفذ عن طريقها إلى قلوب رعيته لتنكشف له كل الأفكار الشريرة الموجودة بها. ولهذا أضاف النبي قائلاً: «فدخلتُ ونظرتُ، فإذا كلُّ شكلٍ من الزَّحَّافات والبهائم القذرة» والزَّحَّافات هنا ترمز تمامًا إلى الأفكار الأرضية، بينما يرمز الحيوان إلى الأفكار التي تسمو على الأرض قليلاً ولكنها لازالت تنتظر الجزاء الأرضي، لأن أجسام الزَّحَّافات تلتصق تمامًا بالأرض، بينما ترتفع أجسام البهائم عن الأرض إلى حد كبير ولكنها مرتبطة بشهواتها الجشعة. وهكذا تتواجد الزَّحَّافات داخل الحائط إذا كانت في الذهن أفكار لا تسمو أبدًا على الرغبات الأرضية.

أما وجود البهائم داخل الحائط فيحدث عندما توجد أفكار صالحة، ولكنها تضعف أمام الرغبة في المكاسب والأمجاد الأرضية. وبالرغم من أن هذه الأفكار تسمو عن الأرض، إلا أنها تهبط بنفسها إلى الحضيض بسبب سعيها لإرضاء الشهوات الجشعة. ولهذا أضيف ما ملائم: «وجميع قذرات بيت إسرائيل مرسومة على الحائط على محيطِه» لأنه مكتوب:«… وطمع وهو عبادة الأوثان» (غل 3/5) لهذا أضيفت قذارات بعد البهائم لأن البعض يبتعد بذاته عن الأرض بأعمالهم الصالحة ولكنهم يهبطون بأنفسهم إلى الأرض بسبب طموحهم الشرير. وحسنًا قيل أنها مرسومة على الحائط، لأن هذا يشبه ما يحدث عندما تدخل الأشياء العالمية إلى العقل فتنطبع الخيالات التي تدور في ذهن الإنسان وعلى قلوبه كرسوم. من هذا نلاحظ أنه في بادئ الأمر يظهر ثقب الحائط، ثم مدخل وعندئذ فقط تنكشف النجاسات الخفية. لأن علامات كل خطية تظهر أولا في الخارج، ثم بعد ذلك يظهر الباب الذي تخرج منه الخطية وفي النهاية يظهر كل إثم بالداخل علانية. هناك بعض الأشياء التي يجب أن توبخ بلطف فمثلاً إذا ارتكبت الخطية ليس عن عمد ولكن عن ضعف أو جهل هنا يجب أن يؤنب المخطئ ولكن في رقة عظيمة لأننا جميعًا معرضين لضعفات طبيعتنا الفاسدة طالما نحن في الجسد الفاني. لهذا يجب أن يدرك كل إنسان من ضعفاته الشخصية كيف ينبغي أن يكون مشفقا بالآخرين. لأنه عندما نندفع بشدة إلى توبيخ الآخرين بسبب ضعفاتهم فإننا ننسى حالة ضعفنا. ولهذا يقول القدِّيس بولس الرسول:«أيها الإخوة، إن وقع أحد في فخِّ الخطيئة، فأصلحوه أنتم الرُّوحيِّين بروح الوداعة. وحذارِ أنت من نفسك لئلا تُجرَّب أنت أيضًا»(غل 6/1) بهذه الكلمات يريد القديس بولس أن يقول أنه عندما نغضب من خطيئة الآخرين يجب أن ننظر إلى أنفسنا فنرق في التوبيخ لئلا يحدث لنا ما حدث لهذه النفس.

6- أن يتأمل الراعي كل يوم في الكتاب المقدس، لأن كلمات الوحي الإلهي تعيد إليه الإحساس  بالمسئولية والتمييز بالنسب لحياة السماء التي كثيرًا ما يهدمها طول فترة الاختلاط بالناس. إن من يختلط بالعالم لسنين طويلة يلزمه أن يجدد على الدوام حبه للوطن السماوي. حقًا إن النفس تنحدر كثيرًا في وسط مشاغل العالم وبما أنه الواضح أنها تنحدر إلى الهلاك في دوامة المشاغل الخارجية لهذا ينبغي أن يكون هدف النفس على الدوام هو السعي وراء إتمام الوصايا، وهذا ما أوصى به القديس بولس تلميذه تيموثاوس: «انصرف إلى القراءة والوعظ والتعليم إلى أن أجيء» (ا تيمو4/13).

7- يجب أن يدرك الراعي أن الرذائل عادة ما ترتدي أقنعة الفضيلة فعلى سبيل المثال غالبًا ما يسمى البخيل نفسه مدبرًا بينما يخفي المبذر حقيقة نفسه ويقول أنه سخي اليد. وأحيانًا يعتبر التساهل الزائد وقلة الحزم رحمة ومحبة، وينظر الناس للغضب المتهور على لأنه غيرة روحية وكثيرا ما يعتبر التسرع والتهور نشاطًا وهمة نافعين ويعتبر التباطؤ والتكاسل نوعًا من التمهل الرزين.

