الرهبنة القبطية وتأثير الأوضاع السياسية

الرهبنة القبطية وتأثير الأوضاع السياسية

بقلم: سوزان قسطندى

“لأن الشياطين إذ عرفت ضعفها حرّضت البشر قديماً على أن يحارب بعضهم بعضاً، لئلا يلتفتوا إلى محاربة الشياطين إن كفّوا عن محاربة أنفسهم. أما الذين يتتلمذون للمسيح فإنهم لا يحاربون بعضهم بعضاً بل يتجنّدون ضد الشياطين بأخلاقهم الفاضلة وأعمالهم المجيدة فيهزمونها ويهزأون بالشيطان رئيسها، لهذا نجدهم فى شبابهم يكبحون جماح أنفسهم وفى التجارب يحتملون وفى الأتعاب يثابرون وإن شُتِموا يصبرون وإن صُلِبوا يستخفّون بالأمر والمدهش أنهم يحتقرون حتى الموت وفى سبيل المسيح يستشهدون” (من أقوال القديس أثناسيوس الرسولى).

الإضطهاد الرومانى الوثنى للمسيحيةالإضطهاد الرومانى الوثنى للمسيحية وأثره فى إنتشار الرهبنة القبطية :

كان الإمبراطور الرومانى تراجان (98- 117م) هو أول إمبراطور يعلن أن المسيحية ديانة محرّمة، وأحيا التشريعات الصارمة ضد جميع الهيئات والجماعات السرية (وقد أعتُبِرَت إجتماعات المسحيين الدينية من هذا النوع).. وظلت الدولة الرومانية تسير فى تعاملاتها مع رعاياها المسيحيين على هدى هذه القوانين التى إستنّها تراجان لأكثر من قرن من الزمان.

وكان إضطهاد الإمبراطورالرومانى سبتميوس ساويرس (193- 211م) دون باقى القياصرة منحصراً بالأخص على العالم المسيحى فى مصر وأفريقيا، لأنه لم يكن يخشى من المسيحيين سوى الأقباط وذلك لمعرفته بوفرة ثروتهم وغزارة علومهم ومعارفهم.. ولما كان لا ينقص أهل مصر فى ذلك الوقت للتخلّص من نير الرومانيين غير الإتحاد والوئام، ولماكان الدين المسيحى هو العامل على لم شعثهم ونظم عقدهم، فقد حاول القيصر أن يلاشى ذلك الدين من مصر غير مكترث بمسيحى باقى الأقطار.. وقد إستشهد من الأقباط فى ذلك الإضطهاد كثيرون، ولشدة الإضطهاد ظن المسيحيون أن المسيح الدجّال قد ظهر، وانتشرت الأخبار بينهم بأن المسيحيين فى كل العالم قد عملت السيوف فيهم وقُتِلوا فلم ينج منهم إلا من لجأ إلى الجبال واختفى فى المغائر.

إن نظرة عابرة إلى حالة مصر السياسية منذ أوائل القرن الثالث الميلادى تكفى لإدراك ما عانته المسيحية من دائب إضطهاد الأباطرة الرومانيين لها.. وكان هذا الإضطهاد الدائب عاملاً من عوامل إنتشار الرهبانية.

ففى سنة 215م أمر الإمبراطور كراكلا بإعدام عدد كبير من أهالى الأسكندرية بسبب مسيحيتهم، وتكررت هذه التجربة الوحشية فى عهود الأباطرة ديسيوس (249- 251م) وجالوس (251- 254م) وفاليريانوس (253- 260م) وجالينوس (260- 268م).. على أن أشد نوبات الإضطهاد هو ما حدث فى عهود الأباطرة ديوكلتيانوس (دقلديانوس) (284- 305م) وجاليريوس (305- 311م) ومكسيميانوس (305- 313م).. ففى سنة 297م حضر دقلديانوس بنفسه إلى مصر لإخماد حركة العصيان التى قام بها لوكيوس دومتيوس دومتيانوس القائد الرومانى (وهو المعروف أيضاً بإسم أخليوس) وإنتهت هذه الحركة بما قام به دقلديانوس من عمل فظيع إذ أخرب جزءاً كبيراً من الأسكندرية، ومع أن هذا العمل الفظيع أعاد الهدوء مؤقتاً إلى الأسكندرية- ومع أن دقلديانوس سعى إلى شراء ذمم بعض الوثنيين من مصر بما وزّعه من القمح والعطايا كما دفعهم إلى إقامة العمود المعروف بعمود السوارى، فإن إنتشار المسيحية فى مصر إنتشاراً كبيراً دفع هذا الإمبراطور فى أواخر أيامه إلى إضطهاد المسيحية وغيرها من الديانات الخارجة على الديانة الإمبراطورية، وصار أوج هذا الإضطهاد سنة 303م حين أصدر منشوره المعروف الذى أمر فيه عملائه بإبادة الكنائس وحرق الكتب المسيحية كما قرر فيه أيضاً حرمان المسيحيين من حقوقهم المدنية وإستباحة دمائهم ( وقيل أن عدد الذين قُطِعت أعناقهم هذا العام فقط لأجل إقراراهم بالمسيح كان نحو 140 ألف نفس ماعدا 700 ألف نفس هلكوا بالحبس والنفى.. حتى ذكر بعض المؤرخين أن عدد الشهداء حينئذ بلغ 840 ألف نسمة ويظهر أنه مجموع شهداء إضطهادات الثلاثة ملوك.. ومن ذلك الحين أخذ عدد الأقباط يتناقص من عشرين مليوناً إلى عشرة ملايين).

ولم يكن منشأ ذلك كراهية الأباطرة للمسيحية فحسب، بل إمعاناً فى أن يكون إخلاص الناس بقلوبهم وأجسامهم للإمبراطور والإمبراطورية دون غيرهما من القوى- وهو ما يعارض المبادئ المسيحية تمام المعارضة.. ولذا إجتهد المسيحيون الذين إختاروا البقاء على دينهم أن يختفوا بعيداً عن عنف القوانين الرومانية الجامدة، وكانت الصحراوات المصرية الفسيحة خير مكان لهؤلاء المسيحيين.

ويصف د. حكيم أمين آباء الرهبنة القبطية بأنهم “المثل التى أضاءت برارى مصر وأضاءت تاريخ المسيحية بشعلة من النشاط العلمى والروحى”، ويضيف “هذه المثل إنما تُظهِر بجلاء أحوال مصر فى هذا القرن (الرابع)، وكيف أن الرهبنة كانت مقاومة صامتة للإحتلال الرومانى للبلاد، وكيف أن الأباطرة حسبوا ألف حساب لكل هذه الجيوش التى ملأت صحارى مصر وقفارها- لا هرباً من المسئوليات وإنما كفاحاً من أجل الروح مع عمل مثمر من أجل الحياة الجسدية أو الحياة المادية دون أن تطغى المادة على الروح، فكانوا بذلك الشعلة الأولى التى أضاءت ظلام العصور الوسطى”.

