ربي والهي … أين كنتَ … في النزوح؟

ربي والهي … أين كنتَ … في النزوح؟

المونسنيور بيوس قاشا

في البدء ‏  من المؤكد إننا نعيش في كوكب هش، وفي عالم يشوبه المرض والفيضانات والزلازل والحروب والإرهاب والدواعش وأخواتها، كما نحن في ‏بلد سادته أعمال العنف والقتل والفساد، ويهيمن فيه الحذر ويخيم عليه الحزن والسؤال حول المصير والمستقبل، ويستسلم فيه الناس ‏للهشاشة والضعف والمعاناة، وسواء كانت المعاناة مأساوية أم عادية فإنها تتربص بنا عن قرب… فما هذا الذي يحصل؟… وما هذه ‏المأساة؟… وإلى ماذا يهدف إليه الله في عالـم مجنون كهذا؟… ولماذا يسمح الله بذلك؟… أين الله الذي يُنسَب إليه الفضل بالأشياء الصالحة ولا يتلقى اللوم على الأمور السيئة؟.‏ أيوب والمزمّر ‏  وبعد النزوح وفي زيارتي إلى بلدة عنكاوة في السادس عشر من شهر آب (أغسطس) 2014، وأنا أتجول بين الذين كانوا يفترشون الحدائق ‏والأرصفة والشوارع بعد طردهم من قراهم ومدنهم، وفي كل ركن من أركان البلدة كنتُ أسمع أصواتٍ لسؤال يؤرق التاريخ ومسيرة الأيام ‏المتعَبَة: لماذا لا يتدخل الله؟… لماذا يسمح الله بالحرب؟… لماذا يسمح الله بالجوع؟… لماذا لم يُستأصل داعش والإرهاب قبل أن يغزو ‏قُرانا ومدننا؟… لماذا طُردنا منها؟… هل هذا هو جزاء أمانتنا ووفائنا لوطننا وإيماننا وانسانيتنا؟… ما الذي اقترفناه بحق الجيران وبحق ‏البشرية؟… أليس في قُرانا كنائس ومعابد؟… لماذا يسمح الله في النزوح، بل أين كان الله في النزوح؟… هل نحن اخترنا ذلك؟… هل ‏أصبحنا مثل أيوب الذي كانت له النظرة الصحيحة وسط بؤسه عندما كان يفكر في إمكانية الانقراض إذ قال:”إذا رجوت الهاوية بيتاً لي، ‏وفي الظلام مهدت فراشي وقلت للقبر أنت أبي وللدود أمّي وأختي، فأين إذاً آمالي؟ آمالي مَن يعانيها (أيوب 13:17-14). والمزمر ‏ينشد:”تعبت من صراخي، يبس حلقي، كلّت عيناي في انتظار إلهي”، وأيضاً “إنه وقت عمل للرب فقد نقضوا شريعتك ( مز3:69)؟… ‏وهنا يبدو أن الله يدرك تماماً أسباب احتجاجنا بالإضافة إلى حاجتنا لأن نستنبط غضباً ضد الألم.‏ شر وإرهاب ‏  صراعي مع الإيمان يدور حول السبب الذي جعل الله لا يتدخل، في حين كان في وسعه أن يُنهي كل أزمة ويُفشل كل مخطط. ‏فالله أب سماوي يحبنا حتى بذل الذات وأكيداً يرسل خيراته وبركاته لشعبه ولعبيده، وأما لماذا ينظر إلينا دون أن يرافقنا في المسيرة، ‏وخاصة في مسيرة النزوح والاضطهاد والطرد؟ هذا ما جعلني أقول وأسأل: أين الله عندما أتألم؟… ولماذا هذه الأمور السيئة تحدث؟… ‏لماذا يسمح الله للشر بأن يأخذ مجراه؟… وهل يمكن أن يكون شيئاً صالحاً في مثل هذه الأحداث؟… في هذه الحالة سيستمر صراعي ولن ‏يتوقف، ومن المؤكد فكري يصرخ أنه لا يوجد كتاب يستطيع أن يحلّ مشكلتي في الألم كما في النزوح إلا هو نفسه الذي أسأل عنه. وربما ‏السؤال يعود أن الله صالح ونحن أحرار، بمعنى ذلك نحن مسؤولون عن الضياع والمعاناة اللذين نسهم في صنعهما، فلماذا يسمح الله ‏بالشروالإرهاب؟… بل لماذا يسمح الله بجريمة داعش؟.‏ ويستمر السؤال  ‏  ويستمر السؤال: لماذا تحدث أمور سيئة للأشخاص الصالحين؟