قضية الاعتداء الجنسي على القاصرين

محاضرة للأب تيموثي رادكليف الدومينيكاني

روما، الجمعة 28 مايو 2010 (Zenit.org).

في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الأخير، كشفت قضية مورفي عن قيام عددٍ من الأساقفة الأيرلنديين بالتّغطية على اعتداءاتٍ جنسيَّة على الأطفال، ارتكبها كهنة خلال ما يزيد على ثلاثين سنة. وفي هذا السِّياق قام الأب تيموثي رادكليف، الكاهن الدومينيكاني الإنكليزي، والرَّئيس العام السابق لرهبنة الوعّاظ، بإلقاء هذه المحاضرة في نهاية العام 2009 على كهنة أبرشية دبلن (أيرلندة)، بغية مساعدتهم في تأملهم في كيفية مجابهة هذا الوضع المؤلم للغاية.

* * *

"تعالَوا إليَّ يا جميع المتعبين" (متى 11، 28)

   إنَّه لشرفٌ وامتيازٌ كبيرين لي، أن أكون وسطكم هذه الأيام. لقد سُرِرتُ بأن أتيحت لي فرصة إحياء رياضةٍ روحيّةٍ لكهنة هذه الأسقفيّة منذ سنتين تقريباً، ويسعدني أن أكون معكم من جديد. إنّها لفترةٌ في غاية الصّعوبة بالنّسبة للكنيسة، في إنكلترة وفي أيرلندة، ولكن خصوصاً بالنسبة لكم حالياً.

   إنَّ موضوع هذه الأيام هو: "ابتعدوا وارتاحوا قليلاً". لذلك فقد قلتُ لنفسي، بأنّي سأتأمّل معكم في نصِّ متّى الذي يستحضر الراحة بشكلٍ كبير: " تعالَوا إليّ يا جميع المتعبين والرّازحين تحت أثقالكم، وأنا أريحكم. احملوا نيري وتتلمذوا لي، فأنا وديعٌ متواضِع القلب، تجدوا الراحة لنفوسكم، لأن نيري لطيف وحِملي خفيف". لذا فإنّي آمل بأنْ يحصل حوارٌ مريح، وإذا ما أغفيتم فتجنَّبوا الشَّخير!

   قال يسوع لتلاميذه: "تعالَوا إليّ". إنّها دعوةٌ إلى الحميميّة. التلاميذ مدعوون إلى إيجاد الرّاحة في صداقته. هذه هي النقطة التي أودّ تفحُّصَها قليلاً، الطّريقة التي تمكننا، في هذه الفترة الصعبة، من إيجاد الرّاحة في صداقةِ الله.

   تجتاز الكنيسة أزمةً فظيعة، ليس في أيرلندة فقط، وإنَّما كذلك في بريطانيا العظمى، في أمريكا وأستراليا. إلا أنّي مقتنع، في هذه الأثناء، كما سبق وقلت في سياق هذه الرياضة، بأنّه ومن خلال الأزمات يمكننا الاقتراب من الله. لقد كانت اللّحظاتِ الأسوأ على الإطلاق التي عرفها شعب إسرائيل، هي تلك التي تسبَّبت في دمار الهيكل في القرن السادس ق.م، في خلع المُلكية والسبيّ إلى بابل. لقد فقد إسرائيل حينها كلّ مكوِّنات هويَّته: مكان عبادته، وضعيته كأمّة وعاهله. إلا أنّه اكتشف بأنّ الله لم يكن يوماً قريباً منه كما كان وقتها. لقد كان الله حاضراً في الشّريعة، في قلوب وأفواه السكّان حيثما وجدوا، حتّى بعيداً عن أورشليم. لقد أنشدنا يوم الاثنين في صلاة فرض السّاعة السّادسة، وفيما كنتُ أعدُّ هذا النَّص: "أستنيرُ يا ربُّ بوصاياك، فهي التي أُحبّ. أرفع كفَيَّ حبّاً بوصاياك وأتأمَّل في إرشاداتك" (مز 119: 47-48). لم يفقد إسرائيل الله، إلا ليتلَّقاه أقرب مما سبق له أبداً تصوُّرَه.

   ويسوع، هذا الرَّجل المذهل، الّذي ظهر، على صدامٍ مع هذه الشريعة المحبوبة، يأكل يوم السَّبت، يلمس البُرص ويصادق الزواني، بدا كما لو كان يحاول تدمير كلّ ما يتعلَّق به الشَّعبُ، طَّريقة حضور الله في حياتهم. إلا أنّ ذلك كان، لأنّ الله أراد أن يكونَ حاضراً بطريقةٍ أكثر حميميّة، كواحدٍ منّا، بوجهٍ إنسانيّ. وفي كلّ إفخارستيا، فإننا نتذكّرُ الطّريقة التي سوف نفقده بها. ولكن، مرَّةً أُخرى، لنستقبله بشكلٍ أكثرَ قُرباً، ليس كرجلٍ فيما بيننا وإنّما كحياتنا ذاتها.

   تُشكِّل الأزمة الأخيرة في الواقع، فرصةً لاكتشاف يسوعَ أكثرَ قُرباً إلينا مما سبق لنا تصَوُّره على الإطلاق. هذا الوضعُ ناجمٌ عن إخفاقاتنا ككنيسة، إلا أنَّ الله يمكن أن يجعل منه شيئاً جيداً، إنْ عشناهُ بالإيمان. ويمكننا مذ إذٍ أن نكون مطمئنّين. في أحدِ الأيَّام وفيما كنتُ أثرثر كعادتي حول هذا الموضوع، قدَّم لي أحدُ إخوتي الأمريكيّين، قميصاً صنعه خصيصاً لي، يحملُ العبارة التَّالية: "ما من شيءٍ يعادل أزمةً جيّدة!" كنتُ أنوي جلبه لأريكم إيّاه، إلا أنّه ضاق بشكلٍ كبيرٍ بحيث لم يعد بإمكاني ارتداءه.