ثم إنتهت محنة الإضطهاد الرومانى القديم عندما أصدر الإمبراطور قسطنطين الكبير مرسوم التسامح الدينى من ميلان عام 313م، وهو يشقّ طريقه إلى العرش الإمبراطورى ليجذب إلى جانبه العناصر المسيحية.. وبهذا المرسوم أصبحت المسيحية لأول مرة فى تاريخها ديانة مسموحاً بها إلى جانب الديانات الأخرى.. ولم يعد المسيحيون بحاجة إلى الإبتعاد والعزلة فى الصحراء.. غير أن عوامل أخرى دفعت بكثير منهم إلى البقاء فى رهبنتهم، بعض هذه العوامل دينى وبعضها إقتصادى.. ولا شك أن العوامل الدينية وما فيها من إخلاص للخالق والرغبة فى إماتة الشهوات الجسدانية وتغليب النواحى الروحية صار لها أثرها الكبير فى بقائهم، هذا فضلاً عما تمتّع به المسيحيون فى الصحراء من الأمن الجسدى والروحى الذى فقدوه فى داخل البلاد بسبب الإضطرابات الناشئة عن إغارات قوات البالميريين والبليميز فى عهد الإمبراطور “كلوديوس الثانى” (268- 270م)، ثم أن سوء الحالة الإقتصادية فى مصر منذ أوائل القرن الرابع الميلادى ساعد على إزدياد إنتشار الرهبنة – فلم تكن هناك قوانين فى القرى أو فى المدن وأصبحت الضرائب عبئاً ثقيلاً زاده ثقلاً قسوة جامعيها الذين كانوا يُختارون من وجهاء المدن أو المناطق الأخرى بالإمبراطورية (وهؤلاء عُرِفوا بإسم Curiales) حتى أن عدداً كبيراً من صغار المزارعين تنازلوا عن أرضهم لكبار المُلاك من الأجانب وفضّلوا ترك بيوتهم وأراضيهم وأولادهم ليحيوا حياة اللصوص أو ليتركوا العالم بما فيه إلى حياة رهبانية توفِّر لهم الأمن رغم ما فيها من العيش على الكفاف.. ويضاف إلى تلك العوامل السابقة فى إنتشار حركة الرهبانية قانوناً أصدره الإميراطور قسطنطين الكبير أعفى الأعزب ومن لا أولاد له من الضرائب كما أعفى الرهبان من الخدمة العسكرية، فأغرى هذا وذاك الكثيرين إلى الإمتناع عن الزواج والذهاب إلى الأديرة حيث أمكنهم أن يجدوا الحياة السالمة الهادئة البعيدة عن الأزمة الإقتصادية الطاحنة فى ظل حياة روحية سامية.

وبلغت الرهبنة القبطية أوج عظمتها فى القرنين الرابع والخامس الميلاديين.. على أن أصول النظام الرهبانى المسيحى ظهر أول ما ظهر فى مصر المسيحية خلال القرون الأولى لإنتشار المسيحية، حيث كانت هناك نماذج لـ “نظام العزلة” عاشوا على أطراف المدن أو القرى ولم يكن هناك منهج روحى أو نظام معيّن يعيش عليه هؤلاء فكانوا بمثابة مقدّمات مهّدت للنظام الرهبانى، منها الجماعية (مثل فرنتونيوس Frontonius -وهو أحد أثرياء الأسكندرية- والسبعين شخصاً الذين خرجوا بصحبته إلى برية نتريا حوالى عام 150م ثم تذّمروا عليه بسبب قلة المؤن التى تعوّد أحد أغنياء الأسكندية أن يبعث بها إليهم فتفرّقت الجماعة واندثرت معالمها بموته) ومنها الفردية (مثل الأنبا بولا أول السواح الذى عاش فى عزلة أكثر من تسعين سنة بالبرية الشرقية بإحدى جبال البحر الأحمر لا يرى وجه إنسان، والقديسة مريم المصرية السائحة -وهى من مدينة الأسكندرية- والتى إعتزلت خمسة وأربعين سنة بإحدى برارى الأردن بفلسطين لا ترى وجه إنسان.. ثم جاء الأنبا أنطونيوس أب الرهبان ليؤسس “نظام الجماعات الرهبانية فى صورتها شبه التوّحدية”، حيث كان الرهبان يعيشون فى مغائر أو قلالى منفصلة ويجتمعون فى المناسبات للخدمة الإلهية أو المناظرات الروحية، وهكذا كان القديس يهيئ الطريق لنظام الجماعات- كما يصف البابا أثناسيوس.. وتأسس “نظام الجماعات الرهبانية” فى نتريا وسليا على أيدى الأنبا آمون وفى شيهيت على أيدى الأنبا مكاريوس الكبير (إذ قد تركّزت الجماعات الرهبانية فى وادى النطرون فى ثلاثة مناطق رئيسية هى: نتريا، وسليا (القلالى)، وشيهيت (الإسقيط) والذى دعى أيضاً بإسقيط مقاريوس)، وفى تلك المناطق لم يعش النسّاك فى عزلة كاملة وإنما فى قلالى أقيمت على مسافات حتى لا يرى الواحد الآخر ولا يسمعه.. وجاء الأنبا باخوميوس أب الشركة ليؤسس” نظام الشركة الرهبانية” فى صورتها الديرية المعروفة، حيث يعيش الرهبان كجماعة داخل سور واحد فى حياة شركة معاً تحت قيادة أب يخضع لقوانين معينة، وفى هذا النظام يشترك الرهبان فى الصلوات اليومية وأيضاً فى الطعام وكل يمارس عملاً يناسب إمكانياته أو مواهبه فى الدير حسبما يشير رئيس الدير، وفى ظل هذا النظام لا تفقد الرهبنة الرغبة نحو التوّحد غير أن الشركة لم تكن سلّماً للتوحّد.. وقد أُعتُبر الأنبا شنودة رئيس المتوحدين أحد مؤسسى الرهبنة، وكان نظام الشركة الرهبانى الذى وضعه أكثر شدة من نظام الأنبا باخوميوس، وقد جمع بين الحياة الديرية وحياة الوحدة أيضاً، وبينما كان الأنبا باخوميوس يعتبر أن نظام الشركة هو قمة السمو الرهبانى كان الأنبا شنودة يعتبر أن نظام الشركة فترة تمهيدية يدخل الراهب بعدها بسنوات قليلة إلى حياة الوحدة والإنفراد، وإزداد عدد المتوحدين جداً فى عهده حتى استحق لقب “رئيس المتوحدين”.

ظهور هذه الأشكال المختلفة من الرهبنة فتح الطريق أمام الكثيرين من المؤمنين للتمتع بالحياة الملائكية، إذ كان كل واحد يختار النظام الذى يناسب شخصيته وإمكانياته.. ويليق بنا أن نلاحظ أن مؤسسى هذا الأنظمة لم يتعصّبوا لأنظمتهم بل مدحوا كل منهم النظامين الآخرين، فأنطونيوس فى حديثه مع الأخ زكاوس (أحد تلاميذ باخوميوس) مدح نظام الشركة قائلاً أنه موحى به من الله وأنه مسرور به جداً كما قال له “أنتم جميعكم صرتم كالأب باخوميوس، أقول لكم إنها لخدمة عظيمة قام بها أن يجمع إخوة كثيرين هكذا سالكاً طريق الرسل”، وأيضاً باخوميوس والمعاصر لأنطونيوس (وهو أصغر منه) فتح أديرته للمتوحدين الذين عاشوا فى برارى تلك المنطقة وكان له أحاديث كثيرة معهم بخصوص الحياة الروحية كما مدح الأب أنطونيوس بكونه المثل الكامل لحياة الوحدة قائلاً “فى جيلنا رأيت فى مصر ثلاثة رؤوس نالوا نعمة من الله لنفع كل الفاهمين: الأسقف أثناسيوس (يقصد البطريرك) البطل المجاهد من أجل الإيمان بالمسيح حتى الموت، وأبا أنطونيوس القديس المثل الكامل لحياة الوحدة، وهذه الجماعة التى هى شكل لكل الراغبين فى أن تجتمع النفوس معاً فى الله للإهتمام بها حتى يصيروا كاملين”، أيضاً كان مؤسسو نظام الجماعات على إتصال وثيق بالأب أنطونيوس يشجّعون بعض تلاميذهم للحياة كمتوحّدين كما كانوا على إتصال بالأديرة الباخومية- فقد زار القديس مكاريوس الأسكندرى القديس باخوميوس وبقى فى ديره بطبانسين (دندرة) أربعين يوماً.

وذاع صيت كثيرين جداً من كبار آباء الرهبنة القبطية (ومن بينهم أجانب تنسّكوا بين رهبان الأقباط) فى تلك الحقبة، مثل مكاريوس الأسكندرى وإيسيذوروس قس القلالى ودانيال قس الإسقيط ومار إسحق وموسى الأسود وأرسانيوس ومكسيموس ودوماديوس وأنبا بموا وأنبا بيشوى ويوحنا القصير ويحنس (يوحنا) كاما ومار أفرام السريانى وتادرس الإسقيطى وتادرس تلميذ أنبا باخوميوس وويصا تلميذ أنبا شنودة وبولس (بولا) البسيط وصيصوى (شيشوى) وبفنوتيوس وبيصاريون وسرابيون الكبير وأغاثون وبيمن وببنودة وزينون وزكريا وأشعياء الإسقيطى ونيلس السينائى ويوحنا سابا (الشيخ الروحانى) ويوحنا السينائى (يوحنا كليماكوس أو الدَرَجى أو السُلََّمى مؤلف كتاب سلم الفضائل) ويوحنا كاسيان، ومن السواح أبا نوفر وكاراس وغاليون وبلامون وميصائيل، ومن الأمهات سارة وسفرنيكى وتاؤدورة وبائيسة وتائيس ومارينا وأبوليناريا وإيلارية وأناستاسية الشماسة وأناسيمون الملكة السائحة.