… لقد نظروا إلى العالم كأنه أرض للعدو، كوكب فاسد يحكمه ‏أبو الأكاذيب، ساحر المصيبة. وماذا ينبغي لنا أن نتوقع من كذب الشيطان؟. فعندما قدم رئيس هذا العالم حلاً مغرياً ومختصراً لمشكلات ‏الأرض، لم يسخر يسوع بافتراضه امتلاك السلطة لكنه اختار نقيض ما قدمه في صالح حل أبطأ وأكثر كلفة لكنه حلّ دائم.‏  يقول الكاتب فيليب يانسي في كتابه “السؤال الذي لا يغيب”: عندما يقول الإنسان الحقيقة يكون قريباً من الله، فإذا قلت لله “أنا ‏منهك ومكتئب بشكل لا يمكن أن تعبّر عنه الكلمات، وأنا لا أحبك بتاتاً الآن، وأبتعد عن معظم الأشخاص الذين يؤمنون بك”، فهذه تكون ‏أصدق العبارات التي نطقتُ بها يوماً. وإذا أخبرتني بأنك قلتَ لله “كل ذلك ميؤوس منه وليس لديّ أدنى دليل على أنك موجود لكني أحتاج ‏إلى مساعدة، فهذا يجلب الدموع إلى عيني، دموع الفخر بك للشجاعة التي احتجتَ إليها لتكون صادقاً، صادقاً حقاً. ‏ قوة وصمت ‏  إيماني يجعلني أن أصدق بما سيكون له معنى، فقط عند النظر إلى ما حدث في الماضي، وإيماني يعلّمني أنه عندما يصيبنا ‏الألم فإن الله يتيح لنا الفرصة لنزيد قوة في الصمت وننتبه إلى الرسائل المصيرية التي كنا بخلاف ذلك سنتجاهلها. فالله يهمس إلينا في ‏ضعفنا ويتحدث في ضميرنا، لكنه يصرخ في آلامنا. إنه يستخدم مكبّراً للصوت لإيقاظ عالم أصمّ في داخلنا وإشعار إحساسنا الإيماني ‏بحقيقة العماذ الذي اصطبغنا به والذي يجعلنا أن نفهم الحقيقة وهي أن الله يدخل العالم من خلالنا، ومع ذلك لا تزال أسئلة عدة تصرخ: ‏لماذا حصل ذلك يا الله؟… هل تريدنا أن نعاني ونموت؟ أم تقودنا إلى جواب بولس الرسول الذي قال:”مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، ‏أبو الرأفة وإله كل تعزية، الذي يعزينا في كل ضيقنا حتى نستطيع أن نعزي الذين هم في كل ضيقة بالتعزية التي نتعزى نحن بها من الله ‏‏(2كو 3:1-4)؟. من المؤكد أننا بشر، والبشر من التراب وإلى التراب سيعودون، هكذا يقول سفر التكوين. غير إن الحقيقة في الكيفية التي ‏تكون بها حياة بعضنا مع بعض في حضور المحبة غير المشروطة وغير المحدودة يخفف ألم القلوب المحطَّمة وقهر النزوح المخيف، ‏ويضمّد الجراح ويعزّي النفوس ويجدد الحياة في سيرتها وفي ذلك تكون الحقيقة أي أن الله يصبح مرئياً عبر أشخاص يعيشون الرسالة من ‏خلال الكنيسة.‏   جواب لسؤال  من المؤكد إننا نتوق إلى معرفة جواب للسؤال: أين هو الله في الألم؟ أين هو الله في النزوح؟ أين هو الله في جريمة داعش ‏المميتة؟ أين الكنيسة عندما أتألم؟ ألا يهتم الله لذلك؟ كيف يمكن أن يسمح الله بشيء من هذا القبيل؟ فقد تجاوز الألم والإرهاب حدود ‏اللامعقول، فهل ذلك سيدعونا إلى إرسال رسالة إلى الله، رسالة فيها يُسطّر تجاوز حدود المعقول ما يحلّ بنا. إنها معاناة قاسية ولا وصف ‏لها غير القاتلة والمميتة مجالاتها النفسية والجسدية والمادية والثقافية والصحية. وهل ربنا يسوع نحى جانباً الأسئلة التي تهدف إلى معرفة ‏السبب إلا عندما كان يريد أن يدحض نظريات الفريسيين والتلاميذ التي لا تقبل الجدل والقائلة أن المعاناة عقاب؟. أكيداً نحن جميعاً ‏سنموت، والبعض سيموتون وهم مسنّون، في سنّ صغيرة بصورة مأسوية أو في عمر الشباب أو في سن الرجولة والشيخوخة، “فالخليقة منذ ‏ولادتها وحتى الساعة لا زالت تئنّ وتتمخض كما هي الحال في الألم والولادة” (رو 22:8)… أمام كل هذا ليس لنا سوى الرجاء العتيد، ‏المختلف عن التفاؤل الساذج بأن قصة يسوع في الموت والقيامة معاً تعطي الدليل الساطع على ما سيفعله الله للكوكب كله. وبولس الرسول ‏يذهب إلى أبعد من ذلك ليعترف بصراحة أنه دون القيامة فإن كرازته وإيمانه باطلان، ثم أعلن بوضوح بلمسة حزن:”إنْ كان لنا في هذه ‏الحياة فقط رجاء في المسيح فإننا أشقى جميع الناس” (1كو 19:15).