الإنسان في المسيحية بين حياته الباطنية والعلنية ووحدته مع الكنيسة والبشرية

الإنسان في المسيحية بين حياته الباطنية والعلنية ووحدته مع الكنيسة والبشرية

  المقدمة:

  يعيش الإنسان في المسيحية بين الوحدة والانقسام وبين الحياة الخفية والظاهرة ولقد اهتم أغلب الدارسين وخاصة منهم علماء الكتاب المقدس وعلم النفس وعلماء الاجتماع، بشخصية الإنسان وفاعليته في المجتمع، واعتبروا هذه الشخصية – في بعدها الاجتماعي ـ صيغة منظِّمة نسبيًّا لنماذج السلوك، والاتجاهات، والمعتقدات، والقيم النمطية المميزة لشخص معين، كما عدّوها محصلة الخبرات الفردية في بيئة ثقافية معينة ومن خلال تفاعل اجتماعي متميز. ولهذا تُحدَّدُ بناء شخصية الفرد، عن طريق ملاحظة نموذج سلوكه العام، وطريقة تفكيره ومشاعره، وأفعاله بما في ذلك سلوك دوره ونسقه القيمي.

  ولم يقدم الكتاب المقدس علوم موضوعية أو بحتة أو تطبيقية، ولكن الله وهب الإنسان العقل الذي باجتهاده يكتشف قوانين الطبيعة ويستفيد منها. ولأننا لا نعرف ما في فكر الله، إلا ما تيسر منه عن طريق الوحي الإلهي.

  ولقد شكل الإنسان المرتبط ببيئته بؤرة التأثير والتأثر في مجتمعه، باعتباره المسؤول الأول عن بناء المجتمع وصناعة الحضارة. فبالإنسان وحده أنيطت وظيفة البناء والتغيير نحو الأفضل لما زُوِّد به من أدوات الإدراك والإبداع التي تجعله عنصرًا فعّالاً وإيجابيًّا في هذه الحياة. ومن ثم وجدنا أغلب النظريات الفلسفية والدينية تتحدث عن مركزية الإنسان في هذا الكون، وعن خضوع باقي الكائنات لإرادته من أجل إعانته على إثبات كيانه الحيوي والوجودي.

  وفي الكتاب المقدس خصص حيزًا كبيرًا وواسعًا من سياقه للحديث عن الإنسان، باعتباره مخلوقًا مكرمًا شرّفه الله على باقي الكائنات، وقال الله: “نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم، وعلى كل الأرض، وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض. فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرا وأنثى خلقهم. وباركهم الله وقال لهم: أثمروا واكثروا واملأوا الأرض، وأخضعوها، وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض”(تك 1: 28). وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفسا حية” (تك 2: 7). واستخلفه في هذه الأرض، وسخر له كل ما عليها، ووكل إليه أمر عمارتها وفق منهج عقدي وسلوكي متميز يضمن له حسن أداء هذه الوظيفة، وقال الله: “إني قد أعطيتكم كل بقل يبزر بزرا على وجه كل الأرض، وكل شجر فيه ثمر شجر يبزر بزرا لكم يكون طعاما…” (تك 1: 29)، كما قدم له منظومة معرفية عقدية وتشريعية شاملة ومتكاملة تجيب عن كل التساؤلات الوجودية الملحة، وتنظم له في الوقت ذاته حياته الخاصة والعامة. فقد قدم الكتاب المقدس تفسيرًا شاملاً لحقيقة الوجود والكون والحياة والإنسان، وذلك في صورة كاملة تقابل كل عناصر الكينونة الإنسانية، وتلبي كل جوانبها، وتتعامل مع كل مقوماتها؛ تتعامل مع الحس والفكر والبديهة والبصيرة ومع سائر عناصر الإدراك البشري والكينونة البشرية بوجه عام كما تتعامل مع الواقع المادي للإنسان. فقد تحدث سفر التكوين والخروج وباقي الكتاب المقدس عن الإنسان حديثًا مستفيضًا يتناول مصدره ومنشأه ووظيفته وخصائصه في هذا الوجود، وغاية وجوده، ثم تكلم الله بجميع هذه الكلمات قائلا: أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية. لا يكن لك آلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالا منحوتا، ولا صورة ما مما في السماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهن، لأني أنا الرب إلهك إله غيور، أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي، وأصنع إحسانا إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي. لا تنطق باسم الرب إلهك باطلا، لأن الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلا. اذكر يوم السبت لتقدسه. ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك، وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك. لا تصنع عملا ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك. لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، واستراح في اليوم السابع. لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه. أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك. لا تقتل. لا تزن. لا تسرق. لا تشهد على قريبك شهادة زور. لا تشته بيت قريبك. لا تشته امرأة قريبك، ولا عبده، ولا أمته، ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيئا مما لقريبك” (خر 20: 1 ـ 17)، ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدا.” (تك 1: 31 أ).

أولاً: الربط الجدلي بين العلم والعمل:

  من الضروري تحقيق الربط الجدلي بين العلم والعمل “حراثة الشجر” تظهر من ثمرها، كذلك تفكر قلب الإنسان يظهر من كلامه.” (يش بن سي 27: 7)، وبين الفكر والممارسة “الغش في قلب الذين يفكرون في الشر، أما المشيرون بالسلام فلهم فرح” (أم 12: 20). وضرورة إحداث تناغم وتساوق بين العقل والقلب والحركة ” لتكن أقوال فمي وفكر قلبي مرضية أمامك يا رب، صخرتي ووليي” (مز 19: 14)، وإلا فلا قيمة لشخص يعيش هذا الانقسام الخطير بين مكونات شخصيته “قلب الإنسان يفكر في طريقه، والرب يهدي خطوته” (أم 16: 9).

  وإن من شأن استيعاب هذا التصور المتميز الذي قدمه الكتاب المقدس عن الإنسان في علاقته بنفسه وواقعه وبربه وبالكون، من شأن ذلك أن يشكل له حافزًا ملحًّا يدفعه إلى تحقيق هذا التصور في واقعه، ما دام سيجد له صدى في أعماقه يهيب به إلى الحركة الفاعلة، ويدفعه نحو العمل وإفراغ الطاقات الإيمانية والحيوية كلها في العمل الإيجابي البناء، قصد عمارة الأرض وبناء الحضارة على النحو الأفضل الذي يريده الله لحياة الإنسان ككل.

وعلى درب هذا التصور، ووفق مختلف توجهاته، بَنى المسيحيون مجتمعاهم في كل مكان تواجدوا به، وأنشأوا حضارتهم، حضارة الإيمان والإنسان، وظلوا يقودون الأمم بما قدموه من مفهوم جديد تصوري وعملي للحياة والمجتمع، تصور قوامه المحبة الإلهية والإنسانية والاحترام والعدل والمساواة. وظل هذا شأن المسيحية منذ نشأتها وإلى الأبد؛ وطيلة القرون الماضية من الزمن، ورغم ما عصف بها من أعاصير وأزمات واضطهادات إلا أنها ثابتة راسخة لم تتغير قيد أنملة. واستمرت تشعل مشعل الحضارة، حضارة الإيمان والإنسان والتاريخ عبر كل موطن في العالم؛ ويقودوا الركب البشري نحو الحياة الإنسانية المقدسة والخلاص الأبدي.

 لم يبتعدوا المسيحيون يوماً عن المحركات التاريخية والقيم المسيحية الإنسانية السامية التي رفعت هامة البشرية على طول تاريخها؛ فالمسيحية حاربت الجهل والانحلال الأخلاقي والخرافة والأهواء البدنية والجسمانية، واهتمت بكل بالصحة والمرضى والمسجونين وأخوة الرب والموعزين والتعليم، وكل مجال يمكنه رفعة الأنسان ورخائه وتقدمه وتحضره.

ثانيا: القيم الإيمانية والإنسانية والسعادة:  

  وقدمت كل القيم التي من شأنها تجعل سعادة الإنسان تنبع من داخله، ورغم كل المواجهات والضعف الخارجي والداخلي في نفوس بعض البشر من داخلها أو من خارجها، إلا أنها لم تكن يوماً مهزوزةً أو مزعزعةً أو عقيمة، ولم تكن يوما من الأيام مقسومة الظهر؛ بل هي من تنادي عبر التاريخ بالحرية والكرامة الإنسانية، وتثبت الإنسان في هوية وطنه مرتبطة بالاتحاد بالبشرية والإيمان العميق الناضج بالله.