غارات البربر وخراب الأديرة :

أصيبت الحركة الرهبانية بالإنتكاس لما تعرّض له الرهبان من غزوات قبائل البربر بشكل ملحوظ منذ أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس الميلادى، وخاصة على منطقة الإسقيط (برية شيهيت، وادى هبيب) للحصول على مادة النطرون المستخرَجة من هذه المنطقة.. ولذا قل عدد الرهبان إذ نزحوا بعيداً عن الوادى فراراً من هؤلاء البربر الذين لم يكتفوا بذبح الرهبان بل أنهم هدموا قلاليهم.

ويبدو من وصف المقريزى فى القرن الخامس عشر الميلادى ووصف إبن مماتى للثروة المعدنية بهذا الوادى أن إغارات البربر فى القرون المسيحية الأولى لا بد أنها أثّرت تأثيراً كبيراً فى الحركة الرهبانية.

كانت الأديرة الباخومية فى مأمن من الغارات الخارجية بسبب الأسوار الضخمة التى أحاطت الأديرة، وبسبب موقع هذه الأديرة بعيداً عن طرق البرابرة. وهكذا ظلت جماعات نتريا والإسقيط عرضة لغارات البرابرة بسبب عدم وجود تلك الأسوار وعدم وجود حصون يلجأ إليه الرهبان للحماية.

أول غارة لهؤلاء البرابرة على رهبان شيهيت يمكن تحديدها عام 410م أى أواخر عهد البابا ثاؤفيلس 23 (385- 412م)، والظاهر أن أكثر الرهبان رحلوا عن هذه الصحراء عند ظهور البربر بها ولم يبق على الأرجح سوى القديس أرسانيوس الذى أقام مع قليل من الرهبان إختفوا فى سراديب أو آبار.. وإذ عاد بعض الرهبان ممن فرّوا بعد مذة وجيزة، فإن الغارة الثانية حدثت حوالى عام 430م، ويظهر أن أكثر الرهبان إنزعجوا بشدة حيث قتل البربر تسعة وأربعين شيخاً من الرهبان، وفرّ أرسانيوس نفسه ليقيم فى دير طرا إلى نهاية حياته.. وحدثت الغارة الثالثة فى عهد البابا ديوسقورس 25 (442- 452م) .. وغارة أخرى حوالى عام 525م فى أيام البابا دميان 35 – ومما يذكر عن هذا البطريرك أنه أعاد فى أول عهده بناء قلالى الرهبان التى أُطلق عليها منذ ذلك الوقت “الأديرة الأربعة”، غير أن البرابرة إنقضّوا عليها مرة أخرى وأحلّوا بها الخراب بدرجة أطالت تأثير هذا الحادث فى النفوس وأحزن هذا البطريرك كثيراً.

وهكذا توالت الغارات البربرية فى القرنين الخامس والسادس الميلاديين.. وفى هذا ما يشير إلى أن الحصون بشكلها الذى يشاهَد الآن فى الأديرة الحالية لم تكن قد أُنشِئَت حتى القرن السادس الميلادى.. ولو كان هناك حصون فى القرن الرابع لذكرها الرحّالون وقتذاك.. ولعل السبب فى تفكير جماعات الرهبان فيما بعد فى بناء الحصون هو ضعف الحكومة الرومانية وعدم مقدرتها على حماية الرهبان، مما حدا بهم إلى العمل على تأمين أنفسهم من هذه القبائل البربرية التى عُرِفَت بإسم قبائل المازاكى والمريوطيين (ويقال أن الذى بنى تلك الحصون بالأديرة هو الملك زينون (474- 491م) تكريماً لإبنته الراهبة إيلارية التى تنسّكت فى برية شيهيت -متخفّية فى زى الرجال بإسم الراهب إيلارى- وذاع صيتها بعد نياحتها فى العالم كله).

الرهبنة القبطية فى العصر البيزنطى بعد إنقسام الكنيسة المسيحية:

منذ نزاع الأريوسيين مع الأثناسيوسيين وما تبع هذا النزاع من إضطراب وتعكير صفو السلام الكنسى، فقد إعتقد الكثيرون من المسيحيين بقرب إنتهاء العالم- ما جعلهم يهرعون آلافاً إلى الصحارى، تاركين وراءهم أولئك الذين لم يحفلوا بالإختلافات المذهبية كما أولئك الذين قرروا المواجهة فى الدفاع عن عقائدهم.

ومع أن الرهبانية حملت فى طيّاتها معنى إنكار الذات، فهى كذلك صرخة خافية من أجل بناء متجدد قوى للعقيدة الأرثوذكسية.. وبرغم أنها بدأت بعيداً عن الكنيسة نفسها وأساقفتها ووظائفها الكنسية، إلا أن الكثير من آباء الرهبانية والديرية ما لبثوا أن خرجوا من وحدتهم وإشتركوا مع أساقفة الكنيسة الأرثوذكسية فى جهادهم ضد الهراطقة وقتذاك.

إلا أن الرهبنة القبطية والكنيسة القبطية بوجه عام قد تأثّرت سلباً أيضاً بإلإنقسام المذهبى الذى تعرضت له كنيسة المسيح بين أصحاب الطبيعة الواحدة Monophysite “الأرثوذكس” (وأمهم الروحية كنيسة الأسكندرية)، وأصحاب الطبيعتين Diophysite (وأمهم الروحية كنيسة رومية- والذين أطلقوا على أنفسهم فيما بعد “كاثوليك”) – خاصة بعد مجمع خلقيدونية المسكونى عام 451م وقراراته المجحِفة للأرثوذكس وإتّباع الحكومة البيزنطية لمذهب كنيسة رومية (ما جعل الأرثوذكس يطلقون على أتباع هذا المذهب “ملكانيين”) .. حيث تسللت أفكار البدع داخل الأوساط الكنسية والرهبانية وأحدثت بعض الإنقسامات الداخلية أيضاً.. ولم يكن هذا الإنقسام أمراً محزناً من وجهة النظر الكنسية فحسب، بل شكّل أيضاً خطراً سياسياً من نحو إلتجاء الدولة البيزنطية إلى القوة القمعية للقضاء عليه.

والمتتبع لتاريخ الكنيسة الأرثوذكسية فى مصر فى هذه الفترة بالذات يلمس أنها كانت الداعى الأول للمحافظة على وحدة الكنيسة- لا سيما منذ مجمع نيقية عام 325م وكيف كان العالم المسيحى يقدِّر بطاركة الأسكندرية لعلمهم ونبوغهم، غير أنها أخذت طابعها القومى المتميّز بعد مجمع خلقيدونية عام 451م وصارت تُعرَف بأنها “الكنيسة القبطية”.. وكانت سيادة البطاركة وزعامة بعض رهبان الكنيسة القبطية على الشعب (مثل الأنبا شنودة الأخميمى رئيس المتوحدين والذى إصطحبه البابا كيرلس عامود الدين معه لحضور مجمع أفسس المسكونى الثالث عام 431م، والأنبا صموئيل القلمونى المعترف) تعلو سيادة الأباطرة- مما أثار مخاوفهم من إستقلال مصر عن الإمبراطورية الرومانية خاصة وأن الشعب كان متحمّساً للتخلّص من نير الإحتلال البيزنطى.