‏  صحيح إن مسيحيتنا ربما لا تخفف بأية طريقة من وطأة المعاناة وعواقبها وآلامها، ولكن إن ما تفعله هو إنها تمكّنك من قبولها ‏ومواجهتها والعمل من خلالها، وفي نهاية المطاف تمكّننا من معرفة الحقيقة، وإلى أن يحين ذلك الوقت نتمسك بالوعد القائل: إن إله كل ‏تعزية لم يهجرنا لكنه يستمر في عمله البطئ والثابت ليعيد إلى حالته ما أفسده الشر والموت، والله يمنحنا النعمة ويقدم لنا حلولاً في طريق ‏الحقيقة حينما نرى محبة الله عبر الألم. فالله لم يسيطر على حرية الإنسان ولم يمنع الشر من الحدوث بدلاً من ذلك ما قصد به البعض ‏شراً جعله الله خيراً.‏ أسبوع وأنموذج إن أسبوع الآلام أجمل أنموذج لنا في المعاناة والطرد والقتل والإهانة، وكلنا نؤمن ونعرف من خلال الأناجيل المقدسة ما احتمله ‏الرب يسوع من الإهانات، وما تلقّاه أسوأ ما يمكن للأرض أن تقدمه. فالشر والموت اتفقا في ظلم المسيح، ولكن الحقيقة لم تكن فيهما بل ‏في فجر الأحد حيث المسيح القائم الذي قاد التلاميذ إلى إدراك ذلك جيداً تدريجياً في إشارات صغيرة عرفاه، فمع تلميذي عماوس عند كسر ‏الخبز، وعلى بحيرة طبرية في شيء من السمك، ومع توما “ربي وإلهي”، وهكذا بدأ يتغير نمط حياة التلاميذ وإنْ كانت في البداية لم يتغير ‏منها كثيراً ولكنها أعطت لهم طريقاً جديداً للولوج إلى عالم الزمن مصدقين ومؤمنين وراجين أن كل شيء سيتغير ذات يوم، وستكون البشارة ‏هي الدافع الأكيد لإعلان الكرازة في شوارع الجليل واليهودية وأورشليم، في شوارع بغداد ودمشق والقاهرة وبيروت، ومنها إلى العالم، حاملة ‏أخباراً سارة في الخلاص… وما تلك إلا حقيقة الإيمان ومسيرة الرجاء.‏      أين الله؟  من المؤكد أننا نرغب في معرفة الإجابة على سؤال: أين الله؟ أين الله في نزوحنا؟ أين الله حينما تواجهنا تجارب مؤلمة وإرهاب ‏مميت ونزوح قاتل؟ وتنتابنا الشكوك في مسيرة حياتنا الزمنية وتصل حتى أدراج إيماننا. وهنا لابدّ أن نقول أن الرب يسوع نفسه تساءل ‏على الصليب:”إلهي إلهي لم تركتني” (متى 46:27)… أمام هذا الصراخ والسؤال يبدو وكأن الله قد تخلى عن المسيح، ولعله سيتخلى عنا ‏وفي أحلك اللحظات، ولكن عندما نستمر في دراسة الأحداث التي توالت بعد الصليب فإن الحقيقة تنكشف بأنه “لا يوجد شيء يمكن أن ‏يفصلنا عن محبة الله ولا حتى الموت” (رو 37:8-39). وهذا ما يؤكده لنا أن الله معنا حتى حينما لا نشعر بوجوده وسطنا، ويمكننا أن ‏نثق بمواعيده بـ “أنه لن يهملنا” (عبر 5:13)، وأقول: فالله أحياناً يسمح بما يكرهه حتى يخفف ما يحبه. نحن نثق بأن لدى الله المهيمن ‏القدرة على فعل أكثر من هذا.