فيه كل شيء

فيه كل شيء

بقلم أنجيل بولس

كانت لي صديقة نشئنا معا ونحن صغار في نفس العمارة التي نسكن فيها. كانت أمي تقول لي هذه هي آختك التي لم أنجبها لكِ، لأنها ولدتْ في نفس الشهر الذي ولدتُ أنا أيضا فيه. كبرنا معا وذهبنا إلى المدرسة سويا، في كل مراحل التعليم. وكنا نلعب معا فئ مدخل العمارة، بل ونقضى طول الليل سويا في المناسبات كالأعياد وخبيز الكعك وشراء الملابس الجديدة… كانت تجمعنا أشياء كثيرة، وعشرة، وحب اقوي من الزمن… كنا لا نفارق بعضنا بعض أغلب أوقات النهار، وحتى عندما نغلق الأبواب نمسك التلفون ونتحدث لساعات طويلة في أي شي وفى كل شيء… لقد كنا روح واحد في جسدين، نعم ما أجمل الصداقة، وما أجمل الحب، وما أجمل الابتسامات والضحكات التي تخرج من أعماق قلوبنا… ونحن معا كنا نرسم مستقبلنا وونتكلم عن أحلامنا وطموحاتنا، كانت هي لها أراء وأحلام كبيرة لا تصدق بالرغم من مستواها العادي وجمالها البسيط؛ ولهذا كانت توصف بالأنزوحة المتكبرة التي لا تنزل إلى ارض الواقع هذا كان رأي أمها وأمي وكل المحيطيين بنا كانوا يقولون لي: “لا تتأثرِ بها أنت إنسانة مجتهدة وجادة فلا تتأثرِ بارئها التي تدمر”.

كنت أحبُّها واراها أجمل الناس وأعقلهم، ولكني، من الناحية الأخرى، كنت أتأثر بكلام أمي؛ لأنها تحبني وتخاف عليَّ جدا، وكنت دائما أحاول إرضائها بكل الطرق، وفى نفس الوقت، أحاول أن أكون واقعيه في كل شيء، وفى كل أمور حياتي وأن أتجنب كل ما يقال عن صديقتي من أنها متكبرة، لأنها كلمة بغيضة تذكرني بإبليس وأعوانه.

وعندما تخرجنا وانهينا تعلمنا بدأت العرسان تطرق أبوابنا… فكانت صديقتي تقول لي: “أنا لا أرضى عن أي واحد من الذين يحيطون بنا بل الرجل الذي أرضى عنه سوف يكون مختلف عن كل هؤلاء ولسوف يكون لديه كل مقومات الحياة”…

وكنتُ أتسال: “من هو هذا الرجل يا ترى؟ وأين سوف تجد هذا الرجل؟ الذي يملك كل هذه الثروة التي ترغب فيها صديقتي العزيزة كنت أشفق عليها من كل هذه الأحلام فأين ذا الخاتم السحري الذي يستطيع تحقيق كل هذه الأمنيات”.

أما أنا فلقد تزوجت من أول عريس أعجبتُ به، مثل باقي البنات، وبرضا أمي، التي كانت تخاف على من كل شيء، حتى من آراء صديقتي، وكانت دائما تنصحني بأنني أستطيع أن احقق كل ما أريد بكفاحي وجهدي وليس بأحلام الخيال، فالإنسان الذي يكافح ويجاهد بكل أمانة وصدق يحقق له الله كل أحلامه….

سمعت كلام أمي الحبيبة لأني كنت متأكدة أنها تحبني أكثر من كل الدنيا… وكانت أمي تحب زوجي وكل من حولي فرحانين وراضين عن هذه الزيجة ماعدا صديقتي التي لا يعجبها ذوقي، وكانت تقول لي: “خسارة يا أغلى صديقة، خذِ بالك من نفسكِ وراسليني على الدوام يا سمر وأرجوكِ لا تتهاونِ في نفسك، لاني اراكِ رخيصة على نفسك، كي ترضى أمك”…

قلت لها: “أنا إنسانة مسالمة أمري إلى الله وأنا أثق فيه تماما وهو الذي يدير كل حياتي بكل حكمة وحب”… وأخذت استعد للسفر مع زوجي لكي أبدأ حياة جديدة وأنا فرحانة وراضية كل الرضا….

