مؤلفـات مـثـلـث اـرحمات الأنبا أغناطيوس يعقـوب

مؤلفـات مـثـلـث اـرحمات الأنبا أغناطيوس يعقـوب

الـمـخـتــار لـعـُرس عـشـاء الـحَمـل..
تقـديـم وإهــداء

يسرّني أن أقـدم هذا الـمجلد فـى الذكرى الثالثة عشر للرحيل والذى يتـضمن الأجزاء الإحدى عشر والتى سبق نشرها لبعض من العظات والـتأمـلات والـتى ألقـاهـا من عـُرف بـواعظ الـمحبة مـن أجـل بنـيان كنيسة الـمحبـة الـمتجسدة .
وأدعو اللـه أن تشـمـلـنا جـمـيعـا نعـمة الرب لكى نـتأمل فـى رسالتنـا حتى نعـمل على تـمـجيد اللـه دائـمـا فـى كل زمـان ومكان وإلـى أن يأتـي فـى مـجـده.
نـبيل حليـم يعقـوب
12 مارس 2008

الفهرس
الجزء الأول – “تأملوا معي” (12 مارس 1999)
1. تأملات فى الميلاد: “هو يأتى ويخلصنا”
2. “وعلى الأرض السلام وبالناس الـمسرّة”
3. عيد دخول السيد المسيح الى الهيكل
4. المسيح والألـم
5. “قلت انكم آلهـة”
6. دعوة فيليبس
7. أين موضع الخطـأ
8. الحياة والموت
9. المسيح والخطأة
10. “قال للمخلّع يا إبني..”
11. ميثاق اتباع يسوع
12. “فاختارت مريم النصيب الصالح الذى لا ينزع منها”
13. “يا معلّم متى صرت الى هنا”
14. الدينونـة
15. “قال له اتبعني فترك كل شيئ وقام وتبعه”
16. يوحنا المعمدان
17. “تهلل يسوع بالروح”
18. “ماذا أعمل لأرث الحياة الأبديـة”
19. زكا العشّار
20. “فلما انتهى يسوع الى الموضع رفع نظره فرآه”
21. المرأة الخاطئة فى بيت سمعان الفريسي
22. ان الله هو راحـة الإنسان
23. إسم المسيح إسم منسي عند أهل العالـم
24. الويل للعالم من الشكوك
25. “فرح التلاميذ”
26. القيامة والفرح الحقيقي
27. “عرفته وعرفت قوة قيامتـه”
28. سيدة العنصرة
الجزء الثانى – “نشيد الـمحبة” (نوفمبر 1999)
1. نشيد المحبة
2. دوام المحبة
3. المحبة المسيحية
4. دوافع المحبة: قوانينها وثمارها
5. أحبوا أعداءكم وأحسنوا إلى مبغيضيكم وصلّوا لأجل مضطهديكم
6. رسالة الحب
الجزء الثالث- “مع المسيح فى الآمـه” (مارس 2000)
1. آلام المسيح وموته على الصليب
2. أسبوع الآلام
3. “فلما أخذ يسوع الخل قال قد تم”
4. ما هو الدافع القوي الذى دفع بالمسيح الى الصلب والموت؟
5. حزن يسوع
6. جُرح يسوع
7. آلام يسوع
8. التمسك بالصليب
الجزء الرابع – ” رسالـة المسيح ” (مارس 2001)
1. رسالة المسيح
2. وعود المسيح
3. من هو يسوع فى نظرك؟
4. إتباع يسوع
5. الدموع والفرح
الجزء الخامس -“الإيمان قوة وحياة” (مارس2002)
1. مـا هـو الإيـمان؟
2. بـمن نؤمن؟
3. الـمسيحي والعالـم
4. وسيلة نوال الحياة الأبديـة
5. “يا سيّد دعهـا هذه السنة أيضاً”
6. العـودة
7. مـحبـة القريـب
8. “ويل لك يا كورزيـن”
9. الـمصالحـة
10. صـلاة
الجزء السادس – “وليـمة الـمحبـة”(يناير 2003)
1. الحيـاة لـى هى الـمسيح والموت ربح
2. البِـشارة
3. فـى بيت الفريسي
4. وجاءوا يطلبون يسوع
5. يوم مع الرب يسوع
6. يسوع العظيم فى يوم الخميس العظيم
7. ماذا أفعل بيسوع الذى يُدعى الـمسيح
8. أنا الطريق والحق والحيـاة
9. إن إنقسمت مملكة على ذاتها
10. تـوقـير الله
11. لا راحـة إلاّ بعد تعب
12. كلمة الله حياة ابدية
13. إقامـة لعازر
14. سر الألـم
15. سر الصلاة
16. الـمسيح قام حقـاً قـام
17. سر الرجــاء
18. “أقطع عهداً أبديـاً”
19. الـمسيح هو الرب لا أنت
20. وليـمة الـمحبة
الجزء السابع- “قوة الصلاة”(اغسطس 2003)
1. لـماذا أؤمن بإقتدار الصلاة؟
2. مشاكل الصلاة
3. الصلاة وشروطهـا
4. سماع كلمة اللـه والعمل بهـا
5. خلاص النفس
6. الخطيّة وقصاصاتهـا
7. التواضع
8. التـوبـة
9. آلام الـمسيح
10. محبـة القريب
11. الثبـات إلـى النهايـة
12. لـمن تصلّي وكيف تطلب؟
الجزء الثامن- “حيـاة الأبـد”(مارس 2004)
1. لا سلطان على يوم الـموت
2. اكليل العدل
3. كيف أنت الوجود؟
4. حيـاة الأبـد
5. لاتخف لأنـي معك
6. الصبـر
7. لـماذا تطلبيـن الحي بين الأموات
8. آمنت..ارحـمني..نجّنـي
الجزء التاسع – “وعود الـمسيح”(مارس 2005)
· وعود الـمسيح
1. بإسم يسوع
2. الخلاص
3. مغفرة الخطايـا
4. النور
5. الكنيسة
6. الفرح
7. السماء
· وأخذ يسوع الأرغفـة
· اؤمن بكنيسة واحدة جامعة رسولية
· يوم الأضحى
· الصوم
· أمثلـة على العِفـة
· الأخوة وحيـاة الروح
الجزء العاشر – “حياتنا فى الـمسيح يسوع”(مارس2006)
1. السر العظيم
2. المسيحية وشخصية الإنسان
3. حكمة الإنسان تقـواه
4. أبناء النور ليسوا هم أبناء الظلام
5. نــداء
6. حضور الله فينـا
7. ابن البشر اتى ليطلب ويخلص ما قد هلك
8. سماع كلمة الله والعمل بها
9. الصلاة وشروطها
10. خلاص النفس
11. الخطية وقصاصاتها
12. التواضع
13. التوبـة
14. محبة القريب
15. الثبات الى النهايـة
الجزء الحادى عشر – “رسائل روحية”(يناير 2007)
1. الرسالة الأولـى
2. الرسالة الثانيـة
3. الرسالة الثالثـة
4. الرسالة الرابعـة
5. الرسالة الخامسـة
6. الرسالة السادسة
7. الرسالة السابعة
8. الأخــوة
9. رسالة خـاصـة
10. لقــاء
11. يارب سراج لرجلي كلامك
12. أذكر من اين سقطت وتُب
13. لا تقتـل
14. توقيـر الله
16. أجيبـي ندائـي..
—————————
نشيد الـمحبـة
هناك كلـمات مشّعـة لا يخلو منها أي قاموس بشري…
مثـل الغِبطة..الطـمأنينـة..السعادة..الشهامـة..الحرّية..الحق..العدل..
الجـمال..الخلود..وغيـرهـا.
إلاّ إن جميعها تبدو بالنسبة إلـى “الـمحبة” كـما تبدو الكواكب بالنسبة إلـى الشمس.
فالـمحبة هـى الشمس التى لولاها لكان عالـمنا ظلامـاً فى ظلام.
لذلك كان علينا،إذا نحن شئنا أن ننعم بنور الـمحبة وجمالها وقوتـهـا ودوامهـا، أن نحب الحياة أولاً ..والحياة هـى اللـه ” اللـه محبة، من ثبتَ فى الـمحبة فقد ثبت فـى اللـه واللـه فيه” (1يو16:4).
نشيد الـمحبـة نجده فـى الكتاب الـمقدس فـى رسالة القديس بولس الأولـى إلـى أهل كورنثوس الإصحاح الثالث عشر.
فـى عذوبة اللفظ والـمعانـى بدأ الرسول بولس حديثه عن الـمحبة، بل نشيده عن الـمحبة، فإنسابت كلـماته هادئة قوية معبّرة، وإبتدأ يعدّد إمتيازات ما أطلق عليه انـه الطريق الأفضل، وأرانا لسان الـمحبة الذهبي الذى يعلو ألسنة الناس والـملائكة.
وفـى خـماسية رائعـة بيـّن أن الـمحبـة”:
أسـمى من النبؤة…وألـزم مـن الـمعـرفـة..
وأقـوى من الـمعجـزة..وأجـمل من الإحسان..
وأجـّل من التضـحيـة.
وإبتدأ الرسول ينـتشى بقوة الروح القدس ويصف الـمحبة الـمسيحية بصورة كاملة متكاملة لـم تجتمع فـى مكان واحد فـى الكتاب الـمقدس كـما اجتمعت فـى هذا النص الخالـد.
ولقد ذكر بولس خـمسة عشرة صفة من أوصاف الـمحبة شبهها بعضهم بأنـها كحبّات اللؤلؤ تكّون عقداً فريداً متألقاً يزيّن صدر الـمسيحية.
وشبهها آخرون أنـها أحجار من الـماس تُرصّع إكليل الـمحبة الجميل.
والواقع ان كل هذه التشبيهات تعجز عن التعبيـر عن هذه الصفات ذلك لأن معانى الوحى الـمقدس أروع وأقدس من جواهر الأرض، والفضائل النابعة من الـمحبة أي من اللـه، لها لـمعان روحانـى يتضاءل أمامه كل لـمعان آخـر.
ونحن إذ نريد أن نـتأمـل هذه الـمعانـى يجدر بنا أن نقسمها إلـى أنواع متآلفة ..مترابطة..متقاربـة لكى يسهل علينا دراستها والتأمـل فيهـا.
وإن كان كل تقسيم لا يصل إلـى الكمال مهما كان، لكننا نستطيع أن نحتفظ فـى ذاكرتنا بـهذه الصفات إذا قسّـمناهـا إلـى مجموعات ثلاثـة:
الـمجموعـة الأولـى:
تصف أسلوب الـمحبـة فـى التعامـل مع الآخـريـن…
وهـى مكونـة من خـمس صفات (إثنـتان بالإيجاب وثلاث بالنهي)
الـمحبـة ..تـتـأنـى
الـمحبـة..تـرفـق
الـمحبـة..لا تحسـد
الـمحبـة..لا تـتفاخـر (لا تتباهـى)
الـمحبـة..لا تنـتـفـخ
الـمجـموعـة الثـانيـة:
تصف طبيعـة الـمحبة فـى ذاتـهـا ..
أو أخلاق الـمحبـة.
وهـى مكونـة من ست صِفات أغلبهـا بالنهي لأن الرسول أراد أن يقارن بين أخلاق أهل كورنثوس فـى أنانيتهم وإحتدادهم وظنـونـهم، فأراد أن يؤكد لهم خلو الـمحبة من تلك الرذائـل.
إن أخــلاق الـمـحبـة:
لا تقـبـح (لا تأتـى قباحـة)
لا تطلب مـا لنفسـهـا
لا تحتـد
لا تظـن السوء
لا تفرح بالإثـم (بالظلـم)
تفـرح بالحـق
والـمجـوعـة الثالثـة:
تبيـن لنـا عظـمة الـمحبة فـى كـمالهـا وشـمولها.
وهـى تتكون من أربع صفات (تجمع بينها كلـمتان هـما “كل شيئ”)
الـمحبـة..تحتـمل كل شيئ
الـمحبـة..تصدق كل شيئ
الـمحبـة..ترجـو كل شيئ
الـمحبـة..تصبـر علـى كل شيئ
وفـى ختام هذه الباقـة اليانعـة من الصفات، يقدم الرسول عبارة ختامية فاصلة وقاطعـة تبيـن نصـرة الـمحبـة إذ يقـول:

” الـمحبـة لا تسقط أبـداً”.
فهيـا بنـا نتأمـل فـى الـمجمـوعـة الأولـى
“أسلوب الـمحبـة”
تتأنـى..وتـرفـق..لا تحسـد..لا تـتفاخـر..ولا تـنـتفـخ…
1. أسـلوب الأنــاة
إن التأنـى من صفات اللـه..ولا غرابـة أن الـمحبـة تـتأنـى لأن اللـه مـحبة.
لقد وُصف اللـه انـه “إله رحوم ورؤوف،بطئ الغضب وكثيـر الإحسان” (خر6:34) وانـه “رحيـم ورؤوف طويل الروح وكثيـر الرحـمة” (مز8:103).
والأنـاة مع البشر هى صفـة من صفات اللـه التـى نختبـرهـا كل يوم فـى حياتنـا.
مـا أكثـر الـمرّات التى نرى فيها الظالـمين يستـمرون فى ظلمهم، والأشرار يتـمرغون فـى شرهـم وتجديفهم على اللـه. ونحن نتعجب كيف يرضى اللـه أن يستـمروا فـى هذه الأفعال الـمشينة..
أليس من عقاب رادع يوقفهم عند حدهم؟..هل حقا يوجد إله قدوس وعادل..وإذا كان حقاً موجوداً فلـماذا يسكت ويترك هذه الـمظالم تفسد حياة البشر وتنكد على الـمؤمنين؟.
والجواب على هذه الأسئلة الـمحيّرة هـو أن اللـه يتـأنـى..
ذلك لأن اللـه يحب العالـم “هكذا أحب اللـه العالم حتى بذل إبنه الوحيد” (يو16:3).. هكذا يحب اللـه العالـم حتى إنه يتأنـى لكى يقتاد لطفه الخاطئ إلـى التوبـة…لهذا يعلـمنا الرسول بطرس قائلاّ: “وإحسبوا أناة ربّنـا خلاصـاً” (2بط15:3).
لكن البشر لا يعرفون الأنـاة لأنـهم لا يعرفون الـمحبـة. إنـهـم يريدون سرعة إنزال العقاب بالناس..إنـهم يتصورون ان هذه علامة من علامات القوة..والواقع عكس ذلك..
فالتأنـى مظهـر للقوة الحقيقية لأنه مظهر الـمحبة..
والـمحبة قويـة كالـموت.
لقد رفضت قرية من السامرة أن تقبل يسوع الـمسيح مرة وإغتاظ يعقوب ويوحنا..كان إسمهما إبنى الرعد..وطلبا الإذن من يسوع أن يطلبا ناراً من السـماء لتنـزل وتحرق هذه القرية..ولكن يسوع إنتهرهـما وقال “لستـما تعلـمان من أي روح أنتـما..لأن إبن الإنسان لـم يأتِ ليهلك أنفس الناس بل ليخلّص” (لو55:9). والرائع فـى الأمـر أن يوحنا-ابن الرعد- عندما تذوق طعم الـمحبة..تغيـّر وصار رسول الـمحبة..لقد تعلّـم أن الـمحبـة تـتـأنــى.
مـا أكثـر الناس الذين يحتاجون أن يتعلـموا هذا الدرس. إذا كان اللـه وهو القدوس الطاهـر يتأنـى مع الخطأة والظالـمين والقساة..أفلا يليق بنا نحن البشر الـمعرضين لكل خطأ وتجربـة أن نتعلـم أن نتأنـى وألاّ نسرع فـى الغضب والإنتقام.؟!
كلـما خطر فـى بالك أن تنـتقـم لنفسك أذكـر إن الـمحبـة تـتأنـى..لهذا دعانـا الرسول بولس قائلا: ” فألبسوا كـمختارى اللـه القديسين أحشاء الرحمة واللطف والتواضع والوداعة والأنـاة” (كولوسي 12:3)…
2. أسلـوب الرِفـق
الـمحبـة تتأنـى وفـى تأنيهـا لا تكتم الغيظ أو تحـمل الحقد، لكن سر طول أناتـهـا راجع إلـى انـها مليئة بالحنان والرفق..إنـهـا تـميل بصاحبهـا إلـى اللطف والحنو وتعدل به عن القسوة والعنف.
والرفـق أو اللطف من صفات اللـه فقد قيل للخاطئ
“إن لطف اللـه إنـما يقتادك إلـى التوبـة”(رو4:2).
وقد وصف أوريجانوس الـمحبة بأنها “عَذْبـة مع الـجميع”.
وقـد جاءت النبوة لتصف الـمسيح بأنـه لا يريد أن يقصف أو يكسر قصبة مرضوضة ولا يريد أن يطفئ فتيلة مدخنة..
وهذا هو الرفق الحقيقى والحنان الصحيح..انـه لا يجرح مشاعر الناس بل يحنو عليهم ليـبنـى حياتهـم. إن بعض الـمسيحيين يتصورون إن قداسة الـمسيحية وتدقيقها يترجـم عـملياً إلـى دينونة الآخرين والخشونة معـهم. إن بعض الـمسيحيين هـم أشبه برجال الـمرور يقفون فى الطريق لكي يسجلوا مخالفات الآخرين. وقد جاء وقت فـى تاريخ الـمسيحية كان فيه الـمسيحيون يضطهدون من يختلفون معهم فـى الرأي وينكلون بـهم بل ويحرقونـهم بالنار..وهذا ليس من الـمسيحية فـى شيئ…
كـم من أعـمال القسوة والإنتقام الذميم ودينونة الآخرين ترتكب كل يوم بإسم الـمسيحية والـمسيحية منهـا براء.
إن حياة الـمسيح وهـى صورة صادقـة للـمحبة الـمتجسدة تظهـر لنا حنوه الشديد ولطفـه الـجميل مع الخطأة والضعفاء. فلقد كان رقيقاً رفيقاً بالـمرأة السامرية فلم يجرح كرامتها ولم يهدر إنسانيتها ولكنه قادها بالرفق إلـى الخلاص.
لقد كان حانيـاً بالـمرأة الخاطئـة فبينـما رفع الناس ،بل الـمتدينون حجارة ليرجـموهـا وقف هو إلـى جانبها وأسكت الـمشتكين عليهـا قائلا لهم” من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولاً بحجر” (يو7:8).
وكنا نظن أنه هو القدوس الذى بلا خطيئة بعد أن إنصرف الجموع يوبخها ويعنفها، لكنه قال لها ” ولا أنـا أدينك..إذهبـى ولا تخطئ أيضا” (يو11:8).
إن معظم الـمسيحيين اليوم لا يقفون إلـى جانب الـمسيح فـى مثل هذه الـمواقف، لكنهم يقفون موقف الدينونة.وإلـى كل هؤلاء ينادى الـمسيح:
“لا تدينوا لكى لا تدانـوا” (متى 1:7)…”الـمحبـة تـتأنـى وترفـق”(1كو4:13)..”كونوا متحدى الرأي بحس واحد ذوى محبة أخوية مشفقين، لطفاء،غيـر مجازيـن عن شر بشر، أو عن شتيمة بشتيـمة، بل بالعكس مباركين، عالـمين انكم لهذا دعيتم لكى ترثـوا البـركـة” (1بط8:3-9).
3. الـمحـبـة لا تحسـد
ليس بالـمقصود بالحسد هنا ما إصطلح عليه الناس وما يعتقدونه بأن العين الشريرة إذ تشتهـى ما للآخرين تضر الآخرين وتسبب لهم الخسارة والهلاك..فـمثل هذا الحسد لا يوجد. لكن العين الشريرة تضر صاحبهـا لأن الحسد يأكل قلبه، وينهش كيانه عندما يرى خيراً للآخرين لـم يحصل هو عليه ..
إن أبسط صورة للحسد هى الطمع فيـما يخص الآخرين وإشتهاء ما يـملكون. لكن الحسد يتطور فى نفس الإنسان حتى يصير حزيناً لأن غيره نال شيئاً، بل يتمنى زوال هذا الشيئ من الآخريـن.
إن مثل هذا الحسد يكشف عن مشاعر رديئة فى نفس الإنسان، فهو يدل على الأنانيـة والطمع، والحقد، والكراهيـة… وهو يؤدى إلـى شرور كثيرة فقد قال سليمان الحكيـم”الحسد نخـر للعظـام” (أم 30:14). وقايـين قتل أخاه هابيل بسبب الحسد (تك 5:4-9) و (1يو12:3).
وأخوة يوسف دبـّروا الـمكائد له بسبب الحسد (تك 11:37).
وقد كان أهل كورنثوس يحسدون من نال موهبة من مواهب الروح، وكان هذا الحسد يؤدى إلـى الشقاق والخصام فيـما بينهم (1كو11:1)..
ونظر اليهم بولس الرسول وتعجب: كيف تقولون انكم تتمتعون بمواهب الروح وفى نفس الوقت بينكم حسد وخصام.
ان ثـمر الروح محبـة..والـمحبـة لا تحسد..
إن الـمحبة لا تغـار عندما ترى الآخرين فى خيـر وفى بركـة..إنها تفرح لهم لأنها تحب..والـمحب يتمنى لو كانت كل البركات فى حضن من يحبه.
إن الحسد والـمحبة لا يـمكن أن يجتـمعا فى قلب واحـد..
امتحنـوا أنفسكم..إذ وجدتـم صفـة منهـما فـى قلوبكم فلا بد أن الثانيـة غيـر موجــودة.
4. الـمحبـة لا تـتـفاخـر ( لا تتباهـى)
أصغيت الى صوت الـمحبة، فإذ بها تتحدث فى هدوء ورقـة..
تحاول أن تخفى ذاتها ولا تعلن عن أعمالهـا.
رأيت الـمحبة تعطى وتعطى، لكنها لا تعلن عن عطاياهـا..
إنها تبذل وتضحـى، لكنها لا تتحدث عن تضحياتهـا..فعجبت لذلك..
لكننى علـمت أن هذا هو أسلوبـهـا..مهـما أعطت..فانـهـا تـتصور أن عطاياهـا قليلـة..ومهـما بذلت فانهـا تعتقـد أن تضحياتهـا ضئيلـة..
ذلـك لأن أسـمهـا الـمحـبــة.
قـارنت بينهـا وبين من يفتخرون بفضائلهـم، فوجدت بعض الناس يطلبون مدح الناس وثنـاء الجـميع.
وسألتُ الـمحبـة: لـماذا لا تتحدثيـن عن أعـمالك؟..
فأجابتنـى الـمحبـة: ضئيلة هـى أعـمالـي ولا تكفـى للتعبيـر عن مشاعري.
سألتهـا: ومـا هـو الجـزاء الذى تناليـنـه من وراء تضحياتـك؟
فقالت: اننـى لا أبحث عن جزاء، لكنى أريد أن أُسعد غيـرى فهذا هو جزائـي وهذه هى سعادتــي..
وعرفت اننى لن أستطيع أن أجعل الـمحبـة تتحدث عن نفسهـا..
لأنهـا لا تـتـفـاخــر..

5. الـمحبـة لا تـنـتفـخ
إن علّة التفاخـر هو الإنتفاخ..أو الكبريـاء..والإعجاب بالذات.
ومع ان الـمحبـة أجمل ما فى الوجود..وأحلى ما فى الإنسان..
لكنهـا لا تـتكبـر ولا تنـتفخ..
لقد نزل اللـه الى عالـمنـا، وكلّـمنا فـى شخص يسوع الـمسيح الذى هو بهاء مجد الآب وصورة جوهره وضابط الكل بكلمة قوتـه
(عب 3:1) .. وبالرغم من مساواة الإبن للآب فـى الجوهـر لـم يتفاخـر أو يتباهـى لكننا سمعناه يقول ” تعلـموا مني لأنـى وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم” (مت 29:11).
وعاش يسوع حيـاة الإتضاع لدرجـة أن بعض الجهلة تصوروا انه مجرد إنسان عادي بسيط لأنـه عاش حياة الوداعـة ..
ولـم يدركوا ان سر إتضاعـه هـو الـمحبـة..
لأن الـمحبـة لا تنتفخ.
إن آفـة الآفات هـى الكبريـاء..هـى التى جعلت الـملاك شيطانـا
(حز14:28-17)، وهى التى أسقطت أبوينـا الأوليـن (تك5:3)، وهى التى تـملأ الدنيا خصامـاً وحقداً ومشاجرةً بإسم الكرامـة والشرف والإحتـرام.
والكبرياء لا تستطيع أن تحيا حيث تسكن الـمحبة..فالمحبة تنسى نفسها، والكبرياء تشعر بذاتـها كل لحظـة.
وقد تبرز الكبـرياء صاحبهـا وتعطيه مظهـراً جميلاً براقـاً، لكن الـمحبة تجـمّل صاحبهـا وتعطيه مذاقـاً حلواً.
عـندمـا تـمتلئ بالـمحبـة عندئذ لن تفكر فى ذاتك ولا فيما يقوله الناس عنك..لكنك ستفكر فيـما يـمكن أن تفعلـه لإسعاد البشر.
إن مـا يضـير الـمحبة ليس مقدار ما تنال من مجد، لكن مقدار ما تؤدى من خدمـة..وهكذا كان يسوع، “لـم يأت ليُخدم بل ليخَدم وليـبذل نفسه فديـة عن كثيريـن”(مت28:20).
هـذا هـو أسلوب الـمحبـة:
تـتـأنـى..فلا تسرع فى الغضب والعقاب
تـرفـق..فلا تـتخـذ موقف الدينـونـة والقسوة
لا تحـسد..بل تسر لخيـر ينالـه الغـيـر
لا تـتفاخـر..بل تخفـى ذاتهـا ولا تتحدث عن نفسهـا
لا تنـتفـخ..بـل برداء التواضع والوداعة تخدم الجـميـع..
فهـل هـذا هـو أسلوبـك فـى التعــامــل؟؟؟
الـمجـمـوعـة الثانيـة..
أخلاق الـمحبـة
“لا تقّبح ولا تطلب ما لنفسهـا..
لا تحتـد ولا تظن السوء..
لا تفـرح بـالإثــم..
بــل تفـرح بالـحـق” (1كو 5:13و6)
رأينـا أسلوب الـمحبـة فـى الـمجموعـة الأولـى ،
أما فـى هذه الـمجموعـة سنرى فيها طبيعة الـمحبة ذاتـهـا أو أخلاق الـمحبـة..
وفيهـا نـرى ست صِفـات:
+ الـمحبـة لا تقّبح (لا تأتـى قباحـة)
+ الـمحبـة لا تطلب مـا لنفسهـا
+ الـمحبـة لا تحـتـد
+ الـمحبـة لا تظـن السـوء
+ الـمحبـة لا تفـرح بالإثـم..بـل تفرح بالحـق.
ولقد أطلقنـا على هذه الصفات الست أخلاق الـمحبة لأنهـا تعبـّر عن طبيعة دائـمة فـى الـمحبة ذاتهـا..
فالـمحبـة ليست مجرد أسلوب فى التعامل مع الآخرين لكنها مبادئ دائـمـة لأخلاقيات الـمحبة..أو أخلاق دائـمة للـمحبـة.
وقد يدهش البعض لهذا التعبيـر “أخلاق الـمحبة”..أو “أخلاقيات الـمحبة” ..الـمحبة ليست فى ذاتهـا مجردصفة بل شخص..وهذا هو الواقع، فالـمحبة ليست مجرد صفة يتصف بهـا الإنسان..انهـا بذرة حياة جديدة يغرسها اللـه فى الإنسان وتنـمو فيه، ومن ثـمار هذه البذرة تنبع الفضائل كلهـا أو الأخلاق كلهـا.
ان الـمحبة هى يسوع الساكن فى قلوبنـا..
هـى اللـه الـمالئ حياتنـا..
هـى الروح القدس الـمسيطر على كيانـنـا..
لذلك فعندما تسكن فينا الـمحبة، تنمو فى حياتنا أخلاق الـمحبة.
عبثـا يحاول الناس أن يلصقوا بأنفسهم الفضائل أو يتكلّفوا فى حياتهـم الأخلاق.
إن الأخلاق ليست رداء نفّصله علينا، لكنها ثـمر ينتج من حياة تـنمو فى دواخلنـا.
وفـى هذه الـمجموعـة التى تصف لنا أخلاق الـمحبة سنـتعرّف على أهـم ملامـحـهـا:
مظهـرهـا..مـطلبهـا..أعصابـهـا..أفكارهـا..أحزانـهـا..
وأفراحهـا.
1. مظهـر الـمحبـة
“الـمحبـة لا تُـقّبح”..(لا تـأتـى قباحـة”
والـمقصود هنا هو الرأفـة فى الحديث، والجمال فى التصرف، والذوق فى الـمعاملة، والتأدب فى الحركات والسكنات.
إن مظهر الـمحبة هـو فـى البسمة الرقيقة، والنظرة الحانية، والكلـمة الحلوة، واللـمسة الـمشجعة، والذوق السليم، والـمجاملة فى غير مبالغة، والتوجيه فى غير فظاظـة..
هذه هـى الـمحبـة…
إن بعض الناس يتصورون ان الـمسيحية معناها تعرية شخصيات البشر بإسم التوبيخ، والفظاظة فى الكلام بإسم الصراحة، وإيذاء مشاعر الآخرين بإسم الصِدق..
لا..ليتعلـم هؤلاء أن الـمحبة رقيقة..عذبـة..مجامِلة فى غيـر كذب ولا نفاق.
وليقفوا أمام يسوع وهو يتحدث مع الـمرأة السامرية الخاطئة التى كانت تحيا مع رجل فى الحرام وما كان أكثر الرجال فى حياتـهـا..لكنه برِقتـه قال لهـا “اذهبى وإدعـي زوجك”، فلما قالت له “ليس لـي زوج”..رد عليهـا “حسناً قلت ليس لـي زوج لأنه كان لك خـمسة أزواج، والذى لك الآن ليس هو زوجك، فبالحق تكلـمت”(يو17:4-18)..
لا يوجد تعبيـر فى الوجود أرق من هذا..لكنه لا يوجد تعبير أصدق فى نفس الوقت.
إن الـمسيحية تعلـمنا الرقة و”الإتيكيت” لأنها تعلـمنا الـمحبة. وليست الخشونة شيئا مرغوباً، بل كثيـرون يظلمون الـمسيحية عندما يتصورونهـا تشجع إلقاء حجارة من الكلام على رؤوس الناس..!!
لا..انها أشبه بنـثـر الزهـور لا إلقـاء الحجارة.
2. مطلب الـمحبـة..
“الـمحبـة لا تطلب مـا لنفسهـا”
إن الـمحبة ليست كسولة ولا خاملة، انـهـا تعـمل وتجتهد وتبذل الجهد الكثيـر..
إنـها تطلب كثيراً..وترغب فـى الكثيـر..ولكنها فى كل ما تطلب ليست أنانية..لاتطلب ما لنفسها.
إنها لا تفكر فى إمتيازات تنالها، أو فى حقوق تطالب بها، لكنها تفكر فى خدمة تقدمها..وفى واجبات تؤديها..
عندما عاشت المحبة متجسدة على أرضنا فى شخص يسوع الـمسيح استطعنا أن نرى صورة عملية من حياة الـمحبة..
كان يتعب ليل نهار..يقول “للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار وأما إبن الإنسان فليس له أين يسند رأسه”(لو58:9)..
يجوع، يقدم له طعام..لكنه ازاء الشعور العميق بالواجب يقول:
“طعامي أن أعمل مشيئة الذى أرسلنى وأتمم عمله” (يو34:4)..
ماذا كان يطلب؟..
لـم يكن يطلب لنفسه شيئا..فى ميلاده لم يطلب مهداً مريحاً..وفى حياته لم يطلب فراشا وثيراً..وفى موته لم يطلب سوى الصليب..
لكنه فى كل وقت كان يطلب خلاص الهالكين..
هذا هو مطلب المحبة: التجرد من الذات والفناء فى خدمة الآخرين..
إن الحديث عن هذا الأمر سهل لأنه لا يكلّف سوى بضع كلمات وتعبيرات..لكن تطبيقه صعب لأنه يكلّف كل شيئ.
إن الإعجاب بالـمسيح ونصيحته ميسور لأنه لن يكلفنا سوى شعور بالإنبهار وهتاف وتمجيد ومدح وثناء..لكن السير فى طريق تضحية الـمسيح عسير لأنه يتطلب منا أن نحمل الصليب..أن ننكر ذواتنا..ألاّنطلب ما لنفوسنا!
إن بولس الرسول حاول أن يقتدى بالـمسيح فقال”كما أنا أيضا أرضي الجميع فى كل شيئ غير طالب ما يوافق نفسي بل الكثيرين لكى يخلصوا”(1كور33:10).
وهو ينصح أهل كورنثوس بقوله” لا يطلب أحد ما هو لنفسه بل كل واحد ما هو للآخـر” (1كور24:10)..
وينصح اهل رومـية بقوله “مقدّمـين بعضكم بعضاً فى الكرامة” (رو10:12).
ولو اننا حاولنا أن نطبق ذلك على حياتنا لوجدنا ذلك من أشق الأمور لأن طبيعة الإنسان أن يهتم بنفسه قبل غيـره..ومهما حاولنا أن نتكلف التضحية وإنكار الذات، فإن طبيعتنا الأنانية ستغلب علينا.
والعلاج ليس فى الـمحاولة، ولكن العلاج الحقيقي هو أن نـمتلئ بالمحبة..فالمحبة هى التى تجعلنا ننسى نفوسنا تماماً..ولقد اختبرنا ذلك فى حياتنا العملية، فالأم الـمريضة تنسى نفسها ومرضها عند مرض أولادها لأن محبتها تدفعها إلى ذلك. والغالي يصبح رخيصاً إذا قدمناه لـمن نحب “لأنه لو بذل الإنسان كل ثروة بيته ثـمنا للمحبة لأُحتقر إحتقاراً”(نش 7:8).
3. أعصاب الـمحبة
الـمحبـة “لا تحـتــد”…
فمع أن الـمحبة حارة ملتهبة فى حرارة عواطفها، لكن أعصابها ثابتة قوية ورزينة لذلك فهى لا
تحتد..لا تسخط على الآخرين وتغتاظ منهم..لا تترك نفسها لأهواء الإنفعالات، فتخطئ وتسئ إلـى
الآخرين.
وقد عجبت كيف تجتمع حرارة العاطفة مع برود الأعصاب فى مكان واحد؟..
لكنى عرفت السر..والسر هو أن الـمحبة تلتمس الأعذار للناس، فلا تحتد إذا أخطأوا.
انها تصلي لأجل الناس لذلك تهدأ الأعصاب ويضيع الإحتداد.
قد يكون طبع الإنسان ثائراً، لكن الـمحبة تمنعه من الثورة إذا تكلّم. وطبيعة الإحتداد أنه يزول إذا لـم نطعمه بنيران كلامنا وغضبنا وغيظنا..
ولقد تعود بعض الناس أن يربوا نفوسهم على عدم الإحتداد واستطاعوا أن يصلوا الى نتيجة طيـبة ما دامت حياتهم مليئة بالـمحبة..فهم يعلمون أن الإنسان فى غضبه معّرض لأن يتفوه بـما لا يليق ويسيئ الى الناس والى نفسه، وهذا يتعارض مع الـمحبة..
لذلك درّب البعض نفسه على عدم الكلام إطلاقـاً عند الغضب..والبعض تعودوا ألاّ يقولوا كلمة عند الغضب إلاّ بعد أن يرددوا عدة مزاميـر يحفظونها مثل مزمور 51 ومزمور 139. والبعض يرددون نشيد المحبة عند الغضب، لكى يستخدم روح الله كلماته لتهدئة خواطرهم. ويمكننا أن نجرب هذه الأساليب..بعد أن نطلب من اللـه أن يـملأنـا بالـمحبة.
4. أفكـار الـمحبـة
الـمحبـة “لا تظـن السـوء”
إن معظم مآسينا تأتينا من أفكارنـا..فإذا ما خطـر فى بالنا أن شخصاً ما يعاديـنا، استطاع عقل الإنسان وفكره الشرير أن يصوّر لنا كل تصرفاتـه انها عداء لنا وتـآمـر ضـدنــا..
وقد لاحظت فى اختباري لمعظم المشكلات التى تحدث بين الناس ان سببها راجع الى سوء الظن، فهو الذى يجعل الناس تؤول الكلام الى معنى خاطئ، وتفسر التصرفات فى إتجاه غير سليم..وهكذا يـبنى الناس أكوامـاً من الكراهيـة بسبب سوء الظن.
أمـا الـمحبة فهى تفكر بكيفية مختلفة..انها لا تنسب الى أحد سوء النية، بل تنسب الى الناس الـمقاصد الحسنة. وإذا حدث خطأ ظاهـر من أحد، فان الـمحبة تحاول أن تلتمس له الأعذار بأنه أتـى ذلك الخطأ جهلاً..وإذا تأكد فى الإنسان قصد التعدي والإساءة مالت المحبة الى ستر ذنبه أكثر من ميلها الى كشف هذا الذنب.
فعند الصليب رفع يسوع صلاة من أجل صالبيه قائلاً” يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لو34:23).
وعند رجم استفانوس رفع صلاته الى اللـه قائلاً:”يارب لا تقُم عليهم هذه الخطيئة” (أع 59:7).
أين هذا من اسلوب البشر، وفكر الإنسان الطبيعي، الذى يحاول أن يضخم الإساءة ويتوسع فى شرح مدلولاتها وتعدياتها وكأنه أشبه بالـمدعي العام الذى يحاول أن يحلل العمل الواحد ليستخرج منه عدة جرائم وجنح ومخالفات ليطالب بالعقوبـة.
إن الـمحبة مـحـام وليست مدّع عـام..
إن الـمحبـة تستر كثرة من الخطايـا لأنها لا تظن السوء..
ولو اننا اتبعنا أسلوب المحبة لعشنا سعداء وأرحنا أفكارنا من عناء الظنون وجحيمهـا.
5. أحــزان الـمحـبـة
الـمحـبـة “لا تفـرح بالإثـــم”
وليس المقصود هنا مجرد ان المحبة لا تتلذذ بعمل الإثم، فهذا أمر بديهي لا يحتاج الى تأكيد وتنبيه، ولكن يبدو ان بولس شاهد فى اهل كورنثوس عادة سيئة وهى انهم يتلذذون بذكر خطايا غيرهم من الناس.
وهذه عادة عند كثيرين من البشر..انهم يفرحون عندما يسمعون عن شخص ما انه سقط فى خطيئة معينة، ويتلذذون ويتهافتون على سماع عيوب الآخرين ذلك لأنهم يجدون فى عيوب الآخرين هروباً من التفكير فى عيوبهم هـم.
إن بعض الناس يتهافتون على سماع مذمات الغير ويتلذذون بذلك اكثر مما يهتمون بسماع الـمدح عن الآخرين.
لكن الـمحبة ليست هكذا..ان قلبها ينكسر عندما تسمع عن خطايا الآخرين..انها تحزن لذلك ولا تتمنى أن تسمع عنه..ان الممحبة لا تفرح بسماع مذمات الآخرين وعيوبهم..ذلك لأنها لا تفرح بالإثـم..
بـل تـفرح بالحــق.

6. أفــراح الـمـحـبـة
“بــل تــفــرح بـالـحــق”
فسرور الـمحبة أن تسمع عن إنتشار الخيـر والحق..ولذّة الـمحبة أن تنتشر بين الناس روايات مباركة عن عمل نعمة الله فى قلوب البشر وكيف أثـمرت هذه النعمـة.
إن الـمحبة يحزنها أن يضل واحد من الناس، ويفرحها أن يعود هذا الضال الى طريق الإيـمان..
انهـا مثل الراعي الذى فتش عن خروفه الضال، ومتى وجده وضعه على منكبيه فرحـاً وصنع وليمة لأصدقائه لأنه وجد الخروف الضال.
هـذه هـى طبيعـة الـمحبـة..بـل أخلاق الـمحبـة..فلنضرع الـى رب الـمحبة أن يحـل هـو باللإيـمان فـى قلوبنـا لكى تكون لنـا أخلاق الـمحبـة..أخلاق الـمسيح
“ليكن فيكم من الأفكار والأخلاق مـا هو فـى الـمسيح يسوع”(فيليبي 5:2).
الـمـجـموعـة الثـالثـة
عـظـمـة الـمحبـة
“تحتمل كل شيئ وتصدق كل شيئ وترجو كل شيئ وتصبر على كل شيئ” (1كور7:13)
فوق قمم عالية من الـمعانـى صعد بنا بولس الرسول وهو يصف المحبة ويترنم بها.. وبسحر اللفظ وروعة الـمعنى حملنا معه لنرى ملكة الفضائل تتزين بأجمل الجواهر الكريمة واللآلئ الثمينة.
فبعد أن وضّح لنا أسلوب المحبة فى تعاملها مع الآخرين، وأظهر لنا أن المحبة تتأنـى وترفق ولا تحسد ولا تتفاخر ولا تنتفخ..
وبعد أن وصف لنا أخلاق المحبة وطبيعتها الجميلة إذ أنها لا تأتى قباحة
(لا تقّبح) ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتد ولا تظن السوء ولا تفرح بالإثـم بل تفرح بالحـق..
إذ بـه يرتقـى من قمة شاهقـة الى أعلى القمم..ومن روائع الصفات الى منـتهى الروعة والإبداع..فيرى المحبة فى عظمتها وقدرتها الفائقة تتخطى الحواجز وتقف صلبة ثابتة أمام جميع الظروف والأحوال، فيختم الصفات الخمسة عشر بأربع صفات ذيّل كل صفة منها بكلمتين كررهما بعد كل صفة تأكيداً للـمعنى العظيم الذى أراد أن يظهره..
فقال:
” المحبة تحتمل كل شيئ..وتصدق كل شيئ..وترجو كل شيئ..وتصبر على كل شيئ “.
هذه العبارات الأربع تبين لنا عظمة المحبة فهيا بنا نتأمل هذه العظمة فى وجوه ثلاثـة:
مظهـر هـذه الـمحبـة..
1. الـمحبـة عظيـمة
من يمتلك المحبة أو تمتلكه الـمحبة..عظيم..
لكن كلمة “العظمـة” أُسيئ استخدامها وفهمها فى عالـمنا هذا، وصار معناهـا ممسوخـاً منحرفـاً..
فالعظيـم فى نظر أهـل العالـم هو السيد الـمتسلط الذى يأمر فيطاع..تنحنى أمامه الرؤوس ويلتمس الناس رضاه..
فالعظيم هو ذاك الذى لا يجرؤ أحد أن يـمس كرامته أو يجرح مشاعره.
هذا هو معنى العظمة فى تقدير أهل العالـم، وهو معنى ترفضه الـمسيحية تمامـاً..
قال السيد الـمسيح لتلاميذه”أنتم تعلمون أن عظماء الأمم يسودونهم والـمتسلطون عليهم يدعون محسنين فلا يكون هكذا بينكم..بل من أراد أن يكون فيكم عظيمـاً فليكن للجميع خادمـاً” (مت 25:20-26).
والـمحبة عظيمة بالـمعنى الـمسيحي لا بالمعنى الدنيوي..
ولك أن تختار الطريق الذى تسلكه، إما طريق العظمة الدنيوية أو طريق العظمة الـمسيحية..
إن عظمة المحبة مظهرها لا فى السيادة والصولجان والبطش والسلطان..لا..
انها تحتمل كل شيئ وتصدق كل شيئ وترجو كل شيئ وتصبر على كل شيئ…
عظيمة فى إحتمالها..عظيمة فـى إيمانها..عظيمة فى إنتظاراتها..
عظيمة فى صبرهـا..هذه هـى الـمحبـة..
إنـهـا عظيـمة فـى إحتـمالـهـا:
تحتمل كل شيئ..وكلمة “تحتمل” معناها فى الأصل “تستر” او “تغطـى”.

وفى الـمثال الدارج “المحبة تستر”. وفـى الكتاب الـمقدس “المحبة تستر كثرة من الخطايـا”، وطوبـى للذى غفر اثـمه وسترت خطيئته” أي طوبى لـمن تمتع بالمحبـة..
إن العين الناقدة تكبّر العيوب وتزيد عليها، لكن عين الـمحبة تغض الطرف عن العيوب والنقائص لأنها لا تريد أن تراهـا..
الـمحبة تستر الخطايـا، لأنها تحتملها ولا تضيق ذرعـاً بضعفات الآخرين..
الـمحبـة تستر الخطايا لأنها تغفرهـا وتصفح عنهـا وتحاول أن تغطيهـا..وقد شبّه أحدهم الـمحبة بأصداف اللؤلؤ..ففى الصدفـة حيوان صغير إذا ما دخل الى داخل الصدفة جسم غريب، تفرز الصدفة حوله مادة تغطى هذا الجسم، وهذه الـمادة هى اللؤلؤة غالية الثـمن..
انهـا تحّول الإساءة الى لؤلؤة الغفران، لذلك فإن المحبة تحتمل كل شيئ..
هذه هى عظمة المحبـة..عظمة الغفران.
والـمحبة عظيـمة فـى إيـمانـهـا:
انها تصدق كل شيئ..انها تصدق مواعيد اللـه. ان كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون اللـه. إنـهـا تصدق..وسط الألآم..ان اللـه فى الوقت الـمعين سيحول هذه الألآم الى أمجـاد..والأشواك الى اكليل فخـر.
وهى تصدق الناس أيضاً..لأن من طبيعتها انها لا تظن السوء، لذلك فهى تصدق ما يعلنه الناس من حسن نواياهـم، وعندما يعتذرون تقبل اعتذارهم دون مناقشة، لأنها تصدق أقوالهم وتلتمس لهم الأعذار..
ان الـمحبة تؤمن باللـه فتطـمئـن..وهى تؤمن بالناس فتـثق بهم وتفترض فيهم النيّـة الطيـبـة.
والـمحبة عظيـمة فـى انتظاراتـهـا:
فهى ترجو كل شيئ..انـها لا تفقد الأمـل فى أي إنسان، ولا فى أى موقف..انها كالأب الرفيق الذى ينتظر عودة الضال مهما طال غيابـه.
انها كالـمدرس الـمتفائـل، لا يفقد الأمل من أغبى تلميذ، لكنه يعمل ويعمل منتظراً ثـمراً.
ولأن الـمحبة عظيمة فى إنتظاراتها، فهى تحقق بالأمل إنجازات رائعـة.. لأنه لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس.
والـمحبـة عظيـمة فى صبـرهـا:
انـهـا تصبـر على كل شيئ..ليس صبـر العاجزيـن الذى يستسلمون للأحداث بطريقة سلبية. بل صبـر الشجعان الذى يثبتون ويعملون لكى تتحول الآلام الى بركات، والضيقات الى ينابيع تعزيـة.