ولذلك ينبغي على راعي النفوس أن يميز  بحكمة وعناية ما بين الفضائل والرذائل لئلا يتمكن البخل من قلبه وهو يبالغ في الظهور بمظهر المدبر أو يفخر بكرمه كما لو كان فضيلة وهو في الحقيقة مبذر ومتلف أو يتغاضى عما يجب أن ينتقده بشدة فيجلب على رعيته العقاب الأبدي أو يعاقب الأخطاء بدون رحمة فيخطئ بذلك خطأ أكبر أو عندما يفسد ما كان يمكن أن يفعله بوقار واستقامة بتوقعاته المتعجلة والطائشة كذلك فإن تأجيل عمل ما صالح قد يحوله إلى عمل شرير. 

8- إن الرعاة كثيرًا ما ينخدعون ويسقطون في الكبرياء نتيجة لسلطانهم على الآخرين ولأن كل الأمور تصير في خدمتهم يود كل واحد منهم أن أوامره في الخدمة تنفذ بسرعة حسبما يريد والرعية كلها تمدحه على حسن تصرفه وهي لا تملك أن تنتقد تصرفاته الخاطئة بل إنها تمدحه حيث كان يجب أن تذمه. عندما يرى الراعي كل ذلك يتكابر قلبه الذي يضل الطريق لسوء فهم الرعية. وبينما هو محاط في الخارج بمظاهر الاحترام يكون قلبه خاليا تماما من الحق وهو يحيد عن الحق عندما يتسانى قدر ذاته وينصت إلى مديح الآخرين مصدقًا ما يقوله الناس عنه وليس لما ينبغي أن يحكم به هو على نفسه في باطنها في كل هذا يظن أن أفراد الرعية أقل شأنًا منه وغير متساوين معه حسب النظام الطبيعي معتقدًا بأنه يمتاز بميزات شخصية في حياته عن أولئك الذين يعلو عليهم بحكم رتبته وهكذا يعتقد أنه أحكم من جميع الناس لأنه يفوقهم في السلطان وأنه على جانب عظيم الرفعة في عينيّ نفسه ومع أن هناك حدودًا تفرض المساواة في الطبع البشري فإنه يكره أن ينظر إلى الآخرين على أنهم متساوون معه. وهو في هذا يجعل نفسه شبيهًا يقول عنه الوحي الإلهي: «يُسدِّدُ نظره إلى كلِّ متعالٍ وهو ملكٌ على جميع بني الكبرياء»(أي 41/26) وأيضًا مثل ذلك الذي مال إلى الكبرياء الذاتي محتقرًا الحياة مع الملائكة قائلاً: «قد قلتَ في قلبك: إني أصعد إلى السماء أرفع عرشي فوق كواكب الله وأجلس على جبل الجماعة في أقاصي الشمال. أصعد فوق أعالي الغيوم وأكون شبيهًا بالعليّ » (أش 14/13 و14). وبينما هو في الظاهر يرفع نفسه إلى قمة المجد والقوة فإنه في الباطن يحفر هاوية سقوطه إن الإنسان يصبح كالملاك الجاحد حينما يحتقر كونه مثل بقية الناس بالرغم من أنه فعلاً هو إنسان عادي مثلهم.

9- لا ينبغي للراعي أن يقلل من اهتمامه بالحياة الداخلية بسبب اهتمامه بالأمور الخارجية ولا ينبغي كذلك أن يكون اهتمامه بالحياة الداخلية سببا في إهماله لشئون الرعاية الروحية فهو لا يجب أن ينغمس فيما هو خارجي فيهلك داخليا أو يحصر نفسه فيما يختص بالداخل فقط وينسى أن يمنح أخوته الرعاية اللازمة. إنه في كثير من الأحيان ما ينسى بعض الرعاة أنهم أعطوا سلطانا على إخوتهم ليعملوا على خلاص نفوسهم فيكرسون أنفسهم بكل مالهم من قوة لمشاغلهم العالمية ويتفرغون لهذه المشاكل طالما كانت موجودة أمامهم فإذا لم تكن موجودة فإنهم يلهثون وراءها ليلا ونهارا بعقل قلق ومضطرب وحتى عندما تنقضي المناسبات التي تستدعي وجود هذه المشاكل فإن فكرهم يظل منشغلا بها إنهم يسرون بانشغالهم بها ولا يستريحون إلا إذا هم كدحوا فيها. هؤلاء يسرون بانشغالهم بالاهتمامات العالمية ويهملون الأمور الداخلية التي كان ينبغي أن يعلموها للآخرين. ولهذا تزيد حياة الرعية فتورا بالرغم أنها تريد أن تنمو في الروحيات بسبب اصطدامها بحجر العثرة وهو قدوة الرعاة. 

10- الراعي لا يكون نعجة ولا أسد بل يكون متشبه بالكاهن الأعظم يسوع المسيح.

 

بنعمة الله

أخوكم الأب إسطفانوس دانيال جرجس

خادم مذبح الله بالقطنة والأغانة – طما