ولكن أخذتني الحياة في غمرة مشاكل الشباب وعندما كنت اجلس وزوجي في العمل كنت اكتب بعض الأشياء لصديقتي التي أحبها من كل قلبي… وهى أيضا كانت تكتب لي كل أخبارها، وعن عملها الجديد الذي تسلمته وعن المدير والزملاء وعن زميلاتها الجديدة التي وجدت أنهم يشبهوني وتعلقت بهم وأحبتهم… وكانت تحكى لي كيف يقضون وقتهم في الكلام عني وفى قراءة خطاباتي التي أرسلها لها….

كنت أقراء رسائلها وأنا فرحانة وانتظر أخبارها على أحر من الجمر، وأدعو لها أن يوافقها الله في عملها، وكل أمور حياتها، وان يحقق لها الله، ولو جزء من أحلامها الكبيرة… ومرت فترة طويلة دون أن اسمع عنها أي أخبار أو تصلني منها أي رسالة… وكم كنت قلقة عليها فكتبت رسالة لأمي أقول لها أن تطمئني على منى، فانا أرسلت لها العديد من الرسائل ولكنها لا تجيب عليها، وذلك من مدة طويلة، ماذا حدث هل هي بخير؟…

فجاء رد أمي: “لا تقلقِ فهي تزوجت في فترة صغيرة وقالت لي أن أقول لكِ إنها لم تستطيع أن تكتب قبل زوجها لظروف خارجة عن إرادتها”…

فقلت لأمي: “وما هذه الظروف؟”

قالت لي أمي: “أن زوجها هو أخ زميلة لها في العمل وهو طبيب يعمل في أمريكا وجاء في يوم لزيارة أخته في العمل وتعرف إلى منى وأعجبته وأعجبها وتقدم لخطبتها ونظرا لضيق وقته تم كل شيء في سرعة بالغه، وسافرا معا وقالت انه عندما يستقر بها الحال ستكتب لكِ مرة أخرى”…

يالى فرحتي بسماع هذه الأخبار، فكم تمنيت أن يوفق الله عزيزتي، فهي تحب السفر، فالحمدلله الذي حقق لها ما أرادت… وتمنيت أن اسمع المزيد عنها… وبالفعل فقد أرسلت لي رسالة بعد فترة تحكى لي عن السماء التي حلمت بها ورأتها في الواقع، وأخذت تحكى لي عن حياة الناس هناك وكيف هي هادئة مسالمة جميلة…

لكن بدأت خطاباتنا تقل شيئا فشيئا لقد أخذتنا دوامة الحياة حتى نسيت كل منا الأخرى…

وأخذتُ أكافح أنا في حياتي بكل قوتي، لان بداخلي وحش يسمى الطموح، وحب العمل. كان زوجي رجل بسيط ليس له أي نوع من الطموح يعيش يومه بيوم، ويحب إنجاب العديد من الأطفال… يعيش في سلام وهدوء، لا يفكر في الغد أو المستقبل… أما أنا فلدى قناعة بان الإنسان هو صاحب نفسه، إما أن يرفعها وإما أن يحطها… ولذلك ظللت أكافح وتحملت المسئولية كاملة بكل أشكالها… وكانت الحياة لا تخلو من بعض الأوقات العصيبة فكنت أتغلب عليها بالصبر والإيمان، الإيمان الذي تعلمته منذ أن مات أبي وأنا صغيره، وكأن الله منذ هذه اللحظة، أصبح هو أبى السماوي والأرضي… اقتربت منه وأسلمتُه حياتي، وكلي ثقة به، فقد كنت أحكي له عن جميع أحوالي ومشاكلي التي تواجهني وأضعها دائما بين يديه، فهو القادر على كل حل، وعلى كل شيء، مهما كان صعباً….