إستفحل الخلاف بين المصريين الأرثوذكس والروم الملكانيين وانتشب القتال مراراً بينهم فأريقت دماء كثيرين، خاصة فى عهد الملكة بوليكاريا (450- 457م) حيث أُقيم بروتوريوس بطريركاً من قِبَل الحكومة فلم يقبله الأقباط الأرثوذكس فحمل عليهم مندوب الملكة بفرقة من الجند كانت معه حال اجتماعهم ليلة عيد القيامة للصلاة ففرّق شملهم وقتل كثيرين منهم واستولى على أمتعة الكنائس وأموالها وسلّمها للبطريرك الدخيل، وفى عهد القيصر ليو (457- 474م) الذى شدد الإضطهاد على الأقباط ونفى بطريركهم وسفك دماء 30 ألف من مسيحى الأسكندرية بدعوى أنهم خالفوا رأيه.

وكان نتيجة لإضطهاد الإمبراطور جستنيان (يوستينيانوس) (527- 565م) لأقباط مصر هروب الكثيرين منهم إلى برية شيهيت بوادى النطرون، وحين زاد إضطهاد الإمبراطور وتعيينه بطاركة من الملكانيين بدأ البطاركة المصريين فى الهروب إلى دير القديس مكاريوس (أبو مقار)، وبلغ الإضطهاد أشدّه حين ذبح عدد كبير من الأقباط الذين رفضوا الإنصياع لمذهب الإمبراطور- وقدّر المقريزى عددهم بألفى نسمة.

على أن برية شيهيت تعرّضت بعد هذا كله إلى غارة أخرى من غارات البربر (يمكن تحديد تاريخها بين عامى 570، 571م)، تركتها خراباً بعد أن ذبح البربر عدداً من شيوخها ونهبوا أمتعتهم وأسروا بعضهم وباعوهم فى أسواق النخاسة.. وإذ تركت غارة البرابرة برية شيهيت خراباً لفترة إمتدت نحو نصف قرن، فإن هذه الفترة يحيطها الغموض إلا أنه من المحتمل أن عدداً قليلاً من رهبانها عاد إليها بعد هذه الفترة ولكنه لم يتمكن من إعادة الحياة الرهبانية فيها كما كانت.

على أن الحياة الرهبانية التوحدية إلى جانب الحياة الديرية إستمرت منتشرة فى القطر المصرى بوجه عام، واستمر إتجاه الرهبنة إلى العمل فى إطار الكنيسة بشكل واضح- كما ذكرت المراجع.

صار البطاركة يتنقلون من دير إلى دير طلباً للنجاة وتشجيعاً للمؤمنين والثابتين على الإيمان الأرثوذكسى، حتى إستقر المقام ببطريرك الأسكندرية فى دير أبى مقار الذى إجتمع به عدداً كبير من هؤلاء الهاربين.. وقد إحتل دير أبى مقار أهمية كبيرة فيما بعد حتى أن المقريزى ذكر أن البطريرك لم يكن يُعتَرَف ببطريركيته ما لم ينصَّب فى كنيسة أبى مقار، وصار هذا تقليداً ظل البطاركة يتّبعونه فترة طويلة فيذهبون إلى هناك حتى بعد رسامتهم وهكذا صار دير أبو مقار المركز الرئيسى للكرازة المرقسية، وأول من إنتقل إلى هناك هو البابا دميان 35 (570- 603م)، وأول من خاطر منهم بالدخول إلى مقر كرسيه بالأسكندرية (بعد أن منع جستنيان دخول البطاركة الأرثوذكس إليها) هو البابا أنسطاسيوس 36 (603- 614م) عام 605م فقد كان قوى القلب يمضى إلى المدينة ويدخلها فى كل وقت ويرسم الكهنة ويرمم الكنائس.

وفى عام 627م جلا الفرس عن مصر التى عادت إلى حظيرة الدولة البيزنطية.. وآنذاك إقتنع الإمبراطور البيزنطى هركوليس Heraclius (هرقل) (610- 641م) أن إعادة تماسك الأقاليم التى مزّقها الفرس من إمبراطوريته يمكن أن يتم بتسوية الخلافات المذهبية، وحتى يضمن لتسويته بين الملكانيين والأرثوذكس النجاح سعى لتعيين كيروس Cyrus (قيرس – المقوقس كما دعاه العرب) البطريرك الملكانى على الأسكندرية والوالى الرومانى على مصر عام 628م ..وفى هذا الوقت كان البطريرك الأرثوذكسى على الأسكندرية هو البابا بنيامين الأول 38 (620- 659م) – وبحسب تاريخ البطاركة أُوحى إليه أن يهرب حتى لا يقع تحت ضغط قيرس ولذلك فبعد أن حذّر شعبه ورعاتهم من التهاون فى الإيمان الأرثوذكسى ترك الأسكندرية عام 631م سيراً على الأقدام حتى وصل إلى وادى هبيب حيث كان عدد الرهبان قليلاً فشجّعهم ثم إتّجه نحو أحد أديرة الصعيد حيث إختفى مدة عشر سنوات (بالإضافة إلى ثلاث سنوات أخرى قضاها على الأرجح فى دير أبو مقار بوادى هبيب قبل أن يدخل العرب المسلمون الأسكندرية)، وكان موقف البابا بنيامين مسالماً خشية حدوث الإضطرابات التى قد لا يُحمَد عقباها نتيجة هذه التسوية التى لن يقبلها شعب الأسكندرية بالمرة.. وهذا ما أعلنه الشعب القبطى بزعامة الرهبان الأقباط أن البطريرك قيرس الذى عيّنه الإمبراطور هرقل هو عدو المسيح وأنه صنيعة القسطنطينية والإمبراطور البيزنطى وأنه يحاول فرض سيطرة الإمبراطورية على البلاد عن طريق فرض الآراء والمذاهب المستوردة ، فقد مزّق الأنبا صموئيل المعترف (الذى كان قساً ورئيساً لدير أبى مقار) وثيقة قيرس للتسوية والتى أرسلها عام 631م إلى رهبان أديرة وادى النطرون مع وفد إمبراطورى مؤيّد بعدد كبير من الجند (ومؤدى هذه الوثيقة طلب الرهبان الإعتراف بقرارات مجمع خلقيدونية وكذلك قرارات البابا ليو الأول “لاون” بابا رومية (440- 461م) وأعلن حرم كل من نادى بها- مما كان سبباً فى وقوعه هو ورهبانه تحت عقاب الإمبراطور ففقد إحدى عينيه وإضطر أن يهرب هو ومن معه جنوباً بين حى وميت حتى وصل إلى صحراء الفيوم وأقام بها ديراً لازال يحمل إسمه للآن، كما فرّ بعض الرهبان إلى دير نهيا (بإمبابة محافظة الجيزة حالياً).. على أن هذا كله لم يمنع رضوخ بعض الرهبان الذين آثروا السلامة الجسدية وقبولهم للوثيقة، وهؤلاء عاشوا باقى حياتهم فى أديرة وادى النطرون.

الرهبنة القبطية تضمحل فى العصر العربى وتحت حكم دولة الخلافة الإسلامية:

دخل جيش العرب بقيادة عمرو بن العاص حدود أرض مصر من العريش عام 639م ومنها إلى بلبيس فالوجه البحرى والقبلى، وأعملوا الذبح فى المصريين (حتى قيل أنهم فتكوا بأهل مدينة نقيوس فتكاً ذريعاً ولم يبق أحداً ممن كانوا فى الشوارع أو الكنائس) وفرضوا الضرائب الثقيلة (ثلاثة أضعاف) على سكان المدن التى إحتلّوها بدون مقاومة تذكر وأحرقوا المدن التى قاومتهم وحملوا لواء الظفر فى قتال جيش الروم حتى سقطت البلاد تماماً بتسليم المقوقس الأسكندرية عام 641م.