  ورغم ما واجهته من عوامل داخلية وخارجية وتضافر داخلي عليها من البعض بالهرطقات والانقسامات؛ ورغم ما واجهته من الخارج من اضطهادات وقمع وزمة وقتل وتهجير وإبادة… إلخ،  إلا أنها قائمة عبر كل زمان ومكان،  وأبواب الجحيم لم ولن تقوى عليها، فهذا هو الوعد الإلهي: “أنا أقول لك أيضا: أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها (مت 16: 18)، فلقد حُوربت من الكثيرين في وجودها لكي يمحوا كيانها من الحياة لولا أن راعية الله الممسك بيدها، والذي يجدد لها أمر أمرها بقوة وإرشاد الروح القدس، وفي كل كبوة وتحدي وصعوبة يفتح لها كوّة الأمل لاستعادة دورها الريادي لقيادة البشرية نحو أفق التقدم والتحضر والخلاص، وتحقيق الاستقلال، وإعادة بناء الصرح الحضاري والفكري… وهذا ما تَجنّد له ثلة من المفكرين والمصلحين الغيورين على دينهم وأمتهم، فانطلقوا في مسيرات إصلاحية شاملة، تروم بلورة رؤى ومشاريع إصلاحية فكرية وحركية ساهمت – وما زالت ـ في إحداث صيحة تغييريه قوية في كيان الكنيسة أمثال ق. فرنسيس الأسيزي، ق. أغناطيوس ديولا، ق. تريزا الآفيلية، ق. يوحنا الصليبي، ق. فيليب نيري، ق. تريزا للطفل يسوع، ق. يوحنا دون بوسكو، ق. دانيال كمبونى… والمعاصرين البابا القديس يوحنا بولس الثاني، والبابا بنديكتوس السادس عشر غيرهم الكثير…

  فكان من ثمة تيارات وجماعات إصلاحية، مختلفة المشارب والوسائل ومتحدة الغاية والأهداف، وذلك ابتداء من مدرسة الإصلاح في كل المجالات الروحية والخدمية والتعليمية والصحية…

  فالكنيسة عبر كل زمان وفي كل مكان طرحت مجموعة من المؤتمرات واللقاءات والمجامع لوضع صورة للتصورات والبرامج الإصلاحية الطموحة، لأجل مواكبة التطورات التي تمس كيان الإنسان إيمانياً وعقائدياً وروحياً وأخلاقياً وإنسانيتا. لإعادة بناء الإنسان والمجتمع في ضوء تعليم الكتاب المقدس والمجامع والتعليم المسيحي…

ثالثاً: إيمان الكنيسة بالإنسان 

  وتؤمن الكنيسة بالإنسان وتعمل لإعادة بناء شخصية الإنسان المسيحي وغير المسيحي بالمثل والقيم والتعليم والتربية، فالكنيسة بوجودها تظهر على خريطة المجتمعات الحديثة، وهي تحمل شعاع الاهتداء والتوبة والنور من خلال الاهتمام بالإنسان الشخص والفرد، باعتباره النواة الأولى واللبنة الأساس لبناء المجتمع البشري.

  وهذا الإنسان ذاته لا يقوم وحده كما زعم الزاعمون، بل لا بد له من أسس متينة يقوم عليها، ومن رؤيا شمولية متكاملة تمهد السبل لصياغة شخصيته، شخصية إنسانية فاعلة في المجتمع، وقادرة على الإسهام الإيجابي في عملية مستمرة في الوجود، ويتمتع بكونه كيانًا قويًّا رائدًا ومؤثرًا في المسار الروحي والإنساني والمجتمعي والوطني، وفي البناء الحضاري.

  فعملية بناء الإنسان والمجتمع، ليس بالأمر الهين، بل هي عملية شاقة وعسيرة ترتبط ـ أساسًا ـ بمدى القدرة على إيجاد الشخصية الإيجابية المسؤولة عن هذا البناء، وهذه الشخصية لا توجد من فراغ، بل لا بد من التكوين الإنساني وتعليم العلوم بمختلف فروعها وتخصصاتها، والتربية الأخلاقية، وبذل الجهد الجهيد لرسم معالمها وتحديد أسس بنائها بشكل علمي وعملي رصين.

  فقيمة المجتمع من قيمة الإنسان، والمجتمع الذي لا قيمة للإنسان فيه لا يعير من ثم أية قيمة للمجتمع نفسه. وهذا إيمان وعمل الكنيسة عبر كل زمان وفي كل مكان.

  ومن ثم كانت الأهمية القصوى والأهمية المستعجلة لها هو التفكير من خلال: ـ

 أ ـ إعادة صياغة الإنسان الفرد

  في إعادة صياغة الإنسان الفرد، والخروج به من حالة الخمول والسلبية واللافاعلية، إلى حالة العمل الإيجابي والحيوية النشيطة والحركية البناءة. وهذا ما تخصص الكنيسة كل جهدها لتحقيقه، انطلاقًا من رؤية مسيحية مسكونية متميزة رَفَدها من ينابيع شتى، وطعّمها وشرابها من مصادر كتابية وآبائية ودينية ولاهوتية وفكرية وفلسفية مختلفة، أهّلتها ليكون صاحب مشروع روحي وأنساني وحضاري بامتياز.

ب ـ معرفية شاملة ومتكاملة

  من خلال رؤية مستندة إلى منظومة معرفية متكاملة ومتعددة المشارب لرؤيتها التغييرية البنائية، من خلال منظومة معرفية شاملة ومتكاملة تغرف من ينابيع شتى، وعلى رأسها الينبوع الكتاب المقدس، مرورًا بالينبوع الفكري الثقافي ـ في عمقه المسيحي الشرقي والغربي – وانتهاء بالينبوع الصوفي الروحاني والرهباني شرقاً وغرباً، الشيء الذي أسعفها في تقديم خطاب إصلاحي شمولي، يتقاطع فيه العقلاني بالوجداني وبالحركي ضمن وحدة متجانسة الأطراف ومتصلة الأوصال، غرضها الأساس تحقيق أقوى سلطة تأثير على كيان وعقل أتباع الخدمة ومحبيها لجعلهم عناصر فعالة ومؤثرة في المجتمع.

رابعاً: الكتاب المقدس والعقيدة

  إن الكتاب المقدس ـ كما يؤكد كل الدارسين له ـ هو أول محطة فكرية عقائدية يجب الوقوف عندها مليًّا لبناء عقيدة سليمة يستند إليها الشخص المؤمن في صقل شخصيته، والسمو بروحه وقلبه إلى آفاق المحبة والإيمان الخالص لأجل حياته الإنسانية الراقية المتحضرة وخلاصه الأبدي. أي يقف على الأرض قوياً بإيمانه ومحبته فاعليته الإيجابية البناءة وعمله الصالح، ناظراً نحو السماء منتظرا برجاء وثقة خلاصه الأبدي.