ثقل أحمالنا

   حينما كنتُ طالباً دومينيكيّاً شاباً في بلاكفراير – Blackfriarفي أوكسفورد، استُهدِفَ الدّير من مجموعةٍ من نشطاء اليمين الذين لم يتقبّلوا التزامنا بقضايا تتجه نحو اليسار. أطلق أولئك الأشخاص، في مناسبتين اثنتين، وفي قلب الليل، متفجِّرةً صغيرة أحدثت ضجيجاً هائلاً وحطَّمت النوافذ. أيقظت التفجيرات كافة أعضاء الجماعة، فيما عدا رئيس الدَّير. اكتشفتُ بذهولٍ ما كان زملائي يرتدونه من أجل النوم! بيجامات، ألبسة داخلية، لا شيء على الإطلاق! أقبَلت الشرطة ورجال المطافئ. بحيث ذهبت في النهاية لإيقاظ الرّئيس: "فيرجوس، لقد تمَّت مهاجمة الدير، استيقظ". "أيوجد قتلى؟". "لا". "جرحى؟". "لا". "دعني أنام إذن، وسنرى ذلك في الصباح". لقد كان ذلك درسي الأول في مقرّر معنى السلطة! لقد حمل المسيح النصر. لذا يمكننا أن نكون مطمئنِّين مهما حصل.

   السؤال الذي يطرح نفسه علينا اليوم إذاً، هو: كيف يمكننا عيش هذه الأزمة كفرصةٍ للخير والتجديد؟ لنتابع التأمُّل في كلمات يسوع، علَّنا نرى ما ستوحي به إلينا: ""تعالَوا إليَّ يا جميع المتعبين والرّازحين تحت أثقالكم وأنا أريحكم".

   لا بدَّ أن أغلبكم قد شعر في الأسابيع الأخيرة، بالانهيار تحت ثِقَلِ أحماله. لقد شعرتم بالإنهاك تحت ثقل فضيحة الاعتداءات الجنسيّة، وعدم كفاءة عددٍ من الأساقفة في التعاطي مع هذه القضية خلال عقود. قد تكونوا قد شعرتم بالانسحاق تحت وطأة غضب وسائل الإعلام وبعض أبناء رعاياكم أو ما هو أسوأ، تحت وطأة شهاداتِهم المفعمة بخيبة الأمل، التعاسة والتعاطف. في هذه الأثناء، وفي كلِّ مرّةٍ ألقي محاضرة في إنكلترة، فإنّني أخرج منهكاً من هذا الغضب تجاه الكنيسة.

   كيف يمكننا تقديم هذا للرّب لكي يخفِّف الحمل عن أكتافنا؟ حسناً، إنّه يقول: "تعالَوا إليّ يا جميع المتعبين والرّازحين تحت أثقالكم". يا جميع المتعبين: هذا يعني أن نأتي إليه كلّنا سويَّةً، مع كلّ الرازحين تحت ثقل أحمالهم. يتوجَّب علينا أن نذهب إليه مع أولئك الذين يحملون أثقل أنواع الأحمال، ضحايا الاعتداءات الجنسية. إن كنّا نريد الاقتراب من يسوع، فإنه يتوجَّب علينا إذاً مساعدتهم على حمل أثقالهم. يبدو هذا العمل وكأنَّه يضيف حملاً جديداً إلينا، إلا أنّه سيسمح لنا بالتأكيد، أن نخفِّف بالمقابل، بعض الثقل عن أكتافنا.

   أعترف بأنَّني خائفٌ من المُضيّ في هذه المسيرة. أخاف من غضب وألم أولئك الّذين عانَوا من سوء معاملتنا. عندما أسمعهم يعبِّرون عن ذلك في الراديو أو التلفاز، فإنّني بالكاد أتمكّن من تحمُّل ذلك. أودّ إغلاق الراديو أو التلفاز. إلا أنّ صداقة الله تتطلَّب منّا التقدُّم، شئنا ذلك أم أبينا، في حمل أثقالهم، وغضبهم ومعاناتهم أيضاً. وكذلك خيبة أمل وكُرب شعب الله. لا بل، حتّى الأحمال الثقيلة لإخوتنا الكهنة الذين اعتدَوا على قُصّار. يتوجّب علينا مساعدتهم في حمل أثقالهم. إن حملنا أحمال كلّ هؤلاء، فسيريحنا الرّب.

   قال يسوع لتلاميذه في إنجيل لوقا، وخلال العشاء الأخير: "أقول لكم: يجب أن تتمَّ فيّ هذه الآية: وأحصَوه مع المجرمين. وما جاء عنِّي لا بدَّ أن يتم" (22: 37).