لما رأى المقوقس إشتداد بأس العرب تفاوض معهم، فكتب إليه عمرو يقول “ليس لك ولقومك سبيل للنجاة إلا إذا إخترت واحداً من هذه الشروط إما الجزية أو الإسلام أو إستمرار القتال”، فجمع المقوقس رجال حكومته وتفاوض مع رسل عمرو واتّفق رأيهم على إيثار الجزية ورضوا بها على أنها صُلح يكون بينهم، فاجتمع المقوقس وعمرو وتقرر الصلح بينهما بوثيقة مفادها أن يعطى الأمان للأقباط ومن أراد البقاء بمصر من الروم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم فى نظير أن يدفع كل قبطى دينارين عدا الشيخ والولد البلغ من العمر 13 سنة والمرأة، وأحصى من دفع الجزية فى تلك السنة من القبط ستة ملايين.. وكان عدد الأقباط قد نقص بعد إضطهاد ديوكلتيانوس، ولكنه أخذ يتزايد بعد إنتشار المسيحية حتى بلغ إبان دخول العرب مصر أربعة وعشرين مليوناً تقريباً.

ذكر المقريزى أنه بعد إستتباب السلطان للعرب فى مصر وبينما كان القائد العربى يشتغل فى تدبير مصالحة بالأسكندرية، سمع رهبان برية شيهت أن أمّة جديدة ملكت البلاد فسار منهم إلى عمرو نحو سبعون ألفاً وفى يد كل منهم عكّازه واتجّهوا نحو طرانة واستقبلوا عمرو وهو فى طريق عودته من الأسكندرية إلى حيث بنى الفسطاط (والذى بناه بمساعدة الأقباط وجعله عاصمة الديار المصرية ومركز الإمارة)- ومع أن هذا العد ربما يكون مبالغاً فيه إلا أنه يدل على وجود نشاط رهبانى كبير فى هذه المنطقة، فخاف عمرو أن يكون هذا الجيش قوة مقاومة ولكنهم تقدّموا إليه وطلبوا منه أن يمنحهم حريته الدينية ويأمر برجوع بطريركهم من عزلته الإضطرارية، فأجاب عمرو طلبهم وأظهر ميله للأقباط فازداد هؤلاء ثقة به ومالو إليه خصوصاً لما رأوه يفتح لهم الصدور ويبيح لهم إقامة الكنائس فى وسط الفسطاط،كما عزل البطريرك الملكانى وأصدر إعلانه أو أمانه المشهور يدعو فيه البابا بنيامين ليعود من مخبئه ويدير شئون الكنيسة بالأسكندرية.. فعاد البابا بنيامين من دير أبى مقار عام 644م إلى كرسيه بالأسكندرية (على أن عودته لم تقلل من شأن هذا الدير بل ظل إنتقال الباباوات إليه مرعياً فترة طويلة حتى كان يمر البطريرك المنتَخَب بحفلة تجليس ثانية به، وتعوّد الكثير من البطاركة قضاء فترة الصوم الكبير وحضور صلاة عيد الفصح فيه، وكانوا يحرصون على طبخ الميرون فى هذا الدير لمدة طويلة) وبدأ عمله بلمّ شعث الكنيسة التى فرّقتها الإضطهادات السابقة ولم ينسَ أن يمد يد البناء لأديرة وادى هبيب وسليا، وذكر المقريزى أن البطريرك أعاد بناء دير الأنبا بيشوى ودير العذراء بوادى هبيب.. ولا شك أن هذا أدى إلى إنعاش الحياة الرهبانية- حيث أيّدت المراجع هذه الزيادة فى عدد الرهبان وكذلك زيادة عدد القلالى وقتذاك.

وكتب المقريزى فى الخطط عن فتح مصر يقول أن عمراً أعلن لأهل مصر أن من كتمنى كنزاً عنده فقدرت عليه قتلته، واحتمل المصريون جشع عمرو بسبب موقفه من البطرك بنيامين الذى كان له النفوذ الأكبر على قلوب المصريين.. ومع ذلك فإن عمرو بن العاص هو أفضل من حكم مصر وأكثرهم رفقاً بالمصريين بالمقارنة بغيره ذلك أن ولاة مصر التاليين لم يتحلّوا بنفس الذكاء السياسى الذى تحلّى به عمرو الذى أعطى الكنيسة بعض المميزات بعد أن أدرك طبيعة العلاقة بين الكنيسة والشعب من جهة وبينها وبين السلطة الحاكمة من الجهة الأخرى، والثابت أنه لم يكن مسرفاً فى سفك الدماء كما فعل غيره من الولاة، كما أنه كان حسن السياسة فى جباية الخراج والجزية وكان يجمع الجزية 12 مليون دينار، فأصبح الوالى بعده عبد الله بن أبى سرح يجمعها 14 مليون دينار.

وتبدل الحال بعد تحكم الأمويين من أولاد مروان بن الحكم، ووصل الإضطهاد إلى البطاركة والرهبان أنفسهم.. ففى ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر صودر البطرك مرتين، كما أمر عبد العزيز بإحصاء الرهبان وأخذ منهم الجزية- وهى أول جزية أُخذت من الرهبان..

وتولى مصر عبد الله إبن الخليفة عبد الملك بن مروان، فإشتد على النصارى.. وإقتدى به الوالى التالى قرّة بن شريك فأنزل بالنصارى شدائد لم يُبتَلوا بمثلها من قبل على حد قول المقريزى.. وأقام الأمويون مذبحة للأقباط سنة 107 هجرية حين ثاروا فى شرق الدلتا بسبب جشع الوالى عبد الله بن الحبحاب.. وفى خلافة يزيد بن عبد الملك تطرّف الوالى أسامة بن زيد التنوخى فى إضطهاد الأقباط فصادر أموالهم ووسم أيدى الرهبان بحلقة من حديد، وكل من وجده منهم بغير وسم قطع يده، وفرض غرامات على الأقباط، وصادر الأموال من الأديرة، ومن وجده من الرهبان فى تلك الأديرة بلا وسم ضرب عنقه أو عذبه، وهدم الكنائس وكسر الصلبان.. وفى خلافة هشام بن عبد الملك تشدد الوالى حنطلة بن صفوان فى زيادة الخراج، وأحصى الأقباط وجعل على كل نصرانى وشماً فيه صورة أسد، ومن وجده بلا وشم على يده قطعها.. وأدى تطرف الولاة الأمويين فى جمع الأموال من المصريين (وهم أقدر شعوب الدنيا على الإحتمال والصبر ولكن العسف الأموى كان فوق طاقة المصريين أنفسهم) إلى اضطرار المصريين للقيام بثورات متعاقبة، فأخمد الأمويون ثوراتهم بالحديد والنار وتطرّفوا فى إضطهادهم والعسف بهم.

يسترسل ساويرس بن المقفّع فى ذكر المصائب التى حلّت بالأقباط على أيدى هؤلاء الولاة بما يفوق تعذيب الرومان للرهبان فى فترة الشدة العظمى، وفرضهم الضرائب على رهبان ورجال الكنيسة مما لم يكن مسبوقاً أبداً فى العهود السابقة.. ويروى أنه بمجرد إعلان حفص بن الوليد (127- 128 هجرية) إعفاء كل من يسلم من الجزية، بادر حوالى أربعة وعشرين ألفاً من الأقباط واعتنقوا الإسلام تخلّصاً من قيود الجزية وشتى أنواع الضرائب والإضطهادات الأخرى.. وبمرور الأيام وتوطيد دعائم الحكم العربى كانت الحلقة تضيق حول وضع الأقباط المصريين.. ولم يعد التقسيم الأول بين كونهم أهل ذمّة يدفعون الجزية والخراج ويعيشون فى أماكنهم بعيداً عن العرب حامياً لهم، بل تعرّضوا لضيق حلقة العزلة من حولهم رويداً رويداً، وأخذت عوامل الضعف تعمل فى الكنيسة والرهبنة القبطية.. ودفع هذا الحصار الكنائس والرهبان إلى المزيد من الجمود والإنغلاق والدخول فى ظلامية القرون الوسطى.

فعمرو بن العاص كان رائداً للدولة الأموية فى شراهتها فى جمع الجزية من الأقباط وغيرهم، وحتى من أسلم من الأقباط كانوا لا يعفونه من دفع الجزية، والإستثناء الوحيد من خلفاء بنى أميّة كان الخليفة عمر بن عبد العزيز فى حكمه القصير- فقد رفع الجزية عمن أسلم.. وظلت الجزية نقطة سوداء فى تاريخ الولاة الأمويين والعباسيين يدفعها من بقى على دينه من المصريين إلى نهاية العصر المملوكى.. وجاء العثمانيون ففرضوا الجزية على المصريين جميعاً مسلمين ومسيحيين، وظلت الخزانة المصرية تدفعها لتركيا بصورة عادية حتى تنبّه لها عبد الناصر وألغاها.