  وعلى الرغم من إدراك الكنيسة لمدى صعوبة هذه المهمة البانية الصعبة والعسيرة، ووقوفها على مدى ضخامة الجهود المضنية التي تنتظر من يتصدى لذلك، أجل، على الرغم من ذلك، فقد ظلت تعمل الكنيسة وبالتفاؤل والرجاء والثقة في التوفيق، والكنيسة تعلن قائلة: “نحن اليوم على مشارف عهد جديد في مسيرة تاريخ الإنسانية، متفتح على تجليات العناية الربانية،  وأنه تلوح في الأفق، تبشر بأن القرن الواحد والعشرين، ـ والذي دخلناه فعلاً ـ سيكون قرن الإيمان ووحدة المؤمنين، والكنيسة، وسيكون عصر انبعاثات ونهضة للبشرية رغم ما في الكون من متغيرات فكرية شاذة، ورغم الحروب والتعصب، ورغم الأزمات الاقتصادية الطاحنة ومعاناة الشعوب، ورغم آلم المخاط، ومن ضمن الجماهير الفاقدة لوعيها، الهائمة على وجهها، سيولد إنسان جديد كل الجدّة؛ هذا الإنسان الجديد لا يخضع لأنصاف المتعلمين ولا ينجرف وراء المتعصبين، ولا تخدعه صورة ولا مقال، ولا تسلب نفسه ولا ينجرف عقله وراء الدروشة؛ إنسان يفكر ويحاسب، ويوازن ويدقق، ويعتمد على التجربة قدر اعتماده على العقل، ويثق ويؤمن بالإلهام والوجدان قدر اهتمامه بالعقل والتجربة، إنسان يحاول دومًا بروحه وبدنه الوصولَ إلى الأفضل… إنسان يسمو بالموازنة بين الدنيا والحياة الأبدية، ويوفَّق إلى الجمع بين عقله وقلبه، فيصبح نموذجًا جديدًا لا مثيل له. ولا شك أن ولادة هذا الإنسان الجديد ليس بالأمر السهل، فلا بد من آلام مخاض وتوجّع وأنين، ولكن حين يئن الأوان فسوف تتحقق هذه الولادة المباركة حتمًا، ويظهر هذا الجيل الذهبي بيننا فجأة.

  إنها إذن، الانطلاقة من الفرد في إطار عملية شاملة لبناء الإنسان، إذ إن الكنيسة في رؤيتها هذه تنطلق من الخاص للتأثير في العام، قصد التمكن من بناء شخصية مؤمنة فاعلة مستوفية لكل الشروط الذاتية والموضوعية المؤهَّلة لإعادة بناء المجتمع. فلا بد في البداية من إصلاح الذات وتهذيب النفس، إذ الإصلاح لديها يبدأ من تغيير ذاتي نفسي يشمل الإنسان / الفرد، خاصة إذا تمت صياغته انطلاقًا من أسس عقدية وأخلاقية متميزة. وقد ارتأينا تصنيف هذه الأسس على النحو التالي: الأساس العقدي والمعرفي، والأساس الروحي والأخلاقي، والأساس الفكري والتربوي، والأساس العملي والحركي.

أ ـ الأسس البنائية

  إن الأساس العقدي والمعرفي فيه تعلن وتؤكد الكنيسة قائلة: “إن الوصف الأول لوارث الأرض الذي هو الإنسان، هو الإيمان الكامل بالرب الإله، وبكل ما جاء في الكتاب المقدس، طاعته لتعليم الكنيسة، والغاية هو خلق الإنسان في أفق المعرفة وروح المحبة، وبُعد العشق والشوق وتلوّن الخطوط الروحانية. والإنسان مكلّف ببناء عالمه الإيماني والتفكري، حينًا بمد الدروب من ذاته إلى أعماق الوجود، وحينًا بالتقاط شرائح من الوجود وتقييمها في ذاته. ويعني هذا في الوقت عينه، ظهور الحقيقة الإنسانية الكامنة في روحه. والإنسان لا يستطيع أن يستشعر ذاته، والأعماق في ذاته، ومقاصد الوجود وغاياته، ويطلع على كنه الكائنات والحوادث وما وراء ستار الأشياء، إلاّ في ضياء الإيمان… وبعد الاطلاع، يحيط فهمًا بالوجود في أبعاده الذاتية.

  فلا بد إذن خلال عملية البناء، من الانطلاق أولاً من قضية الإيمان بالله كما بينها وفصلها الكتاب المقدس. فقد شكل الكتاب المقدس بفضائه الروحاني والعقائدي الرحب، أول وأهم مدرسة استند إليها اللاهوتيون في شرح وتوضيح وبناء العقيدة، وأثرت في كيانهم ووجدانهم، ورسمت لهم ـ في الوقت نفسه ـ آفاق نظرتهم للإيمان وللحياة والإنسان والكون.

  وقد ظل وسيظل عبر التاريخ كله، الكتاب المقدس الملهم من الرب الإله، يمارس سلطته التأثيرية الشاملة على الكنيسة والمسيحية ويرسم لهم ـ بالخصوص ـ حدود الشخصية المسيحية المؤمنة والموحدة بالإله في الثالوث الأقدس، ومجالات التزامها وسلوكها ومعتقداتها؛ الشيء الذي وفَّق كل مسؤولي الكنيسة (الباباوات)، أدى إلى حسن استيعابهم، وتفهمهم، والعمل على ترجمته تصوريًّا وسلوكيًّا وشعائريًّا، فأحال شخصيتهم التواقة إلى معرفة الحق وسلوك طريق الحقيقة، فشخصيتهم متقدة تغلي بكل مشاعر وأشواق المحبة والإيمان والعشق الإلهي، والإذعان الكامل والتسليم المطلق للإرادة الإلهية.

  وهذه الحقائق نفسها، نشرتها الكنيسة وبثتها في قلوب وأفئدة مُريديها وكل المسحيين، خلال إرشاداتها الإصلاحية المختلفة، المرسلة والمبثوثة عبر كل كتاباتها البابوية؛ وخاصة ما وقع بين أيدينا حاليًّا، من أعمال مترجمة إلى العربية، على نحو كتب القانون الكنسي الشرقي والتعليم المسيحي الكاثوليكي والرسائل والإرشادات البابوية وكتابات أخر كثيرة في العقيدة والتاريخ واللاهوت الأدبي الأخلاقي والليتورجيا، لأجل إقامة صرح الروح الإنساني، وبناء الحضارة الإنسانية.

  في كل ما تنشره الكنيسة للمسيحيين وللخليقة تهمس في الآذن وتلمس العقول وتناجي الروح بهمسات لطيفة، مشحونة بمنتهى العشق الروحي، متحدثةً عن التراث المسيحي كله وما يتضمنه بين دفتيه من حقائق عقدية ملهمة، ومحققة لذلك التوازن الذاتي والغذاء الروحي اللذين يحتاج إليهما كل مسيحي وكل إنسان في مجتمعه، حيث تقول: إن هذا التراث التربوي التعليمي الروحي والحياتي ينير أفق عرفانناً، بحيث لا يتعرض الإنسان لوحشة الطريق في مسيرة  سير هداه نحو عرشِ النعمة بكمالِ قلبه، ولا احتقانِ الفكر، ولا انقباض الروح… ويسير دومًا في هذا الطريق الذي يحس إبّان السير فيه بتداخل العلم وتمازجه مع الإثارة والنشوة، والإيمانِ مع المشاهدة، وثقلِ الحِمل مع الاطمئنان، والالتزام بالنظام مع الإحساس بالأمن، ولا أظن أن من يعرف هذا التراث الروحي الشامل والعميق يحتاج إلى مصدرٍ غيرِه في المواضيع الأساسية المتعلقة بالإنسان والكون والله، إلا في تفصيلِ مجمَلاته وتدقيقها فالكتاب المقدس وكل التراث المسيحي من الكتابات والشروحات والتفسيرات، هو بركةً للبشرية، ونورا ساطعا كاشفاً الحقيقية للبشرية، ويمثل تحولا مهما لسرد حقائق التاريخ، ويسهم في بناء الإنسان، فرديًّا كان أو اجتماعيًّا أو سياسيًّا أو إداريًّا أو اقتصاديًّا أو روحيًاً فهو نور على الطريق للبشرية.

  وتؤمن الكنيسة والمسؤولون عنها إيمانًا جازمًا، أنه لا فائدة من علم مجرد عن العمل والانتشارِ في الأرض ابتغاء الإصلاح والتغيير نحو الأفضل، ولا فكر بدون حركة؛ حركة التغلغل في كيان المجتمع، قصد الإسهام في إصلاحه وتقدمه عن طريق تقديم الخدمة للبشر قاطبة، والأخذ بأيديهم نحو حياة الكرامة والعز والأمان والإيمان من خلال العمل التنموي الشامل.