هذه هى عظمة المحبة فى مظاهرهـا الأربعـة..
تحتمل كل شيئ..تصدق كل شيئ..
ترجـو كل شيئ ..تصبـر على كل شيئ.
2. درجـات هذه العظـمة:
لكل إمتحان نتيجة، لها تقديرها بالدرجات..هناك من ينجح بدرجة مقبول، وهناك من ينجح بدرجة جيد، وهناك من ينجح بدرجة إمتياز..
أمـا الـمحبـة فقد نجحت فى إمتحانها بدرجة “ممتاز” مع مرتبة الشرف الأولـى فلقد نالت الدرجات النهائية فى كل شيئ.
ففـى إحتمالهـا..احتملت كل شيئ
وفـى تصديقهـا..صدقّت كل شيئ
وفـى رجاءها..رجت كل شيئ..
وفى صبـرها..صبـرت على كل شيئ.
لا يوجد شيئ فى الوجود لا تستطيع الـمحبة أن تحتمله، أو يتعذر عليها تصديقـه..لا توجد حـالـة تفقدهـا الأمـل، ولا توجد تجربـة أقوى من صبـر الـمحبـة..
تـأملوا فى كلـمة “كل شيئ” ..انها تحتوى على أبعاد لا حدود لها..
انها تشمل شرور الناس جميعـاً، وآلام الدنيا بأنواعها، وكل أنواع الغدر والخيانة والتجارب.
كل هذا يـمكن للمحبة أن تواجهه بنجاح دون أن تفقد الأمـل..
إن التسلسل الـموجود فى هذه الآيـة يوحي لنا بما يمكن للمحبة أن تعمله إزاء شرور البشر.
فلو افترضنا حالة إعتداء على الـمحبة وإهانـة لهـا، فإن معالجة الـمحبة للـموقف يتدرج فى هذه الدرجات الأربـع:
تحتمل- تصدق-وترجـو- وتصبـر.
ومعنى ذلك أن الـمحبة إزاء كل الإساءات الموجهة إليها:
أولا..لا تبالـي بالإساءة وتحاول أن تستـرهاوتغفرهـا لأنها تحتمل كل شيئ.
فإذا تكررت هذه الإساءة، فإن الـمحبة تصدق إعتذار مرتكبها بـأنه لـم يقصد إهانتها أو الإضرار بهـا..لأنها تصّدق كل شيئ.
فإذا تكررت هذه الإساءة لدرجة يصعب معها التصديق وقبول الإعتذار فإن الـمحبة لا تفقد الأمل، بل أنها تظل فى موقفها الغافـر الـمحتمل وهى ترجو أن يعود الـمعتدي إلـى صوابه ويتوب عن شره، ويصلح حاله وتظل باقية على هذا الأمل ..لأنها ترجو كل شيئ.
فإذا استمر الـمسيئ فى إساءته ولـم يبق من سبيل الى تصديق أعذاره ولا رجاء الى إصلاحه لعدم عدوله عن الشر، فإن الـمحبة تحتمل تعديـه واساءته بصبـر تام، وتترك الأمر للـه اقتداءاً بيسوع
“ظُلم أما هو فتذلل ولـم يفتح فاه كشاة تساق الى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فـاه” (اش 7:53).
هذه هى درجات العظمة التى وصلت اليها الـمحبة..
وأنت أيها الـمؤمن..ياليتك فى مواقف الحياة الـمتأزمة ترتقى هذا السلّم..ُسلّـم العظـمة ذو الأربع درجـات..
تحتمل كل شيئ-تصدق كل شيئ-ترجو كل شيئ-تصبـر على كل شيئ.
3. سـر هـذه العظـمـة
وفـى ختام هذه الباقـة من صفات الـمحبة التى توّجتها عظمتهـا فـى إحتمالها وإيـمانها ورجائها وصبـرها، بقى أن نتساءل: ما هو السر الكامن وراء هذه العظمة؟..وكيف استطاعت المحبة أن ترتقي الى هذه القمم؟..
وما هى مصادر عظمتها؟
انـه لا توجد مدرسة يمكن أن نتعلم فيها المحبة سوى مدرسة المسيح..
إن الينبوع الذى استقت منه المحبة صفاتها هو ينبوع الروح القدس لأن ثمر الروح القدس هو محبة..وأن الروح القدس هو الذى يـمّد المحبة بطاقاتها التى لا حدود لها.. إن طبيعة المحبة مأخوذة من طبيعة اللـه..
لأن اللـه مـحبـة..
وطبيعة الـمحبة أُعلنت فى شخص يسوع المسيح..
فإذا قلنا إن الـمحبة مُضحّية.. ذلك لأن المسيح هو الصورة الكاملة للتضحيـة..
وإذا قلنا الـمحبة غـافرة ..فلأن المحبة إرتوت من جروح المسيح حيث سال الدم الـمطهر من كل خطيئة.
وإذا قلنا أن الـمحبة تصدق اللـه ولا تفقد الأمل فى البشر… فلأن هذه هى طبيعة المسيح..
وإذا تعجبنا إزاء صبـر الـمحبة، فلابدّ أننا نذكر صبـر المسيح..
إذاً فلا يمكن أن نتعلم المحبة إلاّ فى مدرسة المسيح، ولا يمكن أن نمتلئ من المحبة إلاّ إذا إمتلأنـا من الـمسيح..وبالـمسيح..
وفى نفس الوقت دعونـى أقول أننا مهما قلنا إننا نؤمن بالمسيح ونطيع المسيح ونعبد المسيح، فلا يمكن أن يكون هذا صحيحاً إلا إذا أظهرنا ذلك عن طريق المحبة..فالمحبة هى إعلان وجود المسيح فى حياتنا..
وكما قال يوحنا الرسول:”أيها الأحباء لنحب بعضنا بعضاً لأن المحبة هى من اللـه وكل من يحب فقد وُلد من اللـه ويعرف اللـه”(1يو7:4).
ومن لا يحب لـم يعرف اللـه لأن اللـه محبة..
فـهــل أنت تعرف اللــه..؟
امتحن نفسك إزاء هذا الـمقياس.
هـل لـك هـذه الـمحبـة..؟
المحبة تتأنـى وترفـق..المحبة لا تحسد، ولا تتفاخـر، ولا تنتفـخ،
ولا تطلب مالنفسها، ولا تحتد، ولا تظن السوء، ولا تفرح بالإثـم، بل تفرح بالحق..المحبة تحتمل كل شيئن وتصدق كل شيئ، وترجو كل شيئ، وتصبر على كل شيئ.
++++++++++++++++

دوام الـمـحـبـة
” الـمحبة لا تسقط أبداً وأمـا النبوات فستبطل والألسنة فستنتهى والعلـم فسيـبطل” (1كور 8:13)
تدرّج الرسول بولس فى حديثه عن المحبة المسيحية، فإنتقل من الكلام عن فضل المحبة على المواهب الأخرى وقد بيّن فيه أن جميع المواهب من ألسنة ونبوءة وعلم وشفاء وتضحية وإستشهاد لا يمكن أن تكون بديلاً للمحبة، ولا تفيد الإنسان شيئاً إذا لـم تكن لـه الـمحبة..
ثـم انتقل يتحدث عن صفات المحبة وصال فى هذا الميدان وجال، مبيناً لنا أسلوب الـمحبة وأخلاقها وعظمتهـا. وفـى ختام هذا النشيد أوضح عن المحبة ثلاثة حقائق تؤكد ما سبق وأن أعلنه وأراد أن يدللّ عليه..
فبيّن لنـا: دوام المحبـة..وكـمال المحبة..وتفوق الـمحبـة.
واستطاع بخاتـمة النشيد أن يرفع المحبة بأجنحتها السماوية لكى يكون لها الوجود الرائع الكامل فى السماء، وبذلك تتضاءل أمامها كل الـمواهب والفضائـل.
ونحن نذكر الآن هذه الحقيقة الأولـى من الحقائق الثلاث:
” دوام الـمحبـة”
فالـمعيار الذى يقيس به الناس أصالة كل شيئ هو مقدار دوامـه..
اننا نعتبر الذهب أثـمن الـمعادن لأنه يتحمل النار أكثر من غيره من المعادن، فبينما تحرق النار بعض المعادن الأخرى يزداد لمعان الذهب ويتنقى بالنار فهو أكثر دوامـاً من باقـي الـمعادن..
وعندما نحاول أن نفاضل بين قطعة من القماش وأخرى نحاول أن نرى أيهما تحتمل عوامل الزمن أكثر من غيـرها…
إن تحمل الزمن هو الذى يساعدنا فـى المقارنة بين شيئ وآخر..فالأكثر دواماً هو الأفضل..فنحن نـميّز بين صديق وآخر عندما نفكر فى من يبقى وفيـّاً أميناً رغم مرور الأيام والسنين.
بنفس هذا الأسلوب خاطب بولس الرسول أهل كورنثوس عندما رآهم يتنافسون على المواهب المختلفة..يبتهجون عندما ينالون موهبة التكلم بألسنة أو التنبؤ أو العلـم..فأراد أن يبين لهم أن من يقتنى موهبة المحبة هو الفائز الحقيقي لأن الـمواهب الأخرى ستضيع وتنتهى وتبطُل، بينما المحبة تبقى وتدوم. وأخذ نموذجاً لذلك ثلاث مواهب هى النبوة والألسنة والعِلم فقال إنها ستنتهى بينما المحبة لا تسقط أبداً..
وحجة الرسول بولس القوية فى أفضلية الـمحبة على الـمواهب الأخرى إن الـمواهب الآخرى وقتية، بينما المحبـة تدوم إلـى الأبـد.
الـمواهب الوقتـيـة:
” وأمـا النبوات فستبطل..والألسنة فستنتهى..والعِلم فسيـبطل”
أ.النـبـوات
والنبوات على نوعين: فهى إما الإنباء عن أشياء ستحدث فى المستقبل، أو إعلان من اللـه عن حقـه وورسالته ودينونـتـه للناس.

وقـد تشتمل النبوة على الآمرين معـاً..فإن إعلان النبوة قد يشتمل على إعلان حق اللـه ثم كشف مقاصده بالنسبة للبشر..
هذه النبوات يقول عنها الكتاب “انها ستبطل”..فقد كانت موهبة النبوة فى بدية الكنيسة أمراً وقتياً أوجده اللـه لتأييد الـمسيحية ولإكمال الوحي..
وقد قيل فى الكتاب المقدس “لـم تأت نبوة بـمشيئة إنسان بل تكّلم أناس اللـه القديسون مسوقين من الروح القدس” (2بط 21:1).
أمـا وقـد تـم إكتمال كلمة الوحي وصار الكتاب المقدس كاملاً، فلا مجال الآن لـموهبة النبوة “من زاد شيئا على هذه يزيد الله عليه الضربات الـمكتوبـة فـى هذا الكتاب” (رؤ18:22).
لقد أعلن اللـه قصده فى الكتاب المقدس وكل ما يفعله الرعاة الخدّام الآن هو شرح الكتاب الـمقدس، ولا يستطبع أحد مهما كان مقامه أو مركزه فى الكنيسة أن يدّعي انـه يتنبأ فيضيف شيئاً الى حقائق الكتاب المقدس..
والذى أبطل النبوة، هو اللـه نفسه.
فإن النبوات لم تبطل من تلقاء نفسها، بل إن الفعل المذكور مبنى للمجهول والفاعل تقديره اللـه ذاتـه..” أما النبوات فَستُبْطَل”.
ونحن نستنتج من ذلك خطأ من يدّعون أن اللـه أعطى لهم قدرة خاصة على معرفـة الغيبيات، وخطأ الذين ينساقون وراءهم. فإن هذا مخالف لتعليم الكتاب المقدس..فلقد أُبطلت النبوات..
وحتى إذا كانت النبوات مجرد إعلان حق اللـه..عن طريق الوعظ..فإنه عند إكتمال الوقت لن يكون هناك وعظ فى السماء فإن الوعظ رهن بحياتنا على الأرض، حيث توجد فرصة الخلاص، وعندما تنتهى فرصة الحياة على الأرض فسيبطل الوعظ..
ولكن الـمحبة ستبقى دائما..لن تسقط أبـداً..
فأولـى بالـمتنافسين على الـمواهب الوقتيـة أن يطلبوا الـموهبـة العظمى..وهـى الـمحبـة..لأن النبوات ستبطل.
ب.الألسنـة
” أمـا الألسنة فستنتهـى”..
إن معجزة التكلم بألسنة يوم الخمسين كانت حدثاً خاصاً القصد منه أن يسمع جميع الحاضرين بلغاتهم رسالة الإنجيل. كان كل واحد يسمع الرسالة باللغة التى ولد فيها وكانت تلك هى المعجزة..وبعد يوم الخمسين، سمح اللـه للمؤمنين بموهبة التكلم بألسنة غريبة، تعبيراً عن قوة العاطفة والإنفعال، وتأييداً لوعد المسيح أن من بين الآيات التى تتبع المؤمنين انهم يتكلمون بألسنة جديدة..
لكن الألسنة بعد يوم الخمسين كانت لهجات غير مفهومة حتى للمتكلمين بها بدليل انهم كانوا يحتاجون الى من يترجم.
لقد كانت الألسنة دليلاً على طفولة الإيمان وكان لا بد بعد نضوج الحياة المسيحية أن تنتهى هذه الألسنة..
ونحن نلاحظ الفرق بين وصف الرسول للنبوات انها ستبطل ووصفه للألسنة بانها ستنتهى..فالنبوات تبطل بفعل اللـه، والألسنة ستنتهى تلقائيا لأنها كانت أمراً مرحلياً وقتياً فى تاريخ المسيحية..ستنتهى بنضوج الفكر المسيحي والعاطفة الإيـمانيـة.
إن تعدد الألسنة نفسه كان عقاباً لبناة برج بابل على كبريائهم وعصيانهم(تك6:11-9)، ومن الطبيعي أن استمرار الألسنة دليل على استمرار الخطية. فمتى زالت عواقب الخطية، زالت الألسنة تـماماً.
وفى السماء لن نحتاج الى لغات بالـمـرة، بل تكون لنا لغة واحدة ..هى لغة المحبة.
ولقد لاحظ الرسول بولس أن أهل كورنثوس يتشاحنون ويتنافسون على موهبة التكلم بألسنة فأكد لهم أن الألسنة ستنتهى..
ولعل هذه رسالة إلى الذين ينقسمون على بعضهم وفى نفس الوقت يدّعون بأنهم يـمتلكون موهبة التكلم بألسنة..
ليتهم يطلبون الـموهبة العظمى وهى المحبة فهى التى توّحد قلوبهم.
ج.العـِلم
“والعِلـم فسيبطل”..
وليس الـمقصود بكلمة العِلم هنا ما اصطلح الناس حالياً على تسميته بالعِلم، فإن هذا سينـمولا سيبطل..
ولكن “العلم” فى مفهوم كنيسة كورنثوس كان قدرة خاصة أعطاها الروح القدس للمعلّمين والـمبّشرين لإدراك الحقائق الإلهية بصورة خارقة للعادة.
ففى ذلك الوقت كانت نسخ العهد القديم قليلة ولم يكن العهد الجديد قد كُتب. وبعد كتابة الرسائل لم يكن توزيعها منتشراً بالصورة الحالية لأن الطباعة لم تكن موجودة، لذلك كان التعليم شفويـاً، فكان الـمعلمون فى الكنيسة يحتاجون لمعرفة الحق الإلهي لوسائط خارقة العادة ليفسروا الكتاب الـمقدس وليقدموا رسائل روحية الى الناس.
أمـا الآن وقد انتشر الكتاب الـمقدس بين الناس، فقد ترك اللـه الفرصة للناس أن يفهموه ويشرحوه قارنين الروحيات بالروحيات دون حاجة الى موهبة خارقـة. فلا يوجد شخص يـمتاز عن آخر إلا بقدر دراسته للكتاب وفهمه له..ولا يوجد من له علم روحي أكثر من غيره، أو من له قدرة على توجيه رسالة للناس أكثر من غيـره،إلا بـمقدار فهمه لكلـمة الله و عـمله بهـا كما هى ظاهرة فى الكتاب الـمقدس.
2. المحبة الدائـمة
“الـمحبة لا تسقط أبداً”..
منذ أن خُلق الإنسان على هذ الأرض وهو يحتاج إلى الـمحبة ..
وسيبقى الإنسان طيلة حياته وإلـى أعماق الخلود اللانهائى يحتاج الى المحبة..
المحبة هى حاجته بعد السقوط لتدبر له طريق الخلاص..
والمحبة هى ينبوع سعادته وترنيمة إنشاده بعد أن تمتع بخلاص اللــه..
والمحبة هى ترنيمة السماء الدائمة عند إرتقاء الـمؤمن الى الأمجاد..
“المحبة لا تسقط ابداً”..
ويـمكن أن تُـترجم هذه العبارة..بـمعنـى أن الـمـحبة لا تفشل أبداً..أو أن الـمحبة لا تبطل أبداً..
أي أنـه فى الوقت الذى فيه قد تفشل مواهب كثيـرة فإن الـمـحبة لن تفشل..
وفى الوقت الذى فيه قد تبطل مواهب كثيـرة وتنتهى فإن الـمحبة لن تبطـل ابداً.
وهذه هى الحقيقة الدائمة الثابتة..
فعندما أتـى إلينا الـمسيح، لـم يأت الينا بنبوة مع انه كان نبياً وخاتـمة الأنبياء..ولـم يأت الينا بلسان مع انه كان سيد المتكلمين، ولـم يأت الينا بعِلم خاص مع انه عالـم بالخفايا وفاحص الأسرار..
لكنه أتـى إلينـا بالـمحبـة..
والخلاص الذى نلناه نحن مدينون بـه الى الـمحبة ..لأن اللـه مـحبـة “هكذا أحب اللـه العالـم حتى بذل ابنه الوحيد” (يو16:3)..
محبة الله لا تسقط أبداً..
عندما أحبنا، أحبنا الى الـمنـتهى..
المحبة التى تحتمل حتـى إلـى الـموت .. لن يقدر أن ينكر نفسه..
صورة الأب فى مـثل الإبن الضال تـتكرر كـل يـوم..
إن كنا غير أمناء، فهو يبقى أميناً..
الـمحبة التى نستمدها من الله لا تسقط أبداً..
ثـابتـة..لا تتغيـر..
غافرة للبشر..لا تسقط رغم خطية البشر
صامدة للظروف..لا تسقط رغم ظروف الحياة وتجاربهـا.
فلنطلب من اللـه أن يـملأنا بالـمحبة..
مبارك من يحبك يارب ..وفيك يحب أحباءه ..ولأجلك يحب أعداءه..
هيـّا نحبـه..
دعونـا نحبـه..
بقلب طاهر وبشدة لأنـه أحبنا أولاً. آمين.
+++++++++++++

الـمحبـة الـمسيحيـة
فـى سطور نشيد الـمحبـة كـما جاء فـى رسالة القديس بولس الأولـى الى أهل كورنثوس رأينـا صورة الـمحبة..الطريق الأفضل ..فهى أسـمى من النبوة..وألزم من الـمعرفـة..وأقوى من الـمعجزة..وأجمل من الإحسان..وأجـّل من التضحيـة..
ورأينـا الـمحبـة فـى أسلوبـهـا.. وأخلاقـهـا..وعظمتهـا..ودوامهـا ..وكـمالـهـا..
وبعد أن وصف الرسول بولس الـمحبة الـمسيحية أراد أن يختم هذا النشيد، فقّدم درّة ثمينة من المعانـي الرائعـة المركزة فى عبارة واحدة:
” أمـا الآن فيثبت الإيـمان والرجاء والـمحبة هذه الثلاثة ولكن أعظمهن الـمحبة” (1كو13:13).
حقاً إن أسلوب الـمـحبة الرقيق يستأسر بالقلوب ، وأخلاقها السامية الراقية تـملك الفؤاد، ودوامهـا يثّبت فى النفوس الإيـمان، وكمالهـا يغرس فى حياتنا الرجـاء..وهكذا ثبت الإيـمان والرجاء مع الـمحبة..

لكن نور المحبة سطع بضياء باهـر فاق كل نور..
ولا عجب فهى فعلاً أعظمهن..
فإننا لو إمتلكنا الدنيا بأسرها والفضائل بأسرها، لكننا افتقرنا الى الـمحبة فإننا نصبح فقراء لا شيئ لنـا ..
ولو امتلكنا المحبة وحدها لصرنا أغنى الأغنياء لأن الـمحبة بذرة خصبة تُنبت فى حياتنا باقات من مختلف الأزاهيـر، فتصير حياتنا حديقة زاهرة وكرمة مثمرة.
فلنتأمل فى عروس الفضائل وتاج الصفات ..الـمحبة…
1. معنى الـمحبة الـمسيحية
إن كلمة “الـمحبة” كلمة مظلومة لأن الناس يستخدمونها فى كل مناسبة ويحاولون وضع اسمها على أنواع مختلفة من المشاعر دون أن يدركوا حقيقة معناهـا.
(I) بعض الناس يرتكبون كل أنواع الشرور ويفسدون عقول الناس
وعواطفهم وأجسادهم ويفعلون كل ذلك بإسم الـمـحبة..
والمحبة من ذلك بريئة كل الـبـراءة… ذلك لأن بعض الناس
يضعون لفظ المحبة ليصف شيئاً آخر غير المحبة. أنهم يصفون شهواتهم
ورغبات أجسادهم بأنـها الـمحبة..ثم يتصورون أن الـميول
الغريزية والدوافع الفطرية هى المحبة..إنهم يعتبرون انفعالاتهم العارضة

ونزواتهم الجسدية انها الحب أو الـمحبة..
والبعض يقول إن الحب شيئ والـمحبة شيئ آخر.. ولكن الواقع أن الحب هو الـمـحبة ..وهو شيئ يختلف تماما عن النـزوات والإنفعالات والرغبات والعِشق والهيام، وهذه كلها ليست حباً وليست محبـة.
وكم من المفاسد والخلاعة تجرى بإسم الـمحبة والمحبة منها براء.
(II) وبعض الناس يضع كلمة المحبة لتصف الشفقة أو الرحمة فيتصورون أن العطف على مسكين هو المحبة ، والتصدق على الفقير هو المحبة، والعفو عن المخطئ هو المحبة..
هذه الأحاسيس طيـبة ونافعة.. فالشفقة والرحمة والإحسان والتسامح خِصال ممدوحـة لكنها ليست المحبة..فالمحبة إذاً غير الإحسان وغير التضحية ولذلك قال الرسول” إن أطعمت كل أموالـي وإن سلّمت جسدي حتى أحترق ولكن ليس لي محبة فلا أنتفع شيئاً” (1كو3:13).

(V) وبعض الناس يخلط بين المحبة والصداقة..أو بين الـمحبة والإعجاب..أو بين المحبة والعلاقات العائلية بين الأباء والأبناء، وبين الأخوة..أو بين المحبة والإعزاز..وهذه كلها أنواع من العواطف قد توصف بأنها محبة، لكننا يجب أن نضع كلمة أخرى بـجوارها لتمييزها عن المحبة المسيحية. فمحبة الوالدين تختلف عن المحبة المسيحية إذ إنها علاقة إجتماعية لا يختلف فيها غير المسيحي عن المسيحي.
فـمـا هـى الـمحبـة المسيحية إذاً؟
إذا كانت المحبة المسيحية ليست غير هذا كله الذى ذُكر، فماذا تكون؟
لقد استخدم الكتاب المقدس تعبيراً يونانياً فريداً ليصف به المحبة المسيحية…
ألا وهـو “أغـابـي” وهى كلمة تصف إتجاه أو سلوك معين تجاه آخـر..ومعناها هو عـمل الخيـر للجميع بلا تـمييز..
إن الـمـحبة الـمسيحية ليست مجرد أمر عاطفي يأتينا دون أن نسعى اليه كمحبتنا لأصدقائنا أو أقاربنا..
إن المحبة المسيحية تنبع أولاً من العقل والإرادة ثم تمتلك القلب والعاطفة بعد ذلك. إنهـا إتجاه عقلي وإرادي نحو الخير يتخطى كل حواجز العاطفة والـميول والرغبات..
إنها صورة من اللـه الذى يُشرق شـمسه على الأشرار والصالحين ويُمطر على الأبرار والظالـمين.
إنها صورة لما فعله اللـه لأجلنا فقد أحبنا ونحن خطأة. ونحن لا نستحق المحبة..ونحن ننكره ونهينه ونجّدف عليه ونقاومه، ومع ذلك فقد أحبنا وبذل إبـنه لأجلنا..
إن الحب الذى لا يقهر والذى لا يفتر والذى لا تهزمه الإساءات ولا تتغلب عليه الإنفعالات ..هو الـمحبة الـمسيحية.
إن الـمـحبة الـمسيحية إتجاه عقلي وإرادي قبل أن يكون عاطفياً..
إنه إرادة الخيـر للناس على الـمدى البعيد..إنه تصميم على مسالـمـة من يضايقوننا ويسيئون الينا..إنه إرادة الـمحبة لـمن لا يحبوننا ومن لا نميل اليهم..إنه إنتصار على مشاعر الغضب والمرارة والطبيعة فينا لنصل الى السلام الذى لايُقهر لجميع الناس..
من هنا نستطيع أن نفهم قول المسيح:
“أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم وأحسنوا الى مبغضيكم وصلّوا لأجل الذين يسيئون اليكم ويطرودونكم..” (متى 14:5).
انـه يريد منا إتجاهـاً إراديـاً نحو الخيـر لهم، وأن نكون إيجابيين فى هذه الإرادة.
هذه هى المحبة المسيحية التى لا يمكن أن تُغرس طبيعيا فى القلب والحياة..
فإن المحبة المسيحية لا يمكن لغير المسيحي أن يـمارسها لأنها لا يـمكن أن توجد عند الإنسان الطبيعى أبداً..إن نعمة المسيح هى التى تغرسها فينا..
لذلك لا عجب إذا قال بعض الناس إن تعليم المحبة المسيحية مستحيل تطبيقه، فالمحبة المسيحية مستحيلة فعلاً إذا لم يكن المسيح فى القلب. إننا لا نستطيع أن نتكلفها أو نمارسها بالجهد..إنهـا ثمرة طبيعية لسكنى المسيح فى القلب ..وثـمرة من ثِـمـار الروح القدس
” وأمـا ثـمر الروح فهو الـمحبةوالفرح والسلام والأناةواللطف والصلاح والإيـمان والوداعـة والعفاف”(غلا22:5-23)
2. سر عظمة الـمـحبة الـمسيحية
لـماذا قال الكتاب “أعظمهن الـمحبة”؟!..
مـا أكثـر الأسباب التى يمكن أن نذكرها لبيان سر عظمة المحبة، لكننا نكتفى هنا بالبعض منهـا:
إن الإيمان يتلقى رسالة ليؤمن بها.
والرجـاء يتلقى الأمـل الذى يرجوه..
لكن المحبة من صفاتها أنها تعطى..والعطاء أسمى وأفضل من الأخـذ.
ج الى احـد..
إنـنـا نصف اللـه بالمحبـة لأنـه يفيض محبته نحو العالـم.
لذلك قال يوحنا الرسول “أيها الأحباء لنحب بعضنا بعضاً لأن المحبة هى من اللـه. وكل من يحب فقد ولد من اللـه ويعرف اللـه، ومن لا يحب لـم يعرف اللـه لأن اللـه محبة”(1يو7:4).
إن الـمحبة من صفات الخالق، لذلك فالـمحبة أعظم …
إن المحبة تكشف لنا عن شخصية اللـه، وتشرح لنا قلبـه..فنحن نعرف الإنسان من العاطفة الغالبة عليه.. ونحن نعرف اللـه من المحبة لأنهـا هى الصِفة الغالبة على اللـه لأن اللـه محبة.
إن الـمحبة …تجعلنا مشابهين اللـه.
إن المسيح وهو يخاطب الناس ويطالبهم بالمحبة قال لهم: “أحبوا..باركوا..أحسنوا..صلّوا..لكى تكونوا أبناء أبيكم الذى فى السموات”.
إن الصِفـة التى تصف اللـه وتكشف لنا عن قلب اللـه وتقدر أن تجعلنا مشابهين للـه..لا بـد أن تكون أعظم الصِفـات.
3. أن المحبة غايـة الفداء وكمال الناموس
أراد واحد من علماء الشريعة اليهود أن يجّرب السيد المسيح فسأله عن أيـّة وصية هى الأعظم.. وكان اليهود يختلفون فيما بينهم عن الوصية العظمى. البعض قالوا انها الوصية الأولـى عن عبادة اللـه، والبعض قالوا انها حفظ السبت، والبعض قالوا إكرام الوالدين..
فلّخص يسوع الوصايـا كلها فى وصية واحدة لها جانبان: تحب اللـه – وتحب القريب.
فالمحبة هى جوهـر وصايا اللـه..وقد قيل عنها فى العهد الجديد إنها “كمال الناموس” (رو10:13).
إن الوصية الجديدة فى العهد الجديد هى الـمحبة كمثال مـحبة الـمسيح للبشر.
لذلك فإن الـمحبة الـمسيحية هى أجمل الصِفات ولو تزيّن بها إنسان لأضفت عليه جمالاً يفوق كل جمال.
4. إن المحبة أقوى فـى تأثيرها من كل فضيلة:
-إنهـا لا تطلب ما لنفسها..إنها تنظر الى الآخريـن ويفيض قلبها بالخير ويدها بالعون.
– إنها ليست كالإيـمان تغير صاحبها فقط، ولا كالرجاء تبهج من تسكن عنده فقط، لكنها تـتعدى صاحبها الى الآخرين..لذلك فهى أقوى فى تأثيـرهـا لأن من ينسى نفسه هو الأقـوى دائـمـاً.
– إن المحبة أقـوى من الشفقة، فالشفقة تعطى من فائضها، لكن المحبة تعطى كل ما عندهـا، وتريد أن تعطى أكثـر لو استطاعت.
لذلك فالمحبة هـى أم الطاعـة
“إن كنتم تحبونـنى احفظوا وصاياي” (يو21:14).
إن من يرغب فى أن يحفظ شريعة المسيح يتعب إذا لم يكن يحب المسيح، لكنه إذا أحبـه، يجد وصاياه ليست ثقيلة لأن المحبة تعطى قـوة للطاعة.
كذلك فالمحبة أم المعرفـة
” من لا يحب لا يعرف اللـه” (1يو8:4)
عندما نحب اللـه نعرف الكثيـر عنه مـن خلال هذه المحبـة.
لقد قيل ان الحب أعـمـى..لكن الحب الحقيقي مُبصـر، لأنه يرى الأمور البسيطة، واللمسات الخفيّة لعـمل الله اليومى فى حياتنا وحياة الأشخاص الذين نحبهم.
إن المحبة تنادي الجميع فى عالـم شوهتـه الكراهية وقبّحته الأنانيـة..
انـنـا شهود للـه بالضرورة، لأن أهـل العالم لا يقرأون الكتاب المقدس لكنهم يقرأون حياتنا، وبحسب تقريرهم عنا يتوقف إيمانهم بألوهية الديانـة التى نعتنقهـا.
هذا الجيل الذى نعيش فيه هو جيل الحقائق، وكل الأبحاث العلمية آخذة فى التحول من النظريات الى الوقائع.
لذلك إن كان لديانتنـا أن تشق لها طريقاً فى الوقت الحاضـر، فينبغى أن تثبت أنهـا ليست مجرد نظريـة، وعلينا أن نقّدم لعقليات الجيل الحاضـر حياة متغيّرة بقوة اللـه العاملة فيها لأن تفعل حسب مسرة مشيئته.
فعلى كل مسيحي مسئولية شخصية ملقاة عليه، ليسلك كل منا كما يحق للدعوة التى دعي إليهـا كما يوصينا الرسول بولس. فنحن الذين نحمل اسم المسيح ولنا ثقـة فيه ينبغى أن تكون حالتنا مختلفة كل الإختلاف.
علينا أن نكون فى العالـم ولكننا لسنا من العالـم (يو 16:17)فلا نتشبه به، سواء فى سلوكنا أو عادتنـا. ينبغـى أن تتجه مشاعرنـا وعواطفنـا نحو الأمور السماويـة وليست الزمنيـة.
والآن هـل رأيتم جمالاً كجمـال المحبـة وخِصالاً كخصالهـا؟!
تعالـوا اليهـا..تعالـوا الى الـمحبـة..
اجعلوهـا شعاركم..رنـّموهـا كنشيدكم..املأوا منها حياتكم
لا تغرّكـم سائر الفضائل والـمواهب فكلها بدون المحبة لا شيئ..
ذلك لأن أعظمهن المحبـة..
فلنطلب من اللـه أن يـملأنـا بالـمحبـة..
هيـّا نحبـه..دعـونـا نحبـه بقلب طاهـر وبشدة..
لأنـه هـو أحبـنـا أولاً..
ولإلهنـا المجد الدائـم الى الأبـد آمين.
+++++++++++++
دوافع الـمحبة..قوانيـهـا..وثـمارهـا
دوافـع الـمحبـة
1. لأن المحبـة هـى تكميل الناموس
” إن كنتم تـمّملون الناموس الـملوكى على حسب الكتابة القائلة أحبب قريبك كنفسك فحسنا تفعلون” (يع8:2)
2. لأن المحبة هـى بـاب الـملكوت
” ورثة الـملكوت الذى وعد به اللـه الذين يحبونـه” (يع5:2)
2. لأن الـمحبة هـى أساس الـمسيحية
“تـمّسك بصورة الكلام الصحيح الذى سمعته مني فى الإيمان والمحبة التى فى الـمسيح يسوع” (2تى13:1)
وعلـى أساس الـمحبة دُعي التلاميذ مسيحيين فى أنطاكية أولا (أع26:11)
4.لأن المحبة هى الوصية العظمى
” يا معلم أية وصية هى العظمى فى الناموس فقال يسوع تحب الرب الهك..
هذه هى الوصية الأولـى والعظمى” (مت26:22-28)
5. لأن المحبة هى الذبيحة العظمى
“محبة من كل القلب..ومحبة القريب كالنفس هى أفضل من جميع المحرقات والذبائح”.

قـوانيـن الـمحبـة
1. أن تكون بحرارة وسخاء
“من كل قلبك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك ومن كل نفسك” (مت7:22)
2. أن تكون مخلصة وبلا ريـاء
“المحبة فلتكن بلا ريـاء” (رو19:12)
كمحبة يوناثان لداود(1صم17:20)
3. أن تكون للجميع بلا إستثنـاء
نحو بيوتنـا (أف25:5)، ونحو وطننا (خر23:32)، ونحو الغرباء (رو13:12) ، ونحو الأعداء (مت44:5)، ونحو الجميع (غلا10:6).
ثـمـار الـمحبـة
1. فى الرفق بالإنسان
” اللـه ليس بظالـم حتى ينسى عملكم وتعب المحبة التى أظهرتموها نحو اسمه إذ قد خدمتم القديسين وتخدمونهم” (عب10:6)
2. فى مشاركة الوجدان
“فرحـاً مع الفرحين وبكاء مع الباكين (رو15:12)
كمحبة يوسف لأخوته، وراعوث لحماتهـا
3. فـى الصفح والغفران
4. “كونوا لطفاء بعضكم نحو بعض شفوقين متسامحين”(أف32:4).
+++++++++++++++++
أحبوا أعداءكم وأحسنوا الى مبغضيكم وصلّوا لأجل مضطهديكم” (لو27:26)

إن مبادئ الـملكوت تـتركز فى كلمة واحدة “المحبة”..
هذه المحبة التى تبغض البغضة ..وتحتقر الإحتقار ..فيخافها الخوف ..
ويخجل منها الخجل.
ولكن أليس الـمسيح فى وصاياه يطلب منا الـمستحيل؟!
فكيف نحبه بمحبتنا لأعدائـنـا؟!..ألا ينتظر منا ما هو مضاد لطبيعتنا؟!
ولـِم لا..فإذا لـم يطلب منا المسيح المستحيل فأين قدرته الفائقة؟!
وإذا لـم تكن المسيحية فوق طبيعتنا فهى أقل من طبيعتنا.
أحبـوا..أحسنوا..بـاركوا..صلّوا..هذه كلها من الممكن ان نسمعها مع أنه صعب علينا أن نعملها..ولكن لـمن؟!..
هـل للذين يحبوننا ويحسنون إلينا ويباركوننا ويصلون من أجلنـا؟!!
هذه الأعمال أعمال إنسانية تتطلبها الإنسانية..
ولكن محبة الأعداء والإحسان للمسيئين، ومباركة اللاعنين، والصلاة لأجل المضطهدين..هذه كلها أعمال إلهية تتطلبها المسيحية..هذا سر المسيحية وجوهـرهـا..لأنـهـا ديـانـة فدائية كفاريـة أساسها الصليب.
فإذا كان جوهـر المسيحية قائم فـى المحبة وإذا كان شعارهـا الآخـريـن..فإن جمالهـا فى التسامح والتنازل عن الحقوق وعدم المقاومـة.
فإن الـمبدأ الواضح من وصايا الرب هو أنـه لا حدود للمحبة سوى المحبة نفسها، فهى حدود غير محدودة..
هـى أساس الفضائـل وينبوع الآداب ورباط الكـمال.
هـى العقـد الثـمين الذى ينظم جميع لالئ الفضائل وبدونها لا يمكن لأي إنسان أن يحوز فضيلة من الفضائل..فلا عبادة ولا صلاح ولا تقوى ولا خشوع ولا صلاة ولا تواضع ولا وداعة ولا صبر ولا إحتمال ولا صِدق ولا إحسان ولا لطف ولا سلام ولا إمتناعـاً عن خصام ولا نجاة من حرب وسلب إلاّ بالمحبة .. وفـى المحبة..ولأجـل المحبـة.
ويقول بولس الرسول”المحبة تتأنـى وترفق، المحبة لا تحسد ولاتتباهـى ولا تنتفخولاتأتـى قباحة ولا تلتمس ما هو لها ولاتحتد ولا تظن السوء ولاتفرح بالظلم بل تفرح بالحق، وتحتمل كل شيئ وتصدق كل شيئ وترجو كل شيئ وتصبر على كل شيئ” (1كو13).
المحبة مدرسة سامية مقدسة نتعلم منها كل دروس الفضائل. ورئيس هذه المدرسة معّلم باهر قد حاز كل كنوز الحكمة والعِلم، قادر على كل شيئ حتى يسكب مواهبه ونعمه على كل طلبة مدرسته، ولا يمكن الإلتحاق بهذه المدرسة إلاّ بالمحبة، وفوق بابها قد رفع علم مكتوب عليه بيد القادر على كل شيئ، بيد دامية من أثـر المسامير “اللـه محبـة”. وقـد أسست هذه المدرسة على المحبة وبالمحبة، فسقفها محبة وأساسها محبة وأسوارها محبة وعلى يمينها وعلى يسارها محبة وكل شيئ فيها محبة. والدروس هناك لا تلقى إلا على منبر المحبة، والإمتحان فيها تظهر نتيجته من المحبة. لا يعرف التللميذ انه ماهـر فى سائر فضائله إلاّّ أن أكمل المحبة. فى هذه المدرسة قد تعلم القديسون وجميع الشهداء والمعترفين والمجاهدين وكل الذين فى السماء.
من تسكن المحبة قلبه يكون صبوراً متأنياً وديعاً، يفرح بالخير للآخرين ويحتمل المشقات والمتاعب بصبر جميل ويصدق الناس ولا يكذب أحداً. والمحب لا يريد خير نفسه فقط بل يطلب الخير لكل واحد.
ولهذا قال بولس الرسول “إن كانت تعزية فى المسيح أو راحة بالمحبة أو شركة فى الروح أو رأفة ورحمة، فأتموا فرحي بأن تكونوا على رأي واحد ومحبة واحدة وعلى اتفاق الأنفس وإتحاد الأفكار. لا تعملوا شيئا عن منازعة او عجب بل فليحسب بتواضع كل منكم صاحبه أفضل منه، ولا ينظر أحد الى ما هو لنفسه بل فلينظر كل واحد الى ما هو لغيره..ليكن فيكم من الأفكار والأخلاق ما هو فى المسيح يسوع”(فى 1:2-4).
+++++++++++++++++
رسالـة الحـب

+ خُلق الإنسان ليكون مُحباً..
خـُلق الإنسان للحب..ويتمنى أن يكون مُـحبـاً ومحبوبــاً فـى العالـم كلـه..
ولكن فقد الحب بعد ما خرج من فردوس الحب..
وهكذا فقـد صورته الأصلية لأن صورته الأولـى كانت صورة الحب ..لأنه صدر من حب..
ولكن هـل يترك اللـه الإنسان الذى خلقه للحب؟!..
حـاشــا..ان اللــه مـحـبـة..
فلا بد أن الـمحبة تتجسد..
وتجسد الحب..وصار بيننا..وصار فينا..وصار مـِنا..وجاء إلينا..
تجسد الحب ليعيد للإنسان الحب الذى فقده..
وهكذا أصبح التجسد حباً وعملاً..وليس كلامــاً..
أصبح التجسد عملاً فعليا ..سار مع الناس..وعاش مع الناس..
وعاش للناس..
وكان كل ذلك بسبب كلمة واحدة..
كانت فـى هـذه الكلمة كل هـذا الحب
“هـــا أنــا آمــة للـرب”..
وإذ قيلت هـذه الكلمة من الـمخلوقة الحقيقية التى وجد فيها اللـه صورته الأصلية..
ومن هـذه الإنسانة …تجسد الحب..
وأنـتم يـا مـن تحتفلون كل يوم فى سر الشكر وفـى كـل عـام بذكرى هـذا التجسد..
هــل المسيح تجسد فيكم؟!.
التجسد الحقيقي..التجسد فـى الكنيسة..التجسد فـى الآخرين..
التجسد فـى العالم كله..
عيشوا التجسد لأن الكلمة صار جسداً..
الكلمة صار جسداً .لا ليكون ذكرى يحتفل به كل عام ليحل فـى الجميع..وليكون التجسد يومياً ..وفى كل لحظة من لحظات الحياة.
عيشوا إذن تجسد الكلمة لأنه فى البدء كان الكلمة..
والكلمة كان عند الله..واللـه هـو الكلمة.
هنيئا لكم الحب الذى تجسد..
هنيئا لكم الكلمة الذى صار جسداً..
هنيئا لكم إذا تجسدتم أنتم فـى الأخرين بالعمل الصالح والقدوة الطيبة والصلاة الحية.
فلا تعيشوا الذكرى..بل عيشوا الحب الـمتجسد..
فيسوع الحب جاء اليكم لا ليعيش بينكم ثلاثة وثلاثين سنة بل ليعيش دائما..
باركوا اسم الرب وحدّثـوا بأعماله فـى كل مكان ..
لأن اسم الرب دائما مبارك.
++++++++++++++++
آلام الـمسيح ومـوتـه علـى الصليب
“إن الـمسيح تألـم لأجلنـا وأبقـى لكم قدوة لتقتفـوا آثاره” (1بط21:2)
دقّت ساعـة الفداء، ساعـة تحريـر الإنسانيـة من نيـر إبليس وشر الـمعصية،”ساعـة إبن الإنسان”،يسوع الـمسيح الفادي يدفع غاليـاً آلامـه ثـمن الفداء.
إنهـا ساعة الغلبة والـمجد،حيث تُمنح البشرية الولادة الروحية الجديدة من العلاء.
ولكنهـا ساعة الألـم والنـزع والـموت الـمريـر على الصليب..خشبة الذل والعار.
أمـاَ أنبـأ الـملاك بها يوسف عن مصير الـمسيح قبل ميلاده بقوله له:
“هو الذى يخّلص شعبه من خطاياهم” (مت21:1)؟!
بدأت مأساة الفداء فـى بستان كـمأساة الـمعصيـة.
خالف الإنسان الأول،آدم،وصية الرب وإرتكب الخطيئة فـى بستان..
وقام إبن الإنسان يسوع الـمسيح..آدم الثانـي..بسر الفداء فـى بستان..
ولكن شتّان بين هذا وذاك..
كان البستان الأول..الفردوس الأرضي..جنة الغِبطة والسرور، لكن البستان الثانـي..بستان الزيتون..فكان معصرة الألم والنزع الـمرير.
تناول الـمسيح ذبيحة الفصح لأخـر مرة مع تلاميذه فـى عليّة صهيون بأورشليم وعَقَد العهد الأبدي،عهد الـمصالحة بين السماء والأرض،ثم قال لتلاميذه:
“وماذلك إلاّ ليعرف العالـم إنـي أحب الآب وأنـي أعمل بـما أوصانـي الآب،قوموا نذهب من ههنا”.
قال هذا وقام متجهاً إلـى وادى قدرون ثم إل بستان الزيتون. وكان هذا الـمكان الـمسرح الأول لـمأساة الفداء، وبدأ يمشي بخطى بطيئة يجلّله الجلال الإلهي وتظهر على وجهه الكآبة والحزن والشحوب، يصحبه أحد عشر تلميذاً فقط،إذ أن الثانى عشر يهوذا الإسخريوطى خانه وتخّلى عنه منذ حين وإنضم إلى المعسكر الثانـى، إلى زمرة الفريسيين ورؤساء الكهنة، الذين يعملون للقضاء عليه.
دخل وتلاميذه بستان الزيتون وإستفرد منهم ثلاثة سمعان بطرس ويعقوب ويوحنا إبني زبدى،وطفق يرتاع ويكتئب ويقول: “نفسي حزينة حتى الـموت”(مت36:26).
ولا غرابة فى ذلك، ألـم يكن حقيقة “ابن الإنسان” عُرضة للألـم مثل إخوانه بنى الإنسان؟
ثـم إبتعد قليلاً وأكبَّ وجهه ليصليّ فيقول: “يا أبتا لتبتعد عنى هذه الكأس إن كان يسستطاع ولكن لا كما أنا أشاء بل كما أنت تشاء” (مت39:26).
تراءت له البشرية بلحظة خاطفة فى جميع أدوارها وعصورها، فى ماضيها وحاضرها ومستقبلها،كاشفة عن وجهها الصحيح سافرة..عاريـة..تُجرجر فى خزى إجرامها وقبح معاصيها..وطفقت جميع الخطايا تخرج من خفايا الزوايا وشقوق الضمائر وتنقضّ على الحمَل الوديع الطاهر النقي لتنفث سُمّهـا وتفرغ خبثهـا قبل أن يُقضى عليها وتُمحى من سفر الوجود.
صار له أن يحمل مكر الـماكرين وختل الخاتلين ..وهو الإستقامة بالذات
صار له أن يحمل فسق الفاسقين وعهارة العاهرين ..وهو الطهارة بالذات..
ولكن كان لابّد له أن يحنى الظهـر أمام شرور البشر ويغسلها بالدم الكريم..
أما تنبأ عنه اشعيا النبي مئات السنين قبل ميلاده بأنه يكون كبش الفداء حمل الله الحامل خطايـا العالـم؟!
“لقد أخذ عاهتنا،حمل أوجاعنا فحسبناه ذا برص مضروباً من الله ومرذولاً،جُرح لأجل معاصينا وسُحق لأجل أثامنـا، فتأديب سلامنا عليه وبجرحه شُفينا،كلنا ضللنا كالغنم. كل واحد مال الى طريقه فألقى الرب عليه إثم كلنا.قُدّم وهو خاضع ولم يفتح فاه. كشاة سيق الى الذبح، وكحمل صامت أمام الذين يجزّونـه ولم يفتح فاه” (اش 53).
رأى ذاتـه مثقل بشرور البشر،موصومـاً بعار آثامهم وخزي معاصيهم وكأنه صار لعنةً محلّهـم. وشاهد الكثيرين يصرّون على ضلالهم ولن يفيدوا من آلامـه وصلبه، فهاله ذلك الـمنظر،وراحت عروقـه تنفجـر حزنـاً وكربـاً “وصار عرقـه كقطرات دم نازلـة على الأرض” (لو44:22).
وهو فى هذه الحالـة وإذا بعصابة من اليهود يحملون سيوفاً وعصياُ ومشاعل يتقدمهم يهوذا الإسخريوطي،التلميذ الخائن،جاءوا ليلقوا القبض عليه،ودنـا منه الخائن وألقى عليه التحيّة وقبّله،فكانت قبلة الخيانة علامـةً لهم ليمسكوه.سلّمه يوضاس ، يهوذا، إلـى أعدائه مقابل ثلاثين من الفضة..ثمن عبد فـى ذاك الزمـن.
فأجابـه يسوع قائلاً: “ياصاح أبقبلة تسلّم إبن الإنسان؟”.
ما أمـرّ الخيانـة عندمـا تأتـى من قِبلْ تلميذ ورسول!
قد يتفق للإنسان أن يـبيع ضميـره وربـه بأبخس ثـمن..
ثـم قال يسوع للذيـن أتوا إليـه من رؤساء كهنة وقادة حرس الهيكل وشيوخ : “كأنـى بكم تخرجون على لصّ بسيوف وعصيّ،كل يوم كنت معكم فـى الهيكل ولـم تـمدّوا عليّ يداً، ولكن هى الآن ساعتكم، وهذا سلطان الظلـمة” (لو52:22).
وألقـوا القبض عليـه وقادوه ودخلوا بـه بيت رئيس الكهنة قيافـا. ثـم التأمت المحكمة الدينية العليا (السنهدريم) على الفور ليلاً وأخذت تقاضي يسوع.
جاءوا بشهود زور ليكيدوا لـه ويـبـرروا حكمهم الجائـر..
أمـّا هـو فظـل صامـتـاً.
ولـما ضاق رئيس الكهنة بالأمـر ذرعـاً قال له: أستحلفك بالـمبارك أن تقول لنا هل أنت الـمسيح إبن الله؟،فقال لـه يسوع “أنتَ قلت انـى هـو وأنا أقول لكم منذ الآن تبصرون إبن الإنسان جالساً عن يمين القدرة وآتياً على سحاب السماء.عندئذ شق رئيس الكهنـة ثيابه وقال لقد جدّف فـما حاجتنـا بعد إلـى شهود؟هـا انكم قد سمعتم تجديفـه. فـماذا ترون؟،أجابـوا: “انـه يستوجب الـموت” (مت 63:26).
حكموا عليه بالموت ودفعوه الى أيدي الجلاديـن ريثـما يطل الصباح ويُنفذ عليه حكم الإعدام.
ومـا أن لاح الفجر حتى اقتادوه الى دار الولاية الرومانية لكى يوافق الوالي بيلاطس البنطي على حكمهم الصادر بحق الـمسيح. رأى بيلاطس الوداعـة تتكئ فـى عينيه ،والنُبل والرفق والعفاف يشيع على جبينه ومحيـاه،فأدرك أن رؤساء الكهنة إنـما طلبوا قتله حسداً وظُلـماً ليستريحوا من شعبيته التى أخذت تتعاظم فـى أعين الناس وتقلقهم.
فتحركت فـى بيلاطس عاطفة الشرف الإنسانـي والعدل الرومانـي فأجابهم قائلاً: “أنا لا أرى فيه عِلّة تستوجب الـموت”،فصرخـوا بصوت عظيم: “ليُصلب..ليُصلب..دمـه علينـا وعلى أولادنـا،إن أنـت أطلقتـه فلست محباً لقيصر،لا ملك لنا إلاّ قيصر” (مت 25:27).
كلـمة “قيصـر” قضت على تردد بيلاطس إذ انه كان ولـيّ نعمته.
وكلمة “قيصر” تفيد المجد والـمال والجاه العريض،فرضخ بيلاطس صاغراً لصخب الجمهور وإنصاع لإرادة الرأى العام القهّار،فدفع هكذا الـمسيح الى أيدي رؤساء الكهنة والفريسيين ليصلب وضحّى بالعدل والحق والضمير قربانـاً رخيصـاً على مذبح قيصر.
أجـل،سوف يـبقى الـمسيح علامـة خصام بين الناس إلـى منتهى الأجيال،وعِلّة خلاص لبعضهم،وحجر عثـرة لغيرهـم “وآيـة ينكرونـها” (لو34:2). منهم من يـبقى وفيـاً لـه حتى الـموت،ومنهم من يطالب بيلاطس الأجيال بصلبه وتعليقه على خشبة الحقد والبغض والإنتقام.
ان الـمسيح حـي إلـى الأبـد “هـو أمس واليوم إلـى الدهـور”.
يأمـر وينهـى،يستأثـر بالقلوب،يشدّد العزائـم ويستنهض الهِمم.
فالذيـن ليسوا معه يصبحون أعداء لـه ينقمون عليه ويطالبون دائـما بصلبه.
ان بيلاطس لا يزال يحيـا فـى الإنتهازيـيـن، انهم لا يتركون فرصة واحدة للربح الخسيس تفوتهم،حتى ولو جاءت هذه الفرصة مخالفة للحق والعدل، بشرط أن يحظوا بخيرات ينعمون بهـا.
ان بيلاطس لا يزال يحيـا فـى الوصولييـن، يضحّون بالعقيدة والإيمان بغيـة الوصول الى مراكز ورتب فيها يحلمون.
ان بيلاطس لا يزال يحيـا فـى السياسيـيـن،الذيـن يـمشون فـى ركاب الرأى العام وإن كان خاطئـاً بدلاً من أن يجابهوا أخطاءه ومساوئه ويقوّمون ويصلحون.
جميعهم ينحرفـون عن الحـق والوجدان فـى كل وقت.
جميعهـم يقرّبون قربانـاً رخيصاً على مذابح قيصـر.
يـا طاعنيـن الحق والطهـر والضـميـر بحراب قيصـر.
لا تفرحـوا بإنتصاركـم الواهـي القصيـر الأمـد.
ان ظلـمة السبت ستنبلج عن فجـر الأحـد…ومصلوبكم يزحزح حجر القبـر وينفض الأكفان ويبعث معـه العدالـة والإيـمان والضـميـر.
ان حرابكم سترتـد إلـى أعناقكم وتُصلبون ذواتكم بأيديكم من حيث لا تعلـمون.
والآن أصرخـوا مـن تريدون؟
أقيصـر…والـموت؟!
أم الوداعـة..الحق..الطريق..والحيـاة…والـمجـد الأبدي؟!