   إنْ كنَّا نودّ الارتياح في صداقة الله، فإننا سنُعدّ في عداد الخاطئين بالتّأكيد. حكت لي أختٌ دومينيكانيّة رائعة عن مشاركتها في اجتماعٍ عائليّ، شارك فيه عدّة مئاتٍ من الأشخاص. وكان هنالك شجرةُ عائلةٍ ضخمة، بحيث وُضِع أسفلَ كلّ اسمٍ لائحةٌ بالمتحدّرين منه. فيما وُضِعَ تحت اسم الراهبة وكذلك تحت اسمِ كاهنٍ قريبٍ لها علامة استفهام. كأنّما أرادوا القول: "حسناً، لسنا على علمٍ بما قمتم به". طلب منّي ذات يومٍ الرّئيس الإقليميّ المحليّ في نيويورك، أن أقابل رجلاً أكَّد تعرّضه لسوء معاملةٍ جنسيّة من قبل دومينيكانيٍّ متوفٍّ منذ أمدٍ طويل. لقد كانت السّاعة التي أمضيتها مع هذا الرجل وزوجته مؤلمةً للغاية. كان باختصارٍ، يصرخ قائلاً: "أنت من فعل لي ذلك". كنّا في السنّ ذاته تقريباً. ولم يكن قد سبق لي وسمعتُ بالدّومينيكان ساعة تعرّض للاعتداء. كنتُ أرغبُ في الصراخ: "لكن لا علاقة لي بذلك!". وإنّه لمن المغري حقاً، اللجوء إلى حقائق مطمئنة، كتلك الدراسات على سبيل المثال في أمريكا وإنكلترة، والتي تكشف عن وجود ميلٍ أكبر في الواقع لدى رجال الدّين الآخرين للجنوح إلى هذا النوع من الجرائم، منه لدى الكهنة الكاثوليك، رغم أنّنا نحن من ينظّف كلّ النَّقد.

قدّيسون وخطأة

   إحدى وسائل إيجاد الراحة هي التحرّر من الأحمال الثّقيلة التي تُجبرنا على أن نكون ذوي فضيلة. إنّه لأمرٌ في غاية الإنهاك، محاولة إدّعاء القداسة على الدّوام. غالباً ما يُخبِرُنا القدِّيسون كم أنّهم خطاة. يبدو لي هذا النوع من التصريحات ضرباً من الجنون! يا له من ادِّعاء! ولكنَّهم، كما ترون، يعبِّرون عن تضامُنِهم مع غالبية الخطأة العاديين.

   يعبِّر رئيس الأساقفة ريمبرت ويكلاند Rembert Weakland، الذي استقال من منصبه عَقِب فضيحةٍ مزجت ما بين العلاقات الجنسيَّة والماديّة، في مذكَّراته، عن نوع التحرُّر الذي حملته إليه الأزمة الّتي مرَّ بها. لقد تنبَّه إلى أنَّ القدِّيسة تيريزا للطفل يسوع "قد كتبت ذات يوم بأنها تودُّ التقدُّم من الله بأيدٍ فارغة. أعتقدُ أنَّني أدركُ حاليّاً وبشكلٍ شخصيّ ما أرادت قوله بهذه الصّيغة. لقد فهمتُ مدى هشاشة طبيعتي البشريّة، مدى حاجتي للعناق المحبّ لله".

   كتب ه.ج. ويلز H.G. Wellsقصَّةً عن الدّينونة الأخيرة. عن خاطئٍ رهيب، هو الملك آحاب، الخصمُ القديم لإيليا، والذي وُضِعَ بين يديّ الرّب ليدينه. أخذ العاهل بالصُّراخ ومحاولةِ إنقاذ نفسه فيما كان الملاك المؤرشِف يتلو وبصوتٍ عالٍ لائحة خطاياه. إلا أنّ الأمر انتهى به للهرب إلى كُمِّ الله حيث وجد له ملجأً. ثم ظهر نبيّ قدّيس، إنَّه إيليّا من دون شك. جلس هو الآخر في كفِّ الله، وأنصتَ بزهوٍ إلى تلاوةٍ لأعماله الصالحة. ثم وصل الملاك إلى أعمالٍ محدَّدة أقلّ حمداً. "وبعد برهةٍ، أخذ القدّيس يجري في كافة الاتّجاهات على كفّ الله؛ بدوره أخذ يتوسَّل ويتضرَّع، تحت وطأة هذه الحقيقة الرهيبة والتي لا مفرَّ منها؛ كان يبحث، تماماً كالشرير، عن ملجأٍ في كُمِّ الله. يمكننا أن نميّز ما حدث في عتمة ذلك الكمّ. لقد كان الرجلان جالسَين جنباً إلى جنب، مجرَّدَين من كلِّ زيفٍ – كإخوة، ملتجئين في ثياب المحبة الإلهية. وهنا أيضاً يتوجّب عليّ بدوري الهرب".

   لنحمل إذاً أثقال الكلّ، الضحايا، أولئك الذين ارتكبوا الاعتداءات وشعب الله. لنتحرّر من الأحمال الثّقيلة الّتي تتطلّب منا أن نُثبِت فضيلتنا، ولنجد الراحة في كُمّ الله مع كلِّ المساكين الآخرين. "احملوا نيري وتعلّموا منّي… نيري هيّنٌ وحِملي خفيف".

   إنَّ حِملَ يسوع هو الشّريعة. ففي العهد القديم ( ) وفي اليهوديّة الرابانية، كانت التوراة هي النير المفروض علينا. ظهر النقيض مع الفريسيين الذين "يحزمون أحمالاً ثقيلة شاقة الحمل ويلقونها على أكتاف الناس، ولكنَّهم لا يحرِّكون إصبعاً تعينهم على حملها" (متى 23: 4). على نقيض نير الفرِّيسيّين، فإنَّ نير يسوع خفيف.