  فالكتاب المقدس يعدّ المصدر الأول والأهم في تشكيل وعي المسيحي على كل المستويات وفي كل المجالات، وخاصة المجال العقائدي المتعلق بمعرفة الله ومحبته وخطة الخلاص؛ فهو أول محطة فكرية عقائدية يجب الوقوف عندها مليًّا، لبناء عقيدة سليمة يستند إليها المؤمن في صقل شخصيته، والسمو بروحه وعقله وقلبه ونفسه إلى آفاق المحبة والخدمة والإيمان الخالص، لأجل مجد أسم الرب الإله، وخلاص النفوس وتقديس الذات.

  والكتاب المقدس وشخص يسوع المسيح الوحي المتجسد كلمة الله، كانوا وما زالوا هم المرجعية الأولى لفهم الإيمان المسيحي ومعرفة حقيقة الالتزام بالمسيحية وقيمها المتنوعة والغنية.

  ومن ثم نجد الكنيسة تتوسع في مفهوم المسيحية في وحدتها وغناها والإيمان المشترك، ليشمل كل مجالات الحياة ويطال كل الأبعاد النفسية والفكرية والسلوكية للشخص المؤمن، على نحو يجعل منه شخصًا ناضجاً ومؤمنًا بالحياة الأبدية ومهتمًّا أيضًا بعالم الشهادة اليومي، حاملاً همّ وحدة الكنيسة والبناء والإصلاح والتغيير نحو الأفضل.

  تؤكد المسيحية من خلال الكتاب المقدس وأيضاً كل باباوات الكنيسة عبر كل العصور إن الكلمات والمفاتيح التي تفتح القلوب هي: “ومن لا يحب لم يعرف الله، لأن الله محبة” (1 يو 4: 8)، “والكلمة صار جسدا وحل بيننا، ورأينا مجده، مجدا كما لوحيد من الآب، مملوءاً نعمة وحقا.” (يو 1: 14) “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية.” (يو 3: 16)، بحيث إن كل الخصائص الإيمانية تتأسس على الآيات التي تعبير عن حقيقة لها وجهان: أحدهما غاية، والآخر وسيلة. فالإيمان الذي هو كـ “شجرة طوبى”؛ تنشأ من هذه البذرة، فتغطي ـ بما تؤتي من ثمار المعرفة ـ سماءَ أحاسيس الإنسان وشعوره وإدراكه، ثم تتحول العلوم والمعارف كلها إلى العشق والاشتياق والحرصِ، بحملةٍ وهمّة داخلية، وشعورٍ وحسٍّ داخلي؛ ليحاصر ذاك الإنسانَ من كل جهة، فيحوّله إلى إنسان جديد قائمٍ على محور الوجدان. فتنعكس هذه الحالُ على كل سلوكيات هذا الإنسان العاشق المشتاق، وتَحمل عبادتُه وطاعتُه سماتٍ ترتسم بخيوط هذه العلاقة الرابطة، وذلك العشقِ والاشتياق وتتمحور حركاته الإيمانية والعملية الحياتية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية كلها، حول قوة الجذب المركزي هذه، وهو الرب الإله.

  إنه بمعنى آخر، ذلك الشعور الباطني والفطري المتغلغل في كل كيانات الإنسان ونقاط مداركه، يتفاعل معه المؤمن وينفعل به، وينقله من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، لينقلب لديه أكبر محفز على العمل والفاعلية الإيجابية. فلا مجال إذن للحديث عن الدروشة أو المفهوم التواكلي السلبي للتدين والإيمان الفاتر الذي لا يحرك في قلب وكيان صاحبه كل مشاعر وأشواق الحب للآخرين، والرغبة في إسعادهم وإرفادهم من رصيد الإيمان.

  وتؤكد الكنيسة من أن الحق في حقيقة الإيمان المتأصلةَ في عالمنا الداخلي، إنما تُديم وجودَها بقدْر تناميها وتوسعها في الحياة المعيشة؛ فإذا بُذرت بذور الإيمان وترعرعت واخضرت في القلوب، ثم تحولت إلى استقامة ووثوق في التصرفات، وانقلبت إلى وقار وخشوع في الصلاة، ورَفدت وازعَ الحقّانية والعدل في علاقاتنا الاجتماعية، فذلك يعني أن الأفق منبسط أمامنا إلى اللانهاية للتطور والتوسع. وكما يكون إيمانٌ كهذا الإيمان في الإنسان مصدرًا لا ينفد للقدرة والحيوية، كذلك يكون قاعدةً ومنصةَ انطلاق للارتقاء بالإنسان خلافة الله في الأرض، إلى حق التدخل في الأشياء، وتشكيلِ صور البيئة المحيطة حسب مشاعره وأفكاره الإيمانية، والانفتاح على اللانهاية في محور محبة الله والخير العام للبشرية والتجريد بالتصورات الجمالية والروح الفنية في طبيعتها الذاتية.

  إن التحصيل العلمي الحقيقي يجب أن يقود إلى اكتساب قدرات فكرية متميزة، تعين على إعمال العقل وتوظيف ملكاته الإيجابية والتخطيطية، بحيث تؤدي في النهاية إلى الوعي التام بالذات، ومن ثم الوعي بالمحيط الموضوعي، واستثمار كل ذلك لخدمة الواقع ومساعدة الآخرين في إطار معايشة وحضور الثوابت الإلهية.

  إنه إذن، المفهوم الشمولي للإيمان المستوعب لكل آفاق ومجالات الحياة العامة للإنسان، في المسيحية ليس مجالاً جامدًا ومنغلقًا يشلّ حركية الفعل وإيجابية السلوك لدى المؤمن المسيحي، بل على العكس من ذلك، إن الإيمان بالرب يسوع المسيح ربا وسيدا وإلها، متى تمكن هذا الحق في عقل وقلب ووجدان المؤمن، ـ حق التمكن ـ يمكن هذا أن يشكل نموذج الشخصية المؤمنة البناءة التي تأبى أن تقف بإيمانها وعقيدتها عند حدود التصور الجامد الثابت الجاف، بل تسعى دومًا إلى تجاوز ذلك نحو الترجمة العملية الفاعلة في عالم الشهادة. “لأنه كما أن الجسد بدون روح ميت، هكذا الإيمان أيضا بدون أعمال ميت.” (يع 2: 26)، ولكن يقول قائل: “أنت لك إيمان، وأنا لي أعمال، أرني إيمانك بدون أعمالك، وأنا أريك بأعمالي إيماني.” (يع 2: 18).

ب ـ الأساس الروحي والأخلاقي:

  إذا كانت العقيدة المسيحية الخالية من كل الشوائب، هي نقطة الانطلاق لبناء الشخصية الفاعلة في المجتمع، بما تقدمه لصاحبها من زاد عقدي غني بالحقائق الإيمانية الصافية التي تسمو بصاحبها إلى أعلى درجات الإيمان بالرب الإله ، والتعلق الحبي بالإله الجدير بكل عبادة، فإن من شأن من تشرب هذه العقيدة، أن يرقى بالمؤمن إلى عوالم من التعبد والتقرب للذات الإلهية، وصقل الروح وتزيينها بكل أحوال المحبة والعشق الإلهي، وهذا ما تعمل على ترجمته الكنيسة في كل كتاباتها والتي تولى فيها موضوع التربية الروحية والتزكية السلوكية والأخلاقية كل اهتماماتها، إيمانًا منها بأنه لا فلاح لمؤمن مسيحي لا يهتم ببناء روحه وتخليتها من كل شوائبها، ثم تحليتها ـ بعد ذلك ـ بكل ما يزكيها ويصقلها ويسمو بها إلى مدارج الشوق الإلهي والعرفان الرباني والسعي نحو تحقيق الكمال والقداسة. “فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل.” (مت 5: 48). و”لأنه مكتوب: كونوا قديسين لأني أنا قدوس”. (1 بط 1: 16). فالإنسان المسيحي المؤمن هو مركب من جسد ونفس وروح، لا بد له من تغذية روحه، والاهتمام بتزكيتها والسمو بها وباهتمامَه وبشفاء نفسه ليصبح شخصية سوية، وبتغذية جسده والعناية به.

