البابا يوحنا بولس الثاني في مصر ولقاء الرموز

البابا يوحنا بولس الثاني في مصر ولقاء الرموز

بقلم: د. علي السمان

لقاء الرموز*
الرئيس المصري ورئيس الفاتيكان
ولقاء بابا الفاتيكان والإمام الأكبر
د. علي السمان
نائب رئيس لجنة الحوار بين الأديان
لقد كان يوم 24 فبراير سنة 2000 يوم لقاء بابا الفاتيكان والإمام الأكبر شيخ الأزهر يوماً تاريخياً لهاتين المؤسستين لتاريخ كل منهما، الذي امتدّ لأكثر من ألف عام. وكان طبيعياً حينما يرحل عن عالمنا قداسة البابا يوحنا بولس الثاني إلى لقاء ربه أن يكون رد فعل الأزهر وإمامه واللجنة الدائمة للحوار بين الأديان، هي تحية التقدير والاحترام لعطاء هذا العملاق على مستوى تقارب الأديان والجهد الهائل الذي بذله ليجمع بين كل الأديان والروحانيات مع احترام استقلالها الكامل. ومنذ أن كتبت هذا المقال (لقاء الرموز) كانت لي بعدها فرصة لقاء معه في أسيزي بمناسبة مؤتمر الصلوات والسلام، أمام أكثر من ألفي شخص، وممثلي أكثر من 25 ديانة وروحانيات، لألقي أمام الجميع رسالة الإمام الأكبر ودعوته لمساهمة الأديان في نبذ الكراهية وإقامة السلام الذي لا ينفصل عن العدل، ثم التقيت به على الغداء الذي تبع هذا اللقاء مع مجموعة محددة لكي أعبّر له عن مشاعري القلبية، وأنا أراه وقد نجح أن يجمع هؤلاء جميعاً من أجل السلام والعدل، وحينما بذل جهداً ليمد يديه الاثنين ليمسك بيدي كانت لحظة تاريخية تخطّت أهمية الكلمات لتجعل رسالة قلوباً اجتمعت وآمنت بأن خدمة الإنسانية كل لا يتجزأ.
سيظل يوم الخميس 24 فبراير تاريخاً محفوراً بأحرف من نور في تاريخ العلاقات الإسلامية المسيحية وتاريخ العلاقات بين دولة مصر ودولة الفاتيكان. قليل من يعرف أن للفاتيكان وجهين مستقلين، وجه الدولة برئيسها بابا الفاتيكان ورئيس وزارتها ووزير خارجيتها وسفرائها في معظم أنحاء العالم، والدولة بدورها لها وسفراء معتمدون لدى الفاتيكان؛ وهناك وجه الكنيسة بكوكبة من الكرادلة بعينهم رئيس الكنيسة يوحنا بولس الثاني ويمثلون سلطته الكنسية في معظم مدن العالم.
أولاً: لقاء القمة بين رئيس جمهورية مصر العربية ورئيس دولة الفاتيكان تحمل أكثر من معنى:
المعنى الأول: أن الرئيس المصري أكد تعددية المصادر الروحانية والدينية لإلهام شعب مصر، وأكد في قوة وشموخ “أن الشعب المصري يستمد إلهامه من الإسلام والمسيحية ويؤمن بتعالم القرآن والإنجيل”. فليتذكر دعاة التطرف جيداً المعنى العميق لهذه الكلمات لقائد بلد يعرف أن جذور تاريخه جمعت الإسلام والمسيحية. المعنى الثاني: أن الرئيس المصري يأخذ لحساب أمجاد مصر التاريخية مثلاً أحد عمد تاريخ المسيحية العالمي “القديس مرقص”، الذي عاش على أرض مصر سنة 61م، وأقام كنيسة الإسكندرية “وقدم إسهاماً عظيماً للفكر المسيحي والفلسفة “. المعنى الأول والثاني له دلالة كبيرة: أن القيادة السياسة في مصر تؤمن بفلسفة: “بأن تاريخ مصر كل لا يتجزأ ما بعد وصول الإسلام برسالته السامية المقدسة وما قبل الإسلام من وجود للمسيحية على أرض مصر”. وأنا على ثقة أن أساتذة التاريخ في الجامعات والمدارس سيترجمون هذه الفلسفة وهذا التوازن في كتاباتهم ودراساتهم حتى نشعر ونحب واقع مصر الإسلامي والمسيحي من واقع حبنا لمصر وتاريخها العملاق.