+++++++++++++++
أسبوع الآلام
مـن يـوم الـمُلك،من يـوم السلطان،مـن يـوم الرحـمـة
مـن يـوم الراحـة،مـن يـوم الشَـركـة..
إلـى يـوم الصليب، إلـى يـوم الـفداء..
تعالـوا معـي ندخـل حـدود الأسبوع الأخيـر،أسـبـوع الآلام.
حينمـا بدأت الدخـول فـى حدود هذا الاسبوع أحسست بالرهبـة،فإنحنيت وجثوت وتقدمت بروح الصلاة،فأبصرت عالـماً فسيحـاً،بل عوالـم لا يحدهـا البصـر.
وتساءلت،هـل هـو أسبوع أيـام،أم أسبوع سنيـن؟،أم هو أجيال وقرون؟.
بـل كان أسبوع أيـام،ولكن كل يوم فيـه كان جيلاً،بل عدةَ أجيـال..
هـذا يـوم الأحـد:
رأس الأسبوع،أبصرت فيـه أغصان الزيتون وسعوف النخيـل،وسمعت هتاف الجماهيـر:”أوصنـا مبارك الآتـى بإسم الرب،مباركة مـملكة أبينـا داود”.
وألقيت نظرة إلـى أورشليـم العظيـمة،فخـر الشعب الـمختار،إلـى صهيون الله. نعـم رأيت وسـمعت ولكن عينيّ إستقرت على ذاك الذى دخـل الـمدينـة وديعـاً متواضعـاً،والذى ذرف دمـوعـه وهـو يـُبصـر الـمصيـر الـمُقِبض لـمدينتـه.
ورنّت فـى آذانـي كلماتـه الـمباركـة عنهـا،نعـم رأيتـه هـو،وسمعتـه هـو.
دخـل يسوع الـمدينة بـمظاهـر رائعـة،إنـه يـوم الـمُلك والـمَلك الذى تهتف لـه الجماهيـر قائلـة: “مبارك الآتـي بإسم الرب”
الـملك الكامـل
كان يسوع الـملك الكامـل وليس فـى ملكـه شك، فلـماذا إذن لـم يعرفـه اليهود؟!
“كان فـى العالـم والعالـم بـه كوّن والعالـم لـم يعرفـه”
لـم يعرفـه اليهود لأنـه لـم يكن حائـزاً لـمظاهـر الـمُلك المعروفـة إذ ذاك.
كانت فـى أذهانهم صور للـملك لـم يروهـا فـى يسوع.
جـاء يسوع فقيـراً، فتساءلوا أين مـال الـملك؟!..
وجـاء بلباس شعبـي…فقالوا أيـن تـاج الـملك؟!..
وجـاء وحيداً..فتعجبـوا أين جند الـملك؟!..
وجـاء بلا مظهـر..فهزّوا رؤوسهم قائلين أين موكب الـملك؟!…
نعـم جـاء فقيـراً بدون تـاج وبدون جند وبدون موكب،ولكنه برغم ذلك كان ملكاً، وقـد أبصرتـه العيون الـمفتوحـة ملكــاً.
شخصيتـه شخصيـة ملك:
هـو ملك كل الوقت وإلـى الأبـد.
فـى السماء كان ملكاً ولـمّا نزل إلـى الأرض كان ملكـاً.
ذهب الـمجوس الى قصر هيـرودس ليسجدوا للـملك، فلـما لـم يجدوه هناك ذهبوا إلـى مزود بيت لحـم. وفـى الـمزود أبصروا الـملك وسجدوا لـه.
ملك فـى السماء وملك فـى الـمزود،وأيضا وهـو معلّق على الصليب ملك.
وقد رأى الجمهور الـملك وهتفـوا لـه،وحتى أمام التجار وباعة الهيكل ألقى كلمة الـملك،نعـم هـو ملك دائـمـاً.
قلبـه قلبْ ملك:
أي قلب أكبـر من قلبـه،قلب يسع الجميع،الأولاد أحبوه فإقتربـوا إليه،
العشّارون والخطأة جذبتهم محبتـه الـمدهشـة فإلتفـوا حولـه.
كان قلبـه كبيـراً حتى إنـه بكى من أجـل مصيـر الـمسيئين إليـه.
أنـه ملك يعرف رعيـته بأسمائهـا:
ملوك الأرض لا يـمكن أن يعرفـوا كل فرد فـى الشعب،أما ملكنـا فيعرف كل فرد منّـا بإسـمه،وليست معرفتـه معرفـة عاديـة بل إنـه يعرفنـا معرفـة الحب،فنحن لـه.
انـه ملك صيـّرنـا ملوكـاً معـه:
قد يعرف الـملك الأرضي إسمي وإسمك ولكنه لا يفيد شيئا،لا يقاسـمني ثروتـه وبالطبع لا يجلسني معه على عرشه،هـو ملكـي وأنـا عبده.
أمـا ملكي السماوي فيقول “لا أعود أسميكم عبيداً بعد،أنتم أحبائـي”
إنـه يرفعنـي من الـمزبلـة ويجلسني معه على عرشه،يصـيّرنـي ملكاً،وحيثما يجلس يجلسني معه.
هذا هـو الـملك الذى هتفت لـه الجماهيـر “مبارك الآتـى بإسم الرب”.
أمـا اليـوم الثانـى من الأسبوع الأخيـر،يوم الإثنيـن:
فهـو يـوم السلطان..فقد جُلتُ فيـه مع التلاميذ أراقب سوق البيع والشراء،وأتأمل التينة الخضراء العديـمة الثـمر،وأمّر بألوف الحجاج.
ولكن ما هذا،انـى لا أبصـر إلاّ سيدي وهو يطّهر الهيكل،ولا أسمع إلاّ صوتـه وهو يقول:” بيتـي بيت صلاة يدعـى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص”.
إنـه مظهـر من مظاهـر سلطان يسوع، فلقد بدأ مظهـر سلطان يسوع مبكراً،ففى أول خدمته قيل أن الجمهور تعجب منه لأنه كان يكلمهم بسلطان أو كمن له سلطان وليس كالكتبة،وهو أيضاً فى أخر خدمته نسمع الجماهير تهتف له “أوصنا مبارك الملك الآتى بإسم الرب،أوصنا لإبن داود”. فنراه يـمارس سلطانه فـى بيت أبيه وفـى مدينة ملكه.
وجاء الرؤساء يسألونـه بأي سلطان،ومن أعطاك هذا السلطان؟
فكأن يسوع أراد أن يعلن فـى أول خدمته وفـى آخرهـا انـه سلطان.
وفـى يـوم الثلاثـاء:
جلست أنصت لأحاديث الكتبة والفريسيين والناموسيين وأراقبهم وهم يتآمرون ويخرجون من جعبتهم سهامهم الـمسمومـة. على اننـى هنا أيضا لـم ألقِ بالاً إلاّ لحديثه هو، وهو ينذرهم ويوبخهـم.
وجـاء يوم الأربعـاء:
وأنـا فـى بيت عنيـا حيث أبصرت مريم الفتاة التقيّة التى إختارت النصيب الصالح الذى لن ينـزع منها،وأبصرت مرتـا تروح وتجئ مرتبكة فـى أعمال كثيـرة،ورأيت كذلك لعازر بعد أن قام من الأموات يحيط به جمهور كبيـر من الناس. رأيت كل هؤلاء ولكن عينيّ لـم تسترح إلاّ عندما أبصرت السيد وهو يجلس ليستريح فـى بيت أصدقائـه.
وأقبـل يوم الخميس:
فأبصرت يومـاً ممتد الأبعاد،فهنا مائدة الفصح وقد تلتها مائدة العشاء،وقد فاضت دموعـي وأنا أبصر الخبز الـمكسور والخمر الـمسكوب.
ولـما رافقته إلـى جثسيمانـي وأبصرتـه يدهش ويكتئب ويقول:
” يا أبتاه إن كان فلتعبـر عني هذه الكأس”، لـم أستطع إلاّ أن أصرخ من أعماق قلبـي،يا سيدي أغفـر لـي خطيتـي.
وهـل أستطيع أن أدخل يوم الجمعـة؟
هـل أستطيع أن أواجـه الـمحاكمة وأبصر الصليب؟
وأسمع الكلمات السبع الأخيـرة:
· “يا أبتاه أغفـر لهم لأنهم لا يدرون ما يعملون”…صفـح عجيب
· “اليوم تكون معي فـى الفردوس”..غفران عجيب..
· “يا امرأة هوذا ابنك..هوذا أمك”..عنايـة عجيبـة..
· “الهـي..إلهـي لـماذا تركتنـي”..ترك عجيب..
· “أنـا عطشان”..إحتياج عجيب..
· “قـد أُكـمل”..نصـرة عجيبـة..
· “يا أبتـاه فـى يديك أستودع روحـي”..موت عجيب..
ولكن شكراً للـه فقد جاء الأحـد بعد الجمعـة فكان الإنتصار والـمجد والرجـاء.
” فلـمـا اخـذ يسوع الخـل قال قـد تـم وأمـال رأسه وأسلم الروح” (يو30:19)
هـوذا الإبـن يـموت،الحـي يفقد الحيـاة، الذى أقام الأموات يسلم الروح للآب الأزلـي.

مات الإبـن الحبيب،وهـا شـمس البـِر قد غربـت فوق الجلجلـة.
هـا شجرة الحيـاة قـد إنحنـت ومالت وإقتلعهـا الـموت.
مـات أيهـا الخطـأة إلهـكم
مـات أيهـا الأبرار مُبـرركم
مـات أيهـا الفقراء مُشبعكم
مـات أيهـا الأطفال شفيعكم
مات أيها البؤساء مُؤازركم
مـات أيهـا الحزانـى مُعزيكم
مـات أيهـا الـمرضى شافيكم
مـات أيهـا الـموتـى مُحيـيكم.
ولكن مهلاً أيهـا النصـارى..
كيف يخطر ببالنـا ان يسوع إبن الله يقاسي أمرّ الأوجـاع وأخيـراً يذوق الـموت، موت العـار علـى الصليب؟.
كيف للبـار القدوس صاحب عرش الـمجد أن يتألـم؟.
كيف لرب الخليقـة وسيّدهـا أن يُسـمّر على الصليب؟.
كيف لديـّان الأحياء والأموات أن يُقبض عليـه ويحاكم كأحد الـمجرميـن؟.
كيف لينبـوع الحيـاة الأبديـة أن يذوق الـموت؟.
أيـهـان العظيـم؟…. أيُـذل الـممجـد؟.
هل رأى البشـر كـافـة مثـل هـذا قط؟
هـل سمع أحـد إن الذى بيده سلطان الحياة والـموت يـموت كلص أثيـم؟.
هـل جرى أن الحاكم العادل والديّان الصارم يُدان من أحقـر العبيـد؟!
يعترض الخارجون علـى معتقدنـا قائليـن: إن الصلب ينفـى لاهوت السيد الـمسيح.
فكيف نقـول نحن الـمسيحيون ان مسيحنـا هو إلـه وإبـن إله وفـى نفس الوقت نصرّح بانـه مات على الصليب الأمـر الذى ينفـى كونـه إلهـا!.
والجواب على ذلك هـو انـه لـو لـم يـمت السيد الـمسيح موتـاً حقيقيـاًعلى الصليب لأعوزنـا برهـان من أعظـم البـراهيـن التـى تثبت لاهوت الـمسيح،فالحق يـقـال:
1. إنسان يسلّم نفسه للـموت ، ويـموت بعدمـا سبق وتنبأ ثلاث مرات عن موتـه وكيفيـة موتـه وزمـن موتـه وظروف مـوتـه!.
2. إنسان يسلّم نفسه ويقدِم على الـموت عن طيِب خاطـر وقد كان فـى قدرتـه أن يتفاداه كـما فعل عندمـا شرع اليهود أن يرجـموه فتوارى عنهم!.
3. إنسان يسلّم نفسه للـموت وإذ جاء الخدام ورؤساء الكهنة والفريسيون بـمصابيح ومشاعل وأسلحة ليقبضوا عليه يقول لهم كلمة واحدة: “من تطلبون؟”.فيجيب “أنا هو”،وفـى الحال يرتدّون على أعقابهم ويسقطون على الأرض!.
4. إنسان يسلّم نفسه للـموت وبينما هو مكبّل بالقيود يشفـى على الفور أذنـاً مقطوعـة بالسيف ويعيدها إلـى صاحبهـا سالـمة صحيحـة!..
5. إنسان يسلّم نفسه للـموت وبالرغم من إتهامـه زوراً وبهتانـاً يلزم الصمت،أليس هذا أمراً يفوق طاقة البشر؟.
6. إنسان يسلّم نفسه للـموت وبينما هم يهينونه ويذيقونه أشنع الآلام تتم كل نبواته حرفاً بحرف كما سبق وتنبأ”ويبصقون على وجهه ويجلدونـه ويضعون على رأسه إكليلاً من الشوك”!..
7. إنسان يـموت وفى النـزاع الأخيـر يصرخ صرخـة عظيـمة كأنـه لا يـموت عن ضعف ولا عن مرض ولا عن ألـم!.
8. إنسان يموت فتنكسف الشمس وترتج الأرض ويقوم الـموتـى وينشق حجاب الهيكل حداداً وحـزنــاً!.
9. إنسان يـموت وبعد موته يعترف قائد المئة قائلاً:”فـى الحقيقة كان هذا الرجل إبن الله” (مر39:15).
10. إنسان يموت وبعد ثلاثة أيام يقوم من قبره حيـّاً ممجداً!.
11. إنسان يموت على خشبة العار واللعنـة ويجعل هذه الخشبة شارة مـجد وبـركـة،تزدان بهـا تيجان الـملوك والسلاطين وتتحلى بها صدور الأمراء والأحبـار!.
12. إنسان يـموت على خشبة الصليب، أي أشنع وأفظع ميتـة ويكون قبره بعد قيامته الـمجيدة مكرمـاً معززاً يقصده كل عام الاف وألاف من الناس للتبرك منـه بينما نرى أضرحـة الـملوك والسلاطين والعظماء تـمسى بعد وقت قصير من رقادهم نسياً منسياً!.
13. إنسان يموت على الصليب فيتقاطر عليه الـمؤمنون من أقصى الـمسكونـة إلـى أدناهـا ليعظّموا اسمه القدوس ويذكروه بالإكرام،بل لكى يعبدوه ويسجدوا لصليبه ويتقبلوا شريعته ويسيروا على غرارهـا رغم قساوتهـا. فضلاً عن الـمسيحيين الذين يزيد عددهم عن الستمائة مليون، نجد الـملايين منهم يقمعون شهواتهم الجامحة من أجل يسوع ملكهم ويحاربون ميولهم الرديئة لإكتساب نعيـمه. وكـم من الذين ضحوا بحياتهم وذاقوا كل ألوان العذاب وأراقوا دماءهم ذوداً عن الإيـمان بـه. وكم من النفوس الكريمة التى زهدت العالم وتبعت يسوع فإختارت القفار والجبال والأديرة مأوى مرضاة لجلاله وعظمته.
14. إنسان يموت بهذه الكيفية والعجائب تنبت تحت قدميه قبل وأثناء وبعد موتـه لهو فـى الحق أكبـر من إنسان.هـو فـى الحقيقة إبن اللـه لأنـه اظهـر بأعماله السامية هذه انـه رب الحياة والـموت،رب الطبيعة الثابتة والقلوب الـمتقلبـة،رب الـماضي والحاضر والـمستقبل،رب الزمـن والأبديـة،رب السماء والأرض،رب البدايـة والنهـأيــة.
أؤمـن إذاً وأعترف إلـى النفس الأخيـر ان هذا الذى صُلب بيد اليهود بأمـر بيلاطس بين لصين على جبل الجلجلة منذ ألفـى سنة والذى نقوم اليوم بتذكار آلامـه ومـوتـه،هـو الـمسيح إبن اللـه وكلـمة الله الذى بـه كان كل شيئ وبغيـره لـم يكن شيئ مـمـا كان.
++++++++++++++++++++

مـا هـو إذاً الدافـع القـوي الذى دفـع بالـمسيح
إلـى الصلب والـموت؟!
إذا كان يسوع الـمصلوب هو إلـه حـق من إلـه حـق،فلابـد من دافع قوي دفع بـه إلـى الصلب،أو عِلّة كبيـرة قضت عليـه أن يُصلب؟. فـما هذا الدافـع ومـا هذه العلِـة؟.

مـا الذى صلبك يـا يسوع؟. مـا الذى صلبك يـا إبن اللــه؟.

مـا الذى حـملك على أن تقبـل هذا الـموت الشنيع موت العار على الصليب؟

لا تقـولـوا أن اليهود أرادوا موتـه فكان لهم ذلك.

لا،لأن المسيح قال لهم: “انـى كنت كل يوم عندكم فـى الهيكل جالساً أعلّم ولـم تـمسكونـي ولـم تـمدّوا عليّ أيديكم ولكن هذه ساعتكم وهذا سلطان الظلـمة” (لو53:22)..

وقال أيضا: “ليس احد يأخذ نفسي مني ولكنى أبذلهـا بإختياري ولـى سلطان أن أبذلهـا ولـي سلطان أن آخذهـا أيـضاً ” (يو18:10)..

إذاً اليهود ليسوا إلاّ آلـة شريـرة..آلـة وحشيـة.

لا تقولـوا ان سبب موت الـمسيح هو خطايـا شخصية صدرت منـه.

فـإنـنـا نعلم أن الـمسيح هو حمل اللـه البرئ من كل عيب وإنـه من الـمحال أن يثبت أحد عليه خطيئة كـما قال: “من منكم يثبت عليّ خطيئة” (يو46:8).

والقديس بولس الرسول يقول عنه: “لأنـه الحَبـر الذى جُـرّب فـى كل شيئ مثلنا ما خلا الخطيـّة” (عب15:4).

تـرى مـا سبب هذه الالام الـمبرحـة الذى يشيب لذكرهـا الشباب؟!

قال الرسول بولس عن ربنـا يسوع الـمسيح: ” الذى بذل نفسه لأجل خطايانـا (غلا4:1).

وقال اشعيـا: “انه قد أخذ عاهاتنا وحمل أوجاعنـا. جُرح لأجل معاصينـا وسُحق لأجل آثامنـا. كلنا ضللنـا فألقـى الرب عليه إثـم كلنـا”.

هذا هو سبب موت السيد الـمسيح.

“ان شـر الناس قد كثُر على الأرض وإن كل تصّور أفكار قلوبهم إنـما هو شر فـى جميع الأيـام” (تك5:6).

أي جـو لم تنفث فيـه الخطيّة سمومـهـا فأفسدتهـا..؟

أي كأس لذيذة لـم تقطر فيهـا الخطيّة مرارتهـا القاتلة حتى حرّمتهـا على الشفاه؟!

أي قيثارة لـم تحطم الخطيـّة أوتارهـا فسخرتها للـمراثـي بدلاً من الأناشيد؟!

أي بستان مُثمر لم تحفر فيه الخطية قبراً جديداً حتى صيّرته مقبرة بعد أن كان فردوساً؟

أي مدينـة مزدهـرة لم تشوه الخطية وجهها بإقامتها فيها قبوراً عالية إسمها السجون؟!

واي إنسان لم تحتل الخطية جسمه فورثته العِلل، وإرادته فأصابته بالشلل، وعقله الباطن فمسته بالخـَبل؟!.

إذا حاولنـا أن نتجاهـل وجود الخطية فـى حياتنا فلن نقوى على تناسيها فـى حياة غيرنـا. فهى تواجهنا فى البيت وتصادفنا فى المدرسة وتصادمنا فى الشوارع وتلاقينا فى محال رياضتنا وأعمالنا. فإن غضضنـا الطرف عنها وأهملناهـا، ذكّرتنا بها مستشفيات المعتوهين وملاجئ العجزة والمصابين.

إنهـا حقيقة ظاهـرة قويـة لأنـى أشعر بثقل جرمـهـا فهى دين ثقيل دونـه حمل الجبال. وإذا كان الديّن الـمادي همّاً بالليل ومذلّـة بالنهار،فإن الديّن الروحي همْ ومذلّة فـى كلا الليل والنهار.

وهل ينسى التاريخ تلك الصرخـة الـمريرة التى خرجت من قلب داود فتمزقت معها أوتار قلبه: “إرحمني يا الله كعظيم رحمتك وحسب كثرة رأفتك أمح كل آثامـي،إليك وحدك أخطات والشر قدامك صنعت” (مز1:50و4).فمع ان داود اساء إلـى تاج ملكه فدنت نفسه الى مزاحمة أحد رعاياه فى أقدس حقوقه وأعزهـا، ومع انه أهان كرامته كرجل إذ هبطت نفسه الى حضيض الحيوانية الدنيئة بعد أن رفعه الله الى مستوى راق جميل، ومع انه أساء الى البطولة بتعريضه حياة أحد أبطاله البواسل للخطر والحرب، ومع انه لوّث شرف الإنسانية بإستخدامه سلطة مركزه فـى تدنيس آنية ضعيفـة خلقهـا الله للمجد والكرامة،إلا انه رأى نفسه مسئولاً أمام هذا الشخص الأوحد الذى عند قدمي عرشه تتركز كل المـسئوليات،وأمام شخصه تتضاءل وتنكمش كل الشخصيات،وأمام حقـه تختفى كل الإمتيازات،فلا عجب إذا رأينا داود يركز مسئوليته فينسى إساءته للإنسانية وتدنيسه للشرف وإهانته للتاج ويذكـر الحقيقـة دون سواهـا فيقول: ” إليكَ وحدك أخـطأت”.

إن الخطية هى حقيقة ظاهرة لأنها داء دفين فـى القلب،فلو كانت الخطية مجرد ضعف لتغلبنا عليه برياضة البدن والعقل،ولو كانت مجرد ذنب لأمكننا أن ننسى ثقل هذا الذنب أو ان نتناساه. لكن الخطيـّة هـى داء عِضال لا تنفع فيه الـمسكنات الوقتيـة. هـى مرض مستحكم فـى الإرادة ومسيطر على العقل ومقيّد لحريـة الضميـر ومفسد للعاطفـة ومُحتـل كل قوى النفس وملكاتهـا.

لذلك فنحن فى مسيس الحاجـة الى قوة قادرة تطرد السموم من حياتنا وتبعث فينا روحـاً جديداً.نحن فـى حاجة الى قوة تكون لإرادتنا محررة ولعقولنـا منيرة،ولضمائرنـا مغيّرة،ولعواطفنـا مطهـّرة فتفك كل قوى النفس من عقالهـا وتفتح لها باب الدخول بِسعة إلـى حريـة مجد أولاد الله.

نعم نحن فـى حاجـة إلـى وفاء عظيـم..

نحن فـى حاجـة إلـى من يسدد الديـّن..

نحن فـى حاجـة إلـى فـادي كـريـم..

الجنس البشري إرتكب الخطيئـة وتـمرد على الله، تمرّد آدم ودنّس ذريتـه التى لـم تكتف بأن ترث هذا الإثم لكنها ضاعفت هذا الرأسمال،رأسمال الخطيئة.

فلّـما أشفق الله على الجنس البشري أرسل إبنه الوحيد ليكّفر عن هذه الخطيئة،فأنـما الـمسيح صار فـى هذه الساعة الأثيم الوحيد فـى نظر أبيه السماوي.

لـذلك قال الرسول بولس: “فالذى إفتدانـا من لعنة الناموس هو الـمسيح الذى صار لعنة لأجلنا بحسب ما كُتب ملعون من علق على خشبة”(غلا13:3).

تعالـو معـى إذاً واحضروا معـي هذا الـمشهد الأليـم الـمفتت للأكباد، مشهد إبـن اللـه الحامـل خطايانـا ليكفّر عنهـا، ولنتأمـل جيداً،ونعرف لـماذا إذاً كان الدافـع القـوي الذى دفـع بالـمسيح

إلـى الصلب والـموت.

كيف أتـم يسوع التكفيـر عن خطايـا الإنسان؟!

1. الخاطئ بخطيئته يتمرد على الله ويرفع راية العصيان على أوامره بلا خجل ولا وجل،فكان لزامـا أن يـمتلئ يسوع خجلاً وحزنـاً فـى نفسه تكفيراً عن التمرد والعصيان.
2. الخاطئ يسعى وراء اللذة فكان على يسوع أن يحتمل كل مرارة فـى قلبه تكفيراً عن هذه اللذّة الـمحرّمـة.

3. الخاطئ يلجأ إلـى الخليقة تاركاً الله ومستعينـاً بعضو من أعضاء جسمه، فلابد أن يقاسي يسوع كل ألوان العذاب فـى جسمه تكفيـراً عن هذا العدوان.

++++++++++++++
حــزن يسـوع
عندما يخطئ الإنسان يتمرّد على الله الذى خلقه وحافظ علي حياته وأحسن إليـه، تـمرداً يدل على انه لا يخافـه ولا يعبأ بتهديده أو وعيده ولا بجهنم التى يستحقهـا ولا بالسماء التى خسرها بالخطيئة.

تـمرداً يظهـر منه انـه لا يخجل من الله فيخطئ أمام عينيه بينما نراه يخجل من أن يسرق امام طفل صغيـر.

هذا الإنسان يخطئ ثم يأكل ويشرب ويضحك وينام كعادتـه كأنه لم يرتكب شيئاً ولسان حاله يقول : أخطات وماذا أصابنـي من الشر؟!.

وهَب ان هذا الخاطئ الذى وصل الى هذا الحد من الغباوة والوقاحة يشعر بتوبيخ الضمير فيلجأ الى الندامة والتوبـة،فهل ياترى تكون ندامته صادقـة؟. لا لعمرى انها لندامة سطحية فاترة ضعيفة لأننا سرعان ما نراه يرجع ثانية الى الخطيئة.

فلنتعلم من يسوع كيف يجب ان نندم على خطايانـا ونحزن عليهـا.
بعدما رسم يسوع سر القربان الـمقدس وناول تلاميذه وزودهم بوصاياه قال لهم: “لاتضطرب قلوبكم ولا تجزع قوموا ننطلق من ههنا (يو27:14-30)،أي الى بستان الزيتون. فقام ولسان حاله يردد تلك الكلمات التى قالها سابقاً معبراً عن شدة إشتياقه الى إحتمال الصليب والموت من أجلنا: “ولـي صِبغة أصطبغ بها وما أشد تضايقي حتى تتم” (لو5:12). قـام وكله شجاعة وعبـر وادى قدرون قاصداً بستان الزيتون. وفـى تلك الليلة كانت اشعة القمر تسطع بأنوارها على الأرض، وما أجمل أشعة القمر عندما تتلألأ بأنوارها الفضية على الـمياه فتجعلها لامعة،وعلى أوراق الأشجار فتحيلها الى بياض لامع. وما أجمل هذا الـمنظر فإنه ينفث فى القلب شجاعة وفى الصدر إنشراحاً وفى النفس راحة وهناءً.
ولكن عجباً!..يسوع هذا الذى خرج والشجاعة تملأ فؤاده وكان منظر الطبيعة كافياً لأن ينعشه، نراه كلما يقترب من بستان الزيتون يستولى عليه الضعف. فقال لتلاميذه “صلّوا لئلا تدخلوا فى تجربة” وابتعد عنهم رمية حجر،وإبتدأ يشعر بحزن مذيب وإنقباض شديد. فخرّ على ركبتيه ووجهه معفر بالتراب وأخذ يتلوا هذه الصلاة الغريبة التى لم تخرج من فمه من قبل “ياأبت إن كان يستطاع فأجز عني هذه الكأس”. ولـما لم يجد تعزيـة عند أبيه الأزلـي قام وأمواج الحزن قد ثارت وهاجت فى قلبه فصرخ “نفسي حزينة حتى الـموت..امكثوا ههنا وإسهروا معي ولو ساعة.. شجعونـي بسماع صوتكم وصلواتكم..عـزّونـي بحضوركم معي لأنـي حزيـن كئيب!.وعندما رأى الرسل هذا الحزن الشديد تغّلب عليهم الأسى فنامـوا. فلـما لـم يجد المسيح تعزيـة عند تلاميذه،إنفرد وأخذ يصلي مردداً توسلاته إلـى أبيه لـمدة ساعة. وهكذا كان يناجـي أباه طالبـاً منه التعزيـة كما طلبها من الرسل، ولكن التعزيـة كانت تهرب منـه. فأخذ بنفسه يقاوم بشدة،فعرق عرقـاً دمويـاً تبللت الأرض من قطراتـه،فأرسل له الأب السماوي ملاكاً ليقوي عزيمتـه ويشجعه ويؤاسيـه.
عجبــا!،من ذا الذى نراه منازعـاً؟!.
أهـو يسوع الذى طالـما إشتاق إلـى الآلام والـموت؟!.
أهـو يسوع الذى وبّخ بطرس بشدة عندما عارضه فـى أمر موته؟!.
أهـو يسوع الذى قال للرسل “قوموا ننطلق من ههنا،لا تضطرب قلوبكم ولا تجزع؟!
مـاذا دهـاه الآن فحزن..ونازع…وعرق دمــاً؟.
آهـاً لقد شاهد فـى تلك الساعة هذه الكأس الـمرّة الـمملوءة من كل خطايا الجنس البشري،هذه الكأس التى قدمهـا لـه الأب الأزلـي لشربهـا فقد حمل خطايـا العالـم وحلّ محل الخطأة.
تجمعت أمامـه وإنحدرت كالسيل الساقط من أعالـى الجبـال
1. خطايا الـمتكبريـن
آدم،الأب الأول الذى منحه الرب مواهب متنوعـة كقول داود النبي “بالمجد والكرامة كللته”،ولكن سقط آدم وأكل ليكون شبيهاً باللـه.نعم هـى الكبرياء التى قال عنها صاحب الحكمة “انها ينبوع كل الخطايا ومن رسخت فيه فاض أرجاساً”.

الكبرياء التى أعمت الذين بنوا برج بابل إذ قالوا “تعالوا نبنى لنا مدينة وبرجاً رأسه فـى بالسماء ونصنع لأنفسنا إسماً لئلا نتبدد على وجه الأرض”.
الكبريـاء التى أعمت عقل فرعون حتى قال “من هو الرب فأسمع لقوله وأطلق اسرائيل”.
الكبرياء التى أعمت بصيرة جليات الجبّار حتى كان يعيّر صفوف اسرائيل.
هـى الكبرياء التى أعمت كثيرين عن صواب الطريق وطريق الصواب.
هـى الكبرياء التى كانت سبباً لهذا الحزن الشديد فقال “يا أبتاه إجز عني هذه الكأس”.
تجمعت أمامـه وإنحدرت كالسيل الساقط من أعالـى الجبـال
2. خطايا مـحبـي الـمال
فرأى من يشبهون بلعام،وجيحزي تلميذ اليشع النبي،وحنانيا وزوجته سفيـرة،وعاخان بن كرمـي،وجميع الناس الذين عيونهم وعقولهم مفتوحة لتحصيل الخيرات الفانيـة وعميانـا عن الخيرات السماوية.

تجمعت أمامـه وإنحدرت كالسيل الساقط من أعالـى الجبـال
3. خطايا دنسـي السيـرة
فرأى من يشبهون شمشون ودليلة، داود وبتشبع،آمنون وثامار..