وكم كنت مطمئنه لوجوده في حياتي فالله يرعاني أنا وأولادي وزوجي وبيتي، ولقد قررت أن أحاول تجنب أولادي كل ما أخفقتُ أنا فيه، أو ما حرمتني منه الظروف، إيماناً مني بأن الأولاد لا يجب أن يأتون إلى الحياة ويخرجون منها دون أن يحققون أي نجاح باهر…

وأخذت اغرس فيهم الطموح والأمل وحب الحياة والاهتمام بحياتهم الروحية والعلمية وكنت أوعيهم أنهم هم صناع النجاح والمجد في الحياة. لاني أثق كل الثقة في أن الإنسان مشترك مع الله في كل ما هو جميل في الحياة، وكنت اعلم أنهم عندما يكبرون سوف يكونوا مختلفين عن اقرناهم وأقاربهم… نعم أنى أرى فيهم النبوغ والمعرفة وحب الله الذي يفوق كل حب وكل شي في حياتهم، ففيهم الحنان والعطف والعطاء…

وكنت أرى أنهم جميعاً يتقدمون في الدراسة بتفوق كبير، وكم هي فرحتي بهم، فهم كل دنياي، وعيني التي أرى بها الطريق…

وفى يوم ذهبتُ لزيارة أمي وجدتُ أمام البيت سيارة فاخرة أمام العمارة، فسالت أمي: “لمن هذه السيارة؟”

فقالت لي: “أنها لمنى لأنها هي الآن في مصر فهي تأتى كل عام لزيارة أهلها وأقارب زوجها وتحضر لهم هدايا كثيرة لأنها غنية جدا، اشترت عمارة كبيرة في مصر الجديدة، لأنها، كما تعلمي، فزوجها دكتور كبير ومشهور ويعمل خدمات كثير في مصر”…

فقلت لأمي: “أنا سوف اذهب لزيارتها فانا اشتاق إليها ولرويتها والتكلم معها”…

فقالت أمي: “بلاش”…

قلت لها: “لماذا؟”

قالت: “هي الآن لا تعرف الناس بتوع زمان، بل لبست نظارة الكبرياء، وتنظر إلى الناس بكل احتقار ونكران”…

فجاوبت بكل ثقة: “بس أكيد مش معيّ أنا”…

وأخذت أولادي وذهبت بكل فرحة متشوقة لمقابلتها مقابلة اعز الأصدقاء والحبايب والأخوات فتحت لي أمها الباب وهى متجهمة، وأدخلتني الصالون وقالت: “سوف اعلم منى”…

جاءت منى وكانت إنسانة غير التي تربيت معها ليست هي صديقة العمر، فأصبحت فاترة باردة ليست لديها أي مشاعر، شبه ناسية الماضي، كل الماضي. سلمتْ عليّ بكل فتور، وأخذت تقول لي: “كل دول أولادك؟”

قلت بفرحة: “نعم، وأنت، أين أولادك؟”

قالت: “ليس لديَّ غير ولد وبنت”…

قلت: “وهل ستنجبين لهم أخوة؟”

فهزئت مني وقالت: “نحن نعيش في مجتمع متحضر، لا يحب كثرة الإنجاب مثل العالم المتخلف، أي العالم الثالث، كما يقولون”….

شعرت بإهانة كبيرة جدا واستأذنت وقلت لنفسي يحرم هذا البيت فلن ادخله مرة ثانية ومن يومها نسيت أن لي صديقة.

سافرت أنا مع زوجي إلى العاصمة واستطعنا أن نبنى عمارة واستقريت هناك، وبدئوا أولادي يكبرون ويتفوقون في دراستهم وانشغلت معهم كثيرا، فكانوا كل شي لي… وكان بينهم أبنا متميزاً ومتفوقا في الكتابة والتمثيل، لدرجة أنه في الحفلة الثانوية لكليته، كانوا دائما يسندون إليه دور البطولة، وكان الحضور يصفقون له بحرارة وإعجاب شديد… وفي إحدى السنوات أثناء فترة الراحة التي كانت تتعقب المسرحية ذهبت إلى دورة المياه، وهناك سمعت صوت أنين لشخص مريض لا يستطيع الوقوف ويقول: “أي حد يجئ يساعدني”… فذهبت أنا مسرعة إليها وكانت المفاجئة …………. لا اصدق فالمفاجئة كبيرة بالنسبة لي، آه ياربى إنها صديقتي منى، نعم هي…. أخذتُها في حضني، دون أن اشعر، وبكيت عليها بشدة، وقلت لها: “ماذا بكِ؟ وماذا جرى لكِ؟، وهل يعقل أن يكون زوجك، الطبيب المشهور، لم يستطع شفائك؟”