المعنى الثالث: أن قداسة بابا الفاتيكان يعطي المقابل من ناحيته ويؤكد أن مصر كانت معقلا للدراسات المسيحية ولعبت دورا عظيما في الحفاظ على الثقافات والعقائد الخاصة بالكنيسة. كما أكد بابا روما على أهمية الدور التاريخي لعمالقة المسيحية الذين حققوا عظمتهم في مصر مثل القديس مرقص، والقديس انطونيوس والقديسة كاترين. المعنى العميق لمن يريد أن يفهم أن مصر التاريخ حمت المسيحية على أرضها منذ الأيام الأولى بعد مولد السيد المسيح. ويؤكد بابا الفاتيكان في نفس الوقت وبقوة كيف أن دين الإسلام كان دين علم ومعرفة أنار الطريق في أفريقيا والعالم العربي.
المعنى الرابع: أن البابا يوحنا بولس الثاني يأخذ لحسابه فكرة أن مصر بلد الوحدة الوطنية، ويقرر “أن مصر طبقت أفكار الوحدة الوطنية وأن الاختلافات في الديانة لم تكن حاجزا أبدا للتفاهم بل كانت في خدمة المجتمع الموحد والواحد”. المعنى الكبير وراء هذه الكلمات أن راعي أكبر كنيسة في العالم لا يعتبر أن أي أحداث تقع يمكن أن تؤثر في قناعة العالم “أن مصر بلد الوحدة الوطنية”. وكان البابا يوحنا بولس الثاني أخلاقيا وذكيا وعميقا حينما دلل على ذلك بكلمات البابا شنودة الثالث: “أن مصر ليس بلداً نستوطن فيه وإنما وطن يعيش داخلنا”.
ثانياً: لقاء القمة الدينية بين الإمام الأكبر شيخ الأزهر وقداسة بابا الفاتيكان
كان لقاء يوحنا بولس الثاني ود. سيد طنطاوي وحولهم قادة وعلماء الكنيسة الكاثوليكية والأزهر الشريف لقاء رموز عالي المستوى تاقت إليه وتابعته كل الشعوب المسيحية باختلاف طوائفها وكل الشعوب الإسلامية باختلاف مناحيها أي أكثر من نصف البشرية. ويمكننا أن نضع بعض النقاط حول دلائل هذا اللقاء:
1) هناك لقاءات لرموز كبرى وعليا- بحكم مكانة هذه الرموز لدى شعوبها- حينما تتم يكون أكثر من نصف مضمون اللقاء قد تحقق. إن الرمز الذي يمثله فضيلة الشيخ الدكتور محمد سيد طنطاوي وهو يحمل على كتفيه أعباء تمثل الأزهر بنضاله ألف عام لنشر دعوة الحق والتصدي للظلم ولكنه يحملها في بساطة وتواضع. وان رمز قداسة بابا الفاتيكان بوزنه المؤثر داخل دول العالم أجمع، ولكن يتقدم بخطى بطيئة يحمل فيها عبء تحدي قواه الجسدية كمن يريد أن يتمم حجة لأرض مصر وبيت الإسلام إلى آخر المطاف. ودخل رموز القمة الدينية العملاقة من عتبة بيت الأزهر الشريف والإمام الأكبر يأخذ بيد ضيفه الكبير في رفق، وهنا تفجرت مشاعر علماء الأزهر بتحية لـيس لها سـابقة في استقبال رئيس ديني غير مسلم .. وصفق العلماء على غير عادتهم وتقاليدهم وعلت ابتسامة الفرحة على وجـه الكرادلة والـعلماء. وهنا جاء المعنى الكبير في لقاء الرموز .. أن تيار المحبة والمودة والغبطة قد مر بقلب الرجال وشعرت وقتها أن لقاء رموز الأزهر والفاتيكان هو رسالة ولغة قلوب وشعرت أيضا أنه ليس حقيقي أن الدنيا يحكمها فقط العقل والحسابات بل أن للمشاعر والتلقائية وحرارة اللقاء مكانها على أرض الواقع. كانت الكلمات التي تبادلها الإمام الأكبر وقداسة بابا الفاتيكان من باب الأزهر وحتى قاعة الاجتماعات وعودة إلى باب الأزهر وأنا أتأبط ذراعه الأيسر كلمات تلقائية ولكن معناها كبير، أراد من خلالها الإمام الأكبر أن يشرك الأزهر وعلماء الأزهر في كل كلمة قالها لبابا الفاتيكان وهو يرحب به في بيت الإسلام. ورأى بابا الفاتيكان بعينه وحسه المرهف أن رجال الأزهر يستقبلونه فعلا بقلوب وعقول مفتوحة، وتوقف لحظه عندما بلغت حـرارة اللقاء والترحيب ذروتها وقـال لي: “هذا يوم لن أنساه وهو هدية من الرب”.