مثل الفرّيسيّين…

   إن نظرنا إلى كنيستنا المحبوبة على مرّ العقود الحديثة، لتملّكنا الإحساس حقاً، بأنّ تصرُّفاتنا كانت أشبه بتصرفات الفرّيسيّين، إذ حزمنا أحمالاً ثقيلة وألقيناها على أكتاف الشعب. وغالباً ما ترافق هذا المفهوم مع السلوك الجنسي. إذ قلنا للعائلات ممّن لديها عددٌ كبيرٌ من الأطفال بعدم صوابيَّة استعمال أيّة وسيلةٍ لمنع الحمل، للشباب الذين لا يمتلكون إمكانيّة الزّواج بأنّه يتوجَّب عليهم السيطرة بصرامة على نشاطهم الجنسي – على ألا تتجاوز مدّة القبلة عشر ثوانٍ- وللمثليين بأن لا شيء مسموح وبأنه يتوجب عليهم الشعور بالعار من ميولهم الجنسيّة. بغضّ النّظر عن ظروف وملابسات تعليم الكنيسة هذا، فإنّه يمكن والحالة هذه، القولُ بأنَّ هذه التعليمات قد عيشت من قبل المؤمنين كحملٍ ثقيل. وها هم يكتشفون فيما بعد، أنَّ بعض الكهنة الذين كانوا قد حمَّلوهم تلك الأحمال، خطِئوا على الصعيد الجنسي بشكلٍ أكثر جسامة، أنّهم مثل الفريسيين لا يفعلون ما يعظون به. يمكنكم تخيّل غضب الأم التي حملت مرّةً إثر مرّة ولم يعد بإمكانها تحمُّل المزيد، أو غضب تلك الشابّة المثليَّة، عندما يعلمن بأنّ حتّى بعض الكهنة قد أذنبوا.

   يزداد هذا الغضب حدّة خاصّةً بعد أن غدا الاعتداء الجنسيّ على الأطفال، رمزاً للخطيئة الجنسية. ففي مجتمعٍ علمانيّ مثل المجتمع البريطانيّ على سبيل المثال، لم يبقَ في الواقع من خطيئةٍ جنسيَّةٍ أخرى. فها هو برنامج "الحيرة الأخلاقيّة –  Moral Maze"، الّذي بثّته هيئة الإذاعة البريطانيَّة BBC الأسبوع الماضي، يسلِّط الضّوء على حالة امرأة تدعى "بيل – Belle"، موَّلت دراستها لرسالة الدكتوراة من خلال عملها الجزئيِّ في الدَّعارة. لم يجدْ أغلب المدعوِّين إلى الحلقة ما يقولونه. لم يرَوا في الأمر، أكثر من مجرَّد علاقةٍ تعاقديّة. يمكننا أن نفعل بجسدنا ما نشاء، أولا تشكِّل المازوشيّة-الساديّة جزءاً من النّسيج المعقّد للخبرات الجنسيّة؟ يبدو أنه في إنكلترة، ولسببٍ غريب، يجتذب ذلك الطبقة الاجتماعيّة العليا. كلُّ ذلك القلق المتعلِّق بالسُّلوك الجنسيّ إذاً، كلُّ ذلك الشُّعور بأنّ شيئاً ما على غيرِ ما يرام، كلُّ هذا الجزع يتمحور الآن حول الاعتداء على الأطفال. أصبح المعتدي على الأطفال هنا، الخاطئ الأكبر على الصعيد الجنسيّ، لا بل الخاطئ الوحيد. لستُ أودُّ بحالٍ من الأحوال، أن أخفِّف من جسامة هذه الجّريمة الشّنيعة الّتي لا تُغتَفر، وإنَّما أودُّ مساعدتكم على إدراك سبب شدّة هذا الغضب. لقد أضحى العنفُ الجنسيُّ تجاه القُصّار، كما أتصور، مثل مانعة الصواعق الّتي تتلقّى كلَّ هلعنا المتعلِّق بالجنسانيّة، وبالطريقة التي تبدو فيها وقد انتزعت من أيّة رؤية أخلاقيّة.

إرادة الساعاتيّ

   كيف يتوجَّب علينا إذاً التخفيفُ من الحمل الذي يُثقِل أكتاف الآخرين، ويُثقِل علينا بالأخصّ؟ كيف كان يسوع ليعلمنا طريقة اقتسام نيره الخفيف وهيِّن الحمل؟ يتوجّب علينا كما هو منتظر، أن نكون طيِّبين ورحماء، مع الآخرين ومع أنفسنا على حد سواء. أنا على ثقةٍ من أنّ غالبيّة كهنة هذه الأبرشيّة يعرفون ذلك. بالرُّغم من أنّ أخاً أيرلنديّاً يدعى هيربرت ماك-كابي Herbert McCaby، روى لي أنّه في أحد الأيام، وخلال اعترافٍ في دبلن، اعترف له أحدهم بخطيئةٍ فظيعة. ثم خرج من كرسيّ الاعتراف، تلا فعل النّدامة، انتظر الكاهن ليخرج بدوره، واشتعل غضباً في وجهه بشكل غريب. فإن أراد أحدكم الاعتراف، سأكون تحت تصرفه بعد انتهاء المؤتمر.