توالت على مصر دولة الخلافة العباسية والدول المستقلة فى إطار الخلافة العباسية كالطولونية والأخشيدية، ثم الدولة الفاطمية وبعدها الدولة الأيوبية التى إنتهت بسيطرة المماليك.. ومنذ بداية الخلافة العباسية فى خلافة المتوكل على الله العباسى واصل الأقباط ثوراتهم على ظلم الولاة العباسيين، وكان الإضطهاد فى أغلبه رسمياً من السلطة الحاكمة التى تريد إعتصار الضرائب بالقسوة والعنف فلا يجد الأقباط طريقة إلا الثورة التى تنتهى بالهزيمة والمذابح وهدم الكنائس ومزيد من التضييق عليهم.. وكانت ثورة 216 هجرية هى آخر ثورات الأقباط الحربية وبعدها إتبعوا طريق المقاومة السرية، وننقل معاناة الأقباط عن المقريزى (وهو الذى لا يخفى تعصّبه ضد النصارى) فيقول فى التعليق على ثورة 216 هجرية وآثارها “ومن حينئذ ذُلّت القبط فى جميع أرض مصر ولم يقدر أحد منهم على الخروج على السلطان، وغلبهم المسلمون على عامة القرى، فرجعوا من المحاربة إلى المكيدة واستعمال المكر والحيلة ومكايدة المسلمين”.

وشهد عصر الخليفة المتوكل ظاهرة جديدة هى إنتصار الفكر الحنبلى المتشدد وهزيمة الفكر المعتزلى العقلانى، وقد إستمال السلفيون من أصحاب إبن حنبل ورواة الأحاديث الخليفة المتوكل إليهم، وبتأثيرهم دخلت الدولة العباسية فى إضطهاد مخالفيها فى المذهب والدين، فحوكم شيوخ التصوّف وطورد الشيعة وهُدم ضريح الحسين فى كربلاء وصدرت قرارات لإضطهاد اليهود والنصارى، وإنتشرت الروايات والفتاوى التى تضع الإطار التشريعى لتلك الممارسات- ومنها الحديث المشهور “من رأى منكم منكراً فليغيره بيده” والذى يعتبر الدستور العملى للتطرف حتى الآن.. وهذا الفكركان له أبلغ الأثر فى إنتقال الإضطهاد للأقباط من دائرة الحكم والسياسة إلى الشارع والعوام، وساعدت الروايات والفتاوى وجهود الفقهاء والقصاصين وأهل الحديث فى شحن الأفراد العاديين بالكراهية ضد مخالفيهم فى المذهب سواء كانوا صوفية أو شيعة أو كانوا مخالفين لهم فى الدين أى من اليهود أو من النصارى، وبالتالى تحول الإضطهاد الرسمى العنصرى للأقباط إلى إضطهاد دينى يشارك فيه المصرى المسلم ضد أخيه المصرى القبطى.

وقامت الدولة الفاطمية بخلافة شيعية فى مصر تناوئ الخلافة السنّية فى بغداد، وفى البداية كان الفاطميون متسامحين مع الأقباط واليهود خصوصاً الخليفة المعزّ لدين الله وإبنه الخليفة العزيز بالله.. إلا أن الخليفة الحاكم إبن الخليفة العزيز بالله الفاطمى كان مشكلة مزمنة لكل المصريين وخصوصاً الأقباط بسبب قراراته الغريبة المتناقضة وجرأته على سفك الدماء، ففى عام 393 هجرية أمر الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمى بإعتقال البطريرك زخارياس لمدة ثلاثة شهور، وإنتقل الإضطهاد من القاهرة إلى الأقاليم فكتب الخليفة الحاكم إلى ولاته بتمكين المسلمين من هدم الكنائس والأديرة فعم الهدم فيها منذ عام 403 هجرية واستمر الهدم حتى وصل طبقاً لإحصاء المقريزى سنة 405 هجرية إلى أكثر من ثلاثين ألف منشأة دينية بين بيعة لليهود ودير وكنيسة للنصارى فى مصر والشام وتم نهب كل مقتنياتها وأوقافها، ثم إشتدت الحالة العصبية بالخليفة فأصدر قراراً بنفى الأقباط وإخراجهم من مصر إلى بلاد الروم ومعهم اليهود فإجتمع أعيانهم تحت قصر الخليفة يبكون ويصرخون حتى رحمهم الخليفة ورجع عن قرار النفى.. وإضطر كثيرون للدخول فى الإسلام.. وكانت تلك أفظع تجربة للإضطهاد الطائفى فى تاريخ مصر الوسيط.

وعلى عكس المتوقّع لم ينعكس إنتصار الصوفية – المشهورين بتسامحهم- على الفقهاء المتزمّتين من تيار إبن تيمية إثر الصراع السياسى بين الحنابلة والصوفية فى العصر المملوكى- لم ينعكس تسامحاً سائداً على صعيد العلاقة بالأقباط، بل ظل إضطهاد الفقهاء والصوفية للأقباط موجوداً فى فترات مختلفة، لأن بعض الصوفية إتّفق مع الفقهاء الحنابلة فى إعتبار السنن المكتوبة فى العصر العباسى الثانى تراثاً دينياً يجب التمسّك به (أى يتصارعون فيما بينهم ولكن يجتمعون على كراهية الأقباط).

وحدثت هذه الواقعة الإرهابية والغامضة بالتاريخ المصرى وهى واقعة الإحراق العام للكنائس المصرية فى وقت واحد سنة 721 هجرية، إذ أنه بعد صلاة الجمعة يوم التاسع من شهر ربيع الأول سنة 721 هجرية فوجئ المصلون فى كل المدن المصرية التى بها كنائس بمجذوب مجهول الشخصية يقف صائحاً مضطرباً داعياً لحرق الكنائس، وحين يخرج المسلمون من المسجد يفاجأون بتدمير الكنائس فى المدينة وحرقها وقد سويت بالأرض، وفى ضوء الإعتقاد فى بركات المجاذيب الذى تسيّد العصر المملوكى يؤمن الناس بأنها إرادة إلهية وانكشفت أمام بصيرة ذلك المجذوب “المكشوف عنه الحجاب”، وسرعان ما يدبّ الحماس إلى العوام ويشاركون فى الإجهاز على ما تبقى من بنيان للكنيسة، ووصل إلى علم السلطان الناصر محمد بن قلاوون ما حدث حيث جاءته الأنباء بأن الكنائس قد دمرت فى نفس الوقت وبنفس الكيفية من ضواحى الأسكندرية والوجه البحرى والقاهرة والصعيد وأن كل الكنائس- عدا الكنيسة المعلقة- قد أصابها الهدم والحريق فى نفس الوقت، وبلغ عدد الكنائس المنهدمة ستين كنيسة !! وبعض الأقباط كان يعلن إسلامه لينجو من دائرة الاضطهاد ويدعم مركزه الوظيفى فى الدولة المملوكية التى قامت إدارتها على الظلم والعسف.

وفى عام 1517م كان الغزو العثمانى والخلافة العثمانية التى سيطرت على مصر فعلياً أوإسمياً حتى سقوطها، وقد كان إضطهاد الأقباط فى هذه الفترة سمة بارزة، وإعتنق الإسلام فى هذا العصر كثيرون من الصنّاع الأقباط.

ومن هنا ندرك كيف وُجِّهَت إلى الرهبنة القبطية ضربات مؤثرة بعد القرن السابع الميلادى حتى بدأ الرهبان والمتوحدون يهجرون الأديرة، فضلاً عن خراب الأديرة وهدمها.. وتلاحقت غارات البربر على أديرة وادى النطرون نذكر منها غارتين عام 807م وعام 817م.. وشهدت الأديرة منذ عصر المماليك (1251- 1517م) الخراب والهدم، وفى عصر العثمانيين (1517 وحتى عام 1849م) هُجِرَت معظم الأديرة.. وقدّم أبو صالح الأرمنى وصفاً مفيداً للأديرة فى مصر فى القرن الثالث عشر، كما فعل ذلك المقريزى فى وقت لاحق.