قالت لي: “ليس وقته الآن دعينا الآن، وسوف آتي إليك عن قريب، واحكي لكِ كل شيء، اعطني الآن عنوانك، ورقم تليفونك، وفى اقرب وقت سوف احضر أنا وأولادي لزيارتك”….

أخذت أنا أيضا رقم تليفونها ووصلتها إلى المقعد، وبداخلي العديد من الأسئلة، وإذ بها تقول لي: “ألف مبروك على نجاح ابنك يا سمر، أنت عرفت تربي”…

فقلت: “من قال لكِ انه أبنى؟”

قالت: “لقد عرفته من ملامحه، انه شكلك، إنه مثلك، انه قطعة منك أنت… لقد عرفته من أول ما رايتُه، ربنا يباركك فيه”…. وانصرفت أنا …

وفى يوم رن جرس الباب ونظرت من النافذة ورأيت سيارة فاخرة أمام بيتي وعرفتُ أنها هي التي على الباب… ماذا افعل؟ كل الأفكار تدور في راسي، توقف عقلي وبدأت الأفكار تراودني: هل أرد لها ما فعلته بي؟ فقد ذهبت لها وأنا كلي شوق وحنين، وعاملتني هي بكل سخرية واحتقار!!! آم أعاملها على أنها إنسانة مريضة؟ أم بحسب تعاليم الإنجيل لا تردوا الإساءة بالإساءة؟؟؟

وقاطع كل هذه الأفكار جرس الباب فتغلبت على نفسي وتذكرت ربى ومسيحي وهو يقابل الإساءة بالحب، فرحبت بها وبأولادها، وقدمتُ لها كل الحب والواجب وعرفتٌ أولادي على أولادها… ففرحوا ولعبوا معا… أما أنا وهى فجلسنا في الصالون لوحدنا قالت منى: “لقد جئت لأعتذر لك عن مقابلتي لكِ، لقد قابلتك وأنا كلى غرور وكبرياء، فانا آسفة على ما صدر مني، سامحيني يا صديقتي، أنت تعلمي أن معزتك تجرى في شرياني، ولا أستطيع مهما تنكرت وتكبرت أن أتخلص من حبك، وأنا اليوم محتاجة لكِ، وليس لي غيرك يحبني ويرشدني ويخاف عليّ”….

فقلت: “أخاف عليك من من؟”…

فقالت: “من نفسي، فأنا إنسانة مغرورة، متكبرة، لا احد يسلم مني حتى رب المجد”…

فقلت: “ما هذا الكلام؟ فآنت أفضل مني لقد أتيحت لكِ فرصة السفر ولكِ زوج فخر لكل الناس، فهو إنسان طيب محب”…

فقالت: “وما كل هذا إذا أغضبت ربى والهي (ماذا ينفع الإنسان إذا ربح العالم كله وخسر نفسه)”…

فقلت: “احكي لي كل شيء وأنا أعدك باني سأظل جنبك طول الوقت”…

قالت: “أنت تعرفنني، فانا إنسانة تهتم بكل مباهي الحياة الباطلة المزيفة”…

فقلت: “لكنى أرى تغير كبير فيكِ وفى صحتك أيضاً، اخبريني ما حدث لكِ؟”..