   إنّنا في هذه الأثناء بحاجةٍ إلى ما هو أكثر جذريّة من مجرَّد الطِّيبة. إنّنا بحاجةٍ إلى تجديد فهمنا لمعنى حمل نير وصايا يسوع. ينبغي أن نضع من جديد موضع تساؤل، تلك الفكرة العامة التي تجعل من الأخلاق مسألة ممنوعات وواجبات قبل كلِّ شيءٍ آخر. فالمفهوم الّذي يجعل الشخص الطيِّب هو ذاك الّذي يُخضِع إرادته للشرطيّ الأكبر في السَّماء، هو مفهومٌ خاطئ تجاوزه الزمن. يلقي البعض بالمسؤولية في ذلك على غليوم أوكلام (اللاهوتي والفيلسوف الفرنسيسكاني)، لكنّني أبعدُ ما أكون، كراهبٍ دومينيكانيّ، عن الميل إلى إلقاء اللّوم على أخٍ فرانسيسكانيّ! أعتقد بأنَّه تمَّ فرض هذه الرؤية الأخلاقيّة مع عصر الأنوار، وثقافة السيطرة الخاصَّة به. تعتبر هذه النظرية العالم والمجتمع، كما لو كان آليّةً تنبغي السيطرة عليها، تماماً مثل ساعة الحائط. وبالتّالي تعتمد القوانين الأخلاقيّة على إرادة الساعاتيّ. أن أكون طيباً، فذلك يعني أن أخضَع للإرادة التعسُّفيَّة لله والدولة، أن أعرف ما يحقّ لي فعله وما لا يحقّ لي فعله.

     ينبغي علينا أن نخفِّف عن الجميع، بما في ذلك أنفسنا، ذلك الحمل الثقيل الذي يمثله الشرطيّ السماويّ. لم يُنظرْ في البدء، سواءً أكان ذلك في إسرائيل أم في الكنيسة الأولى، إلى الوصايا على أنّها تمثّل إرادة الله التعسفيّة. لو كنّا الأمر كذلك، لربَّما كان البعض منّا موافقين على كلام برتراند راسل، الذي يعتبر الوصايا العشرة مُجرَّد أسئلةٍ امتحانيّة: لن يتوجّب على أيّ مرشحٍ أن يُجيب على أكثر من ستةٍ منها! خلال الحرب العالمية الثانية، عمل راهبٌ دومينيكانيّ كمرشدٍ لكتيبةٍ بولنديَّة. وفي ليلة معركة جبل كاسان – Mont Cassin، وأثناء خروجه من خيمته، اكتشف وبذعر أن آلاف الجنود يودُّون الاعتراف. فكيف يمكنه القيام بذلك؟ في ذلك العصر، لم يكن الحِلُّ العام قد عُرف بعد، أو بالأحرى لم يكن قد مُنع بعد. لذلك، فقد دعا كلَّ الجنود إلى الاستلقاء بحيث يواجهون الأرض، وبحيث لا يتمكَّنون من رؤية واحدهم للآخر. ثم قال: "سأتلو عليكم لائحة الوصايا العشر. وينبغي على أولئك الذين خالفوا إحداها أن يرفعوا ساقهم اليسرى ويشيروا بساقهم اليمنى إلى عدد مرّات ارتكابهم لهذه الخطيئة".

   لقد حظيتُ هذا الصيف، بنقاشٍ حماسيّ مع الحاخام الأكبر لبريطانيا العظمى، جوناثان ساكس Jonathan Sachs. إذ أخبرني بأنّه ما من كلمةٍ في التوراة، تترجِم فعل "يطيع"، بمعنى أن يُخضِع المرءُ إرادته لقوّةٍ خارجيّة. وبما أنّ دولة إسرائيل قد نشأت بعد الحرب العالمية الثّانية، فقد توجّب استعارةُ مصطلح آراميّ للتعبير عن مفهوم "الطاعة" في دلالتها المعاصرة. في الواقع، تعني الكلمة العبرية التي نترجمها عامة بـ "يُطيع"، "يُصغي". ليست الوصايا العشر ضغطاً خارجيّاً، وإنّما هي دوماً عبارة عن دعوةٍ للالتزام في علاقةٍ شخصيّة مع الله. "أنا هو الرَّب إلهك، الّذي أخرجك من مصر، من دار العبوديّة. لا يكُن لك آلهةٌ غيري" (خر 20: 2-3). تُساهم الوصايا في صداقة الله وفي الحريّة. لقد ائتُمِنَتْ إلى موسى، إلى الشخص الذي خاطبه الله كصديق.

   وكذلك هي الحال مع يسوع. إذ يكشف يسوع عن وصيَّته الجّديدة إلى التلاميذ ليلة موته، في اللّحظة ذاتها الّتي يعلن فيها عن ماهيّة أحبَّائه. "بل أدعوكم أحبّائي لأنّي أخبرتكم بكلِّ ما سمعتُه من الآب" (يو 15: 15).

   يشرح هذا شيئاً مفاجئاً بالفعل، متعلق بيسوع. إذ كان يأكلُ ويشربُ مع الزواني وجباة الضرائب؛ لقد كان أصدقاؤه من غير المرغوب بهم. لم ينتظرهم ليتوبوا قبل أن يدعوَهم إلى مائدته. لم يقل: "أصغِ يا حنّة، بما أنّه قد مضى أكثر من أسبوع مُذ تركتِ الرصيف، فإنّه بإمكانك القدوم إلى حفلتي!". لقد قبلهم ببساطة، كما هم. بيد أنّه ألقى موعظة الجّبل بالرغم من ذلك. لقد أمر تلاميذه بأن يحملوا نير الآخر، بأن يحبُّوا أعداءهم، بألا يغضبوا أبداً، أن يكونوا كاملين كما أنّ أباهم السماويّ كامل. لقد كان كثير التطلّب.

   كيف يمكنه أن يوفِّق بين هذين المفهومين، أن يكون مستقبِلاً دونما تحفّظ، وأن يبدو في غاية التفهُّم، ومع ذلك كثير التطلّب؟ تتعلّق هذه الطلبات بصداقة الله. لا يمكننا أن نقدِّم تعليماً أخلاقياً إلا في الإطار المنظور لصداقة الله.