  إذ لا يتم استكمال بناء شخصية المسيحي الإيجابي الفاعل، إلا بالالتفات إلى جانبه الروحي والأخلاقي وسموه الإنساني، والعمل على تحقيق لون من التربية الروحية، وتنقية القلب من كل شوائبه، على اعتبار أن القلب هو نقطة الارتكاز الأساس في تصفية الروح وتقويم الخلُق. لهذا يقول الكتاب: “يا ابني أعطني قلبك، ولتلاحظ عيناك طرقي.” (أم 23: 26). فتؤكد المسيحية على هذه الحقيقة أن يكون الإنسان “إنسانًا” وفق المعنى الذي يجعله إنسانًا حقًّا، مرتبط بخضوعه لأوامر قلبه واستماعه إلى روحه، رغمًا عن بدنه وجسمانيته وعقل معاشه الدنيوي. فعلى الإنسان أن ينظر إلى كل شيء وكل أحد بعين القلب، ويقيّمهم بموازين القلب المتأهلة للاعتبار والتقدير، لكي يتعرف جيدًا على نفسه وما حوله. ويعلن الكتاب المقدس قائلاً: “الحق أقول لكم: إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات.” (مت 18: 3) ولا ينبغي أن ننسى أن الذي لا يحفظ طراوة قلبه وصفوة روحه في كل أوان، ولا يقي نقاءه وطهره كنقاء وطهر الأطفال برفقة ثرائه الذهني والفكري والحسي في كل وقت، لن يوحي بالثقة إلى من حوله، ولن يحوز على التصديق والإقناع قطعًا، مهما توسع في رحاب العلم والأدب والخبرة؛ ويعلمنا ويرشدنا القديس بولس قائلاً: “أيها الإخوة، لا تكونوا أولادا في أذهانكم، بل كونوا أولادا في الشر، وأما في الأذهان فكونوا كاملين.” (1 كو 14: 20).

خامساً: رئتان المسيحية والكنيسة

  وفي المسيحية والكنيسة رئتان، المؤمنين في العالم والرهبان في الأديرة، فإن الرهبنة تعمل على الحفاظ الدائم على طهارة القلب حيال دوافع الشيطان والنفس، وردعُ النفس عن ميولها الخاصة وتضييقُ مجالها بقدر المستطاع. ومواصلةُ السير في طرق الارتقاء نحو “الإنسانية” فهي تحمل العالم الخارجي في صلواتها للرب، والحقيقية بالكد الدائم للبقاء في مستوى “الحياة التأملية الفكرية والقلبية والروحية؛ والعلمانيون المؤمنون بالمسيح يكرسُون الحياة من خلال تحقيق الذات من خلال سر الزواج والالتزام بالإيمان المسيحي وسط عالم صعب على كل المستويات، فهم كل يوم في تحد مباشر ورغم ذلك يسعون لتحيق السعادة المادية والمعنوية للآخرين، وفي منتهى الجدية وفي كل المناسبات مع أخواتهم في الإنسانية، واتباعُ نهج الروح المسيحية في عدم انتظار الأجر حتى في أصدق الجهود وأخلصها وفي أعظم الأعمال وأشدها،  والعزمُ على المسير أبدًا في الطريق نحو خطى الرب يسوع المسيح، وفي وإعلانُ حياة إيمانية صادقة، صافية خالصة لا غرض فيها ولا عوض، وبإدراك والتزام حر داخلي وخارجي نحو الله ومع القريب والبعيد والصديق والعدو في المناسبات. والقيامُ بمنتهى التحمل والصبر الدؤوب في الجهاد ضد الخطيئة، والتركيز على رحمة وأبوة الله الخلاصية للإنسان، وأداءُ العبادات والطاعات في لذة ونشوة، كأنها الغاية والهدف من الحياة؛ واستقبالُ البلايا والمصائب بالشكر للرب على كل حال ومن أجل كل حال وفي كل حال، بالابتسام مع انشراح الصدر، يقول الكتاب: “يا أبتاه، إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس. ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك”. (لو 22: 42).

  لا يتم استكمال بناء شخصية المسيحي الفاعل، إلا بالالتفات إلى جانبه الروحي والأخلاقي، والعمل على تحقيق لون من التربية الروحية، وتنقية القلب من كل شوائبه، على اعتبار أن القلب هو نقطة الارتكاز الأساس في تصفية الروح وتقويم الخلُق. “قريب هو الرب من المنكسري القلوب، ويخلص المنسحقي الروح.” (مز 34: 18). “لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضا.” (مت 6: 21).

أ ـ الأساس الفكري والتربوي:

    تُولي المسيحيةُ من خلال الكنيسة عناية خاصة للمجال الفكري والتربوي، باعتبارهما من أهم الأسس التكوينية المساهمة في تقوية بناء الشخصية المسيحية أو غير المسيحية السوية الإيجابية والفاعلة في مجتمعها. فإذا كانت العقيدة الإيمانية بالرب المخلص والفادي نقطة انطلاق أساسية في مسار بناء الشخصية، ثم تلتها مرحلة التربية الروحية والتزكية القلبية كمرحلة بنائية تالية وضرورية من أجل إنضاج عملية التكوين وصقل كيان الشخصية المؤمنة والانتقال بها من مجال الإيمان والاعتقاد إلى مجال التعبد والقربى لله من خلال الصلوات التقوية والصلوات الطقسية وممارسة الأسرار المقدسة والتأمل في كلمة الله وفي الطبيعة وبالتسبيح والحمد والشكران، فإن هاتين المرحلتين معًا لا تستكملان دورهما ولن تفصحا عن كل مكنوناتهما ما لم يُدعَما بمرحلة أخرى أساسية وهامة، إنها مرحلة الإعداد الفكري والتكوين والتعليم والتربية المسيحية بروح وعلم الإنجيل.

  ويقيني أن هذا المجال، يمكن أن يُعدّ من أهم الحقول التكوينية التي صالت وجالت فيها الكنيسة بتعليمها وحياتها وتوجيهاتها، موظفة فيها كل خبراتها وتجاربها عبر التاريخ الإنساني والمجتمعي من أجل إعداد ما أسمته بجيل الأطفال الصاعد والشبيبة والشباب الذين هم مستقبل الكنيسة، إنهم الجيل الوارث للمستقبل؛ الجيل الحامل لهمّ الكنيسة والإنسانية والبشرية ويهتم ويعني بالبيئة على الكرة الأرضية، والعاملون على إثبات وجودهم وتجديد كيانهم في الواقع الحديث. ولا غرابة في ذلك ما دامت الكنيسة تخضع ذاتها ونفسها لمسيرة فكرية وعلمية وتربوية طويلة ومضنية، كلفتها الكثير من الوقت والجهد والجد والاجتهاد لعقد مؤتمرات وندوات ومهرجانات ولقاءات ومسيرات روحية في كل بقاء الدنيا لأجل أجيال المستقبل، وعلى الرغم من كون أغلب مراحل تكوينها وتعليمها ليست في أماكن محددة جغرافية ولكنها مسكونية تعقد في أي مكان وأي دولة، في تعمل وتقدم  كانت خارج المؤسسات التقليدية الرسمية كالمواقع الكنسية، فهي تعقد كل هذه اللقاءات وعمل الندوات والمهرجانات خارج أسوار الكنيسة، “قال لها يسوع: يا امرأة، صدقيني أنه تأتي ساعة، لا في هذا الجبل، ولا في أورشليم تسجدون للآب. أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم. لأن الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتي ساعة، وهي الآن، حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق، لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له. الله روح. والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا”

  كل ما عملته وقامت به وتفعله الكنيسة عبر مسيرتها التاريخية القديم والحديث والمعاصرة، ذلك يساعد على اكتناز رصيد ضخم من المعارف المتعددة لهذه الأجيال، وسيعمل مع مرور الزمن على تكثيفها وإغنائها من خلال أولادها بمزيد من التحصيل والاستيعاب والانفتاح على كل العلوم الدينية منها والدنيوية، لأجل خير البشرية والخير الشخصي الفردي الإنساني.