أكملت كلامها: “أنا كنت اكره في زوجي انضباطه واهتمامه بالفقراء والكنيسة والاجتماعات… وكنت دائما أقول له “مالنا نحن بمثل هذه الأشياء نحن نعيش في أمريكا ربينا أولادنا على العزة والكرامة الأمريكية ولا حاجة لنا الآن في مصر”…

فكان يقول لي: “كيف لا تفكرين إلا في نفسك؟ لماذا لا تشتركِ في عمل الخير؟”…

فكنت دائمة التمرد عليه،وكنت أأخذ أولادي إلى النوادي والأصدقاء، ولا أحب أن اسمع عن الاضطهاد أو الفقراء أو أي شي يعكر مزاجي بل كنت أقضي وقتي في شراء المهم وغير المهم، الذي احتاجه والذي لا احتاجه… وكنت افتخر بزوجي وأسرتي… أما زوجي فكل ما يهمه هو تخفيف الآم المرضي والمحتاجين أراه يهتم بكل شي يحب الكنيسة وكان هذا الاهتمام يزيد من تذمري عليه… ولكنه كان يتحملني بكل صبر، وكلما تحمل كلما تماديت أنا في غطرستي وعنادي… وكان هو يحاول أن يسعدني بكل الطرق ولكن كان طبيعتي تغلب…. فأنت تعرفين أنا رغباتي لا تنتهي… وهذا ما لم أستطيع تغيره… وجئت لك لكي تساعدني بقدرتك وحكمتك وصبرك وحبك لي في تغير هذه الطباع لكي أصبح إنسانة جديدة”…

قلت لها: “هناك شي غامض أحب أن اعرفه؟”…

قالت: “أنها حكاية طويلة لا أريد أن أشغلك بها”…

قلت: “أرجوكِ احكي لي كل شيء”…

قالت: “كل عام نحضر العيد في مصر لان زوجي يحب أن يقضى العيد مع أهله وأخواته وكنيسته التي تربى بها وهذه هي سعادته وهذا هو العيد بالنسبة له، وهذه المرة كان زوجي معزوم لحضور القداس في الكاتدرائية المرقصية هو والعائلة ولكننا بالطبع لم نذهب معه، فنحن لا نشاركه في مثل هذه الأعمال… ذهب زوجي متأخراً إلى هناك بعد أن أنهى بعض العمليات المستعجلة… وعندما وصل إلى هناك رأي رجال الأمن يطردون رجلاً كبيراً في السن، وهو يحاول بإستماتة غريبة أن يدخل، ويقول لهم: “أنا جاي من مكان بعيد علشان احضر القداس، أرجوكم دخلوني”… ولكنهم رفضوا تماما بل قالوا له: “إن لم تذهب سوف نحبسك”…

اقترب زوجي من رجال الأمن وقال أنا اضمن هذا الرجل ولدي دعوة العائلة وهم لم يأتوا… خذوا على كل الضمانات اللازمة قال رجال الأمن: “كيف هذا وملابسه ليست رسمية؟”

فقال لهم: “إنه رجل كبير وسوف يجلس في الخلف”… فوافقوا… شكر زوجي رجال الأمن واخذ الرجل ودخلوا الكنيسة…. شكر الرجل زوجي على طيبة قلبه وما قدم له من مساعدة… وجلس كلا منهم، ولكن كان زوجي شارد الذهن لا يفكر إلا في هذا الرجل، من هو انه يشبه أبيه؟!؟! أحس انه ليس غريب عليه، يا ترى من هو؟ وأين سوف يذهب بعد القداس؟….

ظل زوجي يراقب الرجل دون أن يشعر… الجو بارد والرجل كبير…

خرجت الكنيسة في وقت متأخر وخرج الرجل مع الناس وجاء بجوار حائط وجلس… أسرع زوجي إليه وسأله: “هل تريد أن أوصلك إلى أي مكان؟”… فأجابه: “اذهب بسلام، ولا تقلق فانا عند شروق الشمس سوف أسافر إلى بلدي”… ولكن زوجي ألح عليه لكي يأتي للمبيت عنده حتى الصباح… فأراد الرجل أن يعفى زوجي من الإحراج وقال له: “انصرف يا بنى بسلام”… ولكن مع إصرار زوجي ركب الرجل معه وجاءوا إلى البيت… وكان زوجي سعيداً وفرحاناً…. وعندما وصلوا و طرق الباب وقال لي: “معي ضيف أرجوكِ جهزي لي وله أكل”…..