تجمعت أمامـه وإنحدرت كالسيل الساقط من أعالـى الجبـال
4. خطايا الحسوديـن
فرأى من يشبهون قايين القاتل،وأخوة يوسف،وهيرودس الطاغيـة.
تجمعت أمامـه وإنحدرت كالسيل الساقط من أعالـى الجبـال
5. خطايا سدوم وعـمورة،خطايا نينوى وبابـل،خطايا فساد اليونان وظلم الرومان.
خطايـا الشكوك والتجديف،خطايا الأنانييـن،خطايا العالـمييـن،خطايا الـملحديـن،خطايـا الفاتريـن،خطايـا الإسمييـن،خطايا الـمستهتريـن،وخطايا الـماديـة،وحتـى خطايـا أبنـاء الكنيسـة.
كل هذا إنحدر بقوة على يسوع وألقـى بـه على الأرض وجعلـه يعرق دمـاً.
هذا هو الحزن الحقيقي على الخطايـا،وهذه هـى جسامـة الخطيـّة وشناعتهـا.
نحن نحزن ونبكي ودموعنا تنهمر على فقدان مال أو صحة أو على فراق صديق أو قريب ولو فراقاً وقتيـاً،لكن الخطيـّة التى هـى شر الشرور وأم الـمصائب ليس لها نصيب فـى هذه الدموع. وكان من الواجب أن يكون البكاء الحار وذرف الدموع السخينـة على الخطيـّة،والخطيـّة وحدهـا.
وقد لا يجوز أن نبكي حتى على الـمسيح الذى يفتت الأكباد إن كان بكاؤنا قاصراً على مجرد الشفقة والحنان،فهذا ما يقوله السيد الـمسيح نفسه لبنات أورشليم: يا بنات أورشليم لا تبكين عليّ بل إبكين على أنفسكن وعلى أولادكن وعلى خطاياكن التى هـى سبب احزانـي وأوجاعـي وآلامـي ومـوتـي.
———————
جــرح يسوع
لـم يحزن السيد المسيح على خطايانـا وحسب، لكنه إحتمل من أجلها كل الآلام النفسانية التى تنفـر منها الطبيعة البشريـة. تلك الآلام التى تراكمت عليه كالسيل الذى ينحدر من أعلى الجبال.وهنا أكتفـى بتعداد بعض هذه الآلام فإن كثرة عددها أعظم شاهد على شدة ما احتمله يسوع.
إن كل جرح يؤلـم،ولكن الجرح الذى يجرحـه الصديق والحبيب هو شديد الآلـم وينفذ كسهم إلـى القلب،وهذا مصداقـاً لنبؤة زكريا “ما هذه الجروح فـى يديك؟ هى التى جُرحت بها فـى بيت أحبائـي”(زك6:13) وقول الـمرنـّم:
“ليس العدو هو الذى يعيّرنـي فأحتمل ولا مبغضي هو الذى تجبذر عليّ فأتوارى منه، بل أنت أيها الرجل عديلي وأليفي وأنيسي”(مز13:54).
أمـر عجيب…هل المحبـة تقسو؟!..هل المحبة تضطهد؟!..
هل المحبة تجرح؟!..هل المحبة تصلب؟!..
إن المحبـة تتأنـى وترفق، المحبة لا تحتد،فما بالنا نسمع اليوم ان الجروح كانت فـى بيت الأحباء؟. وكيف تقسو قلوب الأحباء على حبيـبهم وهو الذى أحبنـا حباً أبديـاً فقد قال “انـي احببتك حبـاً أبديـا” (ار3:31)، و”هو الذى أحبنـا أولاً”(1يو19:4) .
أحبـنـا..فتعطف علينـا:
فخطايانـا الكثيـرة التى تقف حجاباً كثيفاً بيننا وبينه لـم تفصله عنـا،بـل اخترق هذا الحجاب ونفذ منه الينا “فالذى لم يعرف الخطيّة صار خطيّة لأجلنا”،فقد انعطف قلبه وإنجذب نحونا وأحبنـا. لـم يكن فينـا ما يُحب، أما هو فقال “نعيمي مع بني البشر”.
ولكن هذه هى حالنا، ففى خطيئتنا إبتعدنـا عن إلهنا وذهبنـا الـى كورة بعيدة،وهناك بذّرنـا ماله بعيش مسرف،فأجسادنا التى له وكذلك جهدنـا ومالنـا ووقتنـا، كل هذه إستخدمناها للعالم ولنـا.
أيديـنا، أقدامنـا،أعيننا،أفكارنـا،قلوبنا،كل شيئ فينا سخرناه لعدو أبينا حتى أصبحنا عارين من كل شيئ،لوثتنـا الخطايـا وشوهتنـا الآثام ولكنه بالرغم من هذه كلها أحبنـا وصُلب من أجلنـا. فـمن تحت تلك الأثواب البالية التى نئـتزر بها أمكنه أن يرى جوهره مطهرة فـى الدم الكريـم ومغتسلة فيـه. أمكنه أن يرى فـى هذا الإنسان الذليل إبنـاً للسماء.. فـما أمجـد عينك يا يسوع التى ترى فينـا ما لايراه الناس بل ما لانراه نحن فـى أنفسنـا.
أحبنـا ودفـع الثـمن..
إن هذا الإنسان الذليل البائس ليصيـر إبنـاً للـه ينبغـى أن تبذل من أجله تضحيات ليس بعدها شيئ، فعلى الـملك الذى فـى السماء أن يرسل إبنـه،ولست فـى حاجـة أن أدلكـم على مقدار ما قاساه الإبن من جراء الـمحبيـن أكثـر من الأعداء.
اننى أرى جبال اليهودية وصخورها وقد اكتوت قدماه عليها.
اننى أرى أشواكها وقد أدمت القدمين وهو يبحث عن الخروف الضال.
أريدكم أن تدخلوا يا أحبائـي ولو يسيراً إلـى قدس الألـم الذى عاناه فادينـا لتـروا كـم تكلّف لأجلنـا، فهناك عند سفح جبل الزيتون خارج أسوار اورشليم ذلك البستان الذى يقال له جثسيمانـى،ضعوا أيديكم على صخور الـمكان وقولوا لهـا حدثينـا حديث محب لحبيبـه.
كان لحبيبي كرم غرسه،وسقاه عرقـاً مـمزوجـاً بدم عصارة قلبه ودمه الكريم. قولوا لشجرات الزيتون التى هناك هل رأيت حبيباً مثل هذا سكب قلبه سكيباً لأجل أحبائه؟!.
إسألوهـا فتحدثكم فـى صمت عجيب أعجب الأحاديث..
انزلوا الـى سفح الجبل وسيروا فـى طريق الألم،طريق الجلجلة، واجعلوا هذه الطريق تعيد عليكم ما رأت من ثقل الصليب على كتف الـمحب الحبيب،لا بل على قلبـه..
إرتقـوا الجلجلـة وقفـوا طويلاً متأمليـن.
الرياح تعصف والبرق يقصف،زمهرير وصرير،ثم انظروا إلـى الـمصلوب وهو يقول” إلهـي إلهـي لـماذا تركتني”.
رب الكون يتشح بوشاح أسود ويخفـي وجهه خجلاً.
لـماذ كل هذا؟
لأنـه أحبنـــا،أحبنـا رغم انـه جُرح جرحـاً عميقاً فـى بيت أحبائـه.
لقـد جرحــه أحبــاؤه:
1. جرحتـه الخليقة التى كساها الـمجد والكرامة فأهانـته وإحتقرتـه وعرّته من ثيابـه.
2. جرحته الأرض التى أبدعها فأنبتت له شوكاً ليُغرس فى رأسه وخشباً ليصلب عليه.
3. جرحته الخليقة التى قدّم لها كل خير فقدمت له كل شـر.
4. جرحته الخليقة التى قدّم لها كل نعمة فرفعت له كل إثم وفساد.
5. جرحته الخليقة التى أشبع منها الألوف بالخبز والسمك فى البريـة بعد أن بارك الطعام بيديه الطاهرتين، وهم قد أشبعوه من تعييرهم وأمسكوا له عوض الطعام سيوفاً وحرابـاً.
6. جرحته الخليقة التى صنع أمامها معجزة عرس قانا الجليل فسقاهم الخمر الجيّد وهم فى عطشه رفعوا مرّاً وقدموا له خلاً.
7. جرحته الخليقة التى أخرج منهم الشياطين فدعوه برئيس الشياطين..
8. جرحتـه الخليقة التى ردّ منهم الخطاة فدعوه خاطئاً وهو قدوس وبـار..
9. جرحته الخليقة التى شفى أمراضهم وأقام لهم الأموات فاماتـوه على الصليب. قال لهم بيلاطس أي شر عمل؟، فما وجدوا شراً يذكرونه فقالوا فتح أعين العميان..طهّر البرّص..أخرج الشياطين..شفى اليد اليابسة..أقام الـمخلّع..أقام اليعازر. أرادوا أن يذموه فمدحوه. حمل اليهم الحسنات فحملوا اليه السيئات. أكرمهم فأهانوه. فعل القوات فجدّفوا عليه.شفى مرضاهم فسعوا فـى تعذيبـه.تنعمـوا بخيراتـه فأغرقوه فى لجج معاصيهم. أسالوا الداء من الرأس الـمملوء بالحنو عليهم وغرسوا فيه الشوك الحاد. حملوا اليه السيوف والعصي ليضربوه لأنه ضمّد جراحاتهم وأحسن اليهم.
10. جرحته الأمة اليهوديـة التى حملها فى صدره منذ صباها الى شيخوختها فقد أحبت أعداؤها على حسابه لكرهها له. لقد أحبت قيصر الـمبغوض منها لكى تتخلص من يسوع وتحالفت مع الأمة الرومانية على قتله وكانت تصرخ بصوت عظيم الى بيلاطس “اصلبه أصلبه”. أتخرج هذه الكلمة من الفـم الذى أكل الـمن فـى البريـة وأُطعم السلوى فـى القفـر؟!
أتخرج هذه الكلمة من الفم الذى ذاق لبن وعسل أرض كنعان؟!
أتخرج هذه الكلمة من فـم هؤلاء الناس الذين أكرمهم وشرّفهم بنعم
ومواهب جزيلة؟.
أيهـا الجنس القاسي أتحكم بالموت على يسوع الـمنّان؟
أليس هو الذى أحبك من كل قلبه ونفسه؟.
ماذا أسمعكم تقولون؟. قـال لكم بيلاطس :”منْ مِن الإثنين تريدون ان أطلق لكم برأبا أم يسوع؟،قلتم برأبـا. قال لكم ماذا أفعل بيسوع الذى يدعى الـمسيح، قلتم “ليصلب”.
ياللعجب..أتطلبون الحياة لبرأبـا السفاك وتحكمون بالموت على يسوع الحنون؟!
أليس هو الذى صنع العجائب فـى مصر لأجلكم؟..أليس هو الذى أخرجكم منها بيد قوية؟..هل فتح برأبـا أعين عميانكم؟!..هل طهّر برصاكم؟!..أهل أنهض أمواتكم؟!
يا أسفي على حزنك يا إبن اللـه الحبيب عندما ترى تلك الأمـة التى إخترتهـا وأحببتها تهيج عليك وتقسو وتفضل عليك اللص..
انـى أسمعك يا سيدي تعاتبهم قائلاً:
ماذ وجب أن أصنع لشعبي ولـم أصنعـه. انـىلـم أجعل الظلمة فـى أرض مصر وأحوّل نهارهم الى ليل مظلم إلاّ لأنهم حوّلوا ليل شعبي الـمعطى لهم للراحة الى نهار بـمشقات الأعمال وعدم النوم..
أنـى لـم أتلف أشجارهم ومزروعاتهم بالبرَد والجراد وأجعل ارضهم مجدبـة إلاّ ليعذبهم الجوع كـما صنعوا بشعبـي..
انـى مـا بعثت بـملاكي يقتل أبكارهم إلاّ لأنهم أحبوا قتل أبكار شعبي اسرائيل..
انـى لـم أطلق عليهم الضفادع إلاّ لأنهم اضطروا شعبي أن يكون غائصاً فـى الطين كالضفادع..
انـي مـا حوّلت مياهم إلـى دم إلاّ إنتقامـاً لدم أطفال العبرانيين الغرقـى فى المياه..
انـى لـم اغرق فرعون وفرسانه ومركباته فـى البحر الأحمر إلاّ لأنهم اغرقوا شعبي المظلوم فـى بحـر دمـوعـه…
انـى جعلت ملاكـي قائداً كعمود نور يظللهم نهاراً من حر الشمس ويضيئ لهم ليلا..
انـى انزلت لهم الـمنْ فـى البريـة لقوتهم. انـى اخرجت ماء من صخرة وتابعتهم فـى سيرهم 40 سنة فـى البريـة،ووعدتهـم بأرض تدر لبناً وعسلاً واوفيت بوعدي..
ذلك كله صنعتـه لشعبـي ولكنهم تركونـي أنا ينبوع الـماء الحي وإحتفروا لهم أباراً،أباراً مشققة لا تضبط الـماء (ار13:2)…
مـذا وجب أن اصنع لشعبي ولـم أصنعـه يقول الرب..
لــقد جـرحـنــي أحبـائــي..
11. جرحنـي يهوذا رسولـي الـمختار الذى جعلته أمينا للصندوق، واصبح الآن يهوذا علماً لكل خائن. فـما اشنع تلك الصورة التى يرسمها المصوّر لتمثل يهوذا على مائدة العشاء. صورة كريهـة، وكتبة الأناجيل وضعوا إسمه فـى اخر السجل مشفوعاً بالقول:”يهوذا الذى أسلمه”،حتى يهوذا الآخـر كان يتميز عن يهوذا الذى اسلمه بالقول:”يهوذا ليس الإسخريوطي”.
أصبح يهوذا علـماً لكل خائن،رغم إنـه كان من بيت متديّن وإسمه إسم ديني ومعناه “الحمد” وهو من مدينة اسخريوط القريبة من اورشليم، فهو ليس ببعيد عن الهيكل،فلقد تتلمذ فى باكورة حياته للمعمدان ثم تتلمذ للمسيح..وكان ذكيّا فالمسيح يفضله فى أمانة الصندوق عن متى العشّار الذى كان من بين التلاميذ،وكان غيوراً واميناً لسيده وسار معه طول الوقت وجلس معه على مائدة الفِصح وغسل السيد رجليه وتناول فريضة العشاء،فـمن يخطر بباله أن يهوذا يخون!!.
وفى نفس الوقت لـم يتركـه يسوع بدون تنبيـه فلقد حاول أن يكتسبه.عند غسل ارجل التلاميذ “أنتم طاهرون ولكن ليس كلكم”،وعلى الـمائدة قال لهم “واحد منكم سيسلمني”،ثـم لـما سأله يهوذا “هل انا يارب قال أنت تقول”،وعلى مائدة العشاء قال “ما تفعله فإفعله سريعاً”.
ولا هذه الكلـمات حرّكتـه،وأخيراً كلّمه السيد..بل قبّله.!
ألـم يرد السيّد قبلة يهوذا بقبلـة؟!..كل ذلك لـم يحرّك فـى هذا أي ساكن فباع سيّده بثلاثين من الفضـة،باع رب الـمجد بثـمن العبيد،ويسلّمـه لأعدائه بقبلة غاشة!!
حقــاً لقد سببت خيانـة يهوذا للسيّد ألـماً نفسياً شديداً للغايـة.
12. جرحـنـي بطرس هـامـة الرسل الذى سلّمت إليه مفاتيح ملكوت السموات،بطرس الصخرة ورأس الكنيسة،بطرس الـمملوء حباً لـي والذى صرخ يومـاً قائلاً:أنا مستعد أن أتبعك يارب،إلى السجن وإلـى الـموت لأحلّ محلك فى العذاب والـموت. بطرس هذا أنكرنـي ثلاث مرات وبقسم خوفـاً من جاريـّة.
13. جرحنـي الرسل الذين جمعتهم وإخترتهم وربيتهم وكشفت لهم أسرار ملكوت السموات ولقنتهم تعاليمي الإلهية ثلاث سنين. هؤلاء الرسل الذين احبهم فلم يعوزهم شيئ لـما أرسلتهم بلاحذاء ولا مال. هؤلاء أنفسهم لـمّا رأونـي مقبوضاً عليّ كأحد الـمجرمين ومقيّداً كأحد اللصوص ولـّوا هاربيـن.
14. جرحنـي الخدم والعبيد الذين بصقوا عليّ وسخروا مني فغطّوا وجهي وضربونـي قائلين تنبأ أيها الـمسيح من الذى ضربك!!
15. جرحنـي رؤساء الكهنة والفريسيون الذين كان الواجب عليهم بحكم وظيفتهم ألاّ ينطقوا إلاّ بالحق.هؤلاء إدعّوا عليّ باطلاً من اننى أجدف وأمنع أداء الجزيـة لقيصر.هؤلاء أيضا هزؤا مني قائلين:قد خلّص كثيرين ونفسه لم يقدر أن يخلصهـا.
16. جرحنـي هيرودس الـمنافق الذى هزأ بـي وألبسني ثوباً لامعاً كالمجانين.
17. جرحنـي بيلاطس الحاكم الجبان الذى تظاهر فى بادئ الأمر انه يحب الحق ولكنه قارنني ببرأبا اللص الأثيم، كأنى وبرأبا فى الجرم متساويان.ورغم إنه لـم يجد عليّ ذنباً يستوجب الموت، ومع ذلك حكم عليّ بالموت على الصليب.
18. جرحنـي الشعب الذى هزأ بـي قائلاً:ياناقض الهيكل وبانيه فى ثلاثة أيام خلّص نفسك وانزل من على الصليب إن كنت إبن الله…!!
وبينـمـا أصوات الإستهزاء والسخريـة تتصاعد كأمواج البحر، إذا بيسوع يتوسّل إلـى ابيه قائلا: يا أبتـاه أغفـر لهم لأنهم لا يدرون ما يعملون.
ويسوع هـذا الذى طلب الصفح لصالبيـه وهو على الصليب يستنجد ويستغيث بأبيه السماوي قائلاً: “إلهي إلهي لماذا تركتني”.
هوذا إبن اللـه نفسه يستنجد ويستغيث فلا منجد ولا مغيث..!!.
جـولوا الآن بأفكاركم فـى براري الـموآبيين واصعدوا جبالها تنظروا هناك مشهداً غريباً لـم يُـرى لـه نظيـر فـى الأجيال القديـمة.
هناك تشاهدون ثلاثة ملوك وهم آرام ملك اسرائيل، ويوشافاط ملك يهوذا وملك آدوم قد جهزوا جيوشهم الجرارة الكثيرة العدد ضد ملك موآب فهدموا المدن واحرقوا القرى وقطعوا أشجارها وردموا ينابيعها ولم يبقوا إلاّ الحجارة،وحاصروا الملك فى عاصمة ملكه، فلما رأى هذا الملك قساوة أعدئه وضنك شعبه وضاق به الأمر من كل جهة حيث لم يعد له أمل بالفوز بالوسائط البشرية لجأ الـى إلهه وكان يعبد الشمس وهتف قائلاً:”قفي أيتها الشمس واثبتي فى مكانك تنظرى أمراً غريباً ما نظرته من قبل وزيدي أشعتك ليرى أعدائـي ما أنا صانعه فها اننى أقدم لك إبني ولي العهد إذ لم يكن لديّ اعز من بكري والذى حملني على تضحيته هو بغض أعدائي ومحبتي لشعبي وأرسلي لـي النصرة بدلاً من هذه التقدمة، وأخذ ابنه بيده الواحدة والسيف بيده الأخرى وصعد بـه أعلى السور بمرأى من شعبه وإنقض عليه بالسيف وذبحه وأصعده محرقـة على السور، فحنق أعدؤه حنقاً شديداً وإنصرفوا عنه ورجعوا الى أرضهم” (4ملوك27:3).
والآن هلموا نصعد الى جبل الرب،جبل الجلجلة فـى اورشليم لنشاهد أمراً أغرب وأعجب من الذى نظرتموه فى أرض الموآبيين،تنظرون لوسيفروس وبيلاطس وقيافا قد أعدّوا عساكرهم الجرارة وجنودهم القساة وإستعدوا لمحاربة ملك الملوك ورب الأرباب وضيّقوا على مملكته، أسروها بالخطيّة وسجنوها بسجن الآثام، ولكن أراد الرب أن ينقذ النفوس من هذا الأسر ويُخزى تمردهم بعمل غريب، وهو انه شاء ان ابنه البكر يكابد الامـاً واوجاعاً لم يكابدها احد قط ويقدم ذاته محرقـة عن جميع الناس فوق جبل الجلجلة..
وهنا أهتف مع إبن نون قائلاً: “قفي أيتها الشمس فى جبعون،وأثبت أيها القمر فى وادى ايالون” لا لتنظروا محاربة يشوع مع العمالقة بل لتشاهدوا محاربة يسوع مع الخطيّة والعالم والأبالسة.
نعـم يحـار العقل البشري ويقف اللسان،كيف تحالفت كل طبقات الجنس البشري على أن تملأ قلب يسوع مرارة؟!. لـماذا تحالفت الأرض والسماء على المسيح إبن اللـه؟!
لأنـه كان لا بـد لـه أن يكفّر عن خطايانـا تكفيراً وافيـاً كاملاً..
فإلـى من ألجـأ وإلـى من أستغيث حتى أستطيع أن أصف آلام ربـي وإلهـي..
فإذا إلتجات إلـى الأب….أراه مسخطاً من آثامنـا..
فإذا إلتجات إلـى الأبن….أراه غريقـاً فـى بحر آلامـه..
فإذا إلتجات إلـى الروح القدس…أرى اننا قد أحزناه بجرائرنـا..
فإذا إلتجات إلـى مريم العذراء..أرى انها غائصـة فى بحر من الأحزان..
فإذا إلتجات إلـى الملائكة..أرى انهم فـى ذهــول..
فإذا إلتجات إلـى السماء…أرى انها محجوبة بظلام الحزن..
فإذا إلتجات إلـى الأرض ..أرى انها مضطربة وصخورها مشققة وقبورها متفتحة..
فإذا إلتجات إلـى الكنيسة..ارى إنهـا لابسة ثوب الـحِداد..
فإذا إلتجات إلـى الكهنـة..أرى انهم متنهـدون..
فإذا إلتجات إلـى عذارى الكنيسة..أرى انهن متحسرات..
ليس لـي معيـن إذاً إلاّ صليب الخلاص…
واليوم أحيـيـك يا صليب يسوع
أحيـيـك يا صليب الفادي..
أحيـيـك يـا شجرة الحيـاة..
أحيـيـك يـا عرش النـِعم..
أحيـيـك يـا كرسي الـمجـد..
فأنت أيها الصليب سر وجودي..
فأنت أيهـا الصليب نـموّي وإكتـمالــي..
فأنت أيهـا الصليب الحافـز الأوحـد للخدمة والتضحية..
فإلـى الصليب نوجـه الأنظـار..
تعالـوا إذاً أيهـا الـمتعبيـن والـمثقلين بالأحـمال تحت صليب يسوع..
تعالـوا إليـه يا من دخلتم الحياة مؤملين السعادة فخيـّبت الحياة أمالكم ولم تذوقوا إلاّ كل مرارة وشقــاء..
تعالـوا إليـه يا من طعنـتم فـى السن فلا تجدون طفلاً يبتسم لكم ويسلّي كربتكم ويحمل اسمكم..
تعالـوا إليـه يا من شهدتم فلذة أكبادكم وثمرة أحشائكم مائتا بين ذراعيكم ودفنتم كل أمالكم..
تعالـوا إليـه يـا من حرمتم من أعز اصدقائكم الذين كانوا موضوع بهجتكم وسروركم فـى الحيــاة..
تعالـوا إليـه يـا من فقدتـم صيتكم وشرفكم..
تعالـوا إليـه يـا من زرعتم الـمعروف ولم تحصدوا إلاّ نكران الجميل والخيانة..
تعالـوا إليـه يـا من فتكت الأمراض بأجسادكم فلا يمر عليكم يوم بدون تعب ولا تحلّ بكم بليّة إلاّ وتقاسون منها أمرّ الأوجاع واشد الأسقام..
أيهـا الناس انـى أتحنن عليكم، لا بـل وأبكي معكم …
ولكن لا تجدّفـوا على اللـه ولا تتذمروا فإن الصليب يُخجلكم.
فـما هذه الآلام إزاء آلام يسوع إبن اللـه الحمل البرئ والضحيـة الطاهـرة..
فلنـتعلم اليوم صلوة بستان الزيتون “فلتكن إرادتك يارب”..
إن خسرنـا مالاً أو صحـة..فلتكن إرادتـك..
إن فقدنـا صيتـاً أو شرفـاً..فلتكن إرادتك..
أن حرمنـا من صديق أو قريب..فلتكن إرادتـك..
إن مزقت قلبنـا الأوجاع والأحزان..فلتكن إرادتك..
نعـم فلتكن إرادتـك يارب …وإرادتـك وحدهــا. آميـن.
آلام يسـوع
بـما أن الإنسان الخاطئ يستعمل عادة عضواً من أعضائـه ويستعين بـه على إرتكاب الخطيئة فيلزم

أن يقتص اللـه من هذا الجسم. فلننظـر إلـى مـا قـاساه الحَـمل الوديع فـى جسـمه تكفيـراً
عـن الخطيـئـة..
قال عـنه اشعيا النبي:”ُمزدرى مخذول من الناس،رجل الأوجاع ومـتمرس بالعاهات،أخذ عاهـاتنـا وحـمل أوجـاعـنـا”..
فلنضرب صفحـاً عن الدم الذى سفكه يسوع فـى بستان الزيتون وعن ضعفـه وعن القيود التى سلبت حريـته وآلـمت أعضاءه،وعن لطـمة خادم رئيس الكهنة وضرب الخدم لـه،فكل هذا لا يُذكـر بالنسبة إلـى ماقاساه الـمسيح فـى الجلد وإكليل الشوك وحـمل الصليب وتسـميره على الخشبـة.
بيلاطس أراد أن يُلقـي الشفقة فـى قلب اليهود حتى يخلّصوا يسوع فيحكم عليه بالجلد،وكان الجلدْ عند الرومـان ينفذ بهذه الكيفيـة: يُعرّى الـمحكوم عليه من ثيابه ثم يربط فـى عـمود صغيـر فلا يستطيع أن يتحرك يـمينـا أو يساراً، وحينئذ يمسك الجلادون سياطاً مدببة الأطراف معلق فيها أشواك حديدية ويضربون الـمحكوم عليه ضربـاً شنيعـاً فظيعـاً.
فتصوروا الآن مخلصنـا الحبيب مربوطاً فـى هذا العـمود معرضـاً جسمه كله لضرب الجلاديـن الذيـن عـملوا بكل جهدهم على أن يظهروا قساوة قلوبهم. وأنظروا إلـى هذه الضربات التى تنهال على جسمه فيتناثـر لحمه قطعا قطعـا. أنظروا إلـى هذا الدم الـمتفجـر من عروقـه.
أليس يسوع الذى تشاهده هـو إنسان مثلنـا؟!..
يقول اشعيا النبي: “انه جُرح واحـد من قِـمة الرأس إلـى أخـمص القدم”. وكل شيئ هنا يدل على ان الجلد كان عنيفـاً شديداً لأن بيلاطس كان يريد أن يجعل منظره مؤثـراُ فـى نفوس اليهود حتى لا يـمكنه فيـما بعد أن يحمل الصليب.وبعد الجلد لـم يعطوه فتـرة راحـة ، ولكن فـى الحال ألبسوه رداء قرمزيـا وضفّروا إكليلاً من الشوك وجعلوه على رأسه، وأمسكوه قصبـة ثـم جثوا على ركبهـم قدامـه وهزأوا بـه. وكانوا يقبلون إليـه ويقولون له السلام يا ملك اليهود، ويلطمونـه وكانوا يأخذون القصبة ويضربون بهـا رأسه ويبصقون عليـه.
حقـاً كان منظـر الـمسيح يفتت الأكباد ويلّيـن أجمد الصخور،ومن ثَـمّ أخذه بيلاطس وأراه لليهود وقال لهم: “هوذا الرجل”.
رجل الأوجاع،وكأن لسان حاله يقول لهم: ألا تشفقون على هذا الإنسان البرئ؟. ولكن قلوب اليهود الحجريـة لـم تلِن ولذلك حُكم على الـمسيح ظلـماً بالـموت. وهكذا حـمّلوه الصليب الثقيل، ولـما بلغ إلـى جبل الجلجلة علّقوه عليه بين السماء والأرض بواسطة الـمساميـر فـى يديـه ورجليـه.
هـذا مـا قـاساه الـمسيح فـى جسمه ولـم يكن عضو واحد من أعضائـه سليـماً. رأسه كانت تتألـم بألـم إكليل الشوك. وعيناه كانتـا غارقتيـن فـى الدم النازل من رأسه. يداه ورجلاه كانتا تتلظى بعذاب الـمساميـر. سائـر أعضائـه كانت تحت تأثيـر الجلد. وبقـى هكذا ثلاث ساعات فـى خلالهـا خيّم الظلام وساد السكوت، ثـم صرخ صـرخـة عظيـمة قائلاً : قـد تـم كل شيء،وأسـلم الروح.
قـد تـم كل شيئ من جهـة الـمسيح الذى كفـّر عنـا التكفيـر التام..
نعـم يارب لقـد أكـملت كل شيـئ..
أكـملت الرمـوز والنبـوات القديـمـة..
أكـملت خـدمـة الأنبيـاء والخـدام والشهـود..
أكـملت العـمل الذى أرسلت مـن أجلـه..
أكـملت الـمصالـحـة بيـن السـمائـيين والأرضيـين..
أكـملت إنتصـارك العظـيـم..
أكـملت كل شيـئ وأسلـمت الروح ..
ومعـهـا أسـلـمتنـا حياتك التى بذلتهـا لأجلنـا..
+++++++++++++
الـتمسُكْ بالصـليب..
لنصعـد معـا يا إخوتـي درجـات الـمجد التى تؤهلنـا للـتمسك بالفادي الحبيب وصليـبـه..
الدرجـة الأولـى..هـى التصديـق:
أي تصديق كلام الـمسيح وتعاليـمه ومواعيده التى يدعونـا إليهـا.
“تعالـوا إلـيّ يا جميع الـمتعبيـن..”، فلـماذا نذهـب إلـى غيـره؟.
هو القائل: ” مـن يقبـل إلـيّ لا أخرجـه خارجـاً”،فلـماذا لا نقبـل إليـه؟.
هو القائل: “أنـا هـو الطريـق”، فلـماذا نتخـذ طرق أخـرى؟.
الدرجـة الثانيـة..هـى الإلتجـاء إلـى إبن اللـه:
فبعد التصديـق، الإلتجـاء إليـه،فاللـه رتّب فـى القديـم مدن ملجأ لشعب اسرائيل لكى يلتجأ اليهـا القاتل ويخلص من ولـيّ الدم. وكانت هذه الـمدن الـملجأ الوحيد لحماية القاتل من الـموت. فإذا اكتفـى القاتل بالتصديق فقط ولـم يلتجئ الى تلك الـمدن بالفعل فسوف يُقتل. كالمجدليـة التى صدّقت من هو الـمسيح ومع ذلك إلتجأت إليـه وسكبت الدموع. وملجأنـا الـمسيح هو القائل ” من آمن بـي وإن مات فسيحيـا وكل من كان حيـّاً وآمـن بي لن يذوق الـموت إلـى الأبد”.
الدرجـة الثالثـة..هـى الإلتفات الدائـم إليه وحده:
لأنـه قال ” من لـه الإبن له الحيـاة”،وقال بولس الرسول “ناظريـن إلـى مبدئ الإيمان ومتـممه يسوع”،فلنلتفت إليـه وحده وليس إلـى العالـم والشيطان كـما إلتفتت إمرأة لوط إلـى الوراء فصارت عمود ملح. فيجب أن ننسى ما فات ونـمتد إلـى مـا هـو قــدام.
الدرجـة الرابعـة..هـى التمسك بيسوع وبصليبه عند الأخطار والضيقات:
ذكر الكتاب الـمقدس واسطة خلاص للـمذنب غيـر مدن الـملجأ وهـى عامـة لكل مذنب، وهى التـمسك بقرون الـمذبح فـى هيكل الرب. فـمتى ركض الإنسان إلـى الـمذبح وتمسك به كان فـى آمان من الـموت.
وأنت ايهـا الإنسان الخائف من الغضب الإلهـي اهرب لحياتك إلـى الـملجأ يسوع وتمسك بقون مذبح صليبـه الـمبارك فتخلص من الـموت الأبدي والهلاك.
إلتجئ إليـه وتمسك بـه كبطرس الذى عندمـا شعر بالغرق قال: يارب نجـّني..
تمسك بـه وتـمثل بالـمرأة النازفـة الدم التى لـم تنظر سواه وتمسكت بهدب ثوبـه فشفيت فـى الحال.
الدرجـة الخامسة..هـى الإتكال عليه بثبات إلـى النهايـة:
ولا تكن كالإسرائليين الذين خرجوا من مصر بالإيمان وعبروا البحر الأحمـر، ولكن عدم ثباتهم فـى الإيـمان إلـى النهايـة ولعدم تمسكهم وإتكالهم على الرب إلـى النهايـة، فعند إقتـرابهم من كنعان خافـوا من سكانهـا فلـم يدخلوهـا.
++++++++++++++++++++++++++++
رسالـة الـمسيح
“إنّ رسالتنـا هـى أنتـم مكتوبـة فـى قلوبنـا،معروفـة ومقـروءة من جميع الناس . فـإنـه قد اتضح أنكم رسالـة الـمسيح”
(2كورنثوس 2:3-3)
اننا شهود للـه بالضرورة،لأن أهل العالـم لا يقرأون الكتاب الـمقدس لكنهم يقرأون حياتنا،وبحسب تقديرهم عنا يتوقف إيمانهمبألوهية الديانة التى نعتنقها. هذا الجيل الذى نعيش فيه هو جيل الحقائق، وكل الأبحاث العلمية آخذة فى التحول من النظريات الى الوقائع. لذلك إن كان لديانتا ان تشق لها طريقاً فى الوقت الحاضر،فينبغى أن تثبت أنها ليست مجرد نظرية،وعلينا ان نقدم لعقليات الجيل الحاضر حياة متغيرة بقوة الله العاملة فيها لأن تفعل حسب مسرة مشيئته.
لذلك أرغب ان اتحدث بكل جد وإهتمام عما أعتقد انه الثمار التى لابد ان تظهر فى حياة الايمان،وعلى المسئولية الشخصية الملقاة على كل منكم ليسلك كما يحق للدعوة السماوية التى دُعى اليها.
لقد انخفض مستوى القداسة العملية فى حياة المؤمنين الى حد كبير حتى ان أقل درجة من التكريس الحقيقي فى الحياة والسلوك تعتبر من النوادر واحيانا لا تروق فى نظر كثيرين من المسيحيين. لذلك يقتنع معظم الذين يتبعون الرب يسوع المسيح بحياة تشبه حياة اهل العالم،ويحبونها من كل نواحيها تقريبا حتى انه لا يوجد فرق واضح بينهما من حيث وجهة النظر العادية.
لكننا نحن الذين سمعنا دعوة الرب الهنا لحياة التكريس الكلي والثقة الكاملة ينبغى ان تكون حالتنا مختلفة كل الاختلاف. علينا ان نكون فى العالم ولكننا لسنا من العالم (يو16:17)،فلا نتشبه به سواء فى سلوكنا او عاداتنا. ينبغى ان تتجه مشاعرنا وعواطفنا نحو الامور السماوية وليس الزمنية ويجب اولا ان نطلب ملكوت الله وبره (مت33:6)مسلمين للرب كل شيئ يعطلنا عن تحقيق هذا الغرض. علينا ان نسلك فى العالم كما سلك فيه السيد المسيح. ينبغى ان يكون لنا الفِِكر الذى كان فى السيد المسيح وكغرباء ونزلاء فى هذه الأرض يجب ان نمتنع عن الشهوات الجسدية التى تحارب النفس. كجنود صالحين ليسوع المسيح علينا ان نطهر نفوسنا من اهتمامات العالم الحاضر لنرضى ذاك الذى اختارنا لنكون جنوداً له. ينبغى ان نبتعد عن كل شبه شر ويجب ان نكون لطفاء بعضنا نحو بعض،شفوقين،متسامحين كما سامحنا الله لأجل المسيح علينا الا نجازى احداً عن شر بشر بل ان نقاوم الشر بالخير، يجب ان نجلس فى اوضع مكان بين اخوتنا وألا نهتم بكرامتنا بل بكرامة الآخرين. ينبغى ان نكون لطفاء ومتعقلين ومسالمين،لاندافع عن حقوقنا بقدر ما نحافظ على حقوق الآخرين ويجب ان نعمل كل شيئ ليس لتمجيد ذواتنا بل لتمجيد الله
وبالاختصار ينبغى ان نكون قديسين فى كل سيرة لأنه مكتوب “كونوا قديسين لأنى انا قدوس”. ينبغى ان نكون مشابهين للمسيح امام الناس كما نحن امام رؤساتنا والمسئولين وان تكون حالتنا فى اماكن عملنا هى نفس الحالة التى نوجد فيها فى مخدع صلاتنا.
يقينا انه فى الحياة اليومية الاعتيادية تعلن التقوى العملية عن نفسها باجلى وضوح ولا بد ان ينكشف كل تصنع ورياء امام محك الحياة اليوميةز
فالمؤمن السطحى والمؤمن القلق والمؤمن اليائس والمؤمن المقطب الجبين والمؤمن المتشكك والمؤمن المتذمر والمؤمن المتزمت والمؤمن المحب لذاته والمؤمن القاسي القلب والمؤمن الانانى والمؤمن الثالب اللسان لو صاحب النفس المرة،كل هؤلاء قد يكونوا غيورين جداً فى خدمتهم وقد يحتلوا مراكز سامية فى المجتمع والكنيسة،لكنهم مؤمنون غير مشابهين للمسيح وهم لا يعرفون شيئا عن الحقائق التى يعالجها الكتاب المقدس بغض النظر عن سمعتهم وشهرتهم ز
الحياة المستترة مع المسيح فى اللـه هى حياة مستترة بالنسبة لمصدرها، لكن لا يجب ان تكون مستترة بالنسبة لنتائجها العمليةز ينبغى ان يرى الناس اننا نسلك كما سلك المسيح،إن كنا نززعم اننا ثابتون فيه. يجب ان نبرهن اننا قد حصلنا على ما ندعى ملكيته ز وبالاختصار ينبغى ان نكون تابعين حقيقيين للمسيح وليس مجرد اناس نظريين وهذا يعنى الكثير جداًز انه يعنى اننا يجب ان نعطى ظهورنا بالفعل لكل ما هو مخالف لمشيئة الله الكاملةز انه يعنى اننا ينبغى ان نكون “شعباً خاصاً” ليس فى نظر الله فحسب بل ايضا فى نظر العالم المحيط بنا،حتى انه حيثما ذهبنا يعرف عنا،من عاداتنا وطباعنا وحديثنا وطرقنا،اننا أتباع الرب يسوع المسيح،واننا لسنا من العالم كما انه هو ليس من العالم ز
ينبغى الا تكون لنا حرية فى استخدام كل قوانا لخدمة الامور الزمنية،بل لنلاحظ هذا،انه إن كنا نطلب اولاً ملكوت الله وبره فإن كل احتيلجاتنا الزمنية سوف تزاد لناز حينئذ سنجد انه لا يجوز لنا ان نسعى وراء المراكز والامتيازات ولن نسمح للذات فيما بعد ان تكون المحور الذى تدور حوله افكارنا واهدافنا ز ينبغى ان تُصرف ايامنا ليس فى خدمة ذواتنا بل فى خدمة الرب،سوف نجد اننا قد دعينا لكى نحمل اثقال بعضنا البعض وهكذا نتمم ناموس المسيح ز وكل واجباتنا اليومية سوف تؤدى باتقان اكثر من ذى قبل،لأنهمهما عملنا فسوف نعملهه ليس بخدمة العين كما يرضى الناس بل كخدام المسيح متممين مشيئة الله من القلب .
وبدون شك سوف ننقاد فى كل هذا بروح الله إن كنا نسلم أنفسنا لارشاده. لكن ما لم يكن المستوى الروحي الصحيح ماثلاً امامنا فقد نتعطل بسبب جهلنا وعدم تمييزنا لصوته ز لأجل هذا أريد ان أكون واضحاً جداً ومحدداً للغايـة فيما أقولـه،فلقد لاحظت انه حيثما وجدت نفس فى خدمة الرب وتطيعه طاعة كاملة بأمانة، فلابد ان يتبع ذلك نتائج متعددة إن آجلاً أو عاجلاً.
فالوداعة وهدوء النفس يصبحان فى الوقت المعين من مميزات الحياة اليومية. وقبول إرادة الله حسبما تُعلن ساعة بعد الأخرى من ساعات اليوم يكون واضحاً. والليونة والمرونة فى التسليم بين يدي الله لعمل كل مسرة مشيئته والاستعداد للتألم لأجله،والصبر على التجارب والهدوء وسط الضجيج والاضطراب، والعمل على إرضاء الآخرين،وعدم الاكتراث بالاهانات والاساءات وعدم القلق والانزعاج،والتحرر من المخاوف والأوهام،كل هذه وفضائل اخرى كثيرة لابد وان تكون المظاهر الخارجية الطبيعية لتلك الحياة المستترة مع المسيح فى الله. أما بالنسبة لعادات الحياة فاننا نجد ان مثل هؤلاء المؤمنين،إن آجلاً أو عاجلاً يطرحون جانبا التفكير فى الذات،ويزداد اهتمامهم بالآخرين وتتجلى البساطة فى حياتهم ومأكلهم وملبسهم ز انهم يكفون عن العادات التى تدور حول محور الذات،ويمتنعون عن كل التنعمات الجسديةز انهم الان يعملون على ما هو لصالح الآخرين،ويتحينون كل الفرص لمساعدتهم. لقد أسقطوا من حسابهم المشغوليات العديمة النفع،وأصبح مجد الله وخير البشرية موضوع فرحهم ولذتهم. الصوت قد تكرس للـه ليستخدم فى التسبيح له والترنم بخلاصـه،والقلم قد تكرس للكتابة عنه،والشفتان للتحدث بحمده،واليدان والرجلان لتنفيذ إرادته، وسنة بعد الأخرى يزداد هؤلاء المؤمنون فى النمو، وفى الابتعاد عن العالم،ويصبحون أكثر وقاراً، وأكثر روحانية،وأكثر تشبهاً بالمسيح،حتى ان وجوههم نفسها تشهد وتعبر عن جمال حياتهم الروحية السرية،وكل من ينظر اليهم لا يسعه الا ان يعترف بأنهم يعيشون مع يسوع وانهم ثابتون فيه ز
لابد ان كل واحد منكم قد جاءته إيحاءات وتحريضات الهية عن هذه الحياة التى أصفها هنا. ألا تشعر ان صوت الله يتكلم فى أعماق نفسك عن هذه الأمور؟ز ألم تكتشف اخيراً ان الذات هى التى تسود عللى حياتك وهذا جعلك تحزن وتتألم؟ ز ألم ترتبك نفسك من جهة بعض أمور وتصرفات كنت تمارسها من قبل؟ز ألاتشعر بعدم الارتياح بالنسبة لبعض العادات وألا يؤنبك ضميرك من جهة بعض المواقف الماضية والآن تود لو انك كنت تصرفت تصرفات أفضل؟ز الم تفتح عيناك الآن على آفاق للتكريس والخدمة كنت تجهلها من قبل،وتتمنى ان تسعى وراءها؟
كل هذه التساؤلات والأشواق الداخلية إن هى إلاّ صوت الراعى الصالح وهو يهمس فى قلبك طالباً منك ان تتحرر من كل ما هو مخالف لمشيئته ز إذاً دعنى أحثك ألاّ تتحول بعيداً عن توسلاته الرقيقة! أنت لا تعرف إلاّ القليل عن الطرق الجميلة التى يرغب ان يقودك فيها،وها هو يمهد السبيل اليها،بل انك لاتدرك شيئاً عن مخازن البركات العجيبة التى تؤدى اليها هذه الطرق وإلاّ كنت تنتفض سريعاً لتلبي كل مطاليبه بفرح وإشتياق.
إن مرتفعات الكمال المسيحي لا يمكن الوصول اليها إلاّّ بإتباع المرشد السماوي
الذى يتقدم ليفتتح الطريق وهو يرشدنا خطوة بعد خطوةنفى رحلة الحياة اليومية،طالباً منا ان نسلم ذواتنا لارشاده وقيادتـه. إذاً ضع نفسك بكل بساطة بين يديه المباركتين واذهب نعه حيثما يقودك، وابتعد عن كل ما يحذرك منه،أطعه طاعة كاملة فى اللحظة التى فيها تتأكد من مشيئته،وسوف تجد سريعاً انه يقودك برفق ززسهولة فى حياة عجيبة مشابهة لحياته،وانها سوف تكون شهادة لكل الذين حولك اكثر مما كنت تظن او تفتكر.
قد يكون الطريق صعباً على الجسد،لكنه لن يكون صعباً على المحبة، وان كانت نفسك متعطشة للرب،فما أسرع الخطوات التى ستخطوها نحوه زبلا شك إنك تستطيع ان تثق فيه وان كانت هناك اشياء تبدو تافهة فى نظرك وتظن انها لا تستدعى التفات الرب فتذكر ان الله لا ينظر كما ينظر الانسان،وان الأشياء التافهة فى نظرك قد تكون فى نظره بمثابة المفتاح الذى به يفتح اعماق نفسك الداخلية،ولا يمكن للحياة ان تصبح كاملة إن كانت تعجز امام الأمور الصغيرةز فربما نظرة او كلمة او مجرد نغمة موسيقية،مهما كانت هذه الأشياء تبدو تافهة وحقيرة من وجهة النظر البشرية،إلا انها غالبا ما تكون ذات اهمية كبرى فى نظر الله. ان رغبتك العظمى هى ان تتبع الرب بالكامل،أفلا تستطيع إذا ان تقول
“نعم” لكل وصاياه الصالحة سواء كانت كبيرة ام صغيرة،وتثق انه يرشدك فى اقرب طريق يؤدى الى سعادتك الكاملة؟
ياأخى ويا أختى سواء عرفت ام لم تعرف هذا هو المقصود بحياة الشهادة والخدمة وليس شيئ اقل من ذلكز انه يعنى طاعة عمياء انه يعنى ان تكون ارادة الله هى نفس ارادتك فى كل الظروف والاوقات ز انه يعنى انه منذ تلك اللحظة التى فيها سلمت حرية الاختيار اصبحت بجملتك ملكاً للرب ز انه يعنى اتباع الرب ساعة بعد الاخرى حيثما يقودك دون اي تراجع او نظر للوراء ز
كل هذا واكثر منه متضمن فى تسليمك لله، وانا الآن أناشدك ان تحفظ كلمتك وتتمم عهدك ز اترك كل شيئ حتى تتمكن من ان تحيا فى كل يوم حياة المسيح الساكن فيك زز انت مرتبط بالمسيح برباط مقدس وعجيب،فأسلك اذا كما سلك هو،وأظهر للعالم الغير المؤمن برهان قوته التى تقدر ان تخلص،وذلك بالسماح له ان يخلصك الى التمام ز لاداعى لأن تتردد فى اتخاذ هذه الخطوة لانه هو مخلصك وقوته تستطيع ان تتمم كل شيئ زز انه لا يطلب منك ان تفعل ذلك بنفسك وانت فى ضعفك لكنه يطلب فقط ان تسلم نفسك له حتى يعمل فيك وبك قوته المقتدرة ز من جانبك سلم نفسك وهو من جانبه يتمم عمله ولا يمكن ان يطلب ان يطلب منك شيئا دون ان يهبك القوة الكافية لتنفيذه لا تفكر فى الغد من جهة هذا الأمر، لكن سلم نفسك بثقة مفرطة للراعي الصالح الذى وعد انه لن يدعو خرافه للسير فى الطريق دون ان يتقدمها ليجعل الطريق سهلة وآمنة.
تقدم خطوة بعد الاخرى بقدر ما يتضح الطريق امامك ز سلمه حياتك كلها
بجميع تفصيلاتها حتى ينظمها ويرشدك كيف تسلك فيها.استمع للنصائح المباركة التى يوجهها لك الروح القدس ونفذها بسرعة وبفرح وسوف تجد يوما بعد الاخر انه يقودك لتصبح اكثر تشبها به فى كل شيئ مشكلا اياك بقدر ما تحتمل وصانعا منك “اناء للكرامة مقدسا نافعا للسيد ومستعد لكل عمل صالح” وهكذا تحصل على امتياز ان تكون “رسالة المسيح المعروفة والمقروءة من جميع الناس” ويضيئ نورك لامعاً حتى يرى الناس ليس شخصيتك بل اعمالك الحسنة ويمجدوا الآب الذى فى السماء .
____________________
وعـود الـمسيح
لا يخفى علينا أن الحياة المسيحية هى حياة محبة فلقد قال السيد المسيح:”بهذا يعرف الجميع انكم تلاميذى إذا كنتم تحبون بعضكم بعضاً”(يو35:43) ز وكذلك لايخفى علينا ان الحياة المسيحية هى حياة إيمان فلقد قال القديس بولس “بغير إيمان لايستطيع احد ان يرضى اللـه”(عب6:14)ز ولكن لعلنا ننسى من حين لآخر ان الحياة المسيحية هى ايضا حياة رجاء فإن الانجيل من آلفه الى يائـه هو رسالة رجاء،اذ انه يعدنا على لسان ربنا يسوع المسيح بكل ما نطلبه عندما نستعين بأمنا مريم العذراء او القديسين “لكى نستحق وعود المسيح”
وعود المسيح .. ترى مـا هـى؟
اننا نرجو من الله بشفاعة القديسين نعماً عديدة نعماً روحية ونعماًماديةة،نعما لأنفسنا ونعما لغيرنا،نعما لعائلاتنا ولوطننا ولكنيستنا وللعالم بأسره.
وعود المسيح – من منا لم يعرف شيئا من الظلمة او الضلال او المرض او القلق او الخوف او الحزن او اليأس فيما مضى من حياتنا؟، بل فى هذه اللحظة ألسنا محتاجين الى كل ما وعدنا به يسوع بمجيئه وحياته وتعاليمه وضمنه لنا بالآمه وموته،وأكده لنا بقيامته وصعوده وجلوسه عن يمين الآب السماوي؟
وعود المسيح – ان الغاية من حياتنا كلها هو ان نستحق وعود المسيح،هذا هو اساس رجائنا وثقتنا وشجاعتنا وسلامنا وفرحناز فلنكن واثقين بجودة أبينا السماوي معتمدين على وعود ربنا يسوع المسيح،راجين رجاء ثابتا متينا كل ما نطلبه وفوق كل شيئ ان نستحق وعود المسيح.
وما هى وعود المسيح هذه التى نرغب فى ان نستحقها؟
اقرأوا الأناجيل الأربعة تجدوا فيها اكثر من مئة موضع حيث يعدنا يسوع بكل نعمة نستطيع ان نتصورها،وبنعم اخرى لم نكن لنتصورهاز الله محبة وابن الله محبة ولا تعرف المحبة حداً لجودتها وسخائها.
يمكننا ان نختار بعضاً من هذه الوعود لأنها عديدة:
1. اسم يسوع 5. الكنيسة
2. الخلاص 6. الفرح
3. مغفرة الخطايا 7. السماء
4. النور
—————–
الألـــم والدمـــــــوع
مـن يعطـى لعيـونـنـا يـنابـيع دمـوع …ومـجـارى عـَبـَرات..لنبكى نهارا وليلاً على شقاء حالنا وتعب حياتنا..فإننا نرى أنفسنا تئن على الدوام تحت أحـمال هذه الدنيا الفانيـة ونتآوه متضجرين من متاعبهـا وأحزانها الـمتواصلة.زفلا نفلت من مصيبة حتى نقع فـى الأخرى ..ولا نداوى جرحاً حتى يسيل جرحُُ آخـر..هذه هى حالنا ..فـما حيلتنا وكيف نصنع؟!..
يظهر لنا أحيانا إن اللـه كأنه يناصبنا العداء وسثير علينا حرباً شديدة إذ تتوالـى علينا الـمصائب..ضربات نادرة قلّ من يفهـمها..
لقد كانت غاية العذاب وفاءً للعدل الإلهى وإختباراً للحب فأصبحت الآن وسـما للنفس يسـم هذه النفس بطابع الكـمال..أصبحت ختـما لها يختمها بصورة الحبيب الـمسيح..فهذا عذاب صادر من اللـه رأساً وأصولـه ثابتة فـى قداسته تعالـى..تلك القداسة غيـر الـمحدودة..وأسبابه الأولـى ما هـى إلاّ مواهب الروح القدس..تلك الـمواهب الخـفيّة الـمحيفة حينما يريد أن يبشر النفس ويشركها بالبـر الأبدي السامي..فهو يستولـى عليها ويجردها من سعادة الـمخلوقات ويحطمها ويهملها لعذابها ثم يستردها ويسحقها ثم يطرحها فـى بحر مـن الـمرارة ويـملأها جراحاً لكى يحولها تحويلاً كاملاً إلـى درّة غالية سماوية..ذلك فعل اللـه وحده يبلغ به أقاصى الروح الخفيـّة..
إن كلـمة اللـه حيّة عاملة أمضى من سيف ذى حدين نافذة حتى مفرق النفس والروح والأوصال والـمخاخ ومـميزة لأفكار القلب ونيّاته..
إن الروح القدس يبعث فى النفس نوراً خفيـّا باهـراً يكشف لها شقاءها من جانب وعظـمة اللـه من جانب آخـر..ويلقى على كل شيئ سواهـما ظلامـا حالكا ويهدم من حولها كل سند طبيعى ويتركها فـى وحدة خانقـة أمام العلـيّ القدوس..ويغمرها بظلمات روحية هائلة تصحبها غالبا مخاوف لا تطاق..وإرادة اللـه فـى كل ذلك إنـما هـى أن يطّهـر كل شيئ فيها..
إن إلهنا نار آكلـة..فـما العـمل حينئذ؟!..
ينبغى الإستسلام إلـى اللـه بدون مقاومـة لأن الـمقاومـة قد تكون مضّرة وكثيرا ما تكون غير ممكنة ..والعامل هو الروح القدس نفسه فـمن أقام فـى هذا العذاب الـمُطّهـر إستقام فـى اللـه والإتحاد حينئذ بالـمسيح يسوع وبألامـه هـو أنفع ما يكون …وشدة النفس مهما بلغت من الهـول فلن تبلغ ما بلغت إليه نفس الـمسيح القدوسة من الإنقطاع حين كان يقول نفسي حزينة حتى الـموت..إلهى..إلهـى لـماذا تركتنى..ولا حين أطلق اللـه الأب لأجلنا كل قوات الجحيم على هذا الإبن الحبيب وكأنه قد سدد دونه كل منافذ العون السماوي فتم فيه قول النبي إن حطمه عظيم كالبحر فمن ذا يشفيه ..غير انه لا بد من التصريح بأن الإتحاد بيسوع على ما فيه من العذوبـة والعذاب يتحول حينئذ جليداً أصم مؤلـما لا يشعر به القلب بل يبقى كامنا فـى الإيمان حينئذ ينبغى للنفس أن تقيم متمسكة باللـه فالإيمان هو الـملجأ الوحيد ..هو الـملكوت الذى لا يتزعزع..وبه نبقـى دائـما غيـر متزعزعين..
فعلى النفس الـمقطوعة أنذاك أن تكون أكثـر إيـمـانـا منها لإى أي وقت آخـر لكثرة محبة اللـه التى غـمرنا بها وتصطبـر فـى الإيمان غير متزعزعة كـما إصطبر موسى كأنها تعاين الذى لا يرى وعليها أن تؤمن أن اللـه ما أحبها قط كـما يحبها فـى تلك الأوقات حين يبدو لها كأنه يطردها ولا يريد أن يراها..
لقد قال الرب لإحدى الطوبايات “متى شعرتِ إنكِ مهجورة فأنتِ حينئذ محبوبة وموصولة ثم إعلـمى إنك تكونين فى هذه الحال أقرب إلـى اللـه منكِ فـى أيـّة حال أخرى” ..ولنكرركلمة القديس يوحنا “أما نحن فقد آمنا بالمحبة التى عند اللـه لنا”..
أحبائـى..يا من إصطفيتهم أقول لكم فـى هذه الساعات الـمباركة ساعات الحزن الباطن ..بل ساعات التطهيـر الروحـى تحدث أمور عظيـمة فإن الحب يكمل إتحاد النفس باللـه حسب وعده فـى هوشع النبـى “أتزوجكِ بالإيمان إلـى الأبـد”..
ومتى تم التطهيـر تظهر العروس فـى ثوب قشيب من النقاوة والفرح والقوة..
“من هذه الطالعة من القفر الـمتهللـه بالنعـمة الـمستندة إلـى حبيبهـا”
إذن ليت للنفس متى كانت فـى الـمحنة إلاّ أن تـتعلق بالـمسيح يسوع وتدخل من جراح ناسوته إلـى خباء لاهـوتـه..
النفس الذبـيح هـى ضحيّة وقربـانـة فلتسلّم بذلك وإن ضحيتها ليست لتتحد فقط بضحيّة يسوع بل إنها تذوب فيها وتصبح وإياهـا أمام اللـه ذبيحة واحدة مجيدة يجد فيها الثالوث جميعه مرضاته..فالأب يرى فيها سـِماء إبنه الحبيب..والإبن الحبيب ينظر إليها وهى تقتفى أثار ألامـه الخلاصية فيضمها إليه كعروس مختارة..والروح القدس يرى طوعيتها لنعمتها وعملها فى تقديس الكنيسة فيغدو لها ملهمـا ومدبراً..
فلاشك إذن بأن العذاب هو مفيد لنا ..بلف نتيقـن ونتأكد من كل ذلك فلنتقدم إلـى الصليب مختارين كـما تقدم إليـه يسوع وبذل نفسه لأجلنا ذبيحة للـه رائحـة مرضيـة..فلو إستطاع الجسد أن يدخل ملكوت الحب وبالأخص الحب الأبوي لحسد الـملائكة إلها تألـم لأجل الإنسان وإنسانا يتألـم لأجل اللـه..
حبذا العذاب..حبذا التجربـة..حبذا الـموت..إذا إستطعنا بهما أن نقول مع الرسول “أنـى صُلبتُ مع الـمسيح ولا إن كنت حيـّا ما أنا بحـي ولكن الـمسيح حـيّ فـيّ” وما بـي الآن من الحياة فـى الجسد إنـما هـو الإيـمان بإبن اللـه الذى أحبنـى وبذل نفسه لأجلـى.
قـولـوا مـع الـمرنّـم “اللهـم خلّصنى فإن الـمياة قد بلغت إلـى نفسى..غرقت فـى حـِمأة عـميقة لا مستقر فيها..بلغت إلـى قعر الـمياه والسيل غـمرنـى ..قد أعييت فـى صراخـى..بُح حلقـى..كلّت عيناي من إنتظارى للـه”..
اللـهـم إن طرقك مقدسة..باركـى يا نفسي الرب وجميع ما فـى داخلي ..إسمه قدوس..باركى يانفسي الرب هو الذى يغفر جميع ذنوبك ويشفى جميع أمراضك ويجدد كالنسر صباءك..رحـمة الرب منذ الأزل وإلـى الأبد على اللذين يتقونـه، فطوبـى للـمتكلين عليه.
والآن إليك اللهـم ألـجـأ لأنك تعطينـى ما لايستطيع أحد أن يناله إلاّ من ذاته..
أعطنى اللهـم ما بقـى عندك..أعطنى ما لايطلبه أحد منك أبدا..
لست أسألك الراحـة والسكينة..لا سكينة النفس..ولا سكينة الجسد..
لا أسألك الـغِنـى ولا النجاح ولا الـصحة نفسها..كل هذه يطلبها الناس منك اللهـم كثيـراً..فلـم يبقـى منها لديــك..
أعطنى اللهـم ما بقـى عندك..أعطنـى ما يأبـى الناس قبولـه منك..
أعطنـى الخوف والقلق..أعطنى الإضطراب والهيجان..بل أعطنى اللهـم كل ذلك نهائيا..
لن تكون لـى كل حين شجاعـة لأطلبها منك..أعطنى اللهـم ما بقـى لديك..
أعطنى ما يأبـى الناس قبولـه ولكن أعطنى الشجاعـة والقوة والإيمان لأنك وحدك تعطى ما لايستطيع أحد نوالـه إلاّ من ذاتـه أميـن.
يــا كلـمة اللـه ضياء الأب وضيف نفسنا الحبيب..يسوع..
مشتهـى قلوبنا نسألك بحق أفراحك أن تمنحنا مع السلام الفرح..الفرح الأبدى..فرحـاً دائـما..فرحك أنت ..وليملأ قلوبنا فلا ينزعـه منها نازع أبداً..
بحق روحك الخالق والـمحيـي غلغل فينا وأخلق وسلّط على قلوبنا رغم ما يعترينا من التأثرات الـمضادة، شعورا حيّاً يحسن حالتنا الأدبية وما نحن فيه من السعة والإنبساط زالحريـّة والإستقلال العام والإكتفاء الـمقدس والثقة والنشاط..وبالجملة هـَبنا أن نشعر شعوراً كاملاً بسعادتنا فـى اللـه حتى تـمتلئ نفوسنا كل حين بهجة كما يطلب الرب حسب قول الـمرنّم “ليُسر بك جميع الذين يلتمسونك ويفرح وليقل فى كل حين محبو خلاصك تعظم نفسى الرب”..وحتى نطيع وصيّة القديس بولس القائل “إفرحوا دائـما بالرب” والقائل أيضا” إنـي لواثق أنه لا موت ولا حياةولا ملائكة ولا رئاسات ولا قوات ولا أشياء حاضرة ولا مستقبلة ولا علو ولا عمق ولا خلق آخر يقدر أن يفصلنا عن محبة اللـه التى هـى فـى الـمسيح يسوع ربنا”..لذلك لنتعلّم أن نبتسم دائما لكل شيئ..لنبتسم لكل شيئ دلالة على الشكر لـما نلنا من النِعـم..نعـمة حب اللـه الأبدى “إنـى أحببتك حبـاً أبديـاً”..نعـمة تجسد إبن اللـه “فـى البدء كان الكلمة”..نعـمة إختيارنا وخلقنا وحفظنا وفداءنا وتبريرنا..نعـمة إختيارنا إختياراً خاصا بسر مجيد..نعمة حضوره فينا إذ يريد أن نتمتع به ونفرح معه..نعـمة حياته فينا إذ يريد أن يبلغ أن يعمل كل شيئ بنا بالروح القدس فنصير أشباهاً لـه ، هـو نفسه حتى إذا شئنا أن نعـمل عملا كان هو العامل بنا..وإذا لزم أن نتعذب كان هـو الـمُعذب فينا..أو أن نتكلم كان هو الـمتكلـم فينا..وهكذا يتم كل شيئ بناسوته الـمقدس فـى النفوس الـمنقادة لإلهامات النعـمة بحيث يستطيع قديس كبولس أن يقول “أنا حي لا أنا بل الـمسيح حيّ فـيّ”..
ونعـم عنايته بإنقاذنا المصائب التى تحّل بنا ..ونعـمة دعوتنا تلك الدعوة الخاصة..الدعوة إلـى حياة الكمال..ونعـمة دعوتنا الخاصة وبنوع خاص إلـى الإشتراك فـى تقدمة القداس..ونعـمة التناول من سر حبّه العجيب..
أنه لحسن أن يكون الإنسان طيـبا وأن ينشر حوله السلام والفرح..ونعـمة ما نقبل وما نولـي من الـمعروف ولـما كانت هذه النعم غير محصورة ولا منقطعة لزم أن يكون الإبتسام مثل الشكر متتابعا فى كل زمان ومكان وصريحا وجازماً ليقطع دابر كل غـمّ وكل أثـر للـهَم..لنبتسم لكل شيئ دلالة على الإيمان وبرهانا على اننا نؤمن بالحب..حب اللـه الخاص لنا “ونحن قد عرفنا وآمنا بالـمحبة التى عند اللـه لنا”..اللـه محبة أحبنى وبذل نفسه عنـيّ أنـّا إن هذا اليقين إن اللـه يحبنا حباً خاصا منذ الأزل وإلـى الأبد فيه ما يجعلنا كل حين فرحين ..
لنبتسم..لنبتسم لكل شيئ دلالة على الثقة..أما من الـماضى فليس فقط لثقتنا من أن كل ما جنينا من ذنوبقد غُفر وأُمحي وبَادَ..لـِما قدمنا من ندم لأن إثمنا سيكون مقيد لنفسنا “حسن لى أنك أذللتنى” وأما الثقة بالحاضر لأن كل شيئ يؤول إلـى صلاح من يحبون اللـه ويحبهم ولأننا أحباء اللـه وأبناؤه الأعزاء…
ومت قِبل الـمستقبل فلثقتنا بأننا لن ينقصنا شيئ مما يلزم لتقديسنا ولتميم ما يريده اللـه منا ..ولثقتنا بأننا نمضى إلـى السماء ونحظى فيها بمدح اللـه وبقربه على قدر ما نكون قد مارسنا فى الحياة من الصبر والمحبة والغيرة وعلى قدر ما نكون قد أحببناه تعالى وحببّناه إلـى النفوس..وعلى قدر ما نكون قد عانينا فى سبيله وحبّا لما فيه فئة الأتعاب المضنيه والتضحيات المضنيه ..وعللى قدر ما نكون قد تألـمنا وجاهدنا لأكله فى هذا العالم مثل القديسين “فرحت بالقائلين لي إلى بيت الرب ننطلق”..
لنبتسم لكل شيئ دليلا على صفاء النية ولنحاول ما إستطعنا أن نكون متفائلين..
لنبتسم لكل شيئ دلالة على حبنا للـه فإنه يوصينا بأن نحبه حب الخضوع كطفل يخضع بطيبة خاطر وحب التساوى كعروس هائمة بعروسها نقول امين مستسلمين متى حزنا فإننا نحزن لأننا نريد مالا يريده الله ..أو لأننا لا نريد ما يريده..أو اننا فيما نريد ما يريده اننا إنما نريد شيئا اخر أو نريده خلاف ما يريده تلك دلالةعلى نقص فى الإخلاص ..ولا إخلاص كامل مادام هَّم ولو فى باطن الضمير او تعلق او رضى بما لا يرضى اللـه. إن اللـه سعيد جدا سعادة لا تزول ولا تتغير ولا تنتهى فلنحبه حب الفرحين بسعادته. إن اللـه جميل جدا وعظيم جدا وكامل جدا وقدوس جداً وطيّب جداً وهو مشتهى قلوبنا وبخر حياتنا وهو الحب الكامل الكافى الكفاية كلها فلنحبه حب العبادة سبحان اللـه “من مثل اللـه”..
لنبتسم لكل شيئ غيرةً وإكراما وتعزية للـه لكى نقتدى به ونعّوضه ونرضيه.
يجب أن نكرم اللـه كما كرّمه ايوب فمدحه الرب وأثنى على فضيلته ..وكما يكرم الأبناء الـمهذبون والديهم ومعلميهم بحفظهم لما قبلوا منهم من المبادئ وبإنقيادهم لهم متشبهين بهم وممتازين كل حين فى الخدمة وتميم واجباتهم. لقد طالما وقف المسيحيون نفوسهم وديارهم على اللـه الكلي الصلاح فلما لا نقف نحن نفوسنا على إله السلام وكل تعزية الإله الكلي السعادة الذى لا يعترى فرحه كدر ..ليكن فى سلوكنا ما يذّكر الخلق بشيئ من صفاته تعالى ولو كضوء بعيد ظاهر دائم الهدوء ..فرح..لطف..بشاشة..
إن من يريدون التعبد إلى العذراء الطاهرة فإنهم يكتسون بألوانها..الإبتسام الدائم يجعلنا وقفا حيّا على إله السلام وكل تعزية ويجعلنا أشبه بمفكرات حيّة تذّكر الناس بصفاته تعالـى الإلهية.
إن أبانا الذى فى السموات يغمر البشر بإحسانه الخلق والحفظ والفداء والعناية ولا يسمح لمحنة تحل بهم إلاّ لما ينجم عنها من الخير العظيم ..ومن أدركوا مقاصده وإرتضوا بإرادته فإنهم يفيدون من الـمحن أجّل الفوائد..أما أعداؤهم فإنهم يعدونه ظالما قاسيا بلا شفقة وبلا رحمة ويتجاسرون ويتهمونه بأنه ظالم ..فعلينا أن نحتج على هذا البهتان الكُفرى بما نبديه من الرضا والسرور برهانا على اننا سعداء واننا فى كل خدماتنا فى الحياة على أحسن ما يكون حسن لنا ان نكون ههنا.
أن أبانا الكلي الصلاح يحق له ان يحزن مما يردده معذبوا هذا العالم من التذمر والشكوى فعلينا نحن ان نعزيه ونعوضه من ذلك بفرحنا وإبتسامنا الدائم..وعلينا أن نحتج على ما شاع فى عصرنا من التشاؤم على ما يبدو على الوجوه من العبوس والسأم والغضب كأن الناس يتامى لا عائل لهم.
لنبتسم لكل شيئ غيرةً على منفعة الأخرين حتى تجذب الناس إلى خدمة اللـه وهم راضون مرتاحون. بمثل الدوافع والعواطف التى تدفعنا نحن ولا بد لذلك من إستمالة قلوبهم وإلقاء الثقة فى روعهم لينقادوا إليه راغبين. الناس يـمضون إلى ذووى الأمال ..إلى من يبشرون بالخير والسعادة وهم يحبون المتفائلين ذوى الطباع المؤنسة والعقول المتزنة من أهل البِشر والبشاشة ويميلون الى الطيّب الروح والمخلص القلب فإذا شئنا أن نصنع جميلا ونأسر القلوب يجب أن نكون فرحين مبتسمين لكل شيئ دليلا على لطف مزاجنا وكرم طبعنا وحسن ذوقنا ودليلا على اللطف والصلاح وطيب الروح.
لنبتسم لكل شيئ ؤرغبةً فى الفوز والنجاح سواء كنا نعمل للـه أم لنفوسنا أم للقريب فلا شيئ ينجح نجاحا صحيحا إلاّ ما يعمل بفرح.
لنبتسم لكل ما تقدم لمعرفة الجميل للإيمان والرجاء والـمحبة والغيرة فى أقصى حدودها.
لنبتسم أيضا ما إستطعنا للـمحنة فإنها بذاتها تعبير عن مشيئة اللـه وليست دون
عطاياه الأخرى قيمة. ولنبتسم ما إستطعنا وبخاصة للمحنة لما ينتج عنها من المنفعة .
شكرا لك يارب يا كلمة الله ضياء الأب وضيف نفسنا الحبيب يا يسوع نسألك بحق روحك القدوس الخالق والمحيي أن تفيض فى نفوسنا وتخلق فينا وتنشر وتنمى هذه الرغبات التى هى فوق طاقتنا ومستطاع ضعفنا أعنى السلام والفرح حتى فى أشد المحن إيلاما للروح حتى فى العذاب أفض ذلك علينا كما أفضته على قلبك الأقدس وعلى رسلك وعلى النساء القديسات بعد قيامتك المجيدة وبعد العنصرة “فمضوا فرحين”..
إجعل يايسوع ما يقدر أن يزعجنا أو يغيظنا أو يغضبنا أو يحزننا أو ييئسنا ..إجعل كل ذلك عاجزا عن أن يغيظنا أو يحزننا او ييئسنا ويخمد نشاطنا وليكن كل ألم وحرمان وجهد وتعب وكل عائق ما أمكن الأمر سببا لتجديد نشاطنا وشكرنا ولا تكن عاقبته إلاّ لتقريبنا من اللـه وحملنا على الإبتسام من جديد وبطيبة خاطر وإن لم يكن ذلك فى وقت المحنة فعلى الأقل بعد عبورها. إن الفرح فـى الألم أوضح دليل على حب الصليب ولكن لن نستطيع البقاء فى الفرح إىّ إذا جعلت قلوبنا يا يسوع الوديع والـمتواضع القلب مثل قلبك متواضعة ومطيعة فإن شرط الفرح الضرورى إنما هو السلام والثبات فى النعمة “أحببت البر وأبغضت الإثم لذلك مسحك الرب بدهن الفرح”..
شرط الفرح إنما هو نقاوة الحياة وموت الروح عن كل إدعاء وغيظ وأنانية وإلا فلا سلام ولا برارة ولا ثبات فى النعمة بدون تواضع وطاعة.
علّمنا يارب أن نحارب أعداء الفرح ونبيدهم ومتى أتممنا هذا الشرط وأخذذنا هذه الإحتياطات فلنتقدم عازمين ولنحث أنفسنا على الفرح حتى فى الألم.
هاك الكلمة العظيمة إبحث عما يريده اللـه منك ومتى وجدته فأقدم عليه فرحاً أو غير هيّاب. لا تظن أبداً إنك وصلت إلى ما يجب أن تقدمه للـه من طهارة القلب إلاّ إذا أخضعت إرادتك برضى وسرور حتى فى المكاره لإرادة اللـه المقدسة.
اللهـم شجاعـةً فإن الأنوار والأفراح ليست فى طاقتنا ولا شيئ من التعزية إلا ما رسخ فى إرادتنا. لا تدع الكآبـة تستولى على نفسك وتحيا فى مرارة الروح والوسواس لأن الذى أحب نفسك ومات ليحييها هو صالح ووديع ومحبوب جداً. لا تستسلم أبداً إلـى الغـّم فالغم عدو العبادة..لا نرضى لأنفسنا أن تضطرب او أن تقلق لأمر أي كان.
لا تغتم سريعا لما يأتى به الدهر من الكروب فإنك لا تدرى ما تجلبه معها من الخير وما تعد للمختارين بأحكام اللـه السرّية من الفرح الأبدى .علينا عند الحوادث مهما شقت أن نفرح لا أن نحزن. لا ليست مشيئة اللـه أن تضطرب النفس وتحزن من أي حادث فـى هذه الدنيا..فهى إذا حزنت أو إضطربت وسط الإضطرابات فما ذلك إلاّ لنقص فى فضيلتها لأن النفس الكاملة تفرح بما يحزن النفس الناقصة. أما نلاحظ ان كل ذلك لنفعنا إن حب اللـه يتغذى وينمو ويعظم بكل ما تفقده الأنانية من حب التمتع الأبدى والمادى وكل عمل مهما كان إذا تم بسلام وهدوء بل بفرح ولذة فانه يفيد حتى الصحة نفسها ويريح الروح وينعشها. نعم إن جميع الأشياء التى اعدت لتجديد قوانا من اوقات راحة وغذاء وتنزه الى غير ذلك ليست بذاتها انفع الأشياء لنا بل هى كيفية سلوكنا الهادئ السعيد حين نقوم بهذه الأعمال وإستعدادنا الباطن لقبولها بسرور وإطمئنان فيجب علينا حبا للـه وحبا لمشيئته الحالية ان نسر ونفرح بكل ما نصنع. أشد ما نحتاج اليه فى كثير من الأحوال هو ان نضحك او أن نغنى..
إضحكوا..إضحكوا فالضحك خير علاج جسدي وأدبـى واقيا ومقويـّا. وإذا رُمنا ان نتصرف بحسب الروح الفائق الطبيعة كل حين وبدون إفتكار فعلينا ان نبتسم لكل شيئ..لنضحك ولنغنى لكى نقنع نفسنا بتفاهة المصائب الصغيرة والحوادث والإنزعاجات التى قد تحملنا على الإغتمام ولكى نحرك فينا سريعا قوة المقاومة ضد حركات الطبيعة الأولـى أو حركات الأنانية وتجارب العدو المثيرة لكى نوقف غارة الإنفعال الـمُيئس والجزع والسآمة أو نمنع تقدمه وإستيلائه علينا إن كان قد تسلل الى روحنا..
لنضحك ونغّنى لكى نلتزم أن نتصرف كأننا فرحون إذ ينبغى لنا أن نكون فرحين ولأننا نريد ان نكون فرحين ولأنه لا داعى لأن نكون غير مسرورين. ولا شك ان لاشيئ مهم من جهة الإيمان سوى ما يخص الأمور الفائقة الطبيعة لمجد اللـه وخلاص النفس وماعدا ذلك فتافـه وباطل. أمـر واحد وضرورى أن يكون الل÷ مُمجداً وهو يتمجد دائما فى كل شيئ كيفما كان ..فإن لـم يتمجد بطيبته تمجد بعدله..فلنهتف كل حين قائلين هللويا .
أليس اللـه كلي السعادة ..كلي القاسة والجمال..؟!
أليس ناسوت المسيح فى ملء المجد والسعادة التى أهلته له الآمه؟!..
فلماذا أنتِ حزينه أيتها النفس..الرب قد قام وهذا أساس فرحنا..فهما بلغ منـي الكَمـدْ فإنـى حين أنطرح أمام الهيكل وأقول للرب يسوع ربـي إنك كلي السعادة لا ينقصك شيئ فحينئذ لن أتمالك أم أقول وأنا أيضا سعيد …
ونحن من حيث الإيمان لا يهمنا إلاّ أمرُُ واحد وهو أن نضمن حياتنا..حياتنا الأبديـة..
نضمن ما يحفظها ويزينها ويزيدها ويقويها ويغنيها ويكللها ..وليس للعـمر غاية إلا أن يساعدنا على إكتساب هذه الحياة الأبدية فى حين ان كل شيئ يساعدنا على إكتسابها فلنهتف إذن كل حين قائلين هللويــا. زكل لحظة نقصد فيها السلام ويحتجب عنا الإبتسام وينطفئ نور الفرح إنما هى لحظة ضائعة لا أسدت مجداً للـه ةلا نفهاً لنفسنا لأن السلام إذا غاب والإبتسام إذا إحتجب ونور الفرح إذا إنطفئ دلّ ذلك على ان الإيمان والرجاء والمحبة فى هبوط وفى كسوف..ولو كنا لا نطلب غير اللـه لصمنا رأس مالنا وإسترحنا إلـى ربح قرضنا لذلك نقول “أنـى عارف بـمن آمنت” فأعمالنا وتأليفنا مكتوبـة فى سجل الشرف من سفر الحياة ونحن إمـا مُعذبـُون غير معذبين فإذا كنا بغير عذاب فلندع الأوتار تؤدى ما تشاء من أنغام الفرح..وإن كنا مـُعذبين فلنرفع طبقة اللحن كما يفعل الموسيقي حينما يريد ا، يغطى ما يسمع من الضوضاء..رفع الطبقة يعنى اللجوء إلـى الإيمان وإلـى العزم وفرح الإرادة..فإن فى هذا الجهد أجراً عظيما وفيه مسرّة للـه فنقول أنذاك أو نرتل بأعلى صوت ممكن “تعظم نفسي الرب”..وإياك اللهـم نمدح ..أو بعض آيات من المزامير او بعض الأناشيد الطقسية او النصوص الكتابية المشجعة مثل :”بك يارب إعتصمت فلا أخزى إلـى الأبد”..”صالح هو الإعتراف للرب والإشادة بإسمك أيها العلي”..”حياتـي هى الـمسيح”..
” وإن متُ فذلك ربح لـي”.. “متى كنت ضعيفا فحينئذ أكون قويا فإنى أفتخر بأمراضى حتى تسكن قوة الـمسيح فـيّ”…”نسجد لك أيها الـمسيح ونباركك لأنك بصليبك الـمقدس فديت العالـم”..” يا إمراءة لـماذا تبكين”…”لماذا تكتئبين يا نفسي وتقلقين فـيّ أرتجى اللـه فإنـى سأعود وأعترف لـه وهـو خلاص وجهي وإلهـي”…”الذين يتكلون على الرب هم كجبل صهيون غير المتزعزع الثابت إلـى الأبد”..” أما اراجون الرب فيتجددون قوة يتقون بأجنحة كالنسور يعدون ولا يعيون يسيرون ولا يتعبون”..”أما أنا فأتهلل بالرب وأبتهج بإلـه خلاصـي”..” الرب الإلـه قوتـي وهـو يجعل قدمـى كالأيائـل”
——————
“الحيـاة لـي هى الـمسيح والـموت ربح”
(فيليبي21:1)
يتسآل القديس يعقوب فـى رسالتـه قائلاً:”مـا عسى أن تكون حياتكم” (يعقوب14:4)، وللإجابـة نجد أن الناس فـى الحياة ثلاثـة: واحـد يـبارك الحيـاة، وآخـر يلعـن الحيـاة، وثالث يتأمـل فـى الحياة.
الأول يستحق كل محبـة لـسماحتـه، والثانـى يستحق كل عطف لتعاستـه، والثالث يستحق كل إعجاب لإتساع عقليتـه. ونجد أيضاً أن الأول متـمتع بنور الحيـاة، والثانـى عائش فـى ظلالهـا، أمـا الثالث فجالس بين النور والظـل يبكى مع الباكيـن ويفرح مع الفرحيـن.
الأول ينظـر إلـى الحياة فيرى كل مـا فيهـا جميلاً محبـبـاً، لا يهـمه
غيوم، ضباب،هـموم، آحزان، أو تجارب ففى كل هذا سحابـة صيف سوف
تزول عـمّا قريب. إنـه يترّنـم مع بولس الرسول قائلاً:
“نحن نعلـم أن كل الأشياء تعـمل معـاً للخيـر للذيـن يُحبـون الله”
الثانـى ينظر إلـى الحياة فيكرهـها ويكره نفسه من أجلهـا ويلعن يوم ميلاده، لا أمـل ولا رجـاء بل حزن دائـم ويبكى مع يعقوب قائلاً:

“قليلـة ورديّة أيام سني حياتـي” (تكوين9:45)، وينشد مع موسى قائلاً:

“أفخر الحياة تعب وبليـّة”.

أمـا الثالث فهو كثيـر التأمـل فى الحياة. يرى هذا يشكو الحياة وذاك يضحك منهـا، وذلك يتأمـل بهـا.

فـمـا هو موقفـك أنتَ من الحيـاة؟

أحياتـك دمعـة أم إبتسامـة، أم هى فكر وتأمـل؟.

ليست الحياة دمعـه ولا إبتسامـه ولا هـى بالفِكر، إنـما الحيـاة هـى حياتك أنتَ. فإن كان قلبك نقيـّا صافيـّاً كانت حياتك فكراً عـميقاً هادئـاً، وإن كان قلبك قاتـماً كانت حياتك مظـلـمة.

إن كانت هذه هـى حياتك من حيث شعورك بهـا فـما هـى حياتك من حيث تقديرك لقيـمتهـا؟. واحـد يقول: “إن الحيـاة لا شيئ”، وآخـر يقول “إن الحيـاة كل شيئ”،وأمـا أنت فـما هـى قيـمة حياتك؟. الحيـاة لا شيئ وهذا قول الشاعـر فهى فـى نظره روايـة، وهـم وخيال. الحيـاة كل شيئ وهذا قول الكافـر ففى نظره لا أزليـة قبل الـمهد ولا أبديـة بعد اللحـد “اليوم خـمر وغداً أمـر فلنأكل ونشرب لأننـا غداً نـموت”.هـذا تقديـر الشاعـر لحياتـه، وهذا تقديـر الكافر لحياتـه وأمـا أنت فـما هـو تقديـرك لحيـاتك؟

حقيقة الأمـر أن الحيـاة ليست عدمـاً ولا هـى كل شيئ، إنـما الحياة فرصـة ثـمينـة نادرة. انهـا وإن تكن “بخاراً يظهـر قليلاً ثم يضـمحل”

(يعقوب15:4)إلاّ إن عـظمتهـا فـى قلتهـا وجلالهـا فـى قصرها. فالبرق قصيـر إلاّ انـه قوي بهذا القصـر، عظيـم بهذا الصِغـر. ففى هذه اللحظة القصيـرة التى يظهـر فيهـا البرق فإنـه ينيـر الأرض من أقصاهـا إلـى أقصاهـا.

فيـا أخـي لست أسألك كـم عدد السنيـن التى قضاهـا فلان وفلان فى هذه الدنيـا، بل أسألك على أي حال قضاهـا، وعلى أي حال تقضيهـا أنت. فليست قيـمة الحيـاة بطولهـا إنـما قيـمة الحيـاة تعـمقهـا، فالحيـاة لا تقاس ولكن الحيـاة توزن. فاننـي أسألك كم نبضـة شريفـة ينبض بهـا فؤادك؟، وكـم فـكرة ساميـة يفكّـر ذهنـك بهـا؟، وكـم فعل حسن تقدمـه يداك؟

البـِشـارة

نقرأ فـى انجيل القديس لوقـا الإصحاح الأول من الآيـة 26 وحتى 38 عن بشارة الـملاك جبرائيل للعذراء مريـم ولنـا فـى هذا النص ثلاث أقسام للـتأمـل:

القسم الأول – عذراء الجليـل

القسم الثانـى – الـملاك جبـرائيـل

القسم الثالث – الـمولود عـمّانوئـيل

عـذراء الجلـيل:

ولنـا فيهـا تأملان: الأول “ممتلئة نعـمة”، والثانـى “مباركـة فـى النساء”.

“مـمـتلئـة نِعـمة”(لوقا28:1) – بنفسهـا الجميلة التى كانت كلهـا مختصة باللـه كقول الـمرّنم فـى نشيد الأناشيد:”كلك جـميلة يا خليلتي

ولا عيب فيكِ”(نشيد7:4).

“مـمـتلئـة نِعـمة” – بجسدهـا الطاهـر فقد أعطت جسدهـا لكلمة اللـه الأزلـي الـمتجسد.
“مـمـتلئـة نِعـمة” – لأجل الخيـر العام فالجميع سيستفيدوا بواسطتهـا فهى خازنـة النِعـم لأنهـا خزنت فـى أحشائهـا الطاهـرة يسوع الـمسيح ينبوع النِعـم الإلهيـة لـمدة تسعة أشهر.
“مباركـة فـى النِساء”(لوقا28:1) للإمتيازات العظمى التى تـميزت بهـا وهـى:
ميـزة الإيـمان والتصديق: “ليكن لـى كقولك”(لوقا38:1) فلا يوجد
عندهـا شك.
ميـزة الوداعـة والتواضع: “هـا أنـا أمـة الرب”(لوقا38:1) وايضاً
“تعظّم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنـه نظر إلـى تواضع آمتـه”(لوقا46:1-48).

ميـزة الصـمت والتأمـل: “أمـا مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام وتفتكر بـه فـى قلبهـا”(لوقا19:2).
الـملاك جـبرائـيل
لنـا فيـه ثلاثـة أمور هامـة:

تحيـة ملوكيـة – أسرار إلهيـة – وعلامـات ماديـة ومنطقيـة.
تحيـة ملوكيـّة- “السلام عليك…الرب معكِ…..”(لوقا28:1) انهـا أودع تحيـة فـى التاريـخ البشري.
أسرار إلهـية- “الروح القدس يحل عليكِ وقوة العلي تظللك” ..سر التجسد
“فهوذا القدوس الـمولود منكِ يدعى ابن الله”(لوقا35:1).

علامـات ماديـة ومنطقيـة – “هوذا اليصابات نسيبتكِ قد حبلت هـى أيضا بإبن فى شيخوختهـا وهذا الشهر هو السادس لتلك الـمدعوة عاقراً”
(لوقا36:1)-العلامـة الـماديـة. أمـا العلامـة الـمنطقيـة “لأنـه ليس أمر غيـر مـمكن لدى الله”(لوقا37:1).
الـمولـود عـمّانوئـيل:
هـو عـظيـم، وإلـه، وآبـدي.

عـظيـم – فـى تعاليـمه وقد جمعهـا فـى عظتـه على الجبل “طوبـى للـمساكين……”(متى5-7).
– فـى قولـه “من أراد أن يكون فيكم عظيـماً فليكن للجميع خادمـاً وإبن البشر لم يأت ليُخدم بل ليخدم”(مرقس45:10).
إلـه – “ابن العلـي يُدعى”(لوقا32:1)، “القدوس الـمولود منكِ يدعى ابن الله”(لوقا35:1). “يُدعى اسمه عجيبـاً مشيراً إلهـاً جباراً أبـا الأبد رئيس السلام”(اشعيا6:9). “يُدعى اسمه عمّانوئيل الذى تفسيره الله معنـا”(متى23:1). آبـدي – “لأن سلطانـه سلطان آبدي لا يزول وملكه لا ينقرض” ، “ولا يكون لـملكه إنقضـاء”(لوقا33:1).
فـى بيت الفريسي
نقرأ فـى انجيل لوقـا البشير حادثـة دخول السيد الـمسيح لبيت فريسي قد دعاه لأن يأكل معـه وعندما كان هناك جاءت امرأة خاطئة تبكى عند قدميـه وتدهنهمـا بالطِِّيب، فتذمـر الفريسي فـما كان من يسوع أن أعطاه درساً عن الـمحبـة والـمغفرة (لوقا36:7-50).
فـى هذا النص نجد ثلاث أشخاص: الفريسي – الـمرأة-يسوع.
الفريسيّ: يدعو ضيف غريب ومهما كانت نيتـه فلم تكن دعوتـه ليسوع من باب الـمحبـة، بل حباً للظهور وللإستطلاع. الفريسي ينظر الى الـمسيح ويحكم “لو كان هذا نبيـّاً لعلـمَ”، لا يوجد فيـه حب وليس عنده التلـمذة الصحيحة للـه. لـم يسع ليأخذ درسـاً من الـمسيح الـمعلّم، بل بالعكس إنتقده ولذلك أعطاه الـمسيح درساً بالقوة رغم أنفـه “يا سِمعان عندي شيئ أقولـه لك”.
نظر الفريسي للـمرأة وكان حكمـه حكماً ثابتـاً نهائيـاً “إذ هـى خاطئة”، فحكمه لا يقبل التغييـر فهو رجل مسجون فى حِكمته الـمزوّرة.
الـمرأة: هـى أيضاً مقيّدة ومسجونـه فـى عاداتهـا فلقد تعودت على معيشة معينـة، وسجينـة أكثـر فـى حكم الـمجتمع فالمجتمع قد حكم نهائيـاً انهـا خاطئـة. أنهـا فريسة الـمجتمع فيجب فـى نظر الـمجتمع أن تشتغل لحسابـه. مع ذلك فهى غيـر راضيـة على حالتهـا فكونهـا “بكت” عند قدمي يسوع فهذا معناه انها مسكينة تستنجد. الـمهم كان لديها الشجاعـة، شجاعة الصراحـة والحركة التى قامت بهـا كانت واضحة فجاءت متذللـة تنسحق حتى مستوى الرجليـن وهذا يعبّر عن إلـتماس وحب وتسليـم وإستسلام. كان من الـممكن أن تُقابل بالصـد والإهانـة والرفض ووضعت نفسها أمام كل مأزق يمكن أن تتصوره ولكنها تعدت كل ذلك. وكانت شجاعـة بوضعهـا وموقفها الصريح العلني -انها أحبت كثيـراً.
انـه حب الغلبان الذى يقول للـه ياسيدي، من فضلك، ليس لـي سواك.
انـه حب الثقـة والتسليـم.
انـه حب الإستعداد لتنفيذ كل مـا يأمـرنـا بـه الرب.
فلنقدم للرب جروحنـا كـما هـى مع الثقـة فيـه ونطلب نعـمة التوبـة مع الإحساس بالخجل أمام حب اللـه وقلـة أمانتـي.
يسوع: هو الـمخلّص الذى يدافع عن الـمرأة فلقد أحبت كثيـراً لذلك خطاياهـا الكثيـرة مغفورة لهـا (لوقا47:7). الرب يُظهـر خطيئتنـا فى الوقت الذى فيـه يعطينـا العلاج منهـا. الـمسيح يرفع من شأن الـمرأة الخاطئة. من الذى يُحب أكثـر من الـمديونيـن “فقل لـي أيهـما أكثـر حبـاً”.
الـمديـونان: هذا هو وضعنـا نحن البشر. اننـا مديونيـن وكميـة الدين لا يلزم أن يُخيفنـا. الذى غفر لـه الرب أكثـر أحب أكثـر.
الحب يثبـت فـى جو الـمغفـرة، فليس هناك إنسان يُحب إلاّ ومغفورة لـه خطايـاه، لذلك يقول الرب:”إذهب بسلام” وبمعنى أصح “اذهب فـى سلام”.
_________________
الأحد الأول من أمشيـر
“وجـاءوا يطلبـون يسوع”(يوحنا24:6)
· موقف الجموع
أكلوا – لقد كان أول دافع لهم على إتباع يسوع لأنهم “أكلوا الخبز” وبهذ
ينطبق عليهم قول الرسول “إلههم البطن ومجدهم فى خزيهم وهـمّهم
فى الأرضيات”(فيليبى19:3).
طلبـوا – ولـما أكلوا وشبعوا طلبوا يسوع ونسوا قول الـمرنم:”ذوقوا
وانظروا ما أطيب الرب”(مزمور9:33).
وجـدوا – ولـما طلبوا يسوع وجدوه أليس هو القائل “أدعنى وقت الضيق…”(مزمور15:49).
· العالـم يفتش عن يسوع
لأن فيـه الراحـة – فهو القائل:” تركونى أنا ينبوع الـماء الحي وإحتفروا لهم آباراً مشققـة لا تُمسك الـماء”(ارميا13:2). فهل يوجد سعادة وراحـة فـى هذا العالـم؟
لأن فيـه الحيـاة – فهو القائل:”قد جئت لتكون لكم حياة وتكون لكم
أفضل”.
· أيـن نجد يسوع
نجده فـى بيـتـه – “ببيتك يارب تليق القداسة”(مزمور5:92) و”فرحت
بالقائلين الى بيت الرب نذهب”.
نجـده فـى مخدع الصلاة- “أما أنت فإذا صلّيت فادخل مخدعك وأغلق
بابك وصلّ إلـى أبيك”(متى 6:6). “إسألوا فتعطوا. أطلبوا فتجدوا. إقرعوا فيُفتح لكم. لأن كل من يسأل يُعطى ومن يطلب يجد ومن يقرع يُفتح لـه”(متى7:7-8).
نجده فـى أكواخ الفقراء – “كلما فعلتم ذلك بأحد إخوتـى هؤلاء
الصغار فبي فعلتموه”(متى40:25).
نجده فـى كتابـه وكلـماتـه – “فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم
فيها حياة أبديـة وهى تشهد لـي(يوحنا39:5).
نجده على الـمذبح – “جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق من يأكل
جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيـه”(يوحنا56:6-57).
_________________
يـوم مع الرب يسوع
اليوم سيكون الرب يسوع نفسه هو الـمعلّم…

سنسمع صوت يسوع، سنعيش مع يسوع فكيف نقضى يومنـا هذا معـه؟
قبل كل شيئ فلنتقدم بالشكر لإلهنـا الذى سترنـا وحفظـنـا وآجازنـا الليل بسلام.
“أقـوم وأذهب إلـى أبـي”(لوقـا 18:10)
لنجعل هدفنـا وإتجاهنـا طول اليوم هو نحو الآب لنعيش بين أحضانـه، ولنذهب اليه كخطـاه فى طريق التوبـة وفى أفواهنـا كلمات الإبن الضال “أقوم وأذهب إلـى أبـي”، وفى ذهابنـا إلـى الآب نجد الحبيب فـى إنتظارنـا يقرع على أبواب قلوبنـا منتظراً منـا حديثنـا اليومي.
انـه يدعونـا الآن لنلتقى بـه، لقـاء كله حب وحنان ولنا فى كل يوم جديد موعد ولقاء مع حبيبنـا يسوع.
” وباكراً جداً فى أول الأسبوع أتيـن إلـى القبـر”(مرقس2:16)
ان قيامـة الرب باكراً جداً تجعلنـا نتجه فى الصباح الباكر بأفكارنا ومشاعرنا نحو الرب القائـم، الـمنتصر على الـموت وعلى كل قوى الشر. لنـتقدم إليـه مع النسوة بتقدماتنـا القليلة من الأطياب والحنوط.
يسوع الذى “ليس بأحد غيـره الخلاص”(اعمال12:4) هو الشخص العجيب الذى أقدمـه لك اليوم.
أقدمـه لك لتقابلـه بنفسك وتتذوق حلاوة محبتـه التى تأسر القلوب فتحبـه من كل قلبك.
أقدمـه لك ليكون مخلّصك الشخصي وحبيبك الشخصي وسيدك الشخصي الذى تخضع له بكل عواطف قلبك وبكل أفكارك وإرادتك، فتستطيع حينئذ أن تدعـوه “ربـي وإلهـي وحبيـبي”.
أقدمـه لك بهذه الصفـة لأن هذه هى رغبـة قلبـه ومسرّتـه أن تعرفـه شخصيـاً لأنـه سبق فأحبك وبذل حياتـه على الصليب لأجلك.
تـعارف
الإصحاح الأول من إنجيل يوحنا هو إصحاح للتعارف، يبتدئ فيـه القديس يوحنا الرسول يعرّف الناس من هو الرب يسوع. وكان تعريفـه واضحاً، ومنذ ذلك الزمان والبشريـة تعرف الرب يسوع انـه اللـه الكلـمة الـمتجسد.
ثـم على مدى الإصحاح يسرد الرسول كيف تعرّف الناس على يسوع شخصيـاً، كيف تقابلوا معه وكيف تعرّف هو عليهم وقابلهـم.
لا بد من الـمقابلة الشخصيـة للتعارف بيسوع. صحيح ان يوحنا الرسول عرّفنـا من هو الـمسيح كما عرفـه، ولكن لا يكفى أن نعرف من هو يسوع، يلزم جداً أن نعرف يسوع وأن نتقابـل معـه.
يسوع هو الـمحبـة فيلزم أن نأخذه، وهـو الحق ويلزم أن نختبـره، وهو الحيـاة ويجب أن نحيـاهـا.
يسوع هو الـباب يلزم أن ندخلـه، وهو الطريق ويلزم أن نسيـره، وهو الكلـمة ويلزم أن نعقـله.
إذاً لا يكفى أن نعرف من هو الرب بكثرة الـمعارف التى فى الكتب، بل يلزم أن نعرفـه شخصيـاً، ولا يمكن أن نعرفـه شخصيـاً إلاّ إذا تقابلنـا معـه. نأخذه، ونختبـره،ونحيـاه، ندخلـه، نسلكـه، ونعقلـه.
الرب متواضع وهو يسبقك إلـى الـمقابلة ويسبقك الى التعارف، وهو يريدك قبل أن تريده أنت ويتمنى أن تحبـه كـما يحبك.
كثيـرون التقوا بيسوع ومن كثـرة إتضاعـه لـم يعرفوه، وبعضهـم شكّوا فيـه، ولـم يعرف يسوع إلاّ الـمتواضعون وعلى قدر تواضعنـا سيسـتعلن لنا الرب.
مقابلات مع يسوع
1. الـمعمدان
يقص يوحنا الرسول قصة مقابلة يوحنا الـمعمدان مع يسوع هكذا:
“وفى الغد رأى يوحنا يسوع مُقبـلاً إليـه”(يوحنا29:1)، ولكن لم يأت يسوع الى الـمعمدان إلاّ بعد أن اعترف الـمعمدان بالـمسيح وشهد لـه “فقال هوذا حمل الله الذى يرفع خطيئة العالم” (يوحنا29:1).
لا بد من الإعتراف والشهادة حتى تحصل الـمقابلة وتتم الرؤيـا.
2. تلـميذي الـمعمدان
يقص الرسول قصة مقابلة تلميذين كانا مع الـمعمدان وتركاه ليتبعـا يسوع:
“وفى الغد أيضاً كان يوحنا هناك هو وإثنان من تلاميذه…وسمع التلميذان كلامـه فتبعـا يسوع”(يوحنا35:1و37). لقد صمم التلميذان أن يتبعا يسوع بعد أن سمعا انـه “حمل الله” وسمعا أيضاً كلامـه فكلام الـمسيح
“حمل الله” يـبهج النفس ويجذب القلب وكل من يسمعه يود أن يحياه ويشتاق أن لا ينساه قط ويريد أن يتبعـه. كلامـه كان عند التلميذين كروح يدعوهم فتركا يوحنا وتبعـاه. لابد أن نسمع كلام يسوع حتى نستطيع ان نترك كل شيئ ونصير من التلاميذ، ولا يستطيع أحد أن يسمع كلام يسوع ويـبقى للعالـم.
“فالتفت يسوع فرآهـما يتبعانـه فقال لهـما ماذا تريدان”(يوحنا38:1).
ان الـمسيح يسأل دائـماً الذيـن يتبعونـه عن مطلبهـم فيـه وقصدهم من إتباعـه لأن كثيرين يطلبونـه لأجل آيـة، وكثيرون يتبعونـه من أجل الطعام الفانـي. ويسوع لا يشاء أن يأتـى إليـه إلاّ من يطلبـه هو شخصيـاً. الروح القدس يرشدنـا أن نطلب شخص يسوع، وكل الذين يطلبون يسوع بالروح يطلبونـه كرب.
“فقالا لـه رابـي الذى تفسيره يا مُعلّم أين تسكن”(يوحنا38:1). لقد صار واضحاً من كلامهـما انهـما مدعوان بالروح لـما نطقـا بالكلـمة “رابي” لأنـه لا يستطيع أحد أن يقول أن الـمسيح رب إلاّ بالروح، لذلك قال لهـما يسوع “تعاليـا وأنظرا”، فكل من يطلب يسوع بالروح لابد أن يسمع منـه دعوة للـمجئ ودعوة للرؤيـا.
يقول الكتاب أنهـما “أتيـا ونظرا حيث يسكن وأقامـا عنده”(يو39:1).
الـمسيح يطلب ان يتبعه الناس ليمكثوا عنده ليصيروا آلهـة. كلام يسوع إذن هـى دعوة للتعارف معـه.
3. فيلبس
يقص يوحنا الرسول مقابلة أخرى لعلهـا تكون معك:

“وفـى الغد أراد يسوع الخروج إلـى الجليل فوجد فيليبس فقال لـه
اتبعـني”(يوحنا43:1).
هل لم يكن يوجد فى الجليل إلاّ فيلبس؟
ان جليليين كثيرين تقابلوا مع يسوع ولكن الى فيلبس فقط قال “اتبعنـي”. لا تسأل لـماذا، ولكن إنتبـه لئلا تكون أنت فيلبس وإذ تتشاغل بأسئلة كثيرة فتفوتك الدعوة. ان كلام يسوع حينما تقرأه تجده يشير نحوك، كلامـه كعين شاخصة إليك، لا تلتفت الى غيرك، لا تنظر الى الجليل الـمرفوض. أنت فيلبس ألا تريــد؟
خروج يسوع الى الجليل كان ليلتقى بفيلبس ليدعوه، والآن خرج صوتـه الى كل أقطار الـمسكونـة ليدعو، يدعو كل واحد، فكل واحد قد صار فيلبس. العالـم كله صار عند الـمسيح مثل فيلبس لأنـه مات عن العالـم كلـه ليدعو كل العالـم إليـه.
فيلبس سيبكت العالـم الراجع عن الـمسيح لأن فيلبس قبِل الدعوة على الفور، فهل تقبل أن تبكّت معـه العالم الراجع عن الـمسيح؟
4. نثنائـيل
ثم يقص يوحنا الرسول قصة أخيرة عن دعوة للـمقابلة لعلهـا تكون دعوتنـا:

“ووجد فيلبس نتنائيل فقال له إنّ الذى كتب عنه موسى فى الناموس والأنبياء قد وجدنـاه وهو يسوع بن يوسف من الناصرة”(يوحنا45:1).
فيلبس لـما قبل الدعوة وجد يسوع، وهو يقول هكذا “وجدنـاه”، ما أعجبـه إكتشاف، وما أثـمنه وجود. متى يارب نجدك كفيلبُّس؟.
فيلبُّس وجد الـمسيح بتحقيق. قد وجده وجوداً أكيداً فلقد راجع وجوده على ناموس موسى والأنبياء جميعاً فوجده هو هو!!
ياللفرحـة، فرحـة الإكتشاف،ويـاليقيـن الوجـود، فمتى نفرح بيقيـن وجودك يـارب؟.
عبثـاً تحاول أن تجد يسوع إن لـم تقبـل دعوتـه. ان تجد الـمسيح تجد التجديد والبعث بروح قيامـة لحيـاة أبديـة.
“فيلبُّس وجد نتنائيـل” وقال لـه وجدنـا يسوع “تعال وأنظـر”. فيلبُّس يصير رسولاً يدعو نتنائيل للـمجئ الى يسوع. فيلبُّس وجد الـمسيح حقـاً بتأكيد وتقابل معه شخصيـاً تعرّف عليـه وصار من التابعيـن. كل من يجد يسوع هكذا يستطيع أن يدعو الناس إليـه. فيلبُّس يكرز بـما وجده، يُبشّر بـما رأى “تعال وأنظـر”. قالهـا يسوع لتلـميذي الـمعمدان، وقالهـا فيلبُّس لنثنائيـل.
هـى إذن سنـة الرسالـة والكرازة-مقابلـة ورؤيـا-وهذا هو طريق الكارزيـن. سـير مع يسوع ثـم قيادة، نظر ليسوع ثـم توجيـه.
فيلبُّس كان واسطة تعارف، يدعو كـما دُعـي هـو ليـجد الناس ما وجده
وليـرى الناس مـا رآه.
هذه هـى الكرازة وهذا هو التبشيـر “تعال وأنظـر”.
حقيقـة لا يدعو إليهـا إلاّ من وجدهـا.
“ورأى يسوع نثنائيل مقبلاً إليـه فقال عنـه هذا فى الحقيقة إسرائيلي لا غِش عنده.فقال له نثنائيل من أين تعرفنـي. أجاب يسوع وقال له إنّي قبل أن يدعوك فيلبُّس وأنت تحت التينـة رأيتك”(يوحنا47:1-48).
لقد أقبل نثنائيل ليرى يسوع، ليتعارف عليـه، ولم يكن يظن أبداً أن يسوع سبق فعرفـه، سبق فرآه تحت التينـة قبل أن يدعوه فيلبُّس. كل من لـم يجد يسوع يظن أنـه غيـر معروف عند يسوع، ولكن حينـما نقبل إليـه ونعرفـه حينئذ نعرف انـه كان يرانـا، وكان يتتبعنـا، وكان يرصد حركاتنـا، وكان يتعقبنـا فى كل مكان.
فلنأت ليسوع ونتقابـل معـه وندعـو الآخريـن للإلتقـاء بيسوع ولا نتزعزع وتملأ قلوبنـا الشكوك كما قال نثنائيل من قبل أن يلتقى بالـمسيح “أمن الناصرة يمكن أن يخرج شيئاً صالحاً”، بل فلتصرخ أعـمالنـا ونكرز بإيـمان من دون أن نرى الآيـات والعجائب “أنت ابن الله أنت ملك اسرائيل”، “فنعايـن أعظـم من هذا”. آميـن.
________________

يسوع العظيم فى يوم الخميس العظيم
فـى يوم الخميس العظيم سنـتأمـل يسوع العظيـم فى نواحى كثيرة من حياتـه.
أولاً- عـظـمة الحب
“لـمّا كان يسوع يعلم أن ساعتـه قد أتت لينتقل من هذا العالـم إلـى الآب وكان قد أحبّ خاصتـه الذين فى العالم أحبّهم الى الـمنتهـى” (يوحنا1:13).
فـى ليلة الخميس، كان ليل، وكان سكون مخيف، وجلس الـمسيح وسط تلاميذه، أشباح صامته وسط الظلام، والسراج الزيتـي يرسل نور ضئيـل، وقد بدأ خوف على وجوه التلاميذ، بل ظهر على وجه الـمسيح ما ينـُم عن حوادث جسام: الصليب-يهوذا- اليهود- والتلاميذ.
شبح الصليب- ألقى الصليب ظلالـه القاتـمة ورآه يسوع بكل ما فيـه من قسوة وما يحويـه من ألـم ومن عار ومن لعنـه، ومن موت وأقشعر بدنـه من رؤيتـه.
يهوذا – يقع بصريسوع على يهوذا الإسخريوطي ويرى تلك النفس الدنيئة التى نسيت ما عـمل الـمسيح من أجلهـا.
اليهود- هناك يسـمرون لـه صليبـاً.
التلاميـذ- يحول الـمسيح نظره عن يهوذا فيقع على التلاميذ، ولكنهم فى ساعة شدتـه تركوه يتألـم وحده. الكل خافوا وتآمروا وتركوا.
ولكنـه كان يسوع عظيـماً، لـم يحنق على البشريـة التى تحاول أن تصلبـه. كان عـظيـماً فـى حبـه، لـم يكن يحيط بيسوع إلاّ الحب.
ثانيـاً: عـظمـة اليقيـن
انـه آت من عند الآب وإلـى الله يـمضى (يوحنا5:13) وهنا أساس العظـمة. لـم يأت من تلقاء نفسه، جاء لكي يعمل ويتمم إرادة الآب السماوي. رغـم أنهـم رفضوه، لـم يهـمه ذلك لأنـه لابد أن يتمم مهـمته الـمرسومـة.
ثالثـاً: عـظمة الخدمـة الوضيعـة
“قام عن العشاء وخلع ثيابه …وأخذ يغسل أرجل تلاميذه”(يوحنا6:13-7)

إن فى إتيان الخدمة الوضيعة عـظـمة. إن الخدمـة العامـة فى ذاتهـا عـظمة. فإن العظمـة هى أن يخدم العظيـم الناس.