   لهذا التعريف، والحالة هذه، نتائج جذرية على الطّريقة التي تعلّم بها الكنيسة الرؤية الأخلاقية. إذ ما من معنى لما نريد أن نقوله، إلا في إطار الصداقة. فإن أردتم التطرُّق إلى أسئلةٍ من قبيل الإجهاض، الطلاق والزواج، أو المثليّة الجنسيّة، يتوجَّب عليكم إذاً، أن تحرصوا على أن تكونوا أصدقاءً للأشخاص المعنيِّين، ينبغي أن نقبل ضيافتهم ودعوتهم إلى مساكننا. عندما كنتُ طالباً في باريس، توُفِّي الكاردينال دانييلو – Daniélou (يسوعيّ مختصٌ بالمجمع الفاتيكانيّ الثاني)، على السلالم فيما كان يعود إحدى العاهرات. وقد طرحت وسائل الإعلام حينها، تلميحاتٍ مرتابة. إلا أنّ كلَّ من عرِف هذا الكاردينال، أدرك بأنّ الأمر يتعلَّق برجلٍ قدّيس يمارس رسالته في المرافقة الأخلاقيّة للمحتقرين، كما فعل على الدوام. لقد قدَّم صداقته إذاً لغير المحبوبين.

   نير يسوع هو إذاً، هيِّن الحمل وخفيف لأن ذلك يعني عرض صداقته، ولا يمكن لذلك أن يُترجم إلا من خلال الصداقة. إذ لا يمكننا فهم ما يتوجَّب قوله إلا في إطار الصّداقة. جنباً إلى جنب، وفقط من خلال تقاسم النِّضال والسَّعي، فإنَّه يمكننا استقبال الكلمة الأكثر ملائمة. وهذه الكلمة لن تكون نيراً على الإطلاق، وإنما عطيَّة.

   

   سيكون أمراً في غاية الصُّعوبة، أمرُ نقل هذه الرِّسالة إلى وسائل الإعلام. فهي تحبُّ التصريحات الجَّميلة الشَّفافة، خاصةً حين تكون المسألة قضيَّة ممنوعات. إلا أنَّه ينبغي القول، بأنّ الجرائد ما هي إلا نتاجٌ صافٍ لروح عصر الأنوار وثقافته في السَّيطرة. وهذا يقودنا إلى أسلوبٍ آخر يعلّمنا يسوع من خلاله كيف نرتاح ونكون في سلام.

   صداقة يسوع، الحميميّة، تعني تعلُّم الكيفيّة التي نكون بها متواضعين وودعاء القلب. عندها، سنجد الرّاحة لنفوسنا. إلا أنّني لست واثقاً من أنّنا حينما نفكّر بالكنيسة الكاثوليكيّة، تكون كلمة "التواضع" أول ما يتبادر إلى أذهاننا. في الواقع، لستُ أظنُّ بأنّ هذا التّعبير يميِّز أيّاً من الكنائس التي أعرفها. شاركتُ ذات يومٍ في اجتماعٍ مسكونيّ في باري – Bari، حيث أقبل نحوي رئيسُ أساقفةٍ بارزٍ من كنيسةٍ أخرى، بحلّته الفاخرة، ليسألني عن الكيفيّة التي يتوجب مناداتي بها: غبطتكم؟ فخامتكم؟ وفي لحظة خبثٍ أجبت، بأنّه لو أردنا أن نكون رسميّين للغاية، فإنّه من الممكن مناداتي بـ "أخ". ثم سألني عن ماهيّة رموز سلطتي عندما كنتُ رئيساً للرهبنة. هل كانت لديّ تصفيفة شعرٍ معيّنة؟ عصا؟ وبينما كنت أردّ بعدم امتلاكي لأيّ من ذلك كله، فإنّه ابتعد قائلاً، أنّه من الجليّ بأنّي لست ممن يستحقون أن يوجّه الحديث لهم.

   إنّني لعلى اقتناع بأنَّ هذه الأزمة الجنسانية مرتبطة بشكل وثيق بمسائل السلطة وبأسلوب عملها في أغلب الأحيان، في قلب الكنيسة وعلى كافة المستويات، من الفاتيكان وحتى خادم كنيسة الرعيَّة. لم يعُد الأمر متعلِّقاً بسلطة يسوع المتواضع ووديع القلب. تتمحور كافة المؤسَّسات البشريَّة حول استخدام السلطة. أعتقد حقيقةً بأنّه مع ثقافة السَّيطرة الخاصّة بالأنوار، فقد ازداد هوسنا بالسُّلطة. يقتفي تشارلز تايلور، في مؤلّفه الملفت “A Secular Age”، أثر تطوُّر المطالبات بالحظوة في مقابل سلطةٍ آخذةٍ بالتوسُّع باستمرار. نلحظ ذلك من خلال صعود الملكيَّات المطلقة في إنكلترة، في فرنسا وفي إسبانيا، وفي تطوُّر الدَّولة المركزيّة. حيث لا يعود الفقراء إخوتنا وأخواتنا في المسيح، وإنما يصبحون تهديداً. يجب أن يُغلق عليهم مثل المرضى العقليين. لقد ألَّفنا جيوشاً من الوظائف والخدمات الشرطيَّة، مع انفجارٍ حقيقيٍّ في التّشريع.

   وللأسف، فكثيراً ما أُخِذت الكنيسة في هذه الثّقافة عينها. أذكر ذلك الأسقف الذي صرَّح قائلاً: "كلُّنا متساوون في هذه الأبرشيّة، بدءاً منِّي شخصيّاً وحتّى الشّخص الأكثر ضعة". وآخر وعد إِثر سيامته الأسقفيّة، بخدمة الأبرشية بيدٍ من حديد!