‏  وإذ نحن نبني ثقتنا على حقيقة أن الله لا يكذب ولا يتغير ولا يُهمل بل أمين معنا إلى الأبد، فلا نضع رجاءنا بما هو منظور أو ‏مفهوم “فإن ضيقاتنا الأرضية تعطينا مجداً أبدياً يفوق كل معاناتنا” (2كو 16:4-18)، “فلنا ثقة في كلمة الله التي تقول أنه دائماً ما يجعل ‏الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبونه، الذين هم مدعوون حسب قصده” (رو 28:8).‏ قوة ونعمة ‏ إن يسوع ربنا دخل العالم في أوقات بائسة ومفجعة ليرسم لنا طريق السماء في الجانب الآخر. ويوضح سفر الرؤيا كيف سيكون ‏ذلك الجانب “وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم، والموت لا يكون فيما بعد ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فيما بعد لأن الأمور الأولى ‏قد مضت… ها أنا أصنع كل شيء جديداً” (رؤيا 4:21).‏  وإنه قادر على جعل الخير يسود حتى في أسوأ الشرور. ما أحتاج إليه أن أجعل ما يحدث يتلاءم مع رسالة الخير. هذه الأفكار ‏لا تغيب عن فكري، إننا نتلمس طريقنا باستمرار نحو النور بينما نعيش في الظلمة.‏  كما لي الثقة بأن الله سيكون معنا وسيمنح لنا لكل حالة طارئة قدر ما نحتاج إليه من قوة ونعمة للمقاومة وللاحتمال ولكن لا ‏يمنح ذلك في ماضينا لئلا نعتمد على أنفسنا بل يعيطنا إياه في حينه كي نعتمد عليه وحده، وهذا الإيمان يجعلني أن أتغلب على كل ‏خوف وعلى كل قلق بشأن المستقبل والسؤال. فالله ينتظر منا حقيقة صادقة ومصيراً أبدياً عبر صلوات نابعة من الفؤاد لتأتي بثمار وثمار ‏صالحة. فالموت سبيل لطرق الحرية وهو بداية الحقيقة وإذا نظرنا إلى ذلك اليوم في الجلجلة يبرز أنموذج أمامنا عن الله الذي يحوّل هزيمة ‏ظاهرة إلى نصر حاسم.‏    الخاتمة ‏  لهذا فرغم عدم رؤيتنا للخير الذي يحرك الله الأمور تجاهه، إلا أننا يمكن أن نثق أنه سيأتي وقت عندما نفهم الأمور بوضوح. ‏فاليوم نحن نعيش ولنا مفهوم محدود لأمورالله، “ولكن سيأتي اليوم الذي نعرف ونفهم فيه كل الأشياء” (أيوب 5:8 وإشعيا 29:40). ‏و”يُعْطِي الْمُعْيِيَ قُدْرَةً وَلِعَدِيمِ الْقُوَّةِ يُكَثِّرُ شِدَّةً. اَلْغِلْمَانُ يُعْيُونَ وَيَتْعَبُونَ وَالْفِتْيَانُ يَتَعَثَّرُونَ تَعَثُراً. وَأَمَّا مُنْتَظِرُو الرَّبِّ فَيُجَدِّدُونَ قُوَّةً. يَرْفَعُونَ ‏أَجْنِحَةً كَالنُسُورِ. يَرْكُضُونَ وَلاَ يَتْعَبُونَ يَمْشُونَ وَلاَ يُعْيُونَ” نفهم أين يكون الله عندما نتألم؟ فرسالتنا في هذه الظروف القاسية والنزوح القاتل ‏والانتظار المميت أن نؤمن أنه هو لنا “الرجاء الأكيد الذي لا يخيب” (رو5:5) وأيضاً “لأنه وعدنا فهو أمين” (عبر23:10). وإن هذا ‏الإيمان وهذا الرجاء عاملان أساسيان هدفهما عندما لا يتمكن الإنسان من رؤية يدي الله فإنه يرى قلبه في ثقة الأبناء للآباء والآباء ‏للأبناء، وإنه لن يهلك أبداً. فعندما تخور قوى الإنسان هو هذا الوقت الذي تستطيع فيه أن تستريح في حضرته عالماً أن “قوته تكمن في ‏ضعفك” (2كو 9:12-10). ما حصل لنا في النزوح من المؤكد ان يسوع المسيح ربنا كان معنا، معنا نحن أبناء هذا الجيل الفاسد الشرير، ‏كان معنا كي لا نحزن ولا نخاف ولا نيأس، لأن تعزيتنا تكمن في إيماننا بأن “يوم الرب قريب” وما علينا إلا أن نكون مستعدين ونصرخ ‏مثل توما “ربي وإلهي”، حينذاك نرى الله يرافقنا في مسيرة الحياة فنعرف أين كان، كان فينا ومعنا،  نعم وآمين.‏