ويوجد من النسّاك الأقباط من ذاع صيتهم فى تلك الحقبة بالإضافة إلى آباء الكنيسة، مثل القديس سمعان الدبّاغ أو الخرّاز (القرن العاشر الميلادى)، والأم أفروسينا رئيسة دير مارجرجس بحارة زويلة (القرن 13)، والقديس برسوم العريان (القرن 13 وأوائل 14)، والقديس فريج (رويس) (القرن 14).

عودة إزدهار الرهبنة القبطية فى العصر الحديث، وعودة الإضطهاد:

إنتهت الحرب العالمية الأولى (1914- 1918م) بهزيمة ألمانيا وحليفاتها ومن بينهم تركيا العثمانية، فسقطت دولة الخلافة الإسلامية بسقوط الدولة العثمانية (التى كانت فى حال ضعف وانحلال داخلى) فتشتتت فى أكثر من أربعين دولة إنقضت عليها دول الاستعمار كإرث فتقاسمها الإنجليز والفرنسيون والإيطاليون والهولنديون والبرتغاليون والأسبان- حيث قُسِّمت في إتفاقية «سايكس بيكو» عام 1916م ثم إتفاقية «سان ريمو» عام 1920، وفى عام 1924م أعلن مصطفى كمال أتاتورك زعيم جمعية الإتحاد والترقي سقوط الدولة العثمانية وقيام دولة تركيا العلمانية.

إستقل محمد على باشا (مؤسس الأسرة العلوية) بحكم مصر- تحت الخلافة العثمانية عام 1805م ، وبداية حكمه كانت مرحلة حرجة من تاريخ مصر خلال القرن التاسع عشر حيث نقلها من عصور التردى إلى أن أصبحت دولة قوية يُعتَد بها.. ويعتبر محمد على هو مؤسس مصر الحديثة بسبب أفقه الواسع وسياساته الإنفتاحية المعتمدة على العلم الحديث، وفى عهده تمتع الأقباط بسياسة التسامح الدينى وسادت المساواة بين جميع المصريين منذ توليه حكم مصر.. وألغى الخديوى سعيد باشا الجزية المفروضة على الأقباط عام 1855م.. وعاشت مصر الفترة الليبرالية من سنة 1919حتى سنة 1952م.

شهدت مصر نهضة قبطية كنسية وقومية على يد البابا كيرلس الرابع (أبو الإصلاح) 110 ( 1854- 1861م)، إذ يُعزَى له الفضل الكبير فى إنشاء المدارس القبطية (للحفاظ على وحدة العقل المصرى)، كما أقام دار الطباعة القبطية (لطباعة الكتب التعليمية فضلاً عن الكتب الكنسية)، كما أقام أول مدرسة لتعليم البنات فى مصر (إيماناً منه بأهمية تعليم المرأة)، وحارب عادة الزواج المبكر للبنات، ودعا إلى مساواة المرأة والرجل فى الميراث.. ورغم أن فترة باباويته قليلة نسبياً إلا أنه صنع فيها الكثير بحق- فكما أدخل محمد على مصر العصر الحديث أدخل كيرلس الرابع الكنيسة القبطية هذا العصر.

ومن آباء الكنيسة والرهبنة الذين ذاع صيتهم فى القرن التاسع عشر وأوائل العشرين الأنبا أبرآم أسقف الفيوم والأنبا صرابامون أسقف المنوفية (أبو طرحة) والأب ميخائيل البحيرى المحرّقى.

وفى عهد قداسة البابا كيرلس السادس 116 (1959- 1971م) حدثت نهضة كنسية ورهبانية قوية.. فقد إهتم قداسته بترميم الكاتدرائية المرقسية (والتى كان قد مر على بنائها مائة عام)، وفى 25 يونيو 1968م إستقبل جسد مار مرقس كاروز الديار المصرية بعد غيبتة عن أرض مصر زهاء إحدي عشر قرناً من الزمان وأودعه في مزار خاص بني خصيصاً له بالكاتدرائية المرقسية، وإفتتحها في إحتفال عظيم حضره رئيس جمهورية مصر جمال عبد الناصر وإمبراطور أثيوبيا هيلاسلاسى الأول ووفود من كنائس العالم كله وجموع كثيرة من الشعب.. كما إهتم بإعادة تنظيم الحياة الرهبانية – لإرتباطها الكبير بالحياة الكنسية، وفى ذلك الوقت كان الرهبان قلة قليلة وأغلبهم كبار فى السن، وفى خلال بضعة عقود توسّعت الأديرة الرئيسية للرهبان والراهبات وتم تحديثها وأعيد تسكينها بكثير من الرهبان والراهبات صغار السن معظمهم من خريجى الجامعات (حيث كان أبونا مينا المتوحد البراموسى والذى صار فيما بعد البابا كيرلس هو الأب الروحى لكثير من طلبة الجامعات أثناء إقامته فى طاحونة هواء مهجورة بالمقطم، وقد إجتذب بعضاً منهم للدخول فى الحياة الرهبانية).

وفى عهد قداسة البابا شنودة الثالث 117 البطريرك الحالى أدام الله حياته حدثت نهضة كبيرة فى مجال العمل الكنسى والرهبانى والكرازى والوطنى.. وقد إهتم قداسته بتطوير أديرة الرهبان والراهبات وإعادة إحياء الأديرة المهجورة، وما زال هناك أديرة أخرى حديثة فى طور التكوين، وبدأ التوسع الرهبانى فى عهد قداسته يعود لطابعه الكرازى القديم حيث يتم بناء الأديرة القبطية خارج مصر أيضاً فى بلاد المهجر، وفى عهده تمت رهبنة أكثر عدد من الرهبان والراهبات بالنسبة للرؤساء، كما أن غالبية أعضاء المجمع المقدس الذى يمثل قيادة الكنيسة هم من الرهبان الجامعيين الذين كانوا قبل الرهبنة يعملون في حقل الخدمة وهذا له الأثر الكبير في العمل الرعوى روحياً وثقافياً و إجتماعياً في العصر الحالى.

بدأت نهضة رهبانية وعمرانية واضحة منذ بداية النصف الثانى من القرن العشرين من دير السيدة العذراء المعروف بالسريان بوادى النطرون وذلك بفضل تشجيع نيافة الأنبا ثاؤفيلس منذ رئاسته للدير عام 1948 وحتى نياحته عام 1989م، حيث رحّب بالعديد من طالبى الرهبنة من الشباب وترهّب بالدير مجموعة من المثقفين الذين بدأوا يعملون بكل طاقتهم على النهوض بالدير، ومنه خرجت المجموعة التى عمرت دير أبو مقار ودير الأنبا بولا ودير مارمينا ودير مارجرجس الرزيقات.. ومن بينهم الأب أنطونيوس السريانى الذى صار قداسة البابا شنودة الثالت.. وقضى بدير السريان أيضاً بضعة سنوات المتنيح الأب متى المسكين والذى أحدث نهضة رهبانية وعمرانية كبيرة فى دير أبو مقار كما أثرى المكتبة القبطية بالعديد من مؤلفاته وأبحاثه القيّمة.

