الإخوة والأخوات الأعزاء الحاضرين هنا،
الإخوة المشاهدين والمستمعين الذين يتابعوننا عبر وسائل الإعلام،
فخامة الرئيس ودولة رئيس الوزراء ومعالي الوزراء وأصحاب السعادة اعضاء السلك الدبلوماسي
بارككم الله جميعا!
إني أبشركم بفرح عظيم. ولد لكم اليوم مخلص. كل عام وأنتم بخير.
عيد الميلاد هو دخول كلمة الله الأزلي إلى العالم. المسيح يدخل العالم، ويسكن بين الناس. وأمامه تُفتَح الأبواب أو تُغلَق. نقبله أو نرفضه. بعد أن أغلقنا باب يوبيل سنة الرحمة، يمكن أن نرى في عيد الميلاد بابًا أبقاه الله مفتوحًا دائمًا أبدًا، يعبر منه الله ويدعو الإنسان إلى الحياة معه.
في عيد الميلاد تُفتَح باب الله، فيتقدَّم الابن، الذي اسمه عمّانوئيل، أي الله معنا، للقاء الإنسان.
منذ وُلِد المسيح، انفتحت أبواب السماء مرارًا وتكرارًا، انفتحت يوم عماده في نهر الأردن فجاء الملائكة يبشّرون ويهيِّئون مجيء الروح. انفتحت، فجاء يسوع المسيح، يفتح قلبه الإلهي والإنساني للبشرية. جاء في الرسالة إلى العرانيين: “لِذَلِكَ قَالَ المـَسِيحُ عِندَ دُخُولِهِ العَالَم: لَم تَشَأْ ذَبِيحَةً وَلَا قُربَانًا، وَلَكِنَّكَ أَعدَدْتَ لِي جَسَدًا. لَم تَقبَلْ المـُحرَقَاتِ وَلَا الذَّبَائِحَ كَفَّارَةً لِلخَطَايَا، فَقُلْتُ حِينَئِذْ: هَاءَنَذَا آتٍ، اللّهُمَّ، لِأَعمَلَ بِمـَشِيئَتِكَ” (عبرانيين 10: 5-7).المسيح يفتح الأبواب، أبواب الحياة. حياته أوّلًا. قال: “أنَا البَابُ. مَن دَخَلَ مِنِّي يَخلُص. يَدخُلُ وَيَخرُجُ وَيَجِدُ مَرعَى” (يوحنا 10: 9). وقال صاحب المزامير: “هَذَا بَابُ الرَّبِّ، فِيهِ يَدخُلُ الأبرَار” (مزمور 188: 20).
الله فتح أبواب رحمته. وأناس كثيرون، رجال ونساء، فتحوا قلوبهم واستجابوا لنعمته. مريم ويوسف فتحا قلبيهما من غير تردُّد، وأليصابات وزكريّا، كذلك المجوس والرعاة، ثم حنّة النبية وسمعان الشيخ.
ولكن هناك أيضًا أبواب أُغلِقت. جاء في إنجيل القديس يوحنا: “جَاءَ إلَى بَيتِهِ، فَمَا قَبِلَهُ أَهلُ بَيتِهِ” (يوحنا 1: 11). هيرودس الملك أغلق بال قلبه. بيوت بيت لحم في الماضي أغلقت أبوابها، لم يكن لله فيها مكان؛ أصحاب مال أو مشاريع، أو مواقف مختلفة لا يرون، فيغلقون اليوم بابهم دون الله.
صورة الباب هذه تذكِّر بحرية الإنسان الذي يقبل أو يرفض. تذكّر بالإنسان الذي يغلق قلبه أو يفتحه، فيجعل السلام الذي ننتظره جميعا أمرًا ممكنًا أو مستحيلًا. وكذلك يجعل اللقاء مع المخلّص والخلاص أمرًا ممكنًا أو مستحيلًا.
عيد الميلاد للمسيحيين ليس عيد مظاهر أو مشاعر، نعيش معها منغلقين في بيوتنا، آمنين ضمن جدراننا العائلية أو الاجتماعيّة. ليس فرح المسيحي شيئًا خاصًّا، لامباليًا. ليس هربًا من حياة يومية مضنية، ليس فترة زينة وأضواء عابرة في حياة رمادية. الميلاد بشارة خلاص، لكل من يصغي ويسمع ويستقبل ويحقِّق.
مثل مريم بعد سلام الملاك، مثل يوسف بعد الحلم أتاه من السماء، مثل الرعاة بعد بشارة الملائكة، مثل المجوس بعد رؤية النجم، نحن أيضا مدعوّون إلى أن نبدأ مسيرة جديدة. مدعوّون إلى أن نحزم أمرنا فنلتزم ونخرج من كسلنا ومن كل تحليل أو تعليل يمنعنا من العمل. “لنذهب إلى بيت لحم”، لندخل فسحة الحياة والسلام الجديدة، لندخل الملكوت الذي جاء المسيح يبشّر به. أبواب السماء فُتِحت، وعلينا أن نجيب.
كلُّنا أصبحنا، في هذه الأيام، ضحايا شعور متزايد بعدم الأمن والثقة. آمال توقَّعَت السلام وأُحبِطَت مرارًا وتكرارًا. والعنف مستمر. وخطابات كثيرة لا فعل فيها، حملت الكثيرين على التمترس في ذاتهم والانغلاق وراء أبوابهم. أُحبِطنا فأغلقنا الأبواب، ورُفِعَت أبراج مراقبة، والبعيد بقي بعيدًا، بدل المقاومة الفاعلة بالثقة والأمل.