  الإنسان المتمثل في الأجيال الجديدة والصاعدة، صار بطلا بعد كل ما حملته الكنيسة في بطنها وولدته وأرضعته وكبرته وكونته وعلمته واهتمت به في كل فروع ومجالات الحياة الفكرية والنفسية والتعليمية والتربوية الروحية منها بقيمها الإلهية والإنسانية، صار قويا وبطلا لأنه يتمتع بشخصية قوية استطاعت أن تسمو على المؤثرات الخارجية بشتى أنواعها، وعزمت على الصمود والاكتفاء الذاتي. فكما أن الشرق والغرب بكل ما فيه من قيم سلبية وإباحية وعنف وظلم لن يستطيعا أسره ووضع السلاسل في قدميه، فكذلك لن تستطيع الأفكار والفلسفات التي تتناقض مع هويته المعنوية وجذوره أن تغير وجهته.

ب ـ الإنسان الجديد

  وتؤكد الكنيسة بكل جلاء حول “الإنسان الجديد” بقولها: “الإنسان الجديد وتضله في ظلامها عن طريقه، بل ولن تستطيع أن تزحزحه عن مكانه قيد أنملة أو أقل من ذلك. أجل، الإنسان الجديد رجل حر في تفكيره، حر في تصوره، حر في إرادته، وحريته هذه مرتبطة بقدر محبته وطاعته للرب. ثم إن الإنسان الجديد لا يتشبه بالآخرين ولا يتمثل بهم، بل يحاول جاهدا أن يتزيّاً بهويته الذاتية ويتزيّن بمقوماته التاريخية. الإنسان الجديد ممتلئ بالفكر، ملتهب بعشق البحث، مفعم بالإيمان، قابل للوجدانيات، متشبع بنشوة الروحانية ومعانيها.

  وعلى العموم، فقد ظل اهتمام الكنيسة بمختلف العلوم ودراسة الفكر واكتناز مختلف المعارف لأجل تكون شعبها كله على مختلف الأعمار والأجيال والفئات والأجناس والأوطان والدول والقارات في ربوع المسكونة، بكل القيم الروحية والإيمانية والإنسانية، أهم هاجس يلازم الكنيسة باستمرار منذ البدء وللأن، فكيف توفر لأولادها خلفية وركيزة روحية وتعلمية وتربوية وثقافية ضخمة، ومرجعية فكرية هائلة تكسبهم المعرفة والكتابة والتأليف والوعظ، وإعداد الخطط والبرامج خاصة للشعب المسيحي والإنسان المؤمن ولكل البشرية، وتعمل على توصيل رسالة الرب يسوع المسيح الموكلة لها؛ ومن الضرورة توفير كل الإمكانيات التي تساعد على ذلك من كوادر المعلمين المتخصصين الذين يتمتعون بنفسية سوية متواضعة ومتحاورة مبتسمة مرنه مبدعة خلاقة لأجل تحصيل العلم النافع، وبناء رصيد معرفي وفكري هام تكتمل بهم معالم الشخصية الفاعلة الإيجابية التي ستثمر في المستقبل. ولعل هذا ما يفسر لنا إقبال الكنيسة على فكرة الخدمة، على فتح عشرات المدارس والجامعات والأكاديميات ومراكز البحث والتكوين والإعلام، والكليات والمعاهد الدينية لتشكل منارات استقطاب وتكوين العلماء والخبراء في شتى المجالات. فلا فاعلية إذن ولا تأثير في الواقع ولا إصلاح، بدون علم وفكر وتربية، وهذا ما تعمله الكنيسة الكاثوليكية من طبع ونشر الكثير من المؤلفات والكتب، كمعالم أساسية لاستكمال بناء الشخصية. والكنيسة تؤكد وتؤيد وتشجع على التحصيل العلمي وتضع لها شروطًا وضوابط هامة. إذ لا بد أولاً من توجيه نتائج العلم توجيهًا نفعيًّا إيجابيًّا مستظلاًّ بظلال التعليم الإلهي والكنسي المسيحي السامي والراقي لأجل السمو بقيم الإنسان الإيجابية والمؤثرة والنافعة والبناءة.

ج ـ التراث المسيحي

   كما تدعوا الكنيسة أيضًا، إلى ضرورة الالتفات إلى ما يزخر به التراث المسيحي من كنوز تعليمية وعلمية، وواجب العمل على الاستفادة منها بعد فحصها وتحليلها وتوضيحها؛ فمن ليس له تراث ليس له أبداع ومن ليس له ماض ليس له مستقبل، ودعت الكنيسة كل علمائها وأساتذتها إلى العمل على إخضاع نتاج العلم الحديث لمنطق الفكر المسيحي المعاصر، إذ تقول في هذا: “إن التوجه إلى العلوم الدينية بمختلف تخصصاتها والعلوم الأخرى كعلم الفلك والأحياء والكيمياء والهندسية والرياضيات والفيزياء والطب والفلسفة علم الاجتماع…إلخ بميزان العقل والمنطق والشعور. هذا التوجه الذي يشكل جوابًا عن تمايل البشر وحَيْدِه في انسياق البشرية بفرضيات سوداء في مرحلة زمنية معينة، سيكون خطوة مهمة باسم الخلاص الإنساني.

  وتشير الكنيسة إضافة إلى كل هذا، أن الفكر والتفكر معًا أمران ضروريان لحياة المؤمن، وأن الذي يحيا دون أن يفكر ويتعلم؛ يعيش سطحيًّا إلى درجة كأنه الطفل، حيث يقول: “ما ينبغي هو أن يعيش الإنسان وهو يفكر، وأن يبتكر أنماطًا فكرية جديدة إذ يعيش، فيتفتح على آفاق مُركّبات فكرية مختلفة ومتنوعة… إلخ، والذين يعيشون بغير فكرٍ هُم دُمى تُمثّل فلسفة حياة للآخرين”. ـ ولكنها لا تنسى الإيمان العميق الحي للبسطاء ـ وتعلن الكنيسة في هذا السياق، عن ضرورة إعمال الفكر أيضًا في ملكوت الله، وخلقه، وآثار وجوده، من خلال آياته وأعماله المبثوثة أي المتفرقة والمنتشرة في الكون أو المسطورة في الكتاب المقدس.

كما تدعو الكنيسة أيضًا، أن يكون المفكر حرًّا في تفكيره، طليقًا من أي ضغط خارجي، ليتسنى كسب المعرفة بكل أبعادها. فالمسيحي مجدّ في طلب العلم وتحصيل المعرفة أي كان مصدرها، شريطة إخضاعها لتصوره الإيماني واللاهوت الكتابي وتعليم الكنيسة الرسمي، وضبطها بضوابط الكنيسة التي تسعي للوحدة، ـ كما قلنا ـ دون أن يخشى الوقوع في أي استلاب ذهني أو يسقط صريع غزو فكري متعصب رجعي ومتخلف، ما دام يظل دائمًا متمسكًا بجذوره، وفيًّا لأفكار العلماء من آباء الكنيسة عبر تاريخها الغني.

  بل إن هذا الإنسان الجديد حسب رؤية الكنيسة يجب أن يكون مشاركًا وحاضرًا بقوة في مسيرة الحركة العلمية الحديثة، ينهل من كل المعارف والعلوم، مستغلاًّ لكل وسائلها، وموظفًا لها من أجل إيصال كلمته، فهي تقول: “الإنسان الجديد يستخدم جميع وسائل الاتصالات الحديثة؛ كتباً وجرائد ومجلات، وإذاعة وتلفازاً ومنشورات للولوج إلى القلوب والنفوذ إلى العقول والدخول إلى الأرواح، ويثبت جدارته من خلالها مرة أخرى، بل ويسترد مكانته المسلوبة في التوازن العالمي من جديد.

الإنسان الجديد، هو إنسان عميق من حيث جذوره الروحية، متعدد من حيث ما يملكه من كفاءات صالحة للحياة التي يعيش في أحضانها. إنه صاحب القول الفصل في كل الميادين بدءا من العلم إلى الفن ومن التكنولوجيا إلى الميتافيزيقيا، وصاحب خبرة ومراس في كل ما يخص الإنسان والحياة. أجل، إنه عاشق لا ينطفئ ظمؤه إلى العلوم مهما نهل، مولع بالمعرفة ولعاً لا يفتأ يتجدد كل حين، عميق بأبعاده الراسخة والدنية التي تعجز العقول عن تصورها.

