التنكيل اليهودي بالمسيحيين في العصور الأولى

التنكيل اليهودي بالمسيحيين في العصور الأولى

بقلم الأب رفعت بدر

روما, 9 مايو 2013 (زينيت

من يراجع سيرة الأستاذ الدكتور عصام محمد سخنيني، أستاذ التاريخ في جامعة البتراء، ويقرأ مؤلفاته وعناوينها، يعرف مباشرة أنّه أمام قامة فكرية رائدة، وأنّه مبدع  في مجال التاريخ، وتسليط الضوء على أحداث تستحق أن تذكر اليوم، ليس للتذكر والبكاء على أطلال الماضي، بل لأخذ العبرة لهذه الأيام ولما سيأتي.

شرّفني الدكتور سخنيني بالتقديم لكتابه الجديد : “مقاتل المسيحيين: نجران 523م والقدس 614، وصفحات أخرى من تاريخ التنكيل اليهودي بهم”، ويتحدّث عن صفحات، لا أقول حزينة، على الرغم ممّا فيها من دماء وموت، بل صفحات شكلت بذاراً لانتشار ديانة سماوية، لم تستطع قوى البطش والظلام أن تئدها في مهدِها ، بل ما زالت تسير إلى اليوم بتناغم  ووئام مع شقيقاتها الديانات الأخرى ومع كل الناس من ذوي النوايا الحسنة.

يسرد الكتاب ” مقاتِل ” المسيحيين – أي المجازر بحقهم- في العصور الأولى، وبخاصة على أيدي اليهود الذين لم يستسيغوا أن تنشأ ديانة جديدة تشكل تهديداً لوجودهم . وهكذا، مشبعين بعقلية رفض الاخر والرغبة بإلغاء الاخر وافنائه، عمدوا الى قتل ” المعمّدين ” والتنكيل بهم في كل من نجران، البلد العزيز الذي حوى بين جنباته العديد من المسيحيين منذ العصور الاولى (مجزرة نجران 523م)،  وصولاً الى مدينة القدس الشريف، وهي مركز الديانة المسيحية، وأم الكنائس جميعها، التي شهدت كذلك شتى أصناف التنكيل والمحارق (مجزرة القدس 614م).

تتبعت الكتاب ليس بصفة المراقب للعقائد المذكورة، وانما بنهم الجائع والعطش إلى معرفة الجذور ليس فقط للمسيحية وانما أيضاً للعربية. وليس هنالك من تناقض في الفخر ما بين كون الإنسان عربياً وكونه مسيحياً في آن واحد. وهو أمر لربما يشكل رسالة تعزية وتشجيع الى مسيحيي اليوم الذين ما زالوا في المشرق العربي يضربون مثلاً تلو المثل في العيش المشترك مع أخوتهم المسلمين، مهما تعرّضوا له أحياناً من أعمال تهجير على أيدي اليهود ذاتهم، كما في القدس وسائر القرى والمدن الفلسطينية، أو كذلك على أيدي أفراد وفئات تعادي المجتمع ككل، وتلبس رداء الدين وهو منها براء.

ومع السير في الكتاب من صفحة الى أخرى، ومن قطرة دم الى أخرى، وبين مظاهر التنكيل والرغبة في الإفناء تسطع رُهم بنت أزمع، المرأة الفولاذية والأرملة المتحلية بألوان الصبر والإيمان، والتي قتل زوجها في نجران على مرأى من عينيها وعيون بناتها الثلاث، وقبل ذهابها الى الموت راضية مرضية، تنطق بخطبة قلّ نظير جرأتها وتنشر لأوّل مرّة بالعربية، وانّها لخطبة فصيحة، تصلح لأن تدرج في مناهج الأدب والبلاغة. ويا ليت ” لا عنفها ” يكون حافزاً لعصرنا الحالي في أن تكون هذه السياسة دعوة الى وقف إراقة الدماء والعنف من أي طرف، وبالأخص تلك التي تُرتكب باسم الدين وفي النظر إلى أتباع أي دين آخر أنهم أعداء، وهم في  الحقيقة أصدقاء بل أخوة وأخوات يعملون جنباً الى جنب في خدمة المجتمعات العربية، بل والإنسانية جمعاء.

ألف تحية لأساتذة جامعاتنا المبدعين، ومنهم الدكتور سخنيني. وانني وفيما أقدّم لكتابه الجديد الرائع لأشكره على تواضعه أولا، وعلى غزارة فكره، وعلى حيادية تأريخه، وعلى سعة علمه، وعلى جرأة مؤلفاته. باركه الله تعالى، وبارك مسعاه، وكلل أمنياته وأمنيات قرائه وطلابه بالنعم والخيرات.   

وكلمة أخيرة لا بدّ منها : يأتي هذا المقال ، بعد أيام قليلة من احتفالات الفصح لدى الكنائس الشرقية، في القدس الشرقية ، وقد حاولت سلطات الاحتلال منع العديد من المؤمنين – حتى بالقوّة- من الوصول الى كنيسة القيامة للاحتفال بالعيد. ما أشبه اليوم بالأمس … ويبدو انّ مسلسل التنكيل له حلقات معاصرة …