رابعـاً: عـظمة الدرس الأخيـر

لأن الـمعلّم هو الـملك نفسه “إن كنتُ وأنا السيد والـمعلّم قد غسلتُ أرجلكم فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض”(يوحنا14:13)، فهو أمر ملكيّ وفيـه تنبـيه على خدمة الـمحبة، وأيضاً تنبيـه على خدمـة التواضع-تواضع الخدمة الصغيـرة وتواضع الخدمة الحقيـرة، وأيضاً فيـه تنبـيه الى خدمـة التطهيـر من خطايـانـا.

خامساً: عظمة الحب فى سر الحب

“هوذا أنا معكم كل الأيـام والى إنقضاء الدهـر”(متى20:28)، واللـه معنـا بعنايتـه وتدبيـره فهو كالـملك فى ملكه يدبرّه ويسوسـه حسب العدل، وهو كالقائد فى عسكره يشجعه ويقويه ليقهر الأعداء، وكرب البيت فى بيته ليسوسه بحكمته، وكالـمدبّر فى سفينـته ليهديها الى ميناء الخلاص. ولكنـه معنـا بالأكثـر وبنوع مخصوص فى سر القربان الـمقدس الذى رسمه لنـا ليكون قوتـاً لنفوسنـا ما دمنـا فى غربـة هذا العالـم ليقوينـا فى ضعفنـا ويبيـن لنـا سمو محبتـه لذلك حق للكنيسة ان تقول مع عروس النشيد “ان الحب قد أسـقـمني”(نشيد الأناشيد8:5).

سادسا: عظمة يوم الخميس

وهـى أن نكون دائـماً مستعدين لأن نعيش هذه العظمة فى أن نتناول جسد الرب ودمـه ونحن على إستحقاق. فلنعد قلوبنـا بـما يليق لـمن سيسكن فيهـا، ولنغسل قلوبنـا كما غسل الـمسيح أرجل تلاميذه قبل العشاء، ولنحفظ قلوبنـا كما حفظ موسى تابوت العهد وصنعه من خشب لا يسوس، ولنهيـئ قلوبنـا كـما هيـأ سليـمان الهيكل، ولنجعل قلوبنـا دائـماً جديدة ولا نصيـّرهـا قبـراً فإن يوسف الرامـي قد وضع الـمسيح فى قبـر جديـد.

فلنقـم من الـموت، موت الخطيـّة كـما قامت إبنـة يائـير وأكلت، ولنحطم أصنامنـا كـما فعل يوشيـّا الـملك قبل أن يقيم وليـمته.

فلنخرج من عبوديـة الخطيـّة كما خرج الشعب الإسرائيلي من عبوديـة مصر ثم أكلوا الـمنّ فـى البريـّة.

وعندئذ نستطيع أن نقدم ذواتنـا للرب: حياتنـا وأقدامنـا ويدانـا وأصواتنـاو شفاهنـا وعقولنـا وأفكارنـا وإرادتنـا وعيوننـا وآذاننـا وقلوبنـا ومحبتنـا وكلنـا للـه العظيـم. آميـن.

_________________

“مــاذا أفعـل بيسوع الذى يُدعـى الـمسيح”؟

(متى22:27)

مـاذا أفعل بيسوع؟ -كان هذا سؤال بيلاطس للجموع والآن هو لنـا، سواء كنتُ صديقـاً ليسوع أو عدواً.

الأصدقـاء:

1. أدعوه ضيفـاً عاديـاً كما فى عُرس قانا الجليل”فدُعي يسوع وتلاميذه إلـى العُرس”(يوحنا2:2)، مع أن يسوع ليس كسائر الناس فهو كالشمس التى لا تظهر معها النجوم الصغيـرة”وتجلّى..وآضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابـه كالثلج”(متى2:17)، وهو لا يتساوى مع غيـره فهو الذى جاء صوت من السماء قال عنـه:”هذا هو إبني الحبيب الذى بـه سُررتُ فله إسمعـوا”(متى5:17).

2. أدعـوه كسـمعان الفريسيّ “سأله أحد الفريّسيّن أن يأكل معه فدخل بيت الفريسيّ واتكأ”(لوقا36:7) ويُصبح ضيفـاً محتقراً ومنتقداً “لوكان هذا نبيّـاً..”(لوقا39:7).

3. أدعوه وأبحث عنـه كما فعل الشعب بعد وليـمة الخمس خبزات والسمكتين “نعـمله ملكاً” ولكن يسوع إختفى لأن “مملكته ليست من هنا”. لقد بحثوا عنه لغرض مادي بعد أن رأوا الآيات والـمعجزات فندعوه فقط لكى يعطينـا حاجاتنـا الأرضيـة فهو ضيف الإحتياج.

4. أدعوه وأؤمن بـه سراً كنيقوديموس “فجاء إلـى يسوع ليلاً”(يو2:3).

5. أدعوه ضيفـاً مكرّمـاً كـما فعلت مريـم ومرتـا اللتان قابلاه مقابلة حسنة”وفيما هم سائرون دخل قرية فقبِلتـه امرأة اسمها مرتا فى بيتهـا. وكانت لهذه أخت تسمّى مريم وكانت جالسة عند قدميّ يسوع تسمع كلامـه”(لوقا38:10).

6. أنكر معرفتـي بـه مثل مـا فعل بطرس الذى خاف من جاريـة ومن الـمسامير ومن الصلب. إذن أنكر معرفتي به أمام الخطـر”فأنكره قائلاً يا امرأة إنّي لستُ أعرفه”(لو57:22).

7. أطلب أن أرى يسوع مهـما كانت الصعاب كـما فعل زكـّا الذى “طلب أن يرى يسوع من هو ولم يستطع”،فلم تمنعه الجموع ولا قِصر قامتـه فصعد إلـى جميزة لينظره،ورآه يسوع وقال له”زكّا أسرع وانزل فاليوم ينبغى لي أن أمكث فى بيتك. فأسرع ونزل وقبلـه فرحاً”لوقا1:19-10).

8. أتقابـل معـه وأعرّفـه للآخريـن كـما فعلت السامريـّة التى تركت جرّتهـا وانطلقت الى المدينة وقالت للناس:”هلّموا وأنظروا رجلاً قال لي كل ما صنعت أليس هو الـمسيح”،و”آمن بـه فى تلك المدينة سامرّيون كثيرون من أجل كلام الـمرأة التى كانت تشهد”. فلقد حملت الـمسيح الى أهل بلدتهـا (يوحنا1:4-39).

9. أدعوه ليمكث معـى كـما فعل السامرّيـون الذين بعد أن سمعوا كلام

المرأة السامرية “طلبوا إليه أن يقيم عندهم فمكث هناك يومين”(يوحنا40:4).

10. أبيعـه بثلاثيـن من الفضـة، أي ما يساوى 120 قرشاً مصريـاً كما فعل يهوذا الإسخريوطـي وربـما يوجد من يبيعـه بأقل من ذلك.

الأعـداء:

1. الجـماهيـر التى فضلّت الخنازيـر عن شفاء الـمجنونان طالبيـن أن يخرج يسوع من تخـومـنا “فخرجت الـمدينة كلّهـا للقـاء يسوع ولـمّا رأوه سألـوه أن يتحول من تخومـهـم”(متى28:8-34).

2. الخـطأة الذيـن يهزأون بـه ويشتـمونـه ويبصقون عليـه ويلطمونـه ويجلدونـه ويعايرونـه قائليـن:”يا ناقض الهيكل وبانيـه فى ثلاثـة أيام” و “السلام يا ملك اليهود”.

والآن مـا هـو يـا تُرى سيكون جوابـك يا من تُدعى مسيحيـاً؟

__________________

الأحد الخامس من الخمسين

“قال لهم يسوع أنا الطريق والحق والحياة لا يأتى أحد الى الآب إلاّ بـي”(يوحنا4:14)

من قراءة انجيل اليوم (يوحنـا1:14-11) يـمكننا أن نتأمـل فـى النقاط التاليـة:

مقـدمـة:

حديث السيد الـمسيح لرسله ليعزّيهـم ويقويهـم عن فراقه لهم وقرب تركـه لهـم لهذا قال لهـم:”لا تضطرب قلوبكم أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بـي أيضاً”-إنهـا دعوة لعدم الخوف والقلق والتأكيد على ضرورة الثبات فـى الإيـمان. وأعطاهـم رجاء بأنـه لن يتركههم “فإنـي منطلق لأعدّ لكم مكانـاً ..وآتـي وآخذكم إلـيّ لتكونوا حيث أكون أنـا”.

ثـم بدأ يسوع مناقشتـه مع التلاميذ أولا مع تومـا الذى تسآل قائلاً:”يارب لسنا نعرف أين تذهب وكيف نعرف الطريق”، ثـم جاء فيلبس ليسأل هو الآخـر “يارب أرنـا الآب وحسبُنـا” وكانت إجابـة السيد الـمسيح لكليـهـما هو إعلان عن من هو يسوع “الطريق والحق والحيـاة”.

الجزء الأول: يسوع هو طريق السـماء “انـا الطريق”

يسوع هو الطريق لهذا دعانا بولس الرسول قائلاً:”لنجعل نظرنـا الى مُبدئ الإيـمان ومتـممه”(عبرانيين2:12)، فندخل السماء بطريق الصليب كما فعل هو “الذى بدَل السرور الـموضوع أمامـه تحمّل الصليب مُستخفـاً بالخزي وجلس عن يمين عرش الله”(عبرانيين2:12) ولهذا قيل:”بـمضايق كثيـرة ينبغى أن ندخل ملكوت الله”(اعمال21:14) ويحثـنـا يسوع على هذا قائلاً:”من أراد أن يتبعـني فليكفر بنفسه ويحمل صليبـه ويتبعنـي”(مرقس34:8).

الجزء الثانـى: يسوع هـو الحق

تعاليم يسوع هـى حق فهى بخلاف مبادئ العالم والشيطان لهذا قال يسوع عنـه:”هو من البدء قتّال الناس ولم يثبت على الحق لأنـه لا حق فيـه. إذا تكلّم بالكذب فإنـما يتكلم بـما هو لـه لأنـه كذوب وأبو الكذِِب” (يوحنا44:8).

يسوع هو حق لأن “السماء والأرض تزولان ونقطة واحدة من كلامـه لا تزول”(متى18:5).

يسوع هو حق لأن “ليس عنده تحوّل ولا ظل دوران”(يعقوب17:1).

يسوع هو حق لأن تعاليـمه تعرّفنـا واجباتنـا نحو الله والقريب وذواتنـا والتى نجدهـا فـى نصوص الـموعظة على الجبـل (متى5-7).

الجزء الثالث: يسوع هو حيـاتـنـا

1. لأنـه هو أصل خلاصنـا” ليس بأحد غيره الخلاص لأنه ليس إسم آخر تحت السماء ممنوحاً للناس به ينبغى أن نخلص”(اعمال12:4).
2. لأنـه يغفر لنا خطايـانـا ويطهرّنـا من كل إثـم(1يوحنا9:1).
3. لأنـه يشفع فيـنا فى السماء (عبرانيين24:9).
4. لأنـه بقيامتـه من بين الأموات أعطانـا الحياة “هو باكورة الراقديـن”(1كورنثوس20:15).
5. لأنـه يفيض على قلوبنـا بالنعِم.
النتيجـة:

لنتبع يسوع فى الطريق التى رسمها لنـا والحالة التى دعانـا اليهـا ولنثق بـمواعيده ولنحيا معه بقيامته الـمجيدة والسعادة الخالدة. آميـن.

_______________

“إن إنقسمت مملكة على ذاتها لا تستطيع تلك المملكة ان تثبت”(مرقس24:3)

كانت أثار كل صنيع عظيم يعمله يسوع فى نفوس الكتبة والفريسيين والجموع: دهشة وإيمان-ظلم وبهتان-وبيان وبرهـان.

دهشـة وإيـمان

بهت كل الجموع وقالوا ألعل هذا هو إبن داود؟. لقد آمنوا بعد ان دهشوا من رؤيـة ما صنع يسوع. انـه يسوع رب العجائب والـمعجزات. يـا قوم فعلام الدهشة وعلام التعجب؟. انـه الإلـه الذى غيـر الـمستطاع عند الناس مستطاع عنده .انـه الخالق العجيب الذى شهد لـه الأقربون والبعيدون، الـمؤمنون والـملحدون. يسوع الذى حارب الشيطان فى معقله وإستخلص من بين أنيابـه كل فريسة وبذلك بهت كل الجموع.

ظلـم وبهـتان

الفريسيون قالوا هذا لا يخرح الشياطين إلاّ ببعلزبول رئيس الشياطين. الجموع مؤمنة ومتعجبة بيسوع القادر القديـر، والفريسيون ينتقدون بل يتهـمون ويهدمون، انهـم كالسرطان الذى كان يتفشى دائما فى كل مجتمع يحضره يسوع ولا يزال هذا السرطان يتفشى فى كل مجتمعاتنـا. جماعة الـمنتقديـن والهدّاميـن فمن فضلة القلب ينطق الفم.

بيـان وبرهـان

لـم يقف يسوع صامتـاً عند هذا الإتهام، بل دافع عن نفسه بالدليل والبرهان.

فالقضيـة الكبرى “كل مملكة منقسمة على ذاتهـا تخرب”-منطق سليم

والقضيـة الصغرى “فإن كان الشيطان يخرج الشيطان فقد انقسم على ذاتـه” وهذا حق.

والنتيجة هى “كيف إذن تثبت مملكة الشيطان”؟

استطاع يسوع أن ينفـى الإتهام عنـه بهذا الـمنطق العجيب مُظهراً أسباب داء الإنقسام التى تتلخص فـى الآتـى:

1. الأنانيـة والكبريـاء -وقد ذكر عنها الكتاب الـمقدس الشيئ الكثيـر:آدم-بانى برج بابل-فرعون مصر-جليات الجبار، وقال عنهـا الحكيم”انها ينبوع كل الخطايا ومن رسخت فيه فاض أرجاساً”(يشوع بن سيراخ15:10).

2. الطمع ومحبـة الـمال-“محبة الـمال أصل لكل الشرور” و”محبـة العالـم عداوة للـه”.

3. أزمـة الثـقة والتى قد تكون بين بلدين او زوجين او أخين.

4. الوشايـات

5. الأصدقاء والـمعاشرات الرديئـة.

فـما هـو إذن العلاج والدواء؟

1. روح التسامح-بطرس سأل السيد الـمسيح”كم مرة يخطئ إليّ أخي وأنا أغفر لـه هل الى سبع مرات” وقال يسوع بل الى سبعين مرّة سبع مرّات.
2. روح التضحيـة والإيثـار –كما قال ابرام للوط “لا تكن مخاصمة بينى وبينك وبين رعاتي ورعاتك لأننا نحن اخوان، اليست كل الأرض امامك..إن ذهبت شمالاً فأنا يميناً….”
3. روح الحكـمة – فالحكمة بنت بيتهـا و”حكمة المرأة تبنى بيتها والحماقة تهدمه بيدهـا”
فلنطلب من الرب روح التسامح والتضحيـة والحكـمة حتى لا تنقسم مملكة الله على الأرض ونكون نوراً للعالـم ومِلحـاً للأرض ويروا أعمالنـا فيمجدّوا أبـانـا السماوي.

__________________

توقـيـر الله
نقرأ من انجيل متى الإصحاح الخامس من العدد 33 الى 37 قول السيد الـمسيح للجموع مـا يلي:
” قد سمعتم أيضاً أنـه قيل للأوليـن لا تحنث بل أوفِ للرب بأقسامك. أمـا فأقول لكم لا تحلفوا البتـّة لا بالسماء فإنهـا عرش الله. ولا بالأرض فإنهـا موطئ قدميـه. ولا بأورشليم فإنـها مدينة الـملك الأعظم. ولا تحلف برأسك لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة منه بيضاء أو سوداء. ولكن ليكن كلامكم نعم نعم ولا لا وما زاد على ذلك فهو من الشريـر”.
ووصيّـة الرب تقول:”لا تنطق بإسم الرب إلهـك باطلاً لأن الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلاً” (تثنية 11:5).
فى الجيل الحاضر يوجد فضائل كثيرة ولكن لا نجد بينها “توقيـر الله”، فالشباب العصري يستبيح أشياء ما كان آباؤه يجسرون إتيانـها. نعم فقد أصبح جيلنـا يدعو نفسه جيلاً عمليـاً وصار ينظر الى اللـه نظرة أقـل.
يـالـه من جيـل مسكين!. هـو فى حاجـة لأن يسمع الوصيـّة بصوت الرعد لتهـز كيـانـه فيعلـم من هـو بإزاء ربـه.
حالـما نسمع الوصيـّة نتساءل ما هو الـمقصود بعدم النطق بإسم الله باطلاً؟
1. إستعـمال إسم اللـه فى الشتائم واللعن، ومن الـمؤسف جداً أننـا نجد هذا فى كل أمـة وجنس، ويمتد هذا الى التجديف الشريـر.
2. الحلف الـكاذب.
3. الريــاء – الذيـن يذكرون اللـه بأفواههم ويكرمـونـه بشفتيهم وقلبهم مبتعد عنـه بعيداً.
4. ذِكر إسم اللـه بدون قصد أو لـمعنى غيـر معنـاه من ألفاظ التعجب والإعـجاب.
وبالجملـة ظل إستعمال إسم اللـه ينتقص من قدره ويقلل من مقامـه فى عيـن الـمتكلـم، ولا يخطر ببالكم ان عـملاً كهذا يصل الى مقام اللـه نفسه واللـه أسـمى من أن يـمس مقامـه أي إنسان.
لـماذا إذن يطلب اللـه مـنّا أن نحتـرمـه؟
لأن اللـه لا يبُرئ من نطق بإسـمه باطلاً. إن اللـه يطلب أن نوقره ليس لأن نتملقـه، ولا لأن توقيرنـا نافع لـه، لكن لأنـه يعلـم أن هذا نافع لنـا. أنـه أساس فضائـل أخرى.
1. إن توقـير اللـه هو أساس التعبـد فلا نستطيع أن نعبد إلهـاً لا نوقـره. إذاً التعبـد للـه يستند على الإحتـرام لـه.
2. إن توقـير اللـه هو أساس طاعتـنا لـه فلو كففنـا عن إحترامـه إنقطعنـا عن طاعتـه. ونحن نلاحظ هذا فى علاقتنا مع من يجب طاعتهم كالوالديـن والـمعلـمين والحكّام، فيتحتم أن نحترمهـم ويوم يفقدون إحترامنا لهم يفقدون طاعتنـا وإن عدم إحترامـنا للـه هو علامـة على جهلنـا لأنفسنـا وجهلنـا بالأكثـر لعـظمة إلهنـا.
3. إن عدم إحترام اللـه هو كذلك علامـة على الإلحـاد لأن الإيمان باللـه يبعث على التوقيـر والإحترام.
وفـى بشارة القديس متى نجد ان السيد الـمسيح يقول لنـا عن أهـمية الكلام فيقول:”إن كل كلـمة بطّالـة يتكلم بهـا الناس يُعطون عنهـا جوابـاً فى يوم الديـن.لأنك من كلامك تتبرأ ومن كلامك يُحكم عليك”
(متى33:12-34). لهذا قال السيد الـمسيح لا تحلفوا البتـة بل ليكن كلامكم نعم نعم لا لا، وقال ايضاً ان من يقسم حتى بغيـر اللـه إساءة لـه فإن السماء كرسيـه والأرض موطئ قدميـه وأورشليم مدينتـه وكذلك الحلف برأس الإنسان فهو حلف بـما ليس يملكه.
فلنطلب من الرب تعالـى أن يعطينـا نعـمة لكى نوقـره ونحترمـه
ونكرّمـه وأن نتجنب خطيئـة الحلف حتى لا نقلل من مجد الله.
إنّ حبـّة الحنطـة التى تقع فى الأرض إن لـم تـمت فإنهـا تبقـى وحدهـا وإن ماتت أتت بـثـمر كثيـر”(يوحنا24:12-25)
ان الله تعالـى قد سنّ شريعـة عامـة تشمل الجميع وهـى –لا راحـة إلا بعد تعب- وهذا ما نشاهده يومياً فى الطبيعة الناطقة وغير الناطقة. نرى أن الإنسان لا يستلذ بهناء عيشه إلاّ بعد التحصل عليه بتعب ومشقة فالتلميذ والتاجر والفلاّح والعامـل والـموظف لا يتذوقون حلاوة النجاح إلاّ إذا بذلوا الجهد والعرق وضحوا بوقتهم وصحتهم فى سبيل ذلك. أما الكسلان الذى لا يكد ولا يتعب فإنـه لا يذوق الهناء الـمتوفر لصاحب الهِـمّة.
هذه الشريعة تسرى ايضاً على الحيوانات الغير ناطقة،فالنملة لا تهنأ حياتها فى فصل الشتاء إلاّ إذا أعدت فى فصل الصيف طعامها، والطيور بأنواعها لا تهنأ برؤية صغارها إلاّ إذا أعدت لها عشاً وأحضرت لها طعاماً. والنبات ذاته لا يأتى بثـمر إلاّ إذا مات “فحبة الحنطة لا تأتى بثـمر إن لم تـمت”. وكما هذا هو الحال فى الطبيعيات كذلك فى الإلهيـات. فما غرض السيد الـمسيح إذاً بتصريـحه بهذه الحقيقة وهل كان قد جهلها سامعوه؟
كلا، فإنها أوضح من أن تثبت. إذاً كان القصد من وراء ذلك معان ساميـة تفيد خلاصنـا. لقد علم السيد الـمسيح أن لا سعادة إلاّ بعد مجاهدة فأراد أن يحثـنا على أن نموت كما تموت حبّة الحنطة إذا أردنـا أن نأتى بثـمر وإذا أردنا أن تكون لنا حياة سعيدة فى هذه الدنيا وفى الآخـرة. ومن منـا لا يريد أن يكون سعيداً ؟، ومن منا يفضل الهوان على الـمجد؟
فإذا أردنا أن ننال الإكليل فعلينا أن نجاهد شرعيـاً لهذا قال الرسول:”إن كان أحد لا يُجاهد فلا ينال الإكليل ما لـم يجاهد جهاداً شرعيـاً”(2تيموثاوس5:2).
“إن لـم تـمُت فإنهـا تبقى وحدهـا” وهكذا فإن لـم نمت فإنا نبقى وحدنا ولا نأتى بثـمر وان الله تعالى لا يكون معنا، فإن لم تمت حبة الحنطة تأتى الطيور وتخطفها كذلك نحن يأتى الشيطان ويخطفنا ويجعلنا فى حوزتـه.
فما هو ذلك الـموت الـمثـمر الحياة؟
ليس هو الموت الطبيعي الناتج من انفصال النفس عن الجسد لأن ذلك ليس فى يدنا، وليس يقصد أن نقدم رأسنا للسيف كالقديس بولس ولا أيدينا للصلب كالقديس بطرس ولا جسمنا للحيوانات المفترسة وأعناقنا للسلاسل،فكل ذلك ليس فى متناول الجميع ولم يعط للكل أن يموتوا شهداء. فما هو إذن ذلك الـموت المتوجب علينا حتى تأتى شجرة حياتنا بالثـمار الـمرضيـة؟
يقول القديس بولس:”لأنكم إن عشتم بحسب الجسد تموتون وأمـّا إن أمـتم بالروح أعمال الجسد فتحيـون”(رومية14:8)،وأعمال الجسد كما ذُكرت هـى:”أعمال الجسد واضحة وهى الزنـى والنجاسة والعهر وعبادة الأوثان والسِحر والعداوات والخِصام والغيـرة والـمغاضبات والـمنازعات والـمشاقّات والبِدع والـمحاسدات والقتل والسُكر والقصوف وما يشبه ذلك”(غلاطية19:5-21).
فمن يحيا للجسد ومُشبعاً رغائبـه وأمياله الـمنحرفة فإن ذلك هو الـميت،”لـه إسم انـه حي ولكنـه ميت”(رؤيا1:3)، واما من يميت أهوائه الفاسدة ويتسلط على رغائب الجسد ويدبرها بعقله ويقطع الأشواك التى تعطل نمو الفضائل فى أرض نفسه فإن ذلك هو الإنسان الحي. فشمشون عندما استسلم لشهوة جسده فارقته قوتـه ومات. العين ترغب المناظر الجميلة، قبيحة كانت أو مستهجنة،فإذا جاريناها ولم نديرها عن الأشياء التى لا يليق النظر اليها أسقطتنا فى وهدة الموت كما صار بداود الملك عندما لم يبعد نظره وسقط مع امرأة أوريا الحثـي وجرّ على نفسه وأسرته الهلاك. والفم يحب ما يلذ له من الـمأكولات حتى الشراهة والسُكر وفيهما من النتائج السيئة على الجسم والروح ولذا يقول لنا الكتاب المقدس:”إذا جلست على مائدة فاخرة فلا تفتح لها حنجرتك”(سيراخ12:31) و”السُكر يهيّج غضب الجاهل لـمصرعه ويقلل القوة ويُكثر الجراح”(سيراخ40:31).
والقديس بولس يقول لنا بوجيز العبارة “اسلكوا بحسب الروح ولا تقضوا شهوة الجسد”(غلاطية16:5)، ونحن فينـا ميول ورغائب غير مرتبـة ينبغى قمعها. النفس تحب الفخر والكبرياء وتحب التظاهر والشهرة فيجب أن نميت هذا الـميل الغير مرتب بالتواضع لأن الـمتكبر يرذلـه اللـه وفى هذا يكون الإنسان ميت “فإن الله يقاوم الـمتكبّرين ويؤتـى الـمتواضعين نِعمة”(1بطرس5:5). والإنسان الغضوب يجب أن يُمت غضبـه بالحُلم والوداعـة، والإنسان الحسود يجب أن يـمت هذا الـميل بالحب،فإن لم يُمت هؤلاء هذه الأهواء الفاسدة أو على الأقل يقاومهـا فإنـه لا يأتـى بثـمر “إن لـم تـمت”.
لقد عرف ذلك السيد الـمسيح تماماً فعلّـمه لنـا بـمثاله فانـه كما يقول لنـا القديس بولس:”فإن الـمسيح لـم يُرضِ نفسه”(رومية3:15) فإنـه قد أمات ذاتـه روحاً وجسداً فكان مثالاً للإتضاع وولد وعاش ومات فقيراً،وأمضى حياتـه كلها فى العمل والتعب وأخيراً مات معلقاً على خشبة العار فى الذل والهوان. مات الـمسيح ودُفن فى القبر وقام من بين الأموات وهو الآن حيّ، ولكن قبل قيامته قد سبق ومات لأنـه “كان ينبغي أن يتألـم هذه الآلام ثم يدخل إلـى مجده”(لوقا26:24)، فإذا كنـا نريد أن نحيا معه فلنتألـم معـه فنحن “وارثون مع الـمسيح إن كنّا نتألـم معـه لكي نتمجد معـه”(رومية17:8)، “فلنسابق إذاً بالصبر فى الجهاد الذى أمامنـا. ولنجعل نظرنـا إلـى مُبدئ الإيـمان ومُتممـه الذى بدَل السرور الـموضوع أمامـه تحّمل الصليب مُستخفاً بالخزي وجلس عن يمين عرش الله”(عبرانيين1:12-2)، “فالذيـن للـمسيح صلبوا أجسادهم مع الآلام والشهوات”(غلاطية24:5).
القديس بولس كان مشبعاً من هذه الحقيقة ولذا كان يقول:”أنـيّ أقمع جسدي وأستعبده حِذار أن أكون نفسي مرذولاً بعدمـا وعظتُ غيـري”
(1كورنثوس27:9)، فلقد تعب وجاهد القديس بولس من أجل الـمسيح فيقول:”جلدني اليهود خمس مرات أربعين جلدة إلاّ واحدة.وضربت بالعصي ثلاث مرات. ورُجمتُ مرة. وانكسرت بي السفينة ثلاث مرات. وقضيت ليلاً ونهاراً فى عمق البحر. وكنتُ فى الأسفار مرّات كثيرة. وفى أخطار السيول وفى أخطار اللصوص وفى أخطار أمتـّي وأخطار من الأمم وأخطار فى المدينة وأخطار فى البرّيـة وأخطار فى البحر وأخطار بين الإخوة الكذبـة. وفى التعب والكد و الأسهار الكثيرة والجوع والعطش والأصوام الكثيرة والبرد والعُري”(2كورنثوس24:11-27)، فحق لـه أن يقول:”إقتدوا بـي كما أقتدي بالـمسيح”(1كورنثوس1:11).
كما ان حبّة الحِنطة تدفن وتموت وبذلك تأتـى بثـمر كذلك أيضاً العذراء مريم دفنت ذاتها فى تواضعها العميق ودفنت جسدها وقيدتـه بقيد الطهارة الـمنيع ورفضت عنه كل لذة كيلا تذوق إلاّ لذة الله وافراحه الدائمة.
فأين نحن من عيشة هؤلاء القديسين؟ وأين نحن من هذه الحيـاة؟
اننـا نرغب جميعاً ولا شك أن نحيا مع الـمسيح وأن تكون شجرتنـا مثـمرة فهل غرسناها مع الـمسيح، أم غرسناها فى أرض الشيطان؟
لقد طعـمنا جميعاً فى شجرة الـمسيح بالمعموديـة فهل ما نزال متصليـن بهـا أم إنفصلنـا عنهـا؟. هـل نسقيهـا بـماء الخلاص ونغذيهـا من الماء الفائض من جنب الـمسيح،أم غزّينها بـماء لا يروي؟، بماء الشهوات الفاسدة التى تميت النفس وتصلبها فى الشر. ان ماء النِعمة الإلهيـة الجاري من الينابيع الـمقدسة، ينابيع الأسرار فإنهـا تحـيي وتغذي وتنمي النفوس الـمغروسة فى أرض الكنيسة فتكبـر وتترعرع فى الفضائل وتأتـى بالثـمار وبذلك تتحقق فينـا كلـمة السيد الـمسيح “إنّ حبـّة الحنطـة التى تقع فى الأرض إن لـم تـمت فإنهـا تبقـى وحدهـا وإن ماتت أتت بـثـمر كثيـر”(يوحنا24:12-25).
كلـمة الله – حيـاة أبديــة
“يارب إلى من نذهب وكلام الحياة الآبديـة هو عندك”(يوحنا32:6)
ان كلـمة اللـه تعطـى الإنسان مـا يلـي:
1. تـنقيـة
“أنتم الآن أنقيـاء من أجل الكلام الذى كلـمتكم بـه”(يوحنا2:15).
2. ولادة جديـدة
“إذ قد وُلدتم ثانية لا من زرع فاسد بل من غير فاسد بكلمة الله الحي الباقي. فإن كل بشر كالعشب وكل مجده كزهر العشب. العشب قد يبس وزهره قد سقط وأما كلمة الرب فتبقى إلى الأبد وهذه هى الكلمة التى بُشرّتم بها”
(1بطرس23:1-25).
3. عــزاء
“لا تحزنـوا كالباقيـن الذيـن لا رجاء لهم”(1تسالونيكى12:4)،”فليعزّ بعضكم بعضاً بهذا الكلام”(1تسالونيكى17:4). وكما يقول الرب على لسان اشعيا النبي:”كمن تُعزّيـه أمـه كذلك أعزّيكم أنـا وفى أورشليم تُعزّون”(اشعيا13:66).
4. تعطيـه الحق فى نيل كل ما يطلب
“إن ثبـتم فـيّ وثبت كلامي فيكم تطلبون ما تريدون فيكون لكم”
(يوحنا7:5).
5. هـى الإيـمان بالخلاص
“لأنك إن اعترفت بفـمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله قد أقامـه من بين الأموات فإنك تخلُص”(رومية9:10).
إقـامـة لعــازر(يوحنا 11)
الإصحاح الحادى عشر هو لؤلؤة دريـة فى عقد بشارة القديس يوحنا،فيه إمتزج الجلال بالبساطة وإقترن الحنان بالـمهابـة، وتجلّى ناسوت الـمسيح جنباً الى جنب مع لاهـوته، وفيـه نرى دموع الـمسيح الإنسان وقدرة الـمسيح الإلـه. فـى هذه الـمعجزة تجتمع عناصر ثلاثـة: الـمحبة،النور،والحيـاة.
وعندما ننظر الى هذا الإصحاح نراه مصطبغـاً كله بصبغـة واحدة هى صبغة الـمحبـة ذات السبعة ألوان: 1. إنتظارات الـمحبـة،2. تأجيلات الـمحبة،3. إطمئنان الـمحبة،4. تعب الـمحبة،5. عواطف المحبة،
6. إنتصارات الـمحبـة،7. ضحيـة الـمحبـة.
وهذا الإصحاح ينقسم الى خمسة أقسام رئيسية هى:
1. ديـباجة الـمعجزة،2. الـمشهد فى بيت عنيـا،3. قلب الـمعجزة 4.الأثر الذى تركته المعجزة،5.خاتمة تاريخية
ديـباجـة الـمعجزة:
فيهـا نرى وصفاً للإنسان الذى أجريت فيـه الـمعجزة والصلة التى كانت تربطه بالمسيح. إنسان مريض،اسمه لعازر(ومعناه الهي يسند ويعضد)،بلدته هى بيت عنيا من قرية مريم ومرتا(بيت عنيا معناها بيت البؤس وهى تبعد ميلين عن اورشليم وتدعى الآن العازريـة).
وفى هذه الديـباجـة نرى أيضاً وصفاً لشخصية مريم ومرتـا فمريم أقوى شخصية ومرتا أكثر نشاطاً. أرسلت الأختان رسالة الى السيد الـمسيح:”يارب هوذا الذى تحبـه مريض”، وكان فى هذه الرسالة الـمثل الأعلى للصلاة الحقيقية فهى تنـم عن: رجاء وطيد،إحترام شديد،خبر خطير،إطمئنان أكيد وحجـة بليغـة.
– رجاء وطيـد: “هوذا الذى تحبـه مريض”.
– إحترام شديد:”يـارب”، مع انه كان معروفا بالـمعلّم ولكن هو القدير صانع الـمعجزات.
– خبـر خطيـر:هوذا الذى تحبه مريض، مجرد التبليغ عن مرض أخيهـما.
– إطمئنان أكيـد: وهذا ظاهر من صمتهما فلم تزيدا على خبر مرض أخيهما كلمة بل تركتا الأمر للـمسيح،وهكذا فلتكن الصلاة مصحوبـة بتسليم كامـل.
– حجـة بليغـة:”هوذا الذى تحبـه، وهذه أبلغ حجـة يتقدم بها الـمصلّي، وجميل انهما لم تتوسلا الى الـمسيح بمحبة أخيهما له بل بمحبتـه هو لأخيهمـا.
جواب الـمسيح على الرسالـة: كان فيه إعلان جليل، جانب سلبي وجانب إيجابـي. الجانب السلبي فى قولـه “هذا الـمرض ليس للـموت” أي ان النصرة النهائية فى هذا الـمرض ليست للـموت بل للحياة. أما الجانب الإيجابي ففى قوله:”بل لأجل مجد الله لكي يمجّد ابن الله فيـه”، وهذا الـمجد يظهر فى إنتصار الحياة على الـموت بقدرتـه الفائقـة.
الـمسيح يجيب على الرسالـة فى وقتـه الخاص: وكان فى هذه الإجابـة سهام عديدة:
السهم الأول:عزيمة الـمسيح-عندما جاءت الساعة “قال لتلاميذه لنذهب الى اليهودية ايضاً”، وهنا يظهر خوف التلاميذ من هذا الـمكان”يا معلّم الآن كان اليهود يطلبون رجمك وأنت تمضى ايضاً الى هناك”، ولكن المحبة الحقيقية تطرح الخوف الى خارج.
السهم الثانى: إحتجاج التلاميذ على عزيمة الـمسيح- “الآن كان اليهود يطلبون رجمك” وعادة يكون الجهل هو الذى يقيم العقبات فى سبيل المحبة.
السهم الثالث:ولاء المحبـة- “أجاب يسوع أليس النهار اثنتي عشرة ساعة فإن مشى أحد فى النهار لم يعثر لأنه يُبصر نور هذا العالم”، فلا نحاول الفرار من الواجب خوفـاً من الـمخاطـر.
السهم الرابع:إقدام الـمحبة-“لعازر حبينـا قد نام”، من يموت فى الإيمان يستريح من أتعاب الحياة وأعماله تتبعـه، فالـمؤمنون لا يموتون بل ينقلون الى عالم الأحياء وهنا ظهر إقدام الـمحبة “ولكني أنطلق لأوقظـه” وفيها نرى المحبة الـمقتدرة على الـموت والتى تطرح الخوف الى خارج.
السهم الخامس: عجز التلاميـذ- انـه عجز عن البلوغ الى عمق كلمات الـمسيح أو أعماق الـمحبة”ياسيد إن كان قد نام فإنه يقوم”. لم يفهم التلاميذ هذا النوم الجديد، والـمؤمن يجد نفسه كل يوم أمام إكتشافات جديدة.
السهم السادس: الـمسيح يصارح التلاميذ بموت لعازر أو يقظة الـمحبة.
أ‌. علانيـة:”قال لهم لعازر مات”.
ب‌. الـمسيح يفرح بموت لعازر:”وأنا أفرح لأجلكم انـي لم أكن هناك لتؤمنوا”، فلو كان هناك لشفى مريضاً ولكنه بغيابـه أقام ميتـاً.
ت‌. فرح بالخيـر الروحـى للتلاميذ “لتؤمنـوا”.
ث‌. نيـة الـمسيح تجاه الحادث:”ولكن لنذهب إليـه”، انـه سهم النور الذى صوبّه الـمسيح الى قلوب تلاميذه فطرد منه ظلمة الخوف.
السهـم السابع: الـمحبة الساذجـة-التى أظهرها تومـا أو الـمحبة فى الظلام، قال توما”لنذهب نحن أيضاً لنموت معه”،وهذا برهان على أن توما كان يحب شخص الـمسيح لكنه لم يكن قد أخذ من روحـه بعد، ولكن نحمد اللـه لأن النصرة فى النهايـة للـمحبة والإيمان فقال “ربـي وإلهـي”(يوحنا28:20).
فـى بيت عنيـا
مـرتـا:
– مقابلة يسوع – مرتـا أسرعت لإستقبالـه بينما كانت مريم “قاعدة فى البيت”. إنهماك الإنسان بهموم الحياة وعدم لقاءه باللـه.
– عتاب مرتـا- “يارب لو كنت ههنا لم يـمُت أخي”. على الرغم من الألـم والحزن فإنـه رجاء وطيد فى الـمسيح وقدرتـه الإلهيـة.
– إيـمان مرتـا- “ولكنني الآن أيضاً أعلم أنك مهما تسأل الله فالله يعطيك”.
– رجاء القيامـة – “أنا أعلم أنـه سيقوم فى القيامة فى اليوم الأخيـر”.
– إعلان الـمسيح- “أنـا القيامـة والحيـاة”.
– شهادة وإعلان- “نعم يارب أنا مؤمنـة أنك أنت الـمسيح ابن الله الآتي الى العالـم” و”مضت ودعت مريم أختهـا سراً قائلة الـمعلّم حاضـر يدعوكِ”. انهـا بشارة بالـمسيح ودعوة الآخريـن للإلتقاء بـه.
مـريـم:
– إنتظـار “وكانت مريم قاعدة فى البيت”.
– إستجابـة للدعـوة “فلما سمعت نهضت مسرعـة وجاءت إليـه”.
– إيـمان ثابت “خرّت على قدميـه”.
– رجـاء وطيـد “يارب لو كنت ههنا لـم يمت أخي”.
– بكاء وحنـان “فلـما رآها يسوع تبكي” ،”وقال أين وضعتموه”.
أهـل القريـة:
– جاءوا يعزّون”إفرحوا مع الفرحين وابكوا مع الباكين”(رومية15:12)
– بكاء وحزن:رأى يسوع اليهود الذين جاءوا مع مريم “يـبكون”.
– شهادة بمحبـة يسوع:عندما رأوا دموع يسوع قال اليهود “انظروا كيف كان يحبـه”.
– معايرة “أما كان يقدر هذا الذى فتح عيني الأعمى أن يجعل هذا أيضاً لا يموت”، انـها نفس الكلمات التى قالوها عند الصليب”قد خلّص آخرين فليخلّص نفسه إن كان هو مسيح الله الـمختار”
(لوقا35:23).
– إيـمان يعقب الـمعجزة-“فآمن بـه كثير من اليهود الذين جاءوا إلـى مريم ورأوا ما صنع”،وهذا ما كان دائمـا ما يطلبونـه لكي يؤمنوا بـه “أيّة آيـة تصنع لنراها ونؤمن بك”(يوحنا30:6) ولطالـمـا حاول يسوع أن يصنع الـمعجزة على الإيـمان عندما كما سأل مريض بركـة حسدا “أتحب أن تبرأ”(يوحنا6:5).
قلب الـمعجـزة:
“صرخ بصوت عظيم يا لعازر هلّم خارجـاً. فخرج الـميت ويداه ورجلاه مربوطات بلفائف ووجهه ملفوف بـمنديل. فقال لهم يسوع حلّوه ودعوه يذهب”.
الأثـر الذى تركتـه الـمعجزة:
– آمن بـه كثيـر من اليهود
– غيـرة وحسد الفريسين ورؤساء الكهنة.
– مؤامـرة قتـل “ومنذ ذلك اليوم ائتمروا أن يقتلوه”.
– عدم ظهور يسوع علانيـة
خاتـمة تاريخـيـة:
أن يسوع الـمسيح هو رب القيامـة والحيـاة.
“فمن آمـن بـي وإن مات فسيحيـا وكل من كان حيّاً وآمن بـي لن يموت إلـى الأبـد”(يوحنا25:11-26).
_________________
سر الألـم
فى القديم قال ارميا النبي:”من لرأسي بـمياه ولعيني بينبوع دموع فأبكي نهاراً وليلاً على قتلى بنت شعبي”(ارميا1:9)، وها أنـا أقول اليوم مـن يعطـى لعيـونـنـا يـنابـيع دمـوع ومـجـارى عـَبـَرات لنبكى نهارا وليلاً على شقاء حالنا وتعب حياتنا.فإننا نرى أنفسنا تئن على الدوام تحت أحـمال هذه الدنيا الفانيـة ونتآوه متضجرين من متاعبهـا وأحزانها الـمتواصلة.فلا نفلت من مصيبة حتى نقع فـى الأخرى .ولا نداوى جرحاً حتى يسيل جرحُُ آخـر.هذه هى حالنا،فـما حيلتنا وكيف نصنع؟!.
يظهر لنا أحيانا إن اللـه كأنه يناصبنا العداء ويثير علينا حرباً شديدة إذ تتوالـى علينا الـمصائب،ضربات نادرأً قلّ من يفهـمها.
لقد كانت غاية العذاب وفاءً للعدل الإلهى وإختباراً للحب فأصبحت الآن وسـما للنفس يسـم هذه النفس بطابع الكـمال.أصبحت ختـما لها يختمها بصورة الحبيب الـمسيح،فهذا عذاب صادر من اللـه رأساً وأصولـه ثابتة فـى قداسته تعالـى، تلك القداسة غيـر الـمحدودة،وأسبابه الأولـى ما هـى إلاّ مواهب الروح القدس،تلك الـمواهب الخـفيّة الـمخيفة حينما يريد أن يبشر النفس ويشركها بالبـر الأبدي السامي.فهو يستولـى عليها ويجردها من سعادة الـمخلوقات ويحطمها ويهملها لعذابها ثم يستردها ويسحقها ثم يطرحها فـى بحر مـن الـمرارة ويـملأها جراحاً لكى يحولها تحويلاً كاملاً إلـى درّة غالية سماوية،ذلك فعل اللـه وحده يبلغ به أقاصى الروح الخفيـّة.
إن كلـمة اللـه حيّة عاملة أمضى من سيف ذى حدين نافذة حتى مفرق النفس والروح والأوصال والـمخاخ ومـميزة لأفكار القلب ونيّاتـه.
إن الروح القدس يبعث فى النفس نوراً خفيـّا باهـراً يكشف لها شقاءها من جانب وعظـمة اللـه من جانب آخـر،ويلقى على كل شيئ سواهـما ظلامـا حالكا ويهدم من حولها كل سند طبيعى ويتركها فـى وحدة خانقـة أمام العلـيّ القدوس،ويغمرها بظلمات روحية هائلة تصحبها غالبا مخاوف لا تطاق،وإرادة اللـه فـى كل ذلك إنـما هـى أن يطّهـر كل شيئ فيها.
إن إلهنا نار آكلـة،فـما العـمل حينئذ؟!..
ينبغى الإستسلام إلـى اللـه بدون مقاومـة لأن الـمقاومـة قد تكون مضّرة وكثيرا ما تكون غير ممكنة .والعامل هو الروح القدس نفسه فـمن أقام فـى هذا العذاب الـمُطّهـر إستقام فـى اللـه والإتحاد حينئذ بالـمسيح يسوع وبآلامـه هـو أنفع ما يكون،وشدة النفس مهما بلغت من الهـول فلن تبلغ ما بلغت إليه نفس الـمسيح القدوسة من الإنقطاع حين كان يقول:”نفسي حزينة حتى الـموت”،”إلهى،إلهـى لـماذا تركتنى”،ولا حين أطلق اللـه الأب لأجلنا كل قوات الجحيم على هذا الإبن الحبيب وكأنه قد سدد دونه كل منافذ العون السماوي فتم فيه قول النبي “إن حطمه عظيم كالبحر فمن ذا يشفيه”،غير انه لا بد من التصريح بأن الإتحاد بيسوع على ما فيه من العذوبـة والعذاب يتحول حينئذ جليداً أصم مؤلـما لا يشعر به القلب بل يبقى كامنا فـى الإيمان حينئذ ينبغى للنفس أن تقيم متمسكة باللـه فالإيمان هو الـملجأ الوحيد،وهو الـملكوت الذى لا يتزعزع،وبه نبقـى دائـما غيـر متزعزعين.
فعلى النفس الـمقطوعة آنذاك أن تكون أكثـر إيـمـانـا منها فى أي وقت آخـر لكثرة محبة اللـه التى غـمرنا بها وتصطبـر فـى الإيمان غير متزعزعة كـما إصطبر موسى كأنها تعاين الذى لا يرى وعليها أن تؤمن أن اللـه ما أحبها قط كـما يحبها فـى تلك الأوقات حين يبدو لها كأنه يطردها ولا يريد أن يراها.
لقد قال الرب لإحدى القديسات “متى شعرتِ إنكِ مهجورة فأنتِ حينئذ محبوبة وموصولة ثم إعلـمى إنك تكونين فى هذه الحال أقرب إلـى اللـه منكِ فـى أيـّة حال أخرى”،ولنكرركلمة القديس يوحنا “أما نحن فقد آمنا بالمحبة التى عند اللـه لنا”.
فـى ساعات الحزن الباطن،بل فـى ساعات التطهيـر الروحـى تحدث أمور عظيـمة فإن الحب يكمل إتحاد النفس باللـه حسب وعده فـى هوشع النبـى “أتزوجكِ بالإيمان إلـى الأبـد”(هوشع19:2).
ومتى تم التطهيـر تظهر العروس فـى ثوب قشيب من النقاوة والفرح والقوة.
“من هذه الطالعة من القفر الـمتهللـه بالنعـمة الـمستندة إلـى حبيبهـا”
إذن ليت للنفس متى كانت فـى الـمحنة إلا أن تتعلق بالـمسيح يسوع وتدخل من جراح ناسوته إلـى خباء لاهـوتـه.
__________________
سر الصـلاة
“لو دعوتُ فأجابنى لـمـا آمنت إنــه أصغـى إلــي”(ايوب16:9)
لــو دعـوتـهُ فأجابـنى،لـمـا آمنت إنــه أصغـى إلــي صـوتـي. أدعـوه،وأدعـوه مـراراً،وأكرر الدعـوة.
أصرخ،وأصرخ بحرقـة القلب، ويـندفع قلبى منى نحوه ناطقاً بـما فيه من إيـمان حي،وأبرز هـذا الإيـمان علـناً.
وقلت أصرخ من عمق قـلبى،وأقول إنـى سلّمت أمرى إليك،إنـنى بـين يديك، فإستجب وإسمع ندائى وأصغ إلـى صوتـى،وأنام مطمئنا بأنه لا بد من الإستجابـة. لأنـى دعوت وأعرف من الذى دعوت. لأننى أثق فيه وفـى قلبه أستودع قلبى.وأعرف تعاليمه،لا بل أباهـى نفسى وأتباهـى مع غيـرى معلـنا ثقافتى ومبـرزاً علومى.
وأقول لقد عرفـته وأعرفـه وأعرّفه لغيـرى،لذلك إذ أدعوه فلا بد أن يستجيب.لابـد..لابـد..لا بـد وكأنـى أتحكم فيه كما أشاء،وكأنى أصدر له الأوامر،وكأنى أجبـره على ذلك.
والحقيقة ليس كل هذا دعاء،فالدعاء الصادر لتكون له نـتيجة أريدها أنـا
وأؤمل فيها أنــا،وأخطط لها أنـا..ليس دعاء!!
فلو دعوت واستجابنى لـما آمنت إنه أصغى إلـى صوتـى،لا أريد
إستجابـة. إنـما الدعاء الحقيقى:أدعوه هـو،لشخصه هـو،وبـتسليم له هـو، وبإيـمان فيه هـو،وبـرغبة واحدة له هـو،وليس لإستجابة مطلب من الـمطالب.أدعوه لأنـى أؤمن بأنه هـو اللـه الذى يعرف وحده وغيـر محتاج أن أفسر له ما أريده،وغيـر مـحتاج أن أزّين له أو أضع أمامه إغراءاتى حتى يتحرك نحوى.
أدعوه ليس لـي.الدعوة..الدعوة..الدعوة،هـو وليس آخـر،سواء كان شخصاً أو شيئاً أو فكراً.إنــه هــــو.
أدعوه لأنى أحبه.أدعـوه مسلّماً ذاتى دون أن أزّين فـى هذه الذات أو أبرر موقف هذه الذات وأضع إطاراً حولها وأحاول حمايتها بطريقـتى،ببشريـتى، أوبفكرى الضيق. أدعوه..أدعوه..أدعـوه..هــــو.
“لو دعوت فاستجابنى لـما آمنت بأنه أصغى إلـى صوتـى”.
لأنه يعرف ما فـي،وغيـر مـحتاج أن أعترف أنا عمّا فـيّ. يوم أن أعرّفـه أنا عـمّا في أضع نفسى بجواره وكأنى أقول له قد نسيت فأذّكرك. قد أغمضت العين فأريد بـيدى أن أفتحها،إستيقظ وأصغ إلـي. هـذ هـى الصلاة التى تـنـتظر الإستجابـة. لا نريد أن تكون الصلاة فيها إستجابـة. لأنه لو دعوت فأستجابنى لـما آمنت أنه أصغى إلـى صوتـى.
الإيـمان،هـو الإيـمان الطاهـر النقى،الإيـمان الـمجرّد،الإيـمان الـمطلق،الإيـمان الـمسلِّم،والإيـمان الواثـق.
أنه كثيـرا ما تراودنـا أفكار كثيـرة أثناء صلواتنـا وبعد صلواتنا ونقـول نصلى ونصلى كثيرا ونذرف الدموع ونفتح القلوب.
إذا ما أردتــم صلاة حقيقية: قـولــوا يــارب،وكفـى.
يــارب-مع ما فـى هـذه الكلمة من عمل حقيقى.
يــارب فــيّ،يــارب حـولــي،يـــارب أمامـي.
يــارب فـى عيـنـيي،يــارب فـى أذنــي،يـــارب فـى قدمـي.
يــارب فـى يدي،يــارب فـى قلبى وروحـى.
فـلا تستجب أيها الرب إذا كـنتُ أدعوك وأنا أنـتظر الإستجابـة.
ولكننى أدعوك لأننى مؤمن بك،قلبى يتحدث إليك وحدك وأنت تسمع فيه ومنه نبـرات الحب التى تنطلق إليك وحدك.
أصغ إلـى صلاتـى لأنها صلاة الإيـمان، وسأترك لك أنت ولحكمتك أنت إستجابة صلاتـى. آميـن.
المسـيح قـــام …. حــقــا قـــام
أنـه وإن تكاتفت قوى الشر على قتل الخيـر يوم الجمعة العظيمة، ولكن بقيامة الـمسيح إنتصر الخيـر والحق. وبرز التلاميذ الضعاف الخائفون ينادون بـما لا تدركه العقول أن قوى الحق والخيـر قد ظفرت بعد هـزيـمة،ولذلك لنا أن نثق بأن مصيـر العالم ومصير الأفراد لن يكون بيد القوة الغاشمة.وأن الشر، وإن انتصر، فإلـى حين، وأن الله لا يـموت.
فاننا لا نعيش على غير هدى فـى هـذه الحياة لأن لحياتنا مرفأ إليه تنتهـى.
هـذه هـى رسالة القيامة التى تحمل بشارة العزاء والرجاء إلـى القلوب.
إن الرسالة الأولـى للقديس بطرس (1بط 3:1-9) تفتح أمامنا بابا جديدا إنهـا تدعونـا لـتقديم الحمد للـه.
ولكن هل يستطيع الإنسان أن يقّدم الحمد للـه فى الظروف الخانقة التى تضغط عليه، دون صعوبة؟.
ان الله يطلب منا ذلك، ولكنه لا يكرهنا ولا يريد أن يسوقنا إلـى ذلك رغما عنا.
اذن ..يجب أن يكون هو البادئ.يجب ان يأخذ هو زمام المبادرة.يجب ان يخلق فينا حياة جديدة لا نقدر نحن على صنعها “تبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، لأنه شملنا بفائق رحمته، فولدنا بقيامة المسيح من بين الأموات ولادة ثانية لرجاء حي ولميراث لا يفسد ولا يتدنس ولا يضمحل”،فبقيامة الـمسيح يـمنح الله الانسان إمكانية جديدة لكى ينفتح له.واذا ما إنفتح الانسان لله، إستطاع بسهولة أن يحمده ويشكره، وتصبح قدرته على الشكر مقياسا لحريته الصحيحة.
لذلـــــك يجب أن نطبع حياتنا بهذه الدعائم الثلاثة:
1- الرجاء الحـي.2- الفرح عند الشدائد.3- الإيـمان الصامـد
1- الرجاء الحـي : يجب ان يكون لنا هدف نسعى اليه،ومن عاش بغير هدف يكون حائراً كريشة فى مهب الريح،وبغير رجاء قوي الدعائم تخور عزائمنا وتهن قوانا ونموت خوفا أمام شبح الموت الذى سيقف فى ذات يوم أمام كل انسان ليطوى صفحته. الرجاء الحي يتحدى الـموت ويجعل الانسان واقعيا ويترقب خليقة جديدة يبعثها الله .الرجاء الحي يتمسك بمواعيد اللـه بدوام الحياة.
2- الفرح عند الشدائد: والفرح عنصر أساسي لازم لوجودنا. وكل انسان يحتاج اليه. انه يكمٌل الحياة وبدونه تفقد الحياة جمالها وبهجتها ولذتها. بالفرح نستمتع بجمال هذا الوجود ونشترك فى معطياته. فنحن نفرح بأنفسنا وبالناس، ونُسر بالطبيعة والعمل الذى يكّمل حياتنا. ونُسر بالمقابلات واللقاءات التى تكلل بالنجاح. ونبتهج بما نقوم به من زيارات ورحلات للترويح عن أنفسنا وتزيد معرفتنا وإختبارنـا.إن الفرص التى تجمّل حياتنا كثيـرة،وكذلك الامكانيات التى تتاح لنا. والرسالة تشيد بالفرح فى الألـم وفى الضيق، وحين تعبس لنا الأيام. وبعبارة أخرى الفرح النابع من الألم، لأن هذا الفرح أقوى من الألـم. إن الذين سبقونا إلـى الأمجاد كانوا أقدر منا على تحمل آلام الحياة.
3- الإيـمان الصامد: من مـَلك الإيـمان صمد فى وجه الألآم والشدائد واستطاع، كما يقول الانجيل، أن ينقل الجبال. كل انسان يؤمن بشئ،ولكن أكثر الناس يؤمنون بالسخافات والأوهام وسرعان ما يؤدى بهم إيمانهم هذا الى الإخفاق والفشل. ان الآلام تنقي الإيمان وتهذبه وتمده بالقوة،وقد تؤدى الآلام اذا أشتدت واحتدت الى عكس ذلك. ولكن الإيمان الحي بالمسيح الحي يجنب صاحبه هذه العكسية ويعطيه جوابا عن الأسئلة الأخيرة التى تتعلق بمصير الانسان، من أين والى أين؟. أي من أين جئنا والى أين نذهب؟
الإيـمان بالـمسيح الـمقام يدك حصن الموت كما دكته قيامة الـمُقام.
الإيـمان بالـمُقام له قوة جبارة،فإنه ينسف حصن الـموت الرهيب.
فلنستأنف مسيرتنا فى هذه الحياة بالرجاء الحي،والفرح على الرغم من الآلام والحزن، والإيمان الثابت الصامد،حاملين رجاء القيامة وفرح القيامة وإيـمان القيامة الى القلوب الكسيرة والنفوس الـمـعذبة والضمائر الـمتعبة والعقول الحائرة، بقوة الذى إنتصر على الـموت بـموته ووهبنا الحيـاة.
__________________
سر الرجــــاء
ان الزئبق يتحد مع الذهب ملتقطاً إيـاه أينما كان،ولكن متى دخل الذهب النار تحّول الزئبق وفـّر هاربـاً.
كـثيـرون يظهرون لك الإخلاص والـمودة،ومتى وقعت فـى التجربة إنقلبوا عليك، أو تركوك وحدك فى شدائدك،فلا تـغـتـر بـمثل هؤلاء.
إن الإنسان الأمين هـو الذى يهتم بخيـرك الروحـى والجسدى وخلاص نفسك، وليس هـو الذى يداهنك ويتملقّك ثم يروغ منك. هـو الذى يـغار عليك،ويحزن لـمصائبك، ويتألـم لآلامك،ويشاركك فـى سائر أمورك، ويتوسل إلـى اللـه لأجلك وينصحك دائما بالـمحبـة.
لا توجد مـحبة صادقـة إلا فـى اللـه،وباللـه.
إن شئت شخصاً أميناً،مـحباً،كريـمـاً تُسلّم لـه قلبك وأفكارك،فلن تجد غيـر اللـه الذى لا يـغفـل عن مـحبـيـّه.إنـه لـم يهمل يوسف فـى سجنه،ولـم يترك داود فـى إضطهاده،ولا سوسّنة فـى محنـتها.
إنــه لا يتخلّى عن أصفيائـه وقت الشدة،ويسيـر معك ويـبلغك إلـى بـر الأمـان والسلام.ويوجد أيضا رفيق آخـر أميـن يـعاشرك ويسيـر معك،فإذا فرحت فرح معـك، وإذا تألـمت تـألـم معك. فـإذا قّدرت هـذا الرفيق سيكون دائما مرافقاً لك فـى كل أطوار أدوار حياتك. هـذا الرفيق هـو ” الكتاب الـمقدس” الذى يـقودنا إلـى سـمائـنا الأبـديـة.
كن فرحـاً بالرب كل حين،ولا تحزن لأن الحزن يـؤذى النفس ويضيق الصدر. وأصرف كل غـم وحزن عن نفسك بـإلقاء هـّمك وإتكالك على اللـه الذى يدبـّر أمورك.
لا تكن كبحر مضطرب لا تـهدأ ثـائـرتـه ولا تسكن أمواجـه،بـل كن كوردة نضرة فـى وسط الشوك.
ليظهر رضاءك بـما سـمح به الرب وقت التجارب وزمن الضيق.
نــقّ نيّتك،وكن خاضعاً لإرادة اللـه فـتكون فـرحـاً على الدوام.
إن القديسين كانوا دائما فرحين حتى فى أوقات دموعهم..
بولس الرسول كان فرحاً وهـو مقيّد بالسلاسل والأغلال،لأن قطرة واحدة يرتشفهـا القلب من سلاسل الرب تـملأ القلب فرحاً وعزاءً.
“جعلت الرب أمامى فـى كل حين فإنه عن يـميني لكى لا أتزعزع”..
“افرحـوا فـى الرب كل حين”.
وأخيراً،ارفع قلبك إلـى اللـه بالصلاة قائلاً:
لقد أحببـتـنى يايسوع إلهـى بهذا الـمقدار حتى أسلمت ذاتك لأيدي
القساة لأجلي ليفعلوا بك كما يريدون،فليس بـعظيم يارب إن سلمتك ذاتى تسليما مطلقاً لأكون بين يديك تصنع بـى مـا تشاء،وتفعل بـي ما تريد.انك لا تريد لـي إلا كل خيـر وسعادة،لتذكرنـى وتهتم بـي وتسيّرني كما تريـد”.
“مُـلقين كل همّكم عليه لأنه هـو يعـتنى بكم”..
اجعل رحمة اللـه نصب عينيك وليتقدمك ملاك الرجاء والإيـمان.
_____________
“أقطع عهداً جديداً”
+ فــى وسط الضيق العظيم،تنـتصب كلـمة الرب قاطعة تحمل الثبات لـمن هم ضائعون والفعـل لـمن جُرّدوا من كل قدرة،والوعـد بالخلاص لـمن هـم مشـتـتون .
إنـها كلمة الرب،لا كلـمة الإنسان.إنــها كلـمة إلــه ابراهيم واسحق ويعقوب وإلـهنا.إنــه معـنا ويـرانــا ويجعلنا قائمين فى فكره وتدبيـره.
” أُنّفذ من أجلكم وعدي” ، أعلم التدبيـر الذى اتخذته من أجلكم”..
نحن فى تصـمـيم الـله . ومــاذا صـمم لنا؟
“تدبيـر سلام لا سوء”،يضمن لنا مستقبلاً ورجاء.
والأمران معـاً، أي الـمستقبل والرجاء هـما فوق قدرة الإنسان.
والسلام للإنسان فى ضـمانهـما.إن الرب ألزمَ نفسه بـنا فـمتى أدركنا ذلك سهلت طريقنا إليه وقربنا منه،لا بـل زالت كل مسافة بيـنه وبيننا.
“أُوجد لديكم فتـدعونني وتسيـرون وتصلّون لـي فأستمع لكم”.
فالله وحده يجمعنا،الرب وحده يخلّص من الخوف والغربـة،وهـما حالنا فى هذه الحياة.
“لا تخف يا عبدي ولا تفزع فإني أخلّـصك من الغُربـة”.
إن الـمؤمن بالرب والراجـي له يعرف إلـى أين يتجه ويتحرر من الغربة فى هذا العالـم،والرب يخلق الجديد فى حياتنا،فهو لا يضع من أجلنا تدبير سلام فقط، أو يجمعنا أو يخلّصنا من الخوف والغربـة،بل انه يجدد الإنسان من العمق-“أقطع عهداً جديداً” .
عهداً قائما على تحول الإنسان الداخلي الى الرب وعلى حّريته فى إحترام عهده معه.
“أجعل شريعتي فى ضمائرهم وأكتبها فى قلوبهم، وأكون لهم إلهاً ويكونون لـي شعباً”(حزقيال19:11).
فالرجـاء الصادق لنا والـمستقبل الثابت لنا على قدر ما تـثبت أفكار الله فى حياتنا.
الـمسيح هـو الرب لا أنت
هـذه هـى الخطوة الحاسـمـة،فإذا أغفلتهـا فلن يستقيم معك أمـر.
والخطوة بسيطة،لأنه لابدّ لكل فرد أن يتجه نحو مذبح القلب ويسجد لشيئ مـا. لشيئ مـا لـه الحق الأول فـى الولاء.
فبعضهـم يسجد لأقوال الناس،أي أنهم قبل الإقدام على أمـر مـا يتلفتون إلـى هنا وهناك. فـى الواقع هـم لا يفعلون بـل يتفاعلون،إن إلهـهـم هـو الرأي العــام. والعبارة التى يتشبثون بهـا هـى أن “الكل يفعل هـذا أو ذاك”.
والبعض الآخـر يعبدون ذواتهـم،الـمصلحة الشخصية هـى فوق كل شيئ. وأول ردّة فعل عندهـم هـى: مـا تأثـير ذلك عليّ؟. أي أن إلههـم الذات،وهناك أمور أخرى كثيرة يمكن أن تصير محور الولاء.
إذاً كل امرئ يعبد شيئا مـا،وإن كان الأمـر كذلك فعليّ أن أختار.
أختـار الـمسيح،لست أنـا اللـه بـل هـو.
انـى أصّرح هـمساً بقبولـى الباطنى،بقبولـى بالتنازل عن عرش حياتـى. لـه الأمـر وعليّ الطاعـة،وإنطلاقـاً من هـذه اللحظة لست لنفسي فيـما بعد.
إذ أنـى أتخلّى عن الشيئ الوحيد لـى-ذاتـى-وعليه فأنـا حـرّ طليق من سيادة الذات، وأختار سيطـرة الـمسيح متخليـاً عن نقطة الإرتكاز البشرية.
توقف عن بذل الـمحاولات،لا تحاول أن تصنع هذا بنفسك،بل دع اللـه يصنعه عنك.
إن رضيت بالتسليم وأقلعت عن الـمحاولات ووثقت ببساطة ستحصل على البـَركـة،لأنك طالـما أنت تحاول وتجتهد فأنت ترتكز على أساس ذاتك،لكنك فـى اللحظـة التى تبدأ تثق فيهـا بـه،يصيـر الـمسيح مرتكزك،أى يصبح هـو نقطة الإرتكاز لا أنت.
إستسلـم للـمسيح،أنت قريب جداً،ومـا عليك إلا أن تقـول “نعـم”.
لقـد سبق للـمسيح أن قال “نعـم” وقد انهارت أمامـه كل العقبات.
ذلك التسليم له شأنه،إذ لا يـمكن أن ينشأ حب بين شخصين مـا لـم يكن هناك تسليم ذاتى متبادل. قـل للرب فـى أعماق قلبك “خذنـى وخذ كل مـا لـي إلـى الأبـد”.
إن تسليم ذاتك يـمنحك الجرأة والثقـة الداخلتين بأن لك الحق لكونك سلّمت نفسك.أن تتخذ ذات الـمسيح لتكون هذه الذات لك.
أنت للـمسيح والـمسيح لـك،والواحد منكمـا ملك للآخـر إلـى
الأبد. هناك طرق مسدودة،وأول طريق مسدود هـو الخوف. ولكن حين يكون الخوف طبيعياً فانه يكون نافعـاً بعض الشيئ ويجعل النفس فى حالة تأهب لئلا تؤذى ذاتها بالإختيار السيئ.
الخوف الـمسّخر لأغراض بنـّاءة يصبح بـنّاءً.
إذاً الخوف صالح إن نحن استخدمناه وأخضعناه،أمـا إن استخدمناه هـو وسيطر علينا فإنه يصبح مؤذياً. فحين يصير الخوف رعبا فعندئذ يتحول الـى سيّد ويدفع بنا نحو طريق غيـر نافذة.
ان التحرر من الخوف ضرورة صحية كـما هـو ضرورة أدبية وروحية،أنه ضرورة حياتيـة.
إن التسليم للـمسيح يجعلك متحداً بـه،وحيث يكون الـمسيح فلا مـجال للخوف.
+ صمّم إذن بناءً على الـمبادئ وليس بالنظر الى النتائج الـمتوقعة،فإنك إن كنت تحاول بإستمرار أن تتكهن بنتائج عملك،تجد نفسك بإستمرار مرتبكاً فـى وهدة الشك.أمـا إن صممّت على أساس الـمبادئ وتركت للخالق أن يقرّر النتائج،فإنك ستكون بإستمرار ثابتا.
+ اعلم ان عدم التصميم هـو حصيلة التطلع الى الذات والتمركز فيها، فانك
تقول لنفسك عند كل تصميم “ما هو أثر هذا عليّ؟”،بينما من الأولـى أن
تقول “سأفعل الصواب مهما كان أثر ذلك عليّ”.
+ احتمال الصواب هـو فـى التصميم السريع بقدر ما هـو فـى التأنى والـمماطلة الطويلة. إن الإرتباك فـى جدل فكرى طويل يحرمك من الرؤية الصافية والوصول إلـى تصميم.
+ عندما تتعود أن تصمم بسرعة تتعود قواك ايضا أن تزيد الأمور بسرعة وتصل الى تصميم. لكن إن كانت قواك تعرف انك لن تصمم فإنها تقعد عن العمل فى أشد الأوضاع تأزمـاً.
+ ضع أمورك فى حضور اللـه وصمّم فى حضرته على ما أنت فاعله بهـا. عندهـا أفكار اللـه تدخل أفكارك ويكون تصميمك بالإشتراك مع اللـه.
+ بعد أن تصمّم فى أي أمـر أبق على تصميمك.قد تضطر فى بعض الأحوال أن ترجع عما صـمّمت عليه، لا بأس ولكن ليكن ذلك ظرفاً خاصاً وليس القاعدة. لا تسترسل فى الأسف لتصميم خاطئ قمت به،فهذا الأسف أشد ضرراً من الخطأ الذى وقعت به ما دمت عملت عن إخلاص. أبذل الجهد لتفعل الصواب ولا تهتم بعد ذلك،يستطيع اللـه بل يهيمن على الوضع فى حالة قيامك بتصميم خاطئ عن حُسن نيّة. انه يحول الخطأ للخيـر مـادام الفاعـل قام بذلك عن إخلاص.
الخطأ نفسه ليس خيراً،لكن اللـه يجعل الأمور تسير فى إتجاه الخيـر.
إذن،صـمّم،ثـم صـمّم أن تظل على تصميـمك.
إذا اتجهت نحو الـمستقبل..تذكّـر أن:
* نـور اللـه يحيط بـك..
* ومـحبة اللـه تطّوقـك..
* وحضـرة اللـه تراقبك..
* وقدرة اللـه تحفظك..
* وحيثـما تكن..يكن اللــــه.
_______________
وليمة المحبة
قدوس..قدوس..قدوس أنت أيها الرب إلهنا يا من جبلنا وخلقنا ووضعنا فى فردوس النعيم.يـا من أعطيـتـنا سر الحياة.
يـا من أعدتـنا إليك.يـا من رحـمـتـنا.يـا من قـبلـتـنا كـأبـناء.
نؤمن بك إنك أنت الذى تجسدت من أمنا العظيمة مريم العذراء.
أخذت جسداً مـثلنا وأشبهتـنا فى كل شئ ما خلا الخطية،ثم لم تدعنا يتامى. إنك صعدت للسماء ولكن لم تـتـركنا على الأرض،فرسـمت لنا سر الحب،وأعطيتنا منه ذاتك إذ أخذت خبزا على يديك الـمباركتين،الـمقدستين،الطاهرتيـن. وشكرت..وباركت..وقدّست..وقسمت..وأعطيت لتلاميذك القديسين ورسلك الأطهار: “خذوا كلوا من هذا كلكم لأن هذا هو جسدى الذى يقسم عنكم وعن كثيرين ويعطى لـمغفرة الخطايــا..هذا عهد عليكم إصنعوا ذلك لذكرى”.
وأخذت يارب كأساً مزجتها بالـماء ورفعت نظرك إلى السماء وشكرت.. وباركـتها… وقدّسـتها .. وأعطيت لتلامـيذك القديسين أن يتناولوا من هذه الكأس وقلت لهم خذوا إشربوا منها كلكم لأن هذا هو دمى،دم العهد الجديد الذى يراق عنكم وعن كثيـريـن ويعطى لـمغفرة الخطايا،هذا عهد عليكم إصنعوه لذكرى.
لأن كل مرة تأكلون من هذا الخبز وتشربون من هذه الكأس تبّشرون بـموتى وتعترفون بقيامتى وتذكرونى إلى أن أجئ.
وفـى يوم العنصرة أرسلت روحك القدوس على تلاميذك القديسين،أرسله الآن ليحل فينا وعلى هذه القرابين الـموضوعة أمامك على مذبحك الـمقدس ليكون هذا الخبز جسدا مقدسا لك وليكون هذا الخمر دمـا مقدسا لك،تقديسا لأنفسنا وأجسادنا وأرواحنا ونياتنا وعائلاتنا وأولادنا والعالم كله لأنك صالح ومـحب البشر.
أذكر يارب نحن الواقفون أمامك نرفع أيدينا إليك واثقين بحبك العظيم أن تـثـبت إيـماننا وتقوى عزيـمـتنا وتجعل إرادتـنا هـى إرادتك لأن إرادتك هـى إرادة الحق،هى إرادة الـمحبة،هـى إرادتك يا اللـه..
يا إلهنا إذ قدمنا لك ذواتنا ورفـعنا قلوبنا إليك لا نـنسى أن نرفع معنا الآن مثل ما تعذبنا فى هذه الحياة ولا يزال ينتظرنا صعاب وأحزان وضيقات وتجارب إجعلنا ياإلهنا نحتملها بصبر ونـمر منها عن طريق مـحبتك..
إرحم يارب،إرحم يارب،إرحم يارب،وكما رحمت نفوسنا الآن،نفوس الـموتى الراقدين إرحمهم،إرحمهم،نيحهم فى ملكوتك السماوى أنت الـمسيح الحي الـمالك إلـى أبد الأبدين.وإذ نذكر يـارب هؤلاء الأموات لا ننسى أيضا تذكار جميع قديسيك الذين أرضوك منذ البدء وكل جنود السماء،وكل ملائكة السماء،وكل شهداء السماء وكل الذين أعطوك ولـم يـبخلوا أن يقدموا دمائهم مثل ما قدمت أنت دمك الكريم على الصليب.
أعطنا يا إلهنا أن نـتمثل بهم ذاكرين إيـاهم مستشفعين بهم،وبالأخص ذات القدرة،ذات الجلالة الأم العظيمة والدة الإله القديسة الطاهرة مريم التى ولدت لنا اللـه الكلمة يسوع الـمسيح.
لك يارب نرفع مع هذه الذبيحة،هذه الـمقدسات التى للقديسين.
هذا الجسد والدم الـمقدسين اللذين لـمسيحك الطاهر الـمحب الحقيقي.
أؤمن..أؤمن..أؤمن وأعترف للنفس الأخيـر إن هذا هو الجسد المحيي الذى بذله إبنك الوحيد ربنا وإلهنا ومـخلصنا يسوع الـمسيح والذى أخذه من سيدتنا كلنا والدة الإله القديسة الطاهرة مريم،أمنا الحنون الذى تبارك معنا هذه الحياة التى نعيشها وهى حياتك أنت يا حبيب نفوسنا.
نؤمن..نؤمن..نؤمن إلـى آخر نسمة من حياتنا..آمين..
____________
مـا هـو الإيـمان؟