د ـ الروح الجديدة

  لقد حملنا على عاتقنا مسئولية بث روح جديدة في دنيانا، مشبعة بالإيمان وحب الإنسان والحرية، وتجهيز البيئة وإعدادها لترسيخ الجذور المعنوية لشجرة مباركة تنمو أفنانها وتزدهر أغصانها بهذه المعطيات، وتزهو حقولا جديدة بامتداد تلك الجذور.

  وعلى العموم، فإن التحصيل العلمي الحقيقي كما تراه الكنيسة يجب أن يقود إلى اكتساب قدرات فكرية متميزة، تعين على إعمال العقل وتوظيف ملكاته الإيجابية والتخطيطية، بحيث تؤدي في النهاية إلى الوعي التام بالذات، ومن ثم الوعي بالمحيط الموضوعي، واستثمار كل ذلك لخدمة الواقع ومساعدة الآخرين في إطار حضور الثوابت الإلهية.

  لكن الاهتمام الأكبر الذي ظلت الكنيسة منشغلة به هو الدعوة إلى ضرورة الوصول للأطفال والشباب والتكوين والتعليم المسيحي الصحيح والمستقيم، وأيضاً على أن لا يتوقف على العلوم الدنية فقط، بل يجب الاقتراف من شتى ينابيع الفكر، قصد استكمال أهم صفات الإنسان الفاعل.

  كان هذا هو الاهتمام الضروري بكيفية ربط الفكر بالعلم، والعلم بالسلوك. وتسعى الكنيسة بأن لا يكون هناك ذلك الفصام النكد الذي يمكن أن يحصل بين الفكر والعمل، وبين العلم والسلوك والممارسة، شأن ما يحصل في عصرنا الحديث لدى أغلب الأوساط العلمية في شرق الأرض ومغربها، مما يحيد بالعلم والفكر عن مسارهما الصحيح، وينقلب بهما إلى مجرد أدوات تسلية أو ترفيه وأحيانًا تخريب ودمار.

  لهذا نجد الكنيسة تحث على ضرورة تحقيق هذا الربط الجدلي بين العلم والعمل، وبين الفكر والممارسة، بل ذهبت أيضًا إلى حد الحديث عن ضرورة إحداث تناغم وتساوق بين العقل والقلب والحركة، وإلا فلا قيمة لشخص يعيش هذا الانقسام الخطير بين مكونات شخصيته.

  وهذا ما حرصت الكنيسة والمسيحية على تطبيقه بين أفراد وأتباع حركة الخدمة في ربوع كنائس العالم.

سادساً: ـ الأساس العملي والحركي:

  تؤمن المسيحية، وتعلن الكنيسة إيمانها الجازم في هذا الصدد، فتقول لكل أولادها وشعبها في كل الأنشطة والخدمات والمؤسسات: “يمكن تلخيص خط كفاحنا وجهادنا الروحي وخدمتنا الإنسانية كورثة الأرض، بكلمتي الحركية والفكر. وإن وجودنا بوجهه الحقيقي يمر عبر الحركية والفكر؛ حركية وفكر يغيران الذات والآخرين. ومن جهة أخرى يبدو كل وجود وكأنه حاصل حركة ومجموعة أنظمة، وبقاؤه مرتبط بالحركة وبتلك الأنظمة. وإن أهم شيء وأشدّه ضرورة في حياتنا هو الحركية، المبادرة المدروسة والتلقائية المجانية.

  وكثيرًا ما الكنيسة في نفس السياق إلى أن كل عناصر الكينونة البشرية، يجب أن تتضافر وتتجانس فيما بينها قصد استكمال كل عناصر الحياة الحقة؛ فالفكر في خدمة القلب، والعقل في خدمة الروح والوجدان، والفكر والعقل والقلب جميعًا في خدمة الحركة المسكونية لوحدة الكنيسة، والحركة الإنسانية لنمو الشعوب، والحركة الخدمية لرفعة البشرية ورقيها.

  فالحركة والحركية، تحتاج دومًا إلى هذا التصاهر والتناغم بين كل المكونات حتى يتحقق ذلك التوازن الذاتي المنشود، والعدل الاجتماعي المفقود، وتعلن الكنيسة في هذا الصدد وبكل تأكيد قائلة: “إن حركية حياتنا التبشيرية والفكرية هي حياتنا الروحية بفرح الإنجيل البشرة السارة والفرح الحقيقي الذي لا ينزع منا، وفي حالٍ لا يمكن به فصل حياتنا الروحية عن فكرنا الديني وعقيدتنا وروحانيتنا وإيماننا. فقد تحقق كل صراع من أجل الوجود والحضور خاصة شعبنا باللجوء إلى المعنى والروح المسيحية.

  ولعل أهم خاصية وجب الإشادة بها في هذا السياق ضمن حديثنا عن جدلية التلاقي بين الفكر والحركة، والتجانس بين العلم والعمل كما تجسده المسيحية هو أن الكنيسة تكون منطقيّتاً مع نفسها، ووفيّتاً لمبادئها ودعواتها ورسالتها التبشيرية والخلاصية؛ فإنها تحرص كل الحرص على ربط العلم بالعمل، والفكر بالحركة في مسار دعوتها وحركتها وبيئتها، عن طريق تربية جيل يؤمن بهذه الثنائيات المترابطة فيما بينها، ويقتنع بجدواها، ثم دفع هذا الجيل المشحون بمثل هذه القناعات، إلى النزول إلى ساحات الواقع والعمل على ترجمة ما تُلقِّنوه ليلُقِّنوه نظريًّا وعمليا في فضاءات المجتمع المختلفة، تنموياً ووعياً وتبشيراً وخدمة وإرشادًا ودعمًا لكل فعاليات المحبة والفرح والحق والصحة والسلام والأمان والاطمئنان والخير والإصلاح.

  وهو ما نتج عنه في الأخير، ظهور جيل من الشباب المتحمس ذوي الشخصيات الفاعلة في المجتمع، والمتفاعلة مع قضاياه، والمنفعلة بأناته ومعاناته. إنه جيل الخدمة كما أطّرت ونظّرت له الكنيسة في جلّ كتاباته المشجعة لهم، وإعلان الكنيسة على فم البابا يوحنا بولس الثاني: “أفتحوا الأبواب”؛ وكما جسّدها في الواقع، نماذج حية، ومؤسسات حية فاعلة تعمل كخلايا النحل وسط المجتمع، بتقديم أغلى ما لديها من عطاءات وتضحيات ومجهودات تروم ـ أساسًا ـ إعادة بناء المجتمع على أحسن صورة. مجتمع تسوده قيم المسيحية المتميزة بالفضائل الإلهية الإيمان والرجاء والمحبة والقيم الإنسانية الشجاعة والمبادرة … إلخ، انطلاقًا من الإيمان الراسخ في القلب والعقل والعبادة الصادقة والسمو الروحي، ومرورًا بتقديم شتى الخدمات التنموية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية، وانتهاء بفتح أبواب المدارس لتسهيل العلم النافع ورُدحات المستشفيات لتأمين العلاج لكل من يحتاجه، ومدرجات الجامعات والكليات لتأطير وتكوين الأطر العليا المؤهلة لقيادة المجتمع نحو الرقي والتقدم، وأيضا المنشئات الرياضية والمسرح والفنون والموسيقى للرقي الإنساني النفسي والفكري .

  وفي هذا السياق تعلن الكنيسة مخاطبة شعبها وأولادها قائلة: وفقاً لتعاليم يسوع المسيح الإنجيلية “الذي من الناصرة… الذي جال يصنع خيرا ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس، لأن الله كان معه.” (أع 10: 38) فلقد حملنا على عاتقنا مسؤولية بث روح جديدة في دنيانا، مشبعة بالإيمان وحب الإنسان والحرية، وتجهيز البيئة لترسيخ الجذور المعنوية لشجرة مباركة تنمو وتزدهر أفنانها بهذه المعطيات، وتزهو حقولاً جديدة بامتداد تلك الجذور.