   أرتاب بأنَّ كلَّ ذلك، يرجع وبشكل ملحوظ، إلى حقيقة أنَّ الكنيسة قد ناضلت، وخلال قرون، ضدَّ سلطات هذا العالم الذي كان يبحث عن وسيلة تمكِّنه من الاستيلاء عليها. لقد جاهدت الكنيسة، منذ الإمبراطوريّة الرومانيّة وحتى الأنظمة الشيوعيّة، مروراً بالإمبراطوريّة البريطانيّة، من بين أُخَر، لتحتفظ بسيطرتها على حياتها الخاصَّة، وغالباً ما انتهى بها الأمر إلى أن تُغزا بدورها بثقافة السَّيطرة ذاتها. إنَّها والحالة هذه، الثّقافة ذاتها الموجودة في جذور أزمة الاعتداءات الجنسيّة هذه، والتي تمثّل سوء استخدام السُّلطة تجاه الصغار والضعاف.

   لن يكون لدينا كنيسة مسالمة تجاه الشبيبة، فيما لو لم نتعلم من المسيح، وفيما لو لم نصبح من جديد كنيسةً متواضعة، نكون فيها جميعاً، الأطفال المتساوين للآب الواحد. حينها سيمنحنا المسيح راحةً لنفوسنا.

   في قراءات الفرض للأسبوع الأوَّل من زمن المجيء، قراءةٌ رائعةٌ مأخوذةٌ من أشعيا. إنَّها مستوحاةٌ من خبرة الأزمة والإذلال الّذين اجتازهما شعبه. ولكن، بالنّسبة لأشعيا، فإنَّ هذه الخبرة كانت الوعد لهم بأنّهم سيتقاسمون من جديد حياة الله وسلامه: "فإنَّه يوم ربِّ القوَّات على كلِّ متكبِّرٍ متعالٍ، وعلى كلِّ مرتفعٍ فيحطّ. وعلى كلِّ أرز لبنان العالي المرتفع، وكلِّ بلُّوط باشان، وعلى جميع الجِّبال العالية، وجميع التّلال المرتفعة، وعلى كلِّ برجٍ شامخ وكلِّ سورٍ حصين" (أشعيا 2: 12-15). "ويُرسل الرَّب على جبل صهيون كلّه وعلى المحتفلين هناك سحابةً ودُخّاناً في النّهار، وضياء نارٍ ملتهبة في اللّيل. فيكون مجد الرَّب غطاءً عليها كلّها. وخيمة تظلِّلها في النَّهار من الحرّ وتقيها وتسترها من السيل والمطر" (أشعيا 4: 5-6).

أزمةٌ في فهم الكهنوت

   إنَّها لأزمة عظيمة للكنيسة إلا أنّها تحمل في طيّاتها وعداً وكثيراً من النّفع، وإنّما بشرط أن نقبلها. تمتدُّ هذه الأزمة إلى ما هو أبعد من تلك التي تسبَّبت بها الاعتداءات الجنسيّة بحقِّ القُصّار والتي ارتكبها بعض الكهنة. بل إنّ فهمنا للحياة الرهبانيّة والكهنوت بأكمله، هو محلُّ أزمةٍ هنا. لقد كان الإصلاح البروتستانتيّ ردّاً على الأزمة التي اجتزناها في نهاية العصور الوسطى. حين كانت صيغة كهنوتنا بأكملها، غير قادرةٍ على مواجهة عالمٍ جديد. لقد كان الكاهن عمليّاً، دون إرشادات، وبالكاد يتمكّن من الاحتفال بالقدّاس ويعيش على الأغلب برفقة صديقة. لا بل بالأحرى، كانت أوضاع الرُّهبان أنفسِهم مُريبة. كان مثل إسبانيّ يقول: "لا تأتمن يسوعيّاً على محفظتك. ولا تأتمن راهباً على زوجتك". بكلماتٍ أخرى، يمكنكم أن تتركوا لي محافظكم بكل ثقة!

   لقد استدعت هذه الأزمة تجديداً هائلاً في الكهنوت، مترافقاً مع روحانيّة جديدة، مع إكليركيّات جديدة، تكوين لاهوتيّ أكثر عمقاً، نظام جديد. إلا أنّ هذا التّجديد، غالباً ما أعطى الانطباع بأنّنا كُنّا خصياناً، كائنات لا جنسيَّة. يتساءل الأطفال فيما لو أنّ للرّاهبات سيقاناً تحت أرديتهنّ الطَّويلة أو أنهنّ يتنقَّلن على أُكر. وعظتُ ذات يومٍ في الهواء الطّلق، واقفاً على منصَّةٍ مرتجلة. سمعت طفلاً يقول لأمه: "أمَّاه، لمَ يرتدي هذا الرجل فستاناً؟". الأمر الذي سلَّى المستمعين. ومن ثم امتدَّت يدٌ صغيرة لترفع أسفل ردائي: "هذا جيِّد يا أُمي، إنَّه يرتدي بنطالاً أسفل الفستان".

   إنّنا نعيش أزمةً في فهم الكهنوت، بسبب موقفٍ مبتعدٍ عن النّاس، بسبب طريقة استخدامنا للسلطة وبسبب مقاربتنا للأخلاق من منطلق السَّيطرة. وبطريقةٍ مؤلمة، يدمِّر الله أبراجنا العاجيَّة وادِّعاءاتنا بالسُّمو والعظمة ليتمكَّن من بناء منزله معنا.