فينا نحن أيضًا، وفي العالم خوف من الغريب الذي يطرق باب بيتنا أو حدود بلدنا. الأبواب المغلقة، والحدود المغلقة، تلك خيارات سياسيّة، نعم، ولكنّها في الحقيقة تعبّر عن الخوف الذي تولِّده قوى الموت المسيطرة في زمننا على العالم.
أصبحنا نخاف كلّ ما يحدث في العالم، وآمالنا، هنا، كما في الكثير من بلدان العالم، غرقت أمام الفساد وسيطرة المال والعنف الطائفي والخوف، كما في سوريا والعراق ومصر والأردن. وهنا أيضًا في الأرض المقدسة، ما زال العطش إلى العدل والكرامة آخذًا في الازدياد، العطش إلى الحقيقة والمحبة الصادقة. ما زال بعضنا يرفض البعض الآخر، أو ينكره، ويعيش ويفكّر كما لو كان وحده في الوجود، ولا مكان في حياته للآخر. يقول الإنجيل المقدس عن مريم ويوسف: “لم يكن لهما مكان”. واليوم ليس للآخر في حياتنا مكان.
مخاوفنا هي التي تقرّر خياراتنا وتوجّهاتنا. نحن مُتعَبون حَيارى لا نعرف أين نتوجَّه بسبب كل ما يحدث حولنا، ولا نعرف إلى أين نسير. إننا لا نرى نجمًا يهدينا.
وليس الأمر فقط واقعًا اجتماعيًّا. بل هي ظاهرة وجودية، هي عقدة العدو، تحوّلت إلى أيديولوجيا، فولَّدت نمط حياة عدائية، طريقة حياة هي مواجهة مع الآخرين، ومن غير أمل في المستقبل. أبواب البيوت مغلقة، وحدود الدول مغلقة. كلّ شيء مغلق، في الخوف وانعدام الثقة، في الإقصاء والحرب. وكلّنا نشعر أنّنا مُبعَدون، ومحاصَرون ومعزولون.
عيد الميلاد يحمل رسالة فرح وسلام، لكل صاحب إرادة صالحة، لمن يفتح باب بيته وقلبه، ليستقبل مشيئة الله التي تفتح القلوب ولا تغلقها، لا تأخذ بل تعطي، تغفر ولا تنتقم.
ونحن، يمكننا، إن شئنا، أن نبدّل أيديولوجيا العداء أو عقدة العدوّ، بمنطق الأخُوّة. الله سبحانه وضع ثقته بالإنسان. الله سبحانه لم يأنف ولم يحتقر الإنسان: نحن أيضًا يمكننا أن نتعلّم من الله الثقة الجريئة التي تفتح باب الحوار واللقاء مع الغير. خلاص وسلام، لقاء ووفاق، هذه نعم نطلبها في هذه الليلة المقدسة من “أمير السلام“.
كلّ هذا يصبح حقيقة وواقعًا إن قبلناه بأيد وقلوب مفتوحة، وقرّرنا البدء بعقليات جديدة، ومواقف جديدة، ومشاريع جديدة، بشجاعة وسخاء، فنقتدي بما أظهر لنا المسيح نفسه من شجاعة وسخاء عند مجيئه إلينا.
في أرضنا هذه، في عالمنا هذا، الكثيرون يتكلّمون بالسلام والحياة، ولكنّهم قليلون الذين يحسمون الأمر ويتخذون القرار اللازم والملزم. والميلاد يكرر دعوته: افتحوا الأبواب أمام المسيح وأمام الناس. المسيح يريد أن يعرِّف الإنسان بنفسه.
من خلال الطقوس والصلوات في هذه الليلة المقدسة، يطلّ الله علينا من عليائه في كلمته الأزلي ويسأل الإنسان: آدم، أين أنت (تكوين 3: 9)؟ ويدعوه الله للدخول في بيت أخيه، في بيت الأخوّة الشاملة.
هل نفتح أبوابنا المغلقة ونخرج منها؟ هذا كلام ليس شعارا. بل هذه دعوة للأفراد والمجتمعات، لأصحاب السياسة والاقتصاد، للفقراء وأصحاب السلطان في هذا العالم. هذه دعوة للخروج من كل انسداداتنا، لنتحرر من أحكامنا وأفكارنا المسبقة، فنذهب للقاء الآتي، المسيح الرب الذي يدعونا.
هل نذهب نحن أيضا إلى بيت لحم لنبدأ مسيرة جديدة؟ أم نبقى منغلقين في قصورنا لنحافظ على سلطانِنا، ولندافع عن مصالحنا، حتى ولو لزم إلغاء الآخر، في سبيل المحافظة على مكتسباتنا؟
هل ننظر إلى الطفل يسوع، فنقوى على أن نروي عطش كل العطاش إلى العدل والكرامة والحب والأخوّة والحاجة إلى اللقاء؟ أم نفضّل الانحسار في إستراتيجياتنا السياسية والعسكرية، عديمة النَّفَس والحياة؟
هل نتجرأ ونصغي إلى الطفل، ونتأثر به، فنترك جانبا المصالح الخاصة، وننظر إلى الآخر نظرة أخ، أحرارًا بحرية أبناء الله الكاملة. فنجرّد أنفسنا من كل عنف، من كل تعصب ومن كل ادعاء؟
ليس الجواب مكتوبا في النجوم، بل في خياراتنا الحرة والمسؤولة. إذا نظرنا إلى المسيح الطفل رأينا باب السماء منفتحًا، فتحه الآب السماوي، فتحه ولا أحد يقدر أن يغلقه. فتتجدّد الثقة فينا ويتجدّد الرجاء، وننشد: أنت رجاؤنا، فلن تخيب آمالنا أبدًا.
+ رئيس الأساقفة بيير باتيستا
المدبر الرسولي للبطريركية اللاتينية
. قداس منتصف الليل