  ولا شك أن إنجاز ما تمليه هذه المسؤولية، مرتبط ارتباطًا وثيقًا بأبطال يصونون مصير الكنيسة والمسيحية والأوطان في كل ربوع المسكونة، ويحمون تاريخ الإنسانية ودينها وأعرافها وتقاليدها ومقدساتها كلها. أبطال طافحين بحب المسيحية والانتماء لعلم أوطانهم، منشدين إلى الإعمار والإنشاء، متدينين أخلص من الخُلَّص، محبين للشعب، مرابطين أبدًا على أداء واجباتهم بشعور المسؤولية. فبهؤلاء وجهودهم لتوصيل ونشر أفكارنا لخير الإنسانية، ومحصلة هذه المفاهيم والأفكار على حياة شعبنا، ويعلو في كل إنسان حسُّ نذر النفس لخدمة المجتمع، وينتعش من جديد مفهوم تقاسم الواجبات والتعاون المتبادل.

  ولهذا، فلا غرابة أن وجدنا آثار هذه الفكرة العملية (فكرة الخدمة) الناتجة أساسًا عن ضرورة ربط العلم بالعمل والفكر بالحركة، قد آتت ثمارها اليانعة في الكنيسة المسيحية التي تأسست على بطرس الرسول، وخارجها عبر بقاع شتى من العالم، في المسكونة كلها ووصلت لغير المسيحيين؛ حيث انتشار المدارس المهنية المؤهلة حرفيًّا وتقنيًّا، وسعيها الحثيث لنشر العلم وتوعية الناس عن طريق أرقى المناهج التعليمية الحديثة، وعلى يد مجموعة من المدرسين الخبراء المقتدرين المؤهلين علميا ونفسيا وتربويا… إلخ

  كما انتشر أيضًا داخل كنائسنا مؤسسات اجتماعية، ومعاهد علمية وإعلامية، وجامعات وأكاديميات علمية كما في مصر ولبنان وغيرها من دول العالم في أوربا وأمريكا، فضلاً عن بيوتات الطلبة التي تؤوي هؤلاء، وتوفر لهم كل فرص الجد والتحصيل والتكوين والتربية. والمجال هنا لا يتسع للتفصيل في كل هذه القضايا، وإلا فما كتب ونشر عن هذه المؤسسات، كفيل بتقريب معنى فكرة الخدمة ومدى وفائها لكل القيم والأفكار التي سطرتها المسيحية من خلال الكنيسة، وجعلتها مرجعية هامة لثلة من الأتباع الغيورين على دينهم ووطنهم. وقد وقفت الكنيسة بدورها من خلال زيارات الباباوات للكثير من دول العالم، والاطلاع والوقوف على نماذج من هذه المؤسسات، والحوار مع روادها والمشرفين عليها، وعاينّوا جهارًا مقدار الجهد والتفاني والإخلاص لدى أبناء فكرة الخدمة لإنجاح هذه الفكرة عبر العالم المسيحي والإنساني في المجتمعات المختلفة والتي تتكون من ديانات ومذاهب وطوائف متنوعة.

  والكنيسة توسع من مفهوم المسيحية والإيمان والمحبة والخدمة، ليشمل كل مجالات الحياة، ويطال كل الأبعاد النفسية والفكرية والسلوكية للشخص المؤمن على نحو يجعل منه شخصًا سوي النفسية وحبا ومؤمنًا ومهتمًّا أيضًا بعالم الشهادة المسيحية، حاملاً هم البناء والإصلاح والتغيير نحو الأفضل. “فليضيء نوركم هكذا قدام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجدوا أباكم الذي في السماوات.” (مت 5: 16)

الخاتمة:

  انطلاقًا من كل هذه المعطيات -على ما يميزها من عرض اختزالي مركز ـ يمكن القول في الختام؛ إننا نجد أن المسيحية في جوهرها وضعت أنفسنا حقًّا أمام مشروع بنَّاء طموح، يحدد الأسس الجوهرية التي تستند إليها عملية بناء الشخصية الفاعلة في المجتمع المسيحي والإنساني، كما أعلنتها الكنيسة وكشفتها لأجل الخير العام للبشرية كلها بكل مكوناتها المتنوعة.

  وقد حاولت الكنيسة الكاثوليكية استجماع معالم هذه الأسس كما ظهرت في بعض كتاباتها ومقالاتها ومنشوراتها، على نحو من الاستقصاء الأفقي الذي يتتبع مسار الفكرة منذ انطلاقها، إشارات جزئية إلى انتظامها ضمن سلسلة من الإثباتات الحجاجية المتطورة والمتنامية، لتستوي إلى ما يشبه مشروعًا بنائيًّا ضخمًا، شكَّل في نظرنا أهم المحاور الأساسية ضمن المشروع الحضاري الشامل الذي نظرت له الكنيسة وأعلنته في جلّ كتاباتها وخطاباتها ومنشورتها وتعليمها.

  فالأمر ـ كما رأينا ـ يتعلق بعملية بناء ضخمة للشخصية الفاعلة، وبما يتطلبه من جهد جهيد يطال شتى المجالات العقائدية والفكرية والسلوكية والعملية، على نحو من التداخل والتناغم يضمن صياغة شخصية متكاملة لا نقص فيه، ولا غلو ولا إفراط ولا تفريط.

  هكذا نظرت الكنيسة لبناء الإنسان، وهكذا عملت على تحديد الآفاق وتخطيط السبل العلمية والعملية الكفيلة بذلك، وذلك ضمن رؤية شمولية متكاملة؛ رؤية تتشكل من فلسفة فكرية واجتماعية ولاهوتية تجمع بين الأصيل والحديث، بين العقلاني والروحي، بين النظري والعملي، على نحو من الاتساق والتناسق، بحيث يبشر بميلاد إنسان جديد، جدير بتحمّل الأمانة وأداء الوظيفة على النحو الذي يريده منه دينه الحنيف.

  فنحن إذن ـ كما يؤكد البعض ـ أمام تجربة إصلاحية ناجحة، ولعل أحد أهم أسرار نجاحها، يكمن في أنها تجاوزت الاستقطاب المزمن بين الأطراف المتناقضة: الديمقراطية والدكتاتورية والرأسمالية والاشتراكية والعلمانية السلبية الملحدة، والأرثوذكسية السلفية السلبية، وذلك من خلال الدفع بتجربة وسطية فكرًا وحركة، لم تؤد فيها البراغماتية إلى التخلي عن الثوابت، بل أدت إلى الأخذ بأساليب مبتكرة، لتحقيق أهداف غير خلافية وجامعة. كما تميزت تجربة الكنيسة باللقاءات والحوارات المسكونية مع مجالس الكنائس العالمي ومجالس كنائس الشرق الأوسط ومع اللقاءات المباشرة برؤساء الكنائس من باباوات وبطاركة وأساقفة وكهنة وشمامسة وشعب على ترجمة الأفكار إلى واقع، انطلاقًا من قراءة واعية للواقع من أجل تغييره جذريًّا ودون تصادم معًا، لأجل وحدة الإنسان ووحدة الكنيسة والبشرية، انطلاقًا من الاهتمام ببناء الفرد في إطار عملية شاملة لبناء الإنسان، وبالأحرى الانطلاق من الخاص للتأثير في العام. وكان منهجها في كل ذلك إصلاح الإنسان وتربيته، ليكون الأداة المؤهلة لبناء المجتمع، ومن ثم لإنشاء وحدة حضارة إنسانية موحدة من الحضارات الإنسانية المتنوعة والمتميزة في شتى ربوع المسكونة.

  وما زال الطريق طويلا وخاصة أمام التحجر الفكري والرجعية وعدم الوعي الكافي والثقافة المحدودة والسلفية الفكرية والتعصب… إلخ عند الكثير من القادة والدول والشعوب والقبائل.

  فلنصل إلى الرب الإله أن يفتح قلب المسيحيين في المسيحية لروح وعقل المسكونية، ويمنح الكنيسة روح الاستنارة الباطنية، ويعطي البشرية روح التفكير المنفتح نحو قبول الآخر والاحترام، ويعطي الإنسان روح الوحدة مع ذاته ومعرفة قدر نفسه وتحقيق إنسانيه.

  نطلب كل هذا بشفاعة يسوع المسيح التكفيرية، وشفاعة أمنا مريم التوسلية. أمين.

الأب أغسطينوس ميلاد…

F Oghos Melad  فيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.