“وأمّـا الإيـمان فهـو الثـقة بـما يُرجى والإيقان بأمـور لا ترى”
(عبرانيين1:11)
قـد إستمعنا لسيدنا يسوع الـمسيح القائل لنا:
“أيـن إيـمانكم؟”(لوقا25:8)،وقد إستمعنـا للقديس بولس القائل:
“بدون إيـمان لا يستطيع أحد أن يُرضى اللـه”(عبرانيين6:11).
وقد إستمعنـا لآبـاء الـمجمع الـمسكونى التريدنتيني الـمصرحين بأن الإيـمان هو بدايـة كل تبرير وأصل كل تبرير وأساس كل تبرير، ويعنى ذلك أن الإيـمان هو الخطوة الأولـى فى طريق الخلاص، وهو الـمبدأ الحيوي الأول الذى تصدر منه الحياة الـمسيحية، وهو العِماد القوي الأول الذى تستند إليـه الحياة الـمسيحية الفعّالـة النشيطـة.
والآن نتسآل ما هو الدافع لذلك؟. والجواب سيكون هو “الـمحبـة” –محبة الله ومحبـة القريب. هذه الـمحبة بدايتهـا الإيـمان، وأصلهـا الإيـمان وأساسهـا الإيـمان. صحيح أن الـمحبـة هى أكبـر فضيلة مسيحية، ولكنـه صحيح أيضـاً أن الإيـمان هو ألزم فضيلة مسيحية. فلذلك أقول أن الغفلـة والفتور والخوف والحيرة والأنانيـة، والتى نراهـا فى حياتنا نحن وفى حياة غيرنـا، تنتمـى نهائيـا لا إلـى قلّة الـمحبـة ولا إلـى قلـة الرجـاء، بـل إلـى قلـة الإيـمان.
الإيـمان الذى بدونـه لا وجود للـمحبة والرجـاء.
الإيـمان الذى بدونـه لا وجود للحيـاة الـمسيحية الحقيقية النشيطة الـمثـمرة.
فـإذاً أول ما يجب علينـا هو أن نفهـم فهـماً دقيقـاً الجواب لهذا السؤال الجوهـري: مـا هـو الإيـمان؟.
مـا هـو هـذا الإيـمان الذى تبدأ منـه وتتأصـل فيـه وتتأسس عليـه حيـاتـنـا الـمسيحيـة؟
مـا هـو هذا الإيـمان الذى نحن بحـاجـة مـاسة دائـمة إلـى تقديـره وإحيـائـه وزيـادتـه فى حياتنـا اليوميـة؟
مـا هـو الإيـمان؟
الإيـمان هـو التصـديـق،يعنـى انـه فعـل عقلي بـه يُصدّق الإنسان مـا يقولـه آخـر. فإيـماننا الـمسيحي هو أيضاً التصديق وهذا يعنى انـه فعل عقلي بـه نصدق قول قائـل، ولكن هذا القائل هـو اللـه تعالـى، وقـولـه هو مجموع الحقائق الإلهيـة التى قد أوحـى اللـه بهـا إلينـا والتى يعلّـمنا إيـاهـا بواسطة كنيستـه. ونصدّق قول اللـه لأننـا نعلـم ان اللـه هو الحق الـمطلق الذى لا يغش ولا يُغش. فسبب تصديقنـا والأساس الوحيد لإيـماننا الـمسيحي هو شهادة اللـه لا غيـر. أمَّـا عِلـمُنا بهذه الشهادة وبالحقائق التى يوحـى اللـه إلينـا بهـا، فهو يأتينـا من التعليم الـمسيحي، فى البيت والـمدرسة والكنيسة أو من الدراسة الشخصية.
إذاً إيـماننـا الـمسيحي هو فعل عقلى بـه نصدّق قول اللـه لأنـه قـول اللـه.
ولكن يوجد فرق عظيم بين هذا الفِعل الذى بـه نصدق قول اللـه والفعل الذى بـه نصدّق قول قائل بشرى. صحيح ان كلاً منهـما فعل عقلي، ولكن فعل الإيـمان البشرى هو فعل طبيعى، أمـا فعل الإيـمان الـمسيحي بـمعناه الكامـل فهو فعل فائق الطبيعـة، إذ انـه فعل لـه قيـمة خلاصيـة وقيـمة أبديـة. وهـذه القيـمة ناتجـة لا عن طبيعتنـا وقوانـا البشريـة، بل عن حياتنـا الإلهيـة وعن قوة خاصـة تأتينـا من اللـه تعالـى. وهـذه القوة الخاصـة التى تـمكننا من إحداث فعل الإيـمان الخلاصي هى فضيلـة الإيـمان الـمسيحى، أي فضيلة إلهيـة يفيضهـا اللـه فـى نفوسنـا حين عـمادنـا لتكون لنـا مبدأ إلهيـاً حيويـاً نستعمله فى الأوقات الـمناسبة لإتيان فعل الإيـمان الخلاصي.
إيـماننـا الـمسيحي هو فضيلة وهو فعـل.
هـو فضيلـة، أى قوة تأتينـا من اللـه.
وهـو فعل نفعلـه نحن بعقلنـا وبفضل تلك القوة الإلهيـة الـمُفاضـة فى نفسنـا عند عـِمادنـا.
إنتبهـوا لهذه النقطـة الهـامـة: ان فضيلـة الإيـمان، أى القدرة على إبراز فعل الإيـمان الخلاصـي، لا نستطيع أن نفقدهـا بعد العِـماد إلاّ بخطيئـة مـميتة تخالف الإيـمان رأسـاً – مثلاً إذا أنكرنـا بتعـمد حقيقة من الحقائق الإلهيـة، أو إذا أنكرنـا كوننـا مسيحييـن من الجبن أو الحيـاء البشرى. ومـا عـدا مثل هذه الخطيئة، ليست خطيئة مميتة تطرد من نفسنـا فضيلة الإيـمان. ولكن إن لـم نكن فى حالـة الـنعـمة، فإن إيـماننا هو إيـمان ميت لا يثـمر ثـمار الحياة الأبديـة. وبالعكس مادمنـا فى حالـة النعـمة فإن كل فعل إيـمان نفعلـه ينـمّى النعـمة الإلهيـة الـموجودة فينـا ويشدد إيـماننـا نفسه ويقربنـا من أبينـا السماوي، ويثبّت إتحادنـا بيسوع وبالكنيسة، ويزيد من قيمة الأكاليل الـمحفوظـة لنـا فى السـماء.
هذا هـو جواب مختصر للسؤال “مـا هو الإيمان الـمسيحى؟”، وهو جواب مهم يجب أن نعلـمه ونفهـمه، ولكنـه جواب نظرى إلـى حدّ مـا. والذى يهم كلاًّ منـا الآن هو الجواب العملي لهذا السؤال:مـا هو إيـمانـي الـمسيحي الشخصي؟
فأسألك يا أخـى الـمسيحي:مـا هو إيـمانك الـمسيحي الشخصي؟
لا شك فى أن إيـمانك الشخصي هو فضيلة إلهيـة جاد اللـه بهـا عليك يوم عِـمادك. ولا شك فـى أن هذه الفضيلة هى موجودة فيك الآن، فانى لا أظن أنك قد أنكرت أو تنكر حقيقة من الحقائق الإلهيـة، ولا أنك قد أنكرت أو تنكر كونك مسيحيـاً. فإذن أعتقد أن فضيلة الإيـمان هى موجودة فيك الآن. على أن هذه الفضيلة الـموجودة فيك الآن أهـى إيـمان حي أم إيـمان ميّت؟، أو بعبارة أخرى هـل أنت الآن فى حالـة النِعمة؟. وإن لـم تكن فى حالة النِعـمة، كان إيـمانك إيـمانـاً ميتـاً لا يثـمر ثـمار الحياة الأبديـة.
فـما بالك لا تلتجئ بأسرع ما يـمكن إلـى سر التوبـة لكى يحيـا إيـمانك ولكى تحيـا أنت؟.
ولكن قد تكون فى حالة النِعمة، ومع ذلك قد لا تستفيد كثيـراً من
الإيـمان الـموجود فيك. فإن فضيلة الإيـمان هـى قوة تـمكنك من إيجاد أفعال إيـمان، ولكن لن تستفيد من هذه القوة إن لـم تستعـملهـا.
فـهـل تستعـمل هذه القـوة الـموجودة فيـك؟
هـل تفعـل أفعـال إيـمان فـى كل يوم؟. وبهذا لا أعنـى هل تتلفظ بكلمات فعل الإيـمان تلفظاً ميكانيكياً لا يشترك فيـه عقلك وقلبك، بل أعنى هـل إيـمانك نشيط حيوي يؤثـر تأثيـراً دائـماً فى حياتك اليوميـة وظروفك الواقعيـة؟. هـل تؤمـن بالحقائق الإلهيـة، لا من حيث هى حقائق فقط، بل من حيث هى حقائق قد أوحـى اللـه إليك بهـا لكى تعيش وتعـمل بهـا؟.
هـل تجـد فـى إيـمانك الـمقياس الصحيح الوحيد الذى بـه تقيس الـمبادئ والحوادث والناس وجميع أمـور دنيـاك وآخـرتـك؟
ان إيـماننـا الـمسيحي هـو:
· ملجـأ لنـا فـى الـمخاطـر والتجارب
· قـوة لنـا فـى الأتعاب والـمساعـى
· سلوى لنـا فـى الهـموم والغـموم
· نـور لنـا فـى الشبهات والظلـمات
وبعبـارة أخـرى: إيـماننـا الـمسيحي ليس فضيلة فقط، وليس فعلاً فقط، بـل هـو روح يجب أن يسري فى كل جزء من حياتنـا اليوميـة كـما يسري دمـنـا فى كل عضو من أعضاء جسدنـا.
هـذا هـو الإيـمان الذى يجب أن نتعـمق فـى فهـمه ونثـبت على تقديـره ونتقوى ونتشدد فـى مـمارستـه.
فليكن هـذا إيـمانك يـا أخـي حتى يقال عنك “ان هذا الـمسيحي بإيـمانـه يحيـا”. ومـن يحيـا هنـا بالإيـمان فسوف يحيـا هناك فـى السـماء بالـمشاهـدة، مشاهدة اللـه وجهـاً بإزاء وجـه.
_____________________
بـمن نـؤمـن؟
1. نـؤمن بإلـه واحـد آب ضابط الكل
لقد رأينـا ان إيـماننا الـمسيحي هو فضيلة، وهو فعل وروح.
هـو فضيلـة إلهيـة، أي قوة إلهيـة تأتينـا من اللـه وتـمكننا من إيجاد أفعال إيـمان لهـا قيمة خلاصية أبديـة.
وهـو فعل، فعل عقلي بـه نصدّق الحقائق الإلهـية التى قد أوحى اللـه إلينـا بهـا والتى يعلـمنا إياهـا بواسطة أمنـا الكنيسة الـمقدسة.
وهـو روح، بـمعنى أن الإيـمان النشيط الواقعي يؤثـر تأثيـراً حيويـاً فى كل ناحيـة من نواحـى حياتنـا الـمسيحية اليوميـة.
وهنـاك معنى آخـر للإيـمان، وهو الـمعنى الذى نقصده عندما نقول مثلاً: “الإيـمان الـمسيحي يعلـمنا كذا وكذا…”، أو “الكنيسة هى مستودع الإيـمان”. والإيـمان بهذا الـمعنى هو جملة الحقائق التى قد أوحـى اللـه إلينـا بهـا، والتى يجب علينـا أن نؤمن بهـا إيـماناً ثابتـاً.
وفـى الحقيقة لا فائدة لنـا من فضيلة الإيـمان، ولا من معنى لفعل الإيـمان، ولا وجود لروح الإيـمان، إن لـم تكن هناك حقائق إلهيـة نستطيع أن نؤمن بهـا، ومن جهـة أخـرى تكون هذه الحقائق الإلهيـة هـى مقياس يُقاس بـه إيـماننـا الشخصي. فإن فضيلة إيـماننا وأفعال إيـماننا تعتمد، فيـما يخص قيمتهـا وحيويتهـا وتأثيـرهـا فى حياتنا اليومية،على علـمنا بالحقائق الإلهيـة وفهـمنا وتقديرنـا لهـا وتعلقنـا بهـا.
وبيـن هذه الحقائق الإلهـية توجد حقيقـة أساسيـة، حقيقة تستند إليهـا جميع الحقائق الإلهيـة الأخرى، حقيقة تستطيع وحدهـا أن تحي وتشغل إيـمان ألف عالـم، حقيقة نعبـّر عن إيـماننا بهـا كلّـما رسـمنا إشارة الصليب وكلّـما صلّينـا هاتفيـن “الـمجد للآب” وكلّـما قلنـا فى القداس وخارج القداس “نؤمن بإلـه واحـد”.
لا شك أن الحقيقة الإلهيـة الأولـى هـى أن اللـه هو جوهـر واحـد فـى ثلاثة أقانيـم: الآب والإبـن والروح القدس. وهذه الحقيقة الرئيسية هـى سر بحصر الـمعنى، أعنى أنهـا حقيقة لـم نكن لنتصورهـا نحن بدون وحي من اللـه، حتى بعد الوحي من اللـه لا نفهم هذه الحقيقة ولن نفهـمها فهـماً كاملاً. على أننـا بفضل إيـماننا الـمسيحي نسجد للثالوث الأقدس هاتفين مع الـملائكـة:”قدوس قدوس قدوس…”.
نعـم ان سر الثالوث الأقدس يفوق قوانـا العقلية البشريـة، ومع ذلك ان جوهـر هذا السر بالنسبة إلينـا وإلـى حياتنـا الـمسيحيـة ليس بعيداً عنـا. صحيح أننا لا نستطيع أن نفهم كيف يكون اللـه جوهراً واحداً فى ثلاثة أقانيم، ولكننا نستطيع أن نفهم، بعض الفهم على الأقل، كيف يكون اللـه أبـانـا السماوي وكيف نكون نحن أبنـاء لـه.
ان هذا أيضاً هو سر عـميق مدهش، لكنه سر أقرب إلينـا وإلـى فهمنا. سر يـمكننا ويجب علينا أن نحّول مقتضياتـه إلـى حياة يومية ملأى بالإيـمان البنوي والرجـاء البنوي والحب البنـوي.
اللـه هـو أبـونـا ونحن أبنـاء لـه
هاكم الحقيقة الأساسية التى أتـانـا بها ربنا يسوع الـمسيح، والتى تعلّمنا إياهـا أمنا الكنيسة الـمقدسة، والتى يجب أن نؤمن بهـا إيـمانـاً يحيـا هو ويحييـنا نحن.
اللـه هـو أبـونـا ونحن أبنـاء لـه
هاكم الحقيقة الوحيدة التى تـمكننا من الجواب على السؤال:
لـماذا خلق اللـه الإنسان؟.
اللـه هـو أبـونـا ونحن أبنـاء لـه
هاكم الحقيقة النيـّرة التى وحدهـا تفسر مجئ يسوع وحياته وآلامـه وموتـه وقيـامـته.
اللـه هـو أبـونـا ونحن أبنـاء لـه
هاكم الحقيقة العجيبة التى لولاهـا لكان إيـماننا عبثـاً ولكانت حياتنـا تعـباً بلا راحـة وسعيـاً بلا أمل ولغزاً بلا حـل.
اللـه هـو أبـونـا ونحن أبنـاء لـه
ولكن أحقـاً هذا القـول؟، أم هو قول مجازي، فيكون اللـه أبانا بتوسيع الـمعنى، أي بمعنى أن اللـه هو أبونـا لأنـه يحبنـا ويعتنى بنـا كـما يحب الأب أبناءه ويعتنى بهم؟
ان اللـه هـو أبـونـا حقـاً، وأننـا أبنـاء لـه حقـاً. هذه هى الحقيقة العظيمة التى قد أوحـى اللـه إلينـا بهـا والتى تعبّـر عن الحق تعبيـراً حرفيـاً. فالقديس يوحنا الحبيب يشهد لذلك بقولـه:”أمـّا كل الذين قَبِلوه فأعطاهم سلطاناً أن يكونوا أبناء اللـه،للذين يؤمنون بإسـمه. الذين لا من دم ولا من مشيئة لحم ولا من مشيئة رجُل بل من اللـه وُلـدوا”(يوحنا12:1-13).ويقول القديس يوحنا فى رسالته الأولـى:”أنظروا أيـّة محبـة منحنـا الآب إياهـا حتى نُدعى ونكون أبناء اللـه”(1يوحنا1:3).
إنتبهـوا لقول القديس يوحنا:” حتى نُدعى ونكون أبناء اللـه”، أي اننـا أبناء اللـه لا بالتسمية فقط، بل فعلاً وحقيقة. صحيح اننا لسنا أبناء اللـه بالولادة الطبيعية، لكن بالولادة الروحيـة التى هى بـمثابـة ولادة ثانيـة. فلذلك قال يسوع لنيقوديموس:”الحق الحق أقول لك إن لـم يولد أحد ثانيـة فلا يقدر أن يعاين ملكوت اللـه”(يوحنا3:3). لذلك ايضاً قال القديس بولس لأهل روميـة:”إذ لـم تأخذوا روح العبوديـة ايضاً للـمخافة، بل أخذتم روح التبنـى الذى ندعو بـه أبـّاً أيهـا الآب. والروح عينه يشهد لأرواحنا بأنـّا أبناء اللـه(رومية15:8-16). وقد صرّح يسوع بأبّوة اللـه وبنوّتنـا نحن فى قولـه لـمريم الـمجدلية بعد قيامته:”امضى إلـى إخوتـي وقولـي لهم إنـي صاعد إلـى أبـي وأبيكم وإلهـي وإلهكم”(يوحنا17:20).
فـإذاً يلزمنـا لزومـاً صريحـاً قاطعـاً أن نؤمـن بأن اللـه هو أبـونـا وبأننـا نحن أبنـاء اللـه مـا دمنـا فى حالـة النعـمة. وفعلاً نقر بإيـماننا هذا كلـما رسمنا إشارة الصليب، أو قلنـا”نؤمن بإلـه واحد آب ضابط الكل”، أو صلّينـا قائلين:”أبـانـا الذى فـى السـموات..”.
أبــانــا الذى…
كـم من مرّات قد صلينـا هذه الصلاة، الصلاة الوحيدة التى علّمنا إياهـا سيدنـا يسوع الـمسيح (متى9:6-13)، الصلاة الكاملة، الصلاة البنـويـة التى لا نظيـر لهـا ولا مثيـل.
أبــانــا الذى…
كـم من الـمرّات قد صلّينـا هذه الصلاة بإيـمان ضعيف، وأفكارنـا وقلوبنـا بعيدة عن الـمعانـي العميقة والحقائق الإلهيـة الـمحيية الـمستتـرة تحت هذه الكلـمة البسيطة: أبــانــا.
لـو كنـا نتلفظ بهذه الكلـمة “أبـانـا” ولو مرّة واحدة بإيـمان حقيقي حي عـميق، لجعلتنـا أبنـاء اللـه حقـاً. أبنـاءً يتحقق فى كل منهم قول القديس يوحنـا:”لأن كل من وُلد من اللـه يغلب العالـم، والغلبـة التى يُغْلب بهـا العالـم هـى إيـماننـا”(1يوحنا4:5).
نعـم إيـماننـا بهذه الحقيقـة الإلهيـة العظيـمة:
“اللـه أبــونـا ونـحن أبنـاء لــه”
اللـه هـو أبـونـا ونحن أبنـاء لـه
مـا هـو إيـمانك بهذه الحقيقة الإلهيـة؟. إن كنت مسيحيـاً وجب عليك أن تؤمن بهذه الحقيقـة.
وإن كنت مسيحيـاً حقـاً وجب عليك أن تؤمن بهذه الحقيقة إيـمانـاً حيـاً، إيـمانـاً يؤثـر
فى كل دقيقة من حياتك اليوميـة.
فهـل تؤمن بأن اللـه هـو أبوك الذى خلقك لكي يشركك فـى حياتـه الإلهيـة وسعادتـه الأبـديـة؟
وهـل تؤمـن بأن اللـه هـو أبـوك الذى يحبك حبـاً أبويـاً لا حدّ لـه ويعتنـى بك إعتنـاء أبـويـاً مستمراً فـى سرّائك ولا سيمـا فى ضرائك؟، فـى حلو حياتك ولا سيّمـا فـى مرّهـا؟.
وهـل تـؤمن، لا بأن اللـه أبوك فقط، بل بأنك أنت إبـن من أبنائـه؟
وإن كنت تؤمن بهذا، كـما يجب أن تؤمن بـه، فهـل أنت حقاً إبـن من أبنـاء اللـه؟
· الإبـن البـار يحترم أبـاه، فهـل تحترم أنت أبـاك السماوي بجميع أفكارك وأقوالك وأفعـالك؟
· الإبـن الـمحض يطيع أبـاه، فهـل أنت تطيع أبـاك السماوي وتتبع جـميع وصـايـاه؟
· الإبـن الأمـين يـثق بأبيـه، فهـل أنت تثـق بأبيك السماوي وبعنايتـه الأبـويـة مهـما سارت أحوالك، ومهـما كثـرت أسباب القلق والخـوف والإضطراب؟
· الإبـن الحقيقي يحب أبـاه، فـهل أنت تحب أبـاك السماوي بكل قلبك وكل نفسك وكل قدرتـك وكل ذهنـك؟(لوقـا27:10).
ان جـوابـك على هذه الأسئلـة سيكشف لك قـدر إيـمانك بهذه الحقيقـة الأساسيـة:
اللـه أبـونـا ونـحن أبنـاء لـه
هـذا القـول هـو الحـق والحـياة، حياتـنـا الحقيقيـة هـنـا على الأرض، وحيـاتـنـا الأبـديـة هناك فـى السـماء.