في بداية الخمسينيات وفى أول رئاسة الأنبا ثاؤفيلس لدير السريان قام بهدم القلالى الملاصقة للسور القبلى وبنى مكانها مبنى قلالى للرهبان يتكون من أربعة طوابق ذات وجهه جميلة أمام كل قلاية- وكان أول مبنى حديث في الأديرة، ومنه أخذت فكرة إنشاء مبانى للرهبان حالياً في الأديرة الأخرى.. في عام 1951م تقريباً إشترى نيافته مطبعة للدير وكانت أول مطبعة بالنسبة لأديرة مصر وقام بتشغيلها رهبان الدير (وبعد أن أدت تلك المطبعة رسالة كبرى، بيعت في الستينيات)، وقد كان لهذه المطبوعات التى أصدرها دير السريان الأثر الكبير في روحانية الكثيرين بل وكانت عاملاً مشجعاً لسلوك البعض في طريق الرهبنة.. كما أنشأ بيت الخلوة خارج الدير في عام 1959م وكان أول بيت خلوة يقام في الأديرة وكان يستقبل أعداداً كبيرة من الشباب على فترات (وكان الراهب القس أنطونيوس السريانى هو الأب الروحى لهم)، وبذلك كان الدير يشعّ للشباب المسيحى رسالة روحية وسيظل يؤدى رسالة حية للكنيسة على مدى الأجيال.. وبدأت باقى الأديرة تقيم بيوت الخلوة للشباب (وأقام دير القديسة دميانة للراهبات ببرارى دمياط بيت خلوة للشابات)، وأقيمت قصور الضيافة بالأديرة لإستقبال أهالى الرهبان وكبارالزوّار، كما أقيمت إستراحات للزائرين.

وبالإضافة لما سبق لا بد أن نذكر أيضاً دور العديد من كبار آباء الرهبنة الذين ذاع صيتهم فى القرن العشرين فى إثراء الرهبنة القبطية، مثل الأب عبد المسيح صليب المسعودى البراموسى والأب يسطس الأنطونى والأب إندراوس الصموئيلى (الكفيف) والأب عبد المسيح المناهرى المقارى.. ومن الواجب ذكر ناسك من أثيوبيا هو الأب عبد المسيح الحبشى والذى توّحد فى مغارة بالقرب من دير البراموس منذ عام 1935م ولمدة تزيد عن أربعين عاماً، وكان مصدر إلهام كبير لكثير من رهبان الأقباط كنموذج للزهد الشديد والتوحّد فى العصور الحديثة.. وفى أديرة الراهبات لعبت بعض الأمهات دوراً كبيراً فى تجديد الحياة الرهبانية النسائية منذ نهاية الخمسينيات، ومنهم الأم إيرينى- دير أبو سيفين بمصر القديمة والأم يوأنا- دير مارجرجس بمصر القديمة.

حاول أبناء محمد على بعد وفاته عام 1849م تطوير وتحديث البلاد فأغرقوها فى الديون الأجنبية مما أدى إلى زيادة النفوذ البريطانى والفرنسى فى البلاد حتى قامت بريطانيا بإحتلال مصر عام 1882م، وقامت حركات إستقلالية وثورات شعبية لمناهضة الإحتلال البريطانى مثل ثورة سعد زغلول 1919م، و تم التوقيع على معاهدة 1936م لإستقلال مصر (ولكن إستمرت السيادة البريطانية على مصر) حتى ألغتها وزارة النحاس باشا عام 1950م وألغت تحالف مصر مع بريطانيا، وبدأ النضال يشتعل من جديد.. فقامت حركة الضباط الأحرار المسلّحة بالجيش المصرى فى يوليو 1952م وأطاحت بالملك فاروق وأسقطت الحكم العلوى، وأعلنت الجمهورية المصرية العربية عام 1953م، وتم جلاء الإنجليز عام 1954م.

وبسبب الطابع الدينى الذى أخذته حركة الظباط الأحرار (بالتحالف السرى مع جماعة الإخوان المسلمين الدينية السلفية الوهابية)، فقد أصبحت سمة العصر هى الإنتماء الدينى قبل الإنتماء للوطن، وتم أسلمة المجتمع وتهميش الأقباط.. وقامت أحداث العنف الطائفى بين الحين والآخر بداية من أحداث الخانكة 1972م والتى إنطلقت بعدها أحداثاً متفرقة هنا وهناك.. وتُعدّ محافظة المنيا بصعيد مصر هي أكثر المحافظات المصرية التي شهدت أزمات عنف طائفية خلال السنوات الأخيرة وسقط فيها عدد من القتلى.. وتأزم الموقف بعد أحداث الكشح الأولى 1999 والثانية 2000 والتي سقط فيها 21 قتيلاً من الأقباط والتي كانت حلقة فارقة في مسلسل العنف الديني.. وهناك أحداث الهجوم الإرهابى المسلح على دير المحرق 1994 حيث فوجئ زوار الدير بأفراد بينهم شخص ملثم يطلق أحدهم الأعيرة النارية من مدفع رشاش فسقط من الأقباط خمسة قتلى من بينهم راهبين وأصيب آخرين.. وأيضاً أحداث الأسكندرية الشهيرة 2005 حيث تجمهر ما يزيد عن خمسة آلاف مسلم بعد صلاة الجمعة حول كنيسة مارجرجس بمحرم بك وما نتج عنه من فوضى وأعمال شغب أدت إلى مقتل قبطى وطعن راهبة وإصابة كثيرين وتخريب لممتلكات الأقباط.. كما تظاهر الأقباط فى مختلف المحافظات المصرية إثر إندلاع أزمات طائفية كبرى كانت سبباً فيها الصحافة مثل أحداث جريدة النبأ والراهب المشلوح لدير المحرق 2001، وقضية وفاء قسطنين زوجة أحد الكهنة بمحافظة البحيرة التى أشيع خبر إسلامها 2004، وتظاهر الأقباط خارج مصر فى عدة بلاد أجنبية إثر اندلاع أزمة رهبان دير أبوفانا 2008.. ونذكر أحداث الزاوية الحمراء يونية 1881 والتى راح ضحيتها أكثرمن 81 قتيل قبطى تم حرق منازلهم مع كنيستهم، وكانت أزمة الكنيسة الكبرى مع الدولة فى أحداث سبتمبر 1981 حيث عزل الرئيس أنور السادات قداسة البابا شنودة الثالث وحدد إقامته بدير الأنبا بيشوي وسجن ثمانية أساقفة وأربعة وعشرين كاهناً.. كما نشير إلى الإعتداءات المنظمه المتتاليه على الأديرة القبطية بدءاً من دير الأنبا أنطونيوس الأثرى بالبحر الأحمر 2003 ، ومروراً بدير بطمس‏ 2004 و 2008، إلي دير أبو فانا الأثرى والذى وصلت الإعتداءات عليه إلى 18 إعتداء خلال السنوات الستة الأخيرة كان آخرها فى يناير 2008 والذى أسفر عن هدم ثمانية قلالى للرهبان وإطلاق الأعيرة النارية عليهم وإصابة بعضهم وخطف ثلاثة رهبان وتعذيبهم، وهناك قضية إستيلاء رجل أعمال علي مساحة 1800 فدان من الأرض الأثرية المحيطة بدير أبو مقار منذ عام 1999م.

وتعد مشكلة بناء الكنائس هي الأزمة الأكبر في تاريخ العنف الطائفي، وكانت هناك معوقات دائمة لبناء وترميم الكنائس، ولم يأتى قرار الرئيس حسني مبارك عام 1988م بمنح المحافظين سلطة القرارات ببناء الكنائس وترميمها والتي كانت خاضعة لقرارات رئاسية من قبل بحلول للأزمة، حيث يطالب الأقباط بإصدار قانون موحد لبناء دور العبادة للأقباط مثل المسلمين.

* عن موقع الأقباط المتحدون*

المراجع:

* دراسات فى تاريخ الرهبانية والديرية المصرية – د. حكيم أمين

* طقس سيامة الرهبان وحياة كبار قادة الرهبنة- الراهب القس زخارياس الأنطونى

* تاريخ الكنيسة القبطية- القس منسى يوحنا

* الإستشهاد فى المسيحية- الأنبا يوأنس أسقف الغربية

* الكنيسة القبطية الأرثوذكسية مدخل موجز إلى حياتها وروحانيتها- كرستين شاييو، ترجمة وإصدار مؤسسة دعم الحوار بين عائلتى الكنائس الأرثوذكسية باريس

* تجسُّد الكلمة -للقديس أثناسيوس الرسولى، نقله إلى العربية القس مرقس داود

* هوامش الفتح العربى لمصر- سناء المصرى

* إضطهاد الأقباط فى مصر بعد الفتح الإسلامى- د. أحمد صبحى منصور

* الموقع غير مسئول عن المادة المنشورة: المسئولية تقع على مصدر المادة المشار إليه ومؤلفها