2) رمز آخر جاء كهدية من قيادة العمل بالأزهر التي نظمت الاستقبال مع سفير مصر بالفاتيكان أنها أجلست كل رجل من رجال الدين من الفاتيكان بزيهم الخاص بجانب مسئول من الأزهر بعمامته البيضاء. وجاء هذا الرمز ليعني أن الجميع حضر ليتعاون ويتعارف ويتبادل المحبة والمودة على مستوى المعاونين وليس على مستوى القمة فقط. وبمناسبة المودة لا أنسى كلمة قالها البابا شنودة الثالث أمامي وهو يستقبل الشيخ الشعراوي منذ سنوات: “أن المودة تجد الكلمة تصل إلى الأذن بصدى جميل وإلى القلب بأسرع الطرق وإلى العقل لتؤثر فيه”.
3) وجاء رمز جديد من جانب بابا بالفاتيكان حينما أعلن أن الزيارة التاريخية بمعنى أنها أول مرة في التاريخ تطأ أقدام بابا روما أرض الأزهر. وحينما نعلم أن بابا الفاتيكان عوّد العالم أن يزن كل كلمة يقولها فإن ربط الرمز واللقاء والتاريخ يكون أمراً حتمياً. ومن واقع الشعور بالمسئولية بدأ فضيلة الإمام الأكبر ومعاونوه في التفكير الجدي بدراسة بعد الاقتراحات الخاصة بتوثيق هذه الزيارة واستمرار إحياء ذكراها. كمناسبة يؤكد فيها رجال الأزهر والفاتيكان، المسلمون والمسيحيون بصفة عامة أن السلام والمحبة بينهما هو لخدمة الإنسان والإنسانية.
4) وأشار شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان إلى الدور الخلاق والمحوري الذي لعبته اللجنة المشتركة للأزهر والفاتيكان، وكذلك اللجنة الدائمة للأزهر لحوار الأديان السماوية برياسة د. فوزي الزفزاف الممثل الشخصي لشيخ الأزهر ورئيس اللجنة، والذي يشرفني أن أتولى فيها مهمة نائب الرئيس ومستشار الإمام الأكبر. جاءت هذه الإشارة بمثابة رسالة تعبر عن إرادة الأزهر والفاتيكان- اللذين وقّعا اتفاقاً في مايو 1998- في تدعيم آليات التعاون الممثل في هذه اللجان. وكان هذا الاتفاق نقطة تحوّل ساهمت في نجاح لقاء القمة بين شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان في 24 فبراير. والمعروف أيضا أن هذا الاتفاق كان يميزه كمبدأ أخلاقي الاعتراف بكل الجهود السابقة على عقده، والتي ساهمت منذ أربع سنوات قبل هذا التاريخ في التقارب، وبالذات دور الكاردينال كينينج كاردينال فينا ومؤسسة الأديك “ADIC” وكذلك مؤتمر السربون في 1994م.
5) وحينما يستمع الإنسان إلى كلمات شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان يفهم أن من بين أهم أهداف الحوار هو البحث عن القيم المشتركة للأديان ومن بينها إحقاق الحق ودرء الظلم بمواقف مشتركة.
الخلاصة:

أقول وبصراحة أن هذه بدايات طريق وليست نهاياته، وتحتاج المسيرة إلى جهد بلا كلل ووقفة دائمة متجددة مع النفس لتصدق النية وتصدق الكلمة لتكون على مستوى إيمانية كل منّا.

* جريدة الأهرام، الصفحة العاشرة، مارس 2000.