فما كان مني ومن أولادي إلا التذمر والضيق و كنا نقول له: “حتى في الليل أنت مشغول بالفقراء، إلا تعرف أنها ليلة العيد ويجب أن نكون سويا ونأكل معا”…

قال زوجي: “أرجوكم الرجل كبير وضعيف نحن سوف نجلس في العيادة التي أمام شقتنا ونتعشي معا”… أخذ زوجي الأكل وراح يغسل يده ويرشم الصليب… فأخذ الرجل الخبز وكسره وقال لزوجي: “مبارك أنت يا ابني ومبارك بيتك وأولادك”… وكان وجهه يضئ مثل الشمس، وسمعنا زوجي يصرخ ويصرخ ويقول أنت أنت أنت هو أنت هو ربي والهي أنا أعرفك، وامتلأ البيت بنور وسلام لم نعهده من قبل، ولم نرى أين ذهب الرجل… بل رائحة جميلة غير عادية تملأ البيت كله، ونحن في ذهول تام…

آه يا ربي، يقول زوجي، إنه أبى السماوي، نعم أنى اعرف هذا الوجه الذي اسعى طوال عمري أن أراه، هذا الوجه الجميل، وجه الأب الحنون الذي يحب أولاده ويعرف كل شيء عنهم… لقد سألنني في السيارة: “لماذا لم يحضر زوجتك وأولادك للقداس؟”… ربنا يهديهم لك….

كان زوجي يبكى وأنا وأولادي في ذهول تام، إلى أين نحن ذاهبون؟ حتى عندما جاء المسيح إلى بيتي، لم أحسن استقباله، ولم يسلم من لساني ومن أولادي الذين ربيتهم بعيداً عنه وعن الكنيسة وعن الأخر وعن عمل الخير…. فانا الآن اشعر بجرمي وكل جزء من جسدي الآن أصبح مريضاً، من كثرة الحزن… آه يا ربي هون علي باقي أيام حياتي… فاني بعيدة عنك، وأبعدت أولادي أيضا… كيف نقترب إليك؟ كيف بعدما فعلت كل شيء للعالم؟ وأعطيت كل وقتي لنفسي؟؟؟ لم أفكر في آخرتي، وآخرة أولادي، بل كنت أتشاجر مع زوجي عندما يذهب إلى الكنيسة… وحاولت أيضا أن اجذبه إلى اهتماماتي… أنا اعرف انه ليس لي مغفرة… وليتني تعلمت من زوجي أن الحياة مع الرب عطاء دائم بلا توقف، وان كل ما يعطيه الإنسان يأخذ إضعافه… اخبريني الآن يا صديقتي بعدما سمعتي كل قصتي ماذا افعل؟ وبماذا تنصحينني؟”…

أجبتها وأنا فرحة بما سمعت: “ما كل هذا الحب؟”….

فقالت: “ماذا تقولين؟”…

قلت نعم: “إنه الحب الأبوي الذي يبحث عن خروف واحد ويترك القطيع كله… إنه يحبك أنت وأولادك، وجاء إليك بنفسه… لقد أراد أن يقول لك تعالي وارجعي لأني احبك وفديتك بدمي الغالي وعلقت من أجلك على خشبة الصليب… وكانت هذه الزيارة لكِ أنت وأولادك وليست لزوجك، انه ساكن في داخله وبينهم حب قوي يفوق الوصف… قال المسيح انه يريد أن الكل يخلصون وإلى معرفة الحق يبصرون… فعليكِ الآن أن تكوني فرحة لأنه جاء إليك، ولا تحزني… أنت منقوشة في كفه… قد أتى إليكِ بنفسه فقومي الآن وأنت اسعد الناس وبادليه الحب بحب اكبر… ضعي يدك في يده وقولي له “من الآن أنا ملكٌ لكَ وحدكَ”… نظرت إليها ووجدت السلام يملأ وجهها….

قالت: “كنت في اشد الحاجة إليكِ”… وعدنا أصدقاء أكثر مما مضى وأولادي وأولادها أصبحوا أخوة يذهبون إلى الكنيسة ويشتركون في جميع النشاطات الروحية والخدمات…

فما اسعد هذه الحياة بجوارك يا رب، وما أجمال أن نعترف بخطايانا… وكم أنت غفور ومحب… فاتح زراعيك للجميع منتظر الكل…