   إنَّ أغلب الكهنة والأساقفة الّذين التقيتهم حول العالم، ليسوا سوى أشخاصٍ متواضعين وغير مدَّعين، لا يتمنَّون شيئاً سوى خدمة شعب الله. أغلب الكهنة الّذين عرفتُهم يتمنُّون مشاطرة حياة مؤمنيهم، وهم متاحون بالكامل من أجلهم. لقد اقتنعت بذلك بعمق، منذ أن بدأت السَّفر في قلب الكنيسة. وقد تملَّكني الشعور ذاته خلال لقائي بكثيرٍ من كهنة هذه الرَّعيَّة خلال الرياضة. يمكنكم أن تفخروا بتواضعكم. وغالباً ما يكون هذا التواضع ملفتاً أكثر، سيّما وأنه يتحدَّى البنى والتّقاليد التي تهدف إلى جذبنا نحو القمم وجعلنا متعجرفين، مع ألقاب مميَّزة وأرديةٍ غير عادية. لربما شكّلت هذه الأزمة إذاً، بدايةً لتجديدٍ مذهلٍ في الكنيسة، نتعلَّم بواسطته من يسوع " فأنا وديعٌ متواضِع القلب، تجدوا الراحة لنفوسكم".

كهنة ذوو نشاط مفرط

   الكلمة الأخيرة الّتي سأتعرَّض لها معكم، هي كلمة "الرّاحة". قال يسوع لتلاميذه عندما كانوا مثقلين: "ابتعدوا قليلاً إلى الصحراء، وارتاحوا قليلاً". آمل أن الوقت الذي ستمضوه هنا سيكون مريحاً لكم وأنكم ستقاومون إغراء تفقُّد رسائلكم الإليكترونية كلَّ عشر ثوانٍ، والجَّري في كلِّ الاتِّجاهات مع هواتفكم المحمولة.

   لا يمكننا أن نعرض الوعد براحة المسيح، إلا إن أعطينا الانطباع أننا نمرُّ كأفراد بهذه الحالة من وقتٍ إلى آخر. في كلِّ الأحوال، غالباً ما يكون الكهنة مفرطي النشاط، إلا أنّ الأزمة الحالية تهدِّد بزيادة هذا الميل. لربما يتملَّكنا الشُّعور بضرورة إظهار أنَّنا كهنة جيّدون، في خدمة مستمرَّة للمؤمنين، دون أن نكرِّس ثانيةً واحدةً لأنفسنا. إنّنا والحالة، هذه أمام السَّلام من خلال العمل، لا من خلال النعمة.

   يقدِّر توماس مرتون – Thomas Merton بأنَّ فرط النّشاط مرتبطٌ بعنف المجتمع: "إنَّ تسرُّع الحياة الحديثة وضغوطها، ما هو لربَّما، إلا الشّكل الأكثر عصريَّة لعنفها الباطنيّ. ندع أنفسنا مشغولين بعدّة هموم متعارضة، نرزح تحت ثقل التماساتٍ عديدة، نلتزم بعددٍ كبيرٍ من المشاريع، ونرغب في مساعدة الجميع فنرزح بذلك تحت العنف. والأسوأ من ذلك، أنّه يوجد في بعض الأحيان تواطؤ في العنف. إذ يحيِّد هوس من يعمل، قابليّته الداخليَّة على إيجاد السَّلام. لا بل يدمِّر الخواص المثمرة لعمله نفسه، لأنَّه يقتل جذور الحكمة الدَّاخلية الّتي تجعل من هذا العمل مثمراً".

   لئن كانت الفاعليّة تمارس عليناً نوعاً من العنف، فإنّه سيعبِّر عن نفسه بشكلٍ أو بآخر. قد نلحظ بأنّنا نستخدم مع الآخرين عبارات عنيفة. قد نمارس العنف بحقِّ أنفسنا من خلال الكحول أو المخدرات. قد نخاطر حتى، بأن نصبح عنيفين على الصعيد الجنسي، وخاصة مع الأشخاص الأكثر هشاشة.

   إنّنا بحاجة إذاً، ودونما خجل، إلى إيجاد الرّاحة في الرّب. وهذا المقطع المأخوذ من إنجيل متى يقترح علينا عدداً من الطرق الّتي يمكننا العمل بها.

   يمكننا إيجاد الراحة لأنّه يمكن أن يتّضح أن هذه الأزمة مثمرة. لربما يكون زمنٌ للأحداث الجيِّدة وتجديد الكنيسة قد حلّ. يمكننا أن نواجهها باطمئنان، لأنّ النّصر قد حلّ. المسيح مات، المسيح قام، والمسيح سيعود. وكما صرَّح ديتريش بونهويفر (قسّ ولاهوتي لوثري ناضل ضد الفاشية) لصديقه، أسقف شيشستر جورج بل، قبل أن يتم اغتياله من قبل النازيين: "انتصارنا مؤكَّد".

   يمكننا أن نجد الرّاحة، لأننا لسنا مضطرِّين للادِّعاء، بعكس أولئك الكهنة الفظيعين، بأنّنا جيِّدون بشكلٍ لا يصدَّق. يمكننا أن ندع أحمال أقنعة التّقوى الثّقيلة تسقط، وأن نلجأ إلى كمِّ الله.

   يمكننا أن نجد الرَّاحة لأنَّ نير يسوع خفيف. وصاياه هي دعوة للصداقة. والصداقة متطلِّبة في بعض الأحيان، إلا أنَّها ليست حملاً على الإطلاق.

ويمكننا كذلك ترك الحمل الثقيل النّاجم عن كوننا أشخاصاً مهمين وذوي سلطة.

* * *

نقلها إلى العربية المبتدئ اليسوعي فادي حليسو