2. نـؤمـن برب واحـد يسوع الـمسيح

نردد فـى قانون إيـمانـنا الـمسيحي هـذه العقيـدة:”نؤمن برب واحـد يسوع الـمسيح الذى من أجلنـا نحن البشر ومن أجل خلاصنـا نزل من السـماء..”.

ويقول لنـا القديس يوحنـا:”فإنـه لـم يُرسل اللـه إبنـه إلـى العالـم ليدين العالـم بل ليُخلّص بـه العـالـم”(يوحنا17:3).

وفـى سفر أعـمال الرسل نقرأ لا خلاص إلاّ بيسوع “لأنـه ليس إسم آخر تحت السـماء مـمنوحاً للناس بـه ينبغى أن نخلص”(أعمال12:4).

فـمن هـو يسوع لنـؤمـن بـه؟

فـى الشهر السادس بعد الحبل بيوحنا الـمعمدان “أُرسل الـملاك جبرائيل من قِبل اللـه إلـى مدينة فى الجليل تسمى الناصرة إلـى عذراء مخطوبـة لرجل أسمـه يوسف واسم العذراء مريـم”(لوقا26:1-27). وعندمـا قالت مريم للـملاك:”هـا أنـا آمـة الرب فليكن لـي بحسب قولك”(لوقا 38:1)،حلّ عليهـا الروح القدس وظللتهـا قوة العلي فصارت العذراء أمـاً، وهى عذراء. وبعد تسعة أشهر ولدت هذه الأم “إبنهـا البِكر ولفتـه وأضجعتـه فى مزود” (لوقا7:2). ولـما تمت ثمانية أيام سمي هذا الطفل “يسوع” كـما سـماه الـملاك قبل أن يُحبل بـه. ومرّت الأيـام والأعوام حتى جاء يوم قال يسوع فيـه لليهود:”أنتم من أسفل أما أنـا فـمن فوق. أنتم من هذا العالـم، وأنا لستُ من هذا العالم. فقلت لكم انكم تموتون فى خطاياكم لأنكم إن لـم تؤمنوا أنـي أنـا هـو تـموتون فـى خطاياكم. فقالوا لـه من أنت؟” (يوحنا23:8-25).

مـن أنتَ يـا يسـوع؟

ان اليهود لـم يريدوا جوابـاً على سؤالهم هذا إذ انـه قد تمت فيهم نبؤة اشعيا النبي القائل:”تسمعون سماعاً ولا تفهمون، وتنظرون نظراً ولا تبصرون”(متى14:13). مـع ذلك نرى يسوع يجيب اليهود وكل من يسألـه “من أنتَ” وذلك فـى أكثـر من موضع فـى الإنجيل فنسمعـه يقول عن نفسه:

· “أنـا الطريق والحق والحياة”(يوحنا6:14)
· “انـا نور العالـم”(يوحنا12:8)
· “أنـا الراعى الصالح”( يوحنا11:10)
· “أنـا خبز الحياة”(يوحنا47:6)
· “أنـا الكَرمـة وأنتم الأغصان”(يوحنا5:11)
· “انـا القيامـة والحياة”(يوحنا25:11)
· “أنّي فـى الآب والآب فـيّ”(يوحنا11:14)
· “الحق الحق أقول لكم قبل أن يكون ابراهيم أنا كائن”(يوحنا58:8).
مـن أنتَ يـا يسـوع؟

– يجيبـنا القديس يوحنا الـمعـمدان قائلاً:

“هوذا حـمل اللـه الذى يرفع خطيئة العالـم..وأنـا عاينت وشهدت أن هذا هو إبـن اللـه”(يوحنا29:1، 34:1).

– وتجيبنـا مريم أخت لعازر قائلـة:

“أنت الـمسيح إبن اللـه الآتـى إلـى هذا العالـم”(يوحنا27:11).

– ويجيبنا سمعان بطرس قائلاً:”أنت الـمسيح إبن اللـه الحي”(متى16:16).

– ويجيبنا قائد الـمئة بعد موت يسوع قائلاً:

“فى الحقيقة كان هذا الرجـل إبـن اللـه”(مرقس39:15).

– ويجيبنـا القديس تومـا قائلاً:”ربـي وإلـهـي” (يوحنا28:20).

– ويجيبنـا صوت الآب السماوي القائل من السـماء:”هذا هـو إبني الحبيب الذى بـه سررت”(متى5:17).

مـن أنتَ يـا يسـوع؟

اننـا نحن، معتمديـن على شهادة اللـه وبفضل قوة إيـماننا، نضيف صوتنـا إلـى صوت أمنـا الكنيسة وأبنائهـا فى كل عصر قائلين:

“نؤمن برب واحد يسوع الـمسيح،إبن اللـه الوحيد الـمولود من الآب قبل كل الدهـور …الذى من أجلنـا نحن البشر ومن أجل خلاصنـا نزل من السـماء وتجسد من الروح القدس ومن مريـم العذراء وتأنس…”.

بهذه الكلـمات الرزينـة أجاب آبـاء الـمجمع الـمسكونـي النيقاوي على سؤال اليهـود “من أنت؟”، وشتتوا شبهات الهراطقـة وحيلهـم، وأثبتوا وأعلنوا الإيـمان الـمسيحى الدائـم بسر التجسد والفداء، بسر الإلـه الحق والإنسان الحق، بسر طريقنـا وحقـنـا وحياتنـا، بسر ربنـا ورأسنـا وأخينـا ومثالنـا، بسر الحب الذى لا يفوقـه حب.

مـن أنتَ يـا يسـوع؟

مـا أجمل ومـا أعظم جواب الإيـمان على هذا السؤال، فهو جواب مبنى فـى جميع الكنائس والـمعابد والأديـرة والـمدارس والـمستشفيات والـمستوصفات والـمياتم والـملاجئ التى قد بنتـهـا ولا تزال تبنيهـا أيدي الـمؤمنين. وهـو جواب مسجّل فى الكتب والـمقالات والأشعار والأناشيد والـمواعظ والـمحاضرات التى ألّفتـهـا عقول الـمؤمنين ودوّنتهـا أقلامهم وفاهت بهـا ألسنتهـم. وهـو جواب حـي محـي يحيا ويخفق فى غيرة الرسل ودم الشهداء وإخلاص الـمعترفين وطهارة العذارى. جـواب يتلألأ فـى كبار القديسين والقديسات وصغارهم من رجال ونساء وفتيان وفتيات. جواب زيـّن حياة آبـائنـا وأجدادنـا فـى ذهابهم وإيابهم، وهم بين الأفراح والأتراح، بين الإبتسامات والدموع، وبين الحيـاة والـموت.

“نـؤمن برب واحـد يسوع الـمسيح”، هذا هـو الإيـمان الـمسيحي الذى إمتاز بـه عدد لا يحصى من الذين قد سبقونـا فى الحياة الـمسيحية والإيـمان الـمسيحي والذين يرددون قول بولس الرسول:”قد جاهدتُ الجهاد الحسن وأتـممتُ شوطي وحفظتُ الإيـمان وإنما يبقى إكليل العدل الـمحفوظ لي عند اللـه” (2 تيموثاوس7:4)، والذى يوصينـا الرسول بولس قائلاً:”تـأملوا فى عاقبـة تصرفهم وإقتدوا بإيـمانهم”

(عبرانيين7:13)،ويقول أيضـاً:”فنحن أيضاً، إذ يحدق بنا مثل هذا السحاب من الشهود،فلنلق عنا كل ثقل وما يشتمل علينا من الخطيئة، ولنسابق بالصبـر فى الجهاد الذى أمامـنا، ولنجعل نظرنـا إلـى مبدئ الإيـمان ومتـممـه يسوع”(عبرانيين1:12-2).

فلنجعـل نظرنـا إلـى مبدئ الإيـمان ومتمـمه يسوع الـمسيح، إذ إن يسوع الـمسيح “هو هو أمس واليوم وإلـى الأبـد”(عب8:13).

انتبهـوا لهذا القـول:”ان يسوع هو هو أمس واليوم وإلـى الأبـد”، فإن فـى هذا القول هو قاعـدة إيـماننا ومقياس إيـماننا وكـمال إيـماننا بربنـا يسوع الـمسيح.

إن يسوع الذى نؤمن بـه، أي شخصـه وتعليمـه ونعـمته وفدائـه لنـا، ليس هو بنـبي تنبأ ثـم مات، فلا بقاء لـه إلاّ فى ذاكرة من يتذكر أقوالـه، وليس هو بكاهن قرّب القرابيـن ثم لحق بهـا فى التلاشي والإضمحلال، وليس هو بـملك استولـى على مملكته أيـامـاً أو سنين محدودة ثم صار إسـماً مسجلاً فى كتب التاريـخ.

كلا، بـل ان يسوع الـمسيح، مبدئ الإيـمان ومتمـمه، هو هو أمس واليوم وإلـى مدى الدهـر.

هـو نبـي حـي يكلـمنـا كلامـاً حيـّاً..

هـو كاهـن حـي يقدم ذبيحتـه الـمحييـة..

وهـو ملك حـي يـملك علينـا ولـه الآن وفـى كل دقيقة الحق فـى إنقيـادنـا لـه وإتكالنـا عليـه وإيـماننـا بـه.

والكنيسة هـى بيت يسوع، والقداس هـو ذبيحـة يسوع..

يسوع الـموجـود معنـا جسداً ودمـاً ونفسـاً ولاهـوتـاً.

فـمـا هـو إيـمانـك برب واحـد يسوع الـمسيح؟

مـا هـو إيـمانك؟

هـل تـؤمن إيـمانـاً حياً بسر التجسد والفداء؟

هـل تـؤمن إيـمانـاً حياً بحياة يسوع وتعليمه ومواعيده وآلامـه وموتـه وقيامـته؟.

ان الـمسيحي هـو الـمنـتسب للـمسيح..

والـمسيحي الحقيقي هو الـمنـتسب للـمسيح إنتسابـاً وثيقـاً عـميقاً حقاً.

والـمسيحي الحـي هو الذى يحيـا مع الـمسيح وفيـه وبـه.

وأنت..هـل أنت مسيحـي حقيقي حـي؟

لا تسرع فـى الجواب، إذ يوجد عندنـا ميزان قريب دقيق يـمكننا أن نـزن بـه إيـماننا بربنا يسوع الـمسيح، ميزان يكشف لنا حقيقة إيـماننا بيسوع الـمسيح وحقنـا فـى الإنتساب إليـه. وهذا الـميزان هـو يسوع نفسـه، الـموجود فـى القربان الـمقدس، الـمقدم نفسه وإيـانـا لأبيـه وأبينـا فـى الذبيحة الإلهيـة..

فـإذاً..أمـام يسوع الحاضر معنـا، جاوب على هذيـن السؤالين:

1. هل أحضر القداس، لا فـى الآحـاد والأعياد فقط، بل كلـما أمكننى ذلـك؟
2. هل أتناول القربان الـمقدس، لا مرة ولا مرتين فى السنة،بل كلما سنحت لـى الفرصـة؟
أنك لست بـمسيحي حـي حقيقي إن لـم تؤمن إيـمانـاً حقيقيـاً بهذا السر العظيم الذى هـو يسوع الـمخلّص الحقيقي الحـي. وليس إيـمانك بهذا السر العظيم إيـمانـاً حقيقيـاً إن لـم تحضر القداس كلـما أمكنك ذلك، وإن لـم تتناول خبـز الحياة كلـما سنحت لك الفرصـة.

فليـحل يسوع فـى قلوبنـا بالإيـمان ليتحقق فـى كل مـنا قول القديس بولس:”أنـا حـي، لا أنـا بل إنـما الـمسيح حـي فـيّ”

(غلاطية20:2)

3. نـؤمـن ..بالروح القدس الرب الـمحيي

نقرأ فـى سفر أعـمال الرسل: “حدث بغـتة صوت من السـماء كصوت ريح شديدة تعصف وملأ كل البيت الذى كانـوا جالسين فيـه، وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنهـا من نار فإستقرت على كل واحد منهم، فإمتلأوا من الروح القدس”(أعمال2:2-4).

“إمـتلأوا مـن الروح القدس” – اننـا لا نستطيع أن نتمنى نتيجة أكبـر وأهـم وأفضل من هـذه: أن نـمتلئ جميعـاً من الروح القـدس.

ونقرأ فـى سفر الأعـمال ان القديس بولس أتـى يومـاً إلـى مدينـة أفسس و”صادف هناك بعض التلاميذ فقال لهـم: هل نلتـم الروح القدس لـما آمنتـم؟، فقـالوا لـه: لا، بـل مـا سـمعنـا بأنـه يوجد روح قدس”(أعمال1:19-2).

أمـا نحن فقد سمعنـا بالروح القدس، وقـد نلنـا الروح القدس فـى سريّ الـمعموديـة والتثبيت، وقـد عبـّرنـا عن إيـماننا بالروح القدس مراراً قائلين:”نؤمن بالروح القدس الرب الـمحيي الـمنبثق من الآب والإبـن الذى مع الآب والإبـن يُسجد لـه ويـُمجد، الناطق بالأنبيـاء…”.

أعتقد اننـا جميعاً بحاجـة دائـمة الـى تجديد إيـماننا بالروح القدس والـى تشديد وتوثيق وإحيـاء علاقـاتنـا بهذا الروح. فإنـه يسهـل على الـمسيحي العائش بين الأشياء الـمحسوسة الـماديـة أن يسهو عن الأشياء الروحيـة وأن ينسى الروح القدس، وذلك على الرغـم من أهـمية دور الروح القدس فـى كل مـا يتعلق بإيـماننا الـمسيحي.

إن فعـل الإيـمان هو فعل بـه نصدق الحقائق الإلهيـة التى قد أوحـى اللـه الينـا بهـا والتى يعلمنا إيـاهـا بواسطة أمنـا الكنيسة الـمقدسة. وهذه الحقائق نؤمن بهـا إيـمانـاً ثابتـاً لا يتردد لأنـه إيـمان مبنى على حق ونور من اللـه، بل على حق هـو اللـه وعلى نور هـو اللـه.

وينتسب هذا الحق وهذا النور الى الروح القدس إنتسابـاً خاصـاً، فإن الروح القدس هو الناطق بالأنبيـاء، هـو روح الحق، هـو الذى يعصم الكنيسة من الضلال والخطـأ فـى تعليم الحقائق الإلهـية.

قال يسوع:”وأنـا أسأل الآب فيعطيكم معـزيـاً آخـر ليقيم معكم الى الأبـد روح الحـق”(يوحنا16:14-17). وقـال أيضاً:”أمـا الـمعزّي الروح القدس الذى سيرسله الآب بإسمي، فهو يعلمكم كل شيئ ويذكركم كل مـا قلتـه لكم”(يوحنا26:14). وأمنـا الكنيسة، التى هـى مستودع الحقائق الإلهيـة، فكثيـراً ما تطلب من اللـه تعالـى أن ينيـر قلوب الـمؤمنين بنور الروح القدس.

ولا حـاجـة بـي الـى تذكيركم أننا نعيش فى عالم يتعرض فيـه إيـماننا الـمسيحي لأخطار وتجارب وهجمات نواجههـا يوميـاً بل مراراً كل يوم. فإن قوات الظلـمة تتربص بنـا لكى تنزع منـا هذه اللؤلؤة الثمينة التى هـى إيـماننا. وهناك مبادئ كاذبـة ووعود فارغـة ومذاهب مزّيفـة وحيل شيطانيـة تخالف كل الـمخالفـة نور الروح القدس وحقـه وتهدد أسس إيماننـا الـمسيحي. فـمن الغريب، والحالـة هذه، ان كثيرين من الـمسيحيين يقتحمون هذه الأخطار وهذه التجارب بعقول ضعيفة بعيدة عن نور الحق وتعليم الـمسيح وكنيستة.

فلا يدهشنـا، وحالتهـم هذه، ان بعض هؤلاء الـمسيحيين الذين لا يعرفون إيـمانهم ولا يقدرونـه، نراهـم يهملون إهمالاً فاضحـاً تربيـة بنيهم وبناتهم تربيـة مسيحية صالـحة. لنفحص ضـميرنـا ونفحص تصرفاتنـا حتى نعرف ميلنـا الى الظلمة والباطل وإنحرافنـا عن النور والحـق، فإن إيـماننا وإيـمان الذين نحن مسؤولون عنهم لن ينشأ ولن يثبت إلاّ على أساس الحق والنـور. وهـذا الحـق والنـور لـن نجدهـما إلاّ فـى روح الحـق والنـور، أي فـى الروح القدس الـمقيم فـى الكنيسة والـمقيم فينـا نحن مـا دمنـا فـى حالـة النعـمة.

قال القديس يعقوب فى رسالته:”كـما ان الجسد بدون الروح ميت، كذلك الإيـمان بدون الأعـمال ميت”(يعقوب26:2). فـإذاً لا يكفينـا أن نؤمـن أي أن نعلـم ونصدق الحقائق الإلهيـة، بل يجب أن يكون إيـماننا إيـمانـاً حيـّاً مـثـمراً، إيـمانـاً نحيـا بـه ويحييـنا هو فـى كل ناحيـة من نواحـى حياتنـا اليوميـة. وبهذا الـمعنى قال يسوع لليهود:”الروح هو الذى يحُيي، وأما اللحم فلا يفيد شيئـاً. والكلام الذى كلمتكم به هو روح وحياة. لكن قوماً منكم لا يؤمنون”(يوحنا64:6-65).

فلذلك أقـول لكم: اننـا محتاجون الـى الروح القدس، لا من حيث هو روح النور والحق فحسب، بل أيضاً من حيث هو الرب الـمحيي وقوة العليّ. فالإيـمان كـما انـه لا يقوم بدون النور والحق، كذلك لا يدوم بدون الحياة والقوة، وهذه الحياة وهذه القـوة هـما عـمل الروح القدس الـمقيم فينـا.

قبل صعود يسوع الى السماء قال لتلاميذه:”امكثوا فى الـمدينة الى أن تلبسوا قوة من العلاء”(لوقا49:24). تذكّروا ما كان الرسل فيـه قبل حلول الروح القدس وبعـده. قبلـه كانوا يخافون من اليهود فيمكثون فى البيت وراء أبواب مغلقـة، ولكن عندما أُلبسوا قوة من العلاء، أي عندمـا إمتلأوا من الروح القدس، خرجوا من البيت وكرزوا جهاراً بجرأة عظيـمة. و لـما قبض أعضاء مجلس اليهود عليهم وجلدوهم وأمروهم أن لا يتكلـموا بإسم يسوع فرحوا وافتخروا بأنهم حسبوا مستأهلين أن يتعذبوا من أجل إيـمانهم وأن يُهانـوا لأجل إسم يسوع و لـم يزالوا كل يوم فى الهيكل وفى البيوت يعلمون ويبشرون بيسوع الـمسيح (اعـمال40:5-42).

هـذا هـو الإيـمان الحقيقي الحـي القوي الذى يحييـه ويقـويـه روح الحياة والقـوة.

هـذا هـو الإيـمان الحي القوي الذى تألق فى شهادة الشهداء الـمسيحيين الذين فضلوا الإضطهاد والعذاب والـموت على إنكار حقيقة من حقائق إيـمانهم الـمسيحي.

هـذا هـو الإيـمان الحـي القوي الذى يحيي ويقوي إخواننـا فى كنيسة الصمت، اخواننا الذين لا يزالون يتمون ما ينقص من شدائد الـمسيح لأجل جسده الذى هو الكنيسة(كولوسي24:1).

وهـذا هـو الإيـمان الحـي القوي الذى يجب أن يحييـنا ويقوينـا. الإيـمان الذى لا يـأتينـا إلاّ من روح الحيـاة والقـوة.

لا يخفـى علينـا ان حياتنـا الـمسيحية هى حرب دائـمة لن تنتهى إلاّ فى آخـر رمق من حياتنا الأرضيـة. وفـى هذه الحرب الـمتواصلة أعداؤنـا كثيـرون مهيبون وأسلحتهم عديدة ومتنوعـة، ولكن ليس هناك عدوّ لنـا أعدى من أنفسنا إن لـم نتسلح بالأسلحة التى يوصينـا بهـا القديس بولس حيث يقول:”شدّوا أحقاءكم بالحق والبسوا درع البـِر..وفى كل حال احملوا ترس الإيـمان الذى بـه تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير النـارّيـة، واتخذوا خوذة الخلاص وسيف الروح الذى هو كلمة اللـه، وصلّوا بكل صلاة ودعـاء كل حين فى الروح”(افسس14:6-18).

وكـما يقول الكتاب الـمقدس: “إذا كان اللـه معنـا فـمن علينـا”

(رومية31:8)، فإذا كان معنـا روح النور والحق، روح الحيـاة والقوة،اللـه، فـمن يستطيع الإنتصار علينـا وعلى إيـماننـا؟

قـد يطلب اللـه منـا أن نموت شهداء لإيـماننا، وقد لا يطلب منـا ذلك، على أن الأكيـد هو

ان اللـه يطلب منـا أن نحيـا حياة إيـمان لن تنتهى إلاّ بخروج نفسنـا من جسدنـا. هذه هى

الشهادة اليوميـة الواجبـة على كل مسيحي مؤمن.

فلنصلّ الـى الروح القدس قائليـن:

هلّم أيهـا الروح القدس وإملأ قلوبنـا إيـمانـاً متيناً حيـاً.

هـلّم يـا روح النور والحق وإملأ عقولنا نوراً يشتت كل ظلمة، وحقاً

يتغلب على كل ضلال.

هـلّم يـا روح الحياة والقوة وإملأ إرادتنـا حياة تجعلنـا من الـمؤمنين

الأحياء وقوة تجعلنـا من الـمؤمنيـن الأقـويـاء.

هـلّم أيهـا الرب الـمحيي وأحينـا الآن لكي نحيـا معك ومع الآب والإبـن إلـى مدى الدهـور.

4 . نـؤمـن ..بكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية

لا نـرى فـى الإنجيل الـمقدس قضيـة يثبتهـا يسوع ويثني عليهـا ويطلبهـا كـما يثبت ويثنـى ويطلب الإيـمان. لـماذا؟

لأن الإيـمان كـما وسبق وأن قلنـا هو أهم وألزم فضيلة مسيحية. صحيح أن الـمحبة هـى أكبـر فضيلة ولكن الإيـمان هو أساس جميع الفضائل، حتى الـمحبـة. يقال إذاً بكل الحقائق ان الإيـمان هو كنزنـا الأكبـر، إذ اننا بدون الإيـمان لا نستطيع أن نرضـى اللـه. وهذا الكنـز الأكبـر يأتينـا بواسطة الكنيسة. فإن الكنيسة هـى التى تعـّدنـا على يد الكاهـن، وهى التى تعلـمنـا الحقائق الإلهيـة التى يجب أن نؤمن بهـا. فلذلك نسمى الكنيسة “أمـنـا”، إذ انهـا تدخلنـا فى حياتنا الحقيقية، فى حياة الإيـمان والرجـاء والـمحبة. وبين الحقائق الإلهيـة التلى تعلـمنا إيـاهـا أمنـا الكنيسة نجد حقيقة الكنيسة نفسهـا، أعنى الحقيقة الإلهـية الـمهـمة التى نعبّر عن إيـماننا بهـا كلـما قلنـا:

“نـؤمن ..بكنيسة واحـدة جامعـة مقدسة رسوليـة”.

لا يخفـى علينـا أن كثيرين من الناس فى عالـمنا هذا لا يفهمون حقيقة الكنيسة الكاثوليكية. فـمنهم من يعتقدون أن الكنيسة هى جمعية أو منظمة بشريـة لا تختلف جوهـريـاً عن الـمنظمات البشريـة الأخرى. ومنهم من لا يرون فى الكنيسة وفى رؤساء الكنيسة إلاّ أناس يهدفون إلـى السيطرة السياسية والإقتصاديـة والفكريـة. ومنهـم من يعيّرون الكنيسة لأنهـا تدافع عن حقوق الإنسان الحقيقية، وآخرون يعيّرونهـا لأنهـا لا تدافع عن حقوق الإنسان الـمزّيفـة. ومنهـم من يقولون: ان الكنيسة رجعيـة لا تزال تعيش فى القرون الوسطى. وآخـرون يقولون: ان الكنيسة تثبت نظريـات وأفكاراً لـم يتهيأ الإنسان بعد لقبولهـا وتحقيقهـا.

أمـا جميع هؤلاء الناس-مهما إختلفوا فيـما بينهم، ومهما كان إخلاصهم أو عدم إخلاصهم فى آرائهم- فالذى يجمع بينهم هو جهلهم لحقيقة الكنيسة الكاثوليكية. وفـى كثيرين منهم جهلهم الكنيسة لـه مـا يبرره، أو على الأقل هو جهل لا نستغربـه ولا يصعب علينا تعيين أسبابـه. ولكن هناك، ياللأسف، جهل يصعب علينا أن نبرره. وهـو جهل حقيقة الكنيسة وبالتالـى إيـمانهم بالكنيسة يكون إيـمان ضعيف ناقص، وحياتهم الكنسية حياة عادمـة القوة والنشاط والحماسة.

ونحن، هـل نفهم حقيقة الكنيسة الكاثوليكية التى ننتمى إليهـا؟، وهـل نؤمن بالكنيسة إيـماناً حياً فعالاً يؤثر فى حياتنا الـمسيحية اليومية ويجعلنـا أعضاء أحيـاء فـى الكنيسة الحـيّة؟

قـد ألّـف آبـاء الكنيسة وعلـماؤهـا وكتابهـا عدداً يكاد لا يحصى من كتب استقصوا فيهـا جميع نواحـى البحث فى معنى الكنيسة وصفاتهـا وتأسيسهـا وتطورّهـا ودورهـا فى حياة الأفراد والـمجتمعات. ولكن يخيّل إلـيّ ان كل ما كتبوه وعلّموه عن الكنيسة هو ملخص بعبارة واحدة تعبـر تعبيـراً وافيـاً وشاملاً عن حقيقة الكنيسة والإيـمان بالكنيسة والحياة الـموافقـة لهذا الإيـمان. وهذه العبارة قد سبق ونبهنـا عليهـا الطيب الذِكر قداسة البابا بيوس الثانـى عشر عندما كتب هذه الكلمات:”إذا أردنـا أن نعرف ونصف كنيسة الـمسيح الحقيقية ..فإننا لن نجد عبارة أجمل وأدق بل لن نجد عبارة أقرب الى الحقيقة الإلهـية من العبارة التى تسمي الكنيسة جسد يسوع السري”.

الكنيسة هـى جسد الـمسيح، أو على الأصح، نحن جسد الـمسيح. هذا هو معنى الكنيسة. هـذا هو معنى إيـماننا الـمسيحي وحياتنـا الـمسيحية. إذ اننا إن لـم نحى حياة كنسية إستحال أن تكون حياتنـا حياة مسيحية.

نـحن جسد الـمسيح، لـو كنـا نؤمن بهذه الحقيقة إيـمانـاً حيـاً لكنا فعلاً أعضاء أحيـاء بالـمسيح وفـى الـمسيح.

الكنيسة هـى جسد الـمسيح..هـاكم معنى الكنيسة ووحدتهـا وقداستها وقوتهـا وحيويتهـا وسلطتهـا.

الكنيسة هـى جسد الـمسيح..هـاكم السبب لعقد الـمجامع الـمسكونيـة والدافع الى الصلوات من أجل وحدة الـمسيحيـين.

الكنيسة هـى جسد الـمسيح..فلذلك يجب أن تتألـم الكنيسة فـى أعضائهـا الـمعذبيـن الأشقياء الـمرضى الـمضطهدين ومعهـم. لذلك قال يسوع لشاول فى طريق دمشق:”شاول شاول لـِمَ تضطهدنـى؟”

(اعمال4:9) – إذ كان شاول يضطهد الكنيسة التى هى جسد الـمسيح. فلذلك تحثنـا محبـة الـمسيح على كل نوع من أعمال الرحمة الجسدية والروحيـة. ولذلك سيقول يسوع للـمسيحيين فى يوم الدين:”الحق أقول لكم انكم كلما فعلتم ذلك بأحد اخوتـى هؤلاء الصغار فبـي فعلتموه”

(متى40:25)- إذ أن يسوع حي فى كل أخ شقي منكوب مسكين.

الكنيسة هـى جسد الـمسيح..أي نحن أعضاء الـمسيح.

هـاكم السبب العميق النهائى للحب الذى يجب أن يجمع بيننا نحن الأعضاء وبين رأسنـا يسوع، وللحب الذى بـه يجب أن نحب بعضنا بعضاً.

الكنيسة هـى جسد الـمسيح..أي نحن أعضاء الـمسيح. أن ننسى فلا ننسى هذه الحقيقة، فإنهـا تستطيع أن تطرد منـا الكبرياء والأنانيـة والحسد والحقـد وضيق القلب، وان تكمّلـنـا كما قال بولس الرسول:

“لعمل الخدمـة وبنيان جسد الـمسيح الى أن ننتهى جميعاً الى وحدة الإيـمان، ومعرفـة إبن اللـه، إلـى إنسان كامـل، إلـى مقدار قامـة ملء الـمسيح”(افسس12:4-13).

هـذا هـو الإيـمان الحـي بالكنيسة التى هـى جسد الـمسيح السري.

وأخيـراً بعد أن عرفنـا بـماذا نؤمـن أحثكم جميعـاً على الصلاة الحـارة الـمستمرة لكى تنالـوا من اللـه كل مـا ترغبـون فيـه من نِعم روحيـة ومـاديـة، وخاصـة لكي تنالـوا لأنفسكم ولغيـركم هذه النـِعمة العـظيـمة التى هـى الإيـمان العـميق الحـي الفـعّال.

____________________

نظرة الـمسيحـي إلـى العـالـم

يقف الـمسيحي أمام كلمة “العالـم” حائـراً، لا يدرى أي موقف يتخذ. ذلك أن الـمسيحي يجد نفسه يواجـه الحياة فى مجتمع يتفاعل معه فى ظروفه ومشكلاتـه، وفى نفس الوقت يحس فى أعماق نفسه بأنـه إنسان جديد فى الـمسيح، لا يسمح لـه ضميره أن يجاري الناس فى كل ما يعملون، وإلاّ ضاعت مسيحيتـه وفتـُرت حياتـه الروحـية.

هـذا الشعور بالحيـرة يتضاعف عندما يكون الـمسيحيون أقليـة فـى العالـم غيـر الـمسيحي. ولقد نشأت الـمسيحية فى عصور الكنيسة الأولـى كحركة من حركات الأقليـّة، وتعرضت لنفس الحيـرة والقلق بالنسبة لعلاقـة الـمسيحي بالـمجتمع.

وموقف الـمسيحي فـى نظرتـه للعالـم وعلاقتـه بـه موقف دقيق للغايـة لأنـه يقف بين خطـريـن:

الخـطر الأول: هـو أن يجاري العالـم فى كل شيئ فيبتلعـه العالم ويفقده صفاتـه الـمميزة لـه، إذ يجتذبـه ضغط الحياة الإجتماعيـة.

الـخطر الثانـى: أنـه لكي يتجنب الخطر الأول ينطوى وينعزل عن الـمجتمع فيصيـر إنسانـاً شاذاً مليئـاً بالعقـد، ولا يؤدى أى رسالـة للـمسيح، إذ يصيـر موضوع هزء الناس وسخريتهم.

بـين هذين الخطريـن-أو هاتين الناريـن_ على الـمسيحي أن يختط لنفسـه طريـقـاً.

ونحن نريـد أن ندرس كتاب اللـه لنعرف الحدود التى نقف عندهـا فـى كل من الإتجاهيـن.وعـندمـا نقرأ الكتاب الـمقدس نتبيـن أن هناك جانبيـن للنظر إلـى هـذه الـمشكلة:

أولاً: كـراهيـة العـالـم

فـى الكتاب الـمقدس نجد شواهد كثيـرة تؤيد هذا الإتجـاه، فقد قال يوحنا الرسول:”لا تحبوا العالم ولا الأشياء التى فى العالم. إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب، لأن كل ما فى العالم شهوة الجسد وشهوة العين وتعظم الـمعيشة، ليس من الآب بل من العالم والعالم يمضى وشهوته، وأما الذى يصنع مشيئة اللـه فيثبت الى الأبد”(يوحنا15:2-17).

وقد ذكر يوحنا هذا لأن الـمسيح نفسه كان قد قال إن العالم أبغضه: “إن كان العالم يبغضكم فإعلموا انه قد أبغضني قبلكم، لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصتـه، ولكن لأنكم لستم من العالم، بل أنـا اخترتكم من العالم، لذلك يبغضكم العالـم”(يوحنا18:15-19).

ونتيجة لهذا الفِكر نقرأ ما كتبه بولس الرسول الى أهل كورنثوس:”لا تكونوا تحت نيـر مع غيـر الـمؤمنين لأنـه أيـّة خلطة للبـر والأثم؟ أو أيـّة شركة للنور مع الظلمة؟ وأي إتفاق للـمسيح مع بليعال؟ وأي نصيب للـمؤمن مع غيـر الـمؤمن؟ وأيـّة موافقة لهيكل اللـه مع الأوثان؟ فانكم هيكل اللـه الحي، كما قال اللـه انـى سأسكن فيهم، وأسيـر بينهم وأكون لهم إلهـاً وهم يكونون لـي شعباً. لذلك أخرجوا من وسطهم واعتزلوا يقول الرب ولا تمسوا نجساً فأقبلكم،وأكون لكم أباً، وأنتم تكونون لي بنين وبنات يقول الرب القادر على كل شيئ”(2كور14:6-18).

إن كثيرين يقرأون هذه الآيـات فيصابون بنوع من الزهد والرغبـة فى الإعتزال والإنفصال عن الحياة الإجتماعيـة والإنطواء على نفوسهم.

لكن هـل اللـه يـريـد منـا أن نكره العالـم بهذه الصـورة؟

إن علينا أن ندرس النصوص الكتابية السابقة فى ضوء الظروف التى كانت سائدة وقتئذ، لنفهمها جيداً، فقد كان العالـم الـمعروف حينئذ تحت سلطان رومـا، وكان الناس يقدمون العبادة لقيصر بإعتباره إلهـاً. وكان الوثنيون عندما يوجهون الدعوة الى طعام لأحد يقدمونهـا بإسم الصنم فإعتباره صاحب الـمائدة، فيكتبون فى الدعوة”أدعوك لتناول الطعام معي على مائدة الإله سرابيس”، وكان الناس يبغضون الـمسيحيين ويتهمونهم إتهامات عجيبة قذرة. فقد اتهموهم فى أقدس فريضة وهى العشاء الرباني بأنهم يأكلون لحوم البشر، وقد أساءوا فهم وليمة الـمحبة وقبلة السلام التى كان الـمسيحييون يقبلون بعضهم بعضاً بها وإعتبروهـا عملاً جسدياً شهوانياً، ذلك لأن العالم حينئذ كان غارقاً فى الشر بأسم الدين، وكان الناس يرتكبون أفظع الشرور فى هياكل الأصنام بإعتبارها جزء من الطقوس الدينية. لذلك كان طبيعياً أن توجد أشياء فى العالم لا يستطيع الـمؤمن أن يعملهـا، وكان على الرسول أن يأمر الـمسيحيين بالإعتزال كما كان أمر الرب لليهود قديـماً.

على أن الوصيـة بكراهيـة العالم يجب أن لا تؤخذ بكيفية مطلقة. فهناك أشياء نسبية فى التعبيرات الكتابيـة. فنحن نقرأ مثلاً فى لوقا قول السيد الـمسيح:”ان كان أحد يأتى إلـيّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وأخوتـه وأخواتـه، حتى نفسه أيضاً، فلا يقدر أن يكون لـي تلميذاً”

(لو26:14)، والتفسير الـمعقول لـمثل هذه الآيـة ليس أن اللـه يطلب منا كراهية الوالدين والزوجة والأولاد، فإن هذا يتنافـى مع وصية اللـه بإكرام الوالدين وبـمحبة الزوجات وبالعنايـة بالأولاد، بل هو أن محبتنـا للـه يجب أن تفوق محبتنـا للأبـاء والزوجـات والأبنـاء.

هكذا فـى عدم محبة العالـم فاللـه لا يريدنـا أن نكره هذا العالـم وننفصل عن الـمجتمع، بل أن لا نهتـم بالعالـم إهتماماً يجعلنا ننسى الأمور الباقية الأبديـة.

إن إهـتمامنـا بالعالـم وترك وصايـا اللـه يجعل الحياة الأبديـة بلا مستقبل “لأن العالـم يمضى وشهوتـه. وأما الذى يصنع مشيئة اللـه فيثبت الى الأبد”.

كان هذا هو الجانب الأول من نظرة الـمسيحي الى العالـم. وجديـر بالذكر ان كلمة العالـم فى معناهـا الأول تشير الى الشر الذى يسود العالـم، والذى بسببـه قيل إن العالـم قد “وضع فى الشرير”. وقد تشير كلمة العالـم الى العصر السابق لعصر ملكوت اللـه، فقد كان اليهود يقسمون الزمن الى قسمين:”هذا الدهـر” أو “هذا العالـم” وهو يشير الى عصر الشر، و”الدهـر الآتـى” او “العالـم الآتـى” وهو عصر مجئ الـمسيّا الى العالـم برسالة الخلاص. وقد كان “هذا الدهر” رمزاً للشر و”الدهر الآتـى” رمزاً للخيـر.

وإذا أخذنـا بهذا التفسيـر نكون الآن فى الدهـر الآتـى، أي فـى العالـم الجديد الذى بدأ بـمجئ الـمسيح الى العالـم، والذى وإن كانت فيـه الشرور، لكن نعـمة اللـه تعـمل فيـه وإنجيـل للـمسيح فيـه ينتشـر.

ثـانيـاً: الحيـاة فـى العـالـم

هذا هو الجانب الثانـى من نظرة الـمسيحي الى العالم، وخلاصتهـا أن الـمسيحي ينبغى أن يحيا فى العالـم. والشواهد الكتابية على هذا الإتجاه كثيرة جداً، فالعالـم الذى نعيش فيـه ليس قبيحاً بالدرجـة التى يصوره البعض لنـا فيهـا، لأنـه عالـم اللـه. وعندمـا خلق اللـه العالـم والإنسان “رأى أن مـا عـمله فإذ هو حسن جداً” (تكوين31:1).

لا ينكر أحد أن الخطية شوهت جمال هذا العالـم، وأن الخليقة تئن وتنتظر إستعلان أبناء اللـه وتحريرها من عبوديـة الفساد الى حريـة مجد أولاد اللـه. وإذا قرأنـا سفر الـمزامير وجدنا الـمرّنم يبتهج بخليقة اللـه الـماديـة ويبدأ بقولـه:”باركي يا نفسى الرب. يارب قد عظمت جداً. مجداً وجلالاً لبست”(مزمور1:104)، ثم يبتهج بخليقة اللـه من جبال ووديان وأنهار وطيور وحيوانات ومن عمل البشر ويهتف قائلاً:”ماأعظم أعمالك يارب. كلها بحكمة صنعت. ملآنـة الأرض من غنـاك”

(مز24:104). وليس هذا العالـم تحت سلطان ابليس، “لأن للرب الأرض

وملؤهـا..الـمسكونـة وكل الساكنين فيهـا”(مزمور1:24)، لذلك هتفت الـملائكة فى رؤيـا اشعيا”قدوس قدوس قدوس رب الجنود مجده ملء كل الأرض”(اشعيا3:6).

ولعل أكبـر شاهد على هذا الإتجاه هو حياة السيد الـمسيح نفسه عندما جاء متجسداً الى أرضنـا، فقد سار فى طرق الناس العاديـة، وكان متميزاً عن يوحنا الـمعمدان الذى عاش فى البريـّة منفرداً معتزلاً زاهداً. لقد ذهب يسوع الى عُرس مع تلاميذه(يوحنا1:2-11) وحضر ولائم كثيرة أُعدت لـه وكان لـه عدد من الأصدقاء كأسرة مريم ومرثا ولعازر، بل ان أمثال الـمسيح تدل على اتصالـه التام بالحياة العملية فقد تحدث عن العشاء العظيم(لوقا15:14-21)، وعن الإبن الضال(لوقا11:15-32)، وعن وكيل الظلم(لوقا1:16-8)، وعن قاضي الظلم(لوقا1:18-5).

لـم يكن الـمسيح منشغلاً عن الناس، فقد كان معنى التجسد عند الـمسيح لا أن يأتـى فى جسدنـا فحسب، بل أن يدخل الى أعماق حياتنا أيضاً،فى صراعنا مع الحياة وفى أنظمتنا البشريـة. لذلك يجب على الـمسيحي أن يحيا كـما عاش الـمسيح، وأن يحيا فى الـمكان الذى قال الـمسيح أنـه سيترك تلاميذه فيـه – فى العالـم- كـما جاء فى صلاتـه الشفاعيـة:”لستُ أسأل أن تأخذهم من العالـم بل أن تحفظهم من الشرير”(يوحنا15:17)، بل انـه قال ايضاً إنـه أرسل تلاميذه الـى العالـم. ان اللـه لا يريـد أولاده منفصلين بل أحياء فـى العالـم.

هـذان هـما الجانبـان أو الإتجاهـان فى نظرة الـمسيحي الـى العالـم.

ونحـن إن نظرنـا الـى العالـم بإتجـاه واحد فقط ضللـنا الطريق الحق، إذ ينبغى أن يتوازن الجانبـان فـى حياة الـمسيحي.

ان الذين يتخذون من الإتجاه الأول أسلوبـاً لهم فى الحياة، وينعزلون عن الناس ولا يختلطون إلاّ بفئة قليلة من أمثالهم يتعرضون لعدة تجارب.
تجـارب الإنعـزال عـن العالـم:

1. هذه العزلـة التى يفرضونهـا على أنفسهم تفصلهم عن الإتصال الحيوي الضروري بالعالـم، وبالتالـي يفقدون إحساسهم بالرسالة العظيمة التى أوجدهـم اللـه من أجلهـا فـى الحيـاة، فقد قال الـمسيح لتلاميذه:

“أنتم ملح الأرض”(متى13:5) و “أنتم نـور العالـم”(متى14:5)، لكن كثيرين من الناس يريدون أن يكونوا ملحاً مختزنـاً متكتلاً معزولاً لا نفع لـه، بدلاً أن يتغلغلوا الى الحياة فى العالـم لحفظهـا وإصلاحهـا. وهـم سراج موقد لكنـه تحت الـمكيال وليس على الـمنارة فأي رسالـة يؤديهـا هؤلاء؟

2.هـذه العزلـة التى يفرضونـها على أنفسهم تـملأ نفوسهم بالغرور والكبرياء الروحي والبـِر الذاتـى، إذ يتصورون أنفسهم أفضل من غيرهم، وبذلك يقعون فى خطيئة الفريسيين الذين إنتقدوا الـمسيح لأنـه كان يقبل العشارين والخطاه ويأكل معهم.

3. إن هذا الإتجـاه يجعلهم يعيشون فى دائرة مقفلة فتضيق آفاق حياتهم ويزداد انظوائهم ويكثـر الجدل فيـما بينهم وتزداد الإنقسامات والخلافات وسطهم، بدلاً من أن يتطلعوا الى رسالة اللـه للعالـم الـمفتوح قدامهـم.

4. إن هذا الإتجاه الإنعزالـى يجعل الـمسيحيين عاجزين عن أن يحتفظوا بالجيل الجديد الذى يرى أمامـه آفـاق الحياة الـمتسعة، ولا يستطيع أن يبقى داخل الصندوق الـمغلق، فيخرج من طاعـة ذويـه ولا يجد من يرشده وهو يواجـه مشكلات الحياة الإجتماعيـة الـمتطورة، فيضيع ويكون الذنب فى ضياعـه على أولئك الأبـاء والأمهات الذين لـم يفتحوا عيونهم لـمتابعة تطورات الأحداث وتقدم الحيـاة.

ولكن نحـن نفكـر فـى أخطـار الإتجـاه الأول، ينبغى علينـا أن لا ننسى أخطار الإتجاه الثانـى وهو الإندمـاج فى حياة العالـم. فعلى الـمسيحي أن يعرف أنـه وإن كان يحيـا فـى العالـم لكنه ليس من العالـم، ان أفكاره ومبادئـه وإتجهاتـه يتلقاهـا لا من أسلوب الحيـاة الشائع، ولكن من كتاب اللـه وبإرشاد روح اللـه الساكن فيـه.

لقد كان الـمجتمع بالنسبة ليسوع مكانـاً يجد فيـه الآخريـن، وليس مكانـاً تضيع فيـه نفسه، ويسوع لـم ينـزل الى مستوى العالـم الأخلاقـى بل عـمل على أن يرفع العالـم إلـى مستواه.

اننـا نحيـا فـى العالـم وسط الشرور والنـزعات الأنانيـة، لكننا لا يجب أن ننسى ونحن نتعامـل مع الناس على إختلاف طبائعهم وتقاليدهم أننـا يجب أن لا نسمح لشرور العالـم أن تدخـل الينـا، فنحن كالسفينة التى تحيـا فـى الـماء ولكنهـا لا تسمح لـماء البحر أن يتسرب اليهـا وإلاّ أغرقهـا.

وهكذا ينبغى أن يتوازن الإتجاهان فـى حياتنـا، فينبغى أن لا نغـالـى فـى تحقيـر قيمة حياتنا فى العالـم الى درجـة تصور لنـا أن حياتنـا هنا بلا نفع وبلا معنى. وينبغـى ألاّ نغالـى فـى الإهتمام بحياتنـا فـى العالـم الـى درجـة تصور لنـا أن حياتنـا هنـا هـى كل شيئ، فننسى الحيـاة الأخـرى البـاقيـة.

إن حياة الـمسيحـي فى العالـم فرصـة لخدمة الآخريـن، وهى فرصة للشهادة للـمسيح ليستعد الناس للحياة الأخرى، لكنها ايضاً فرصة للتـمتع ببركات اللـه التى خلقهـا لنـا وأغدقهـا علينـا. “فهو الذى يمنحنا كل شيئ بغنى للتـمتع بـه(1تيموثاوس17:6).

فالحيـاة الإجـتماعيـة والـماديـة لهـا مكان فـى حيـاة الـمسيحي، ونحن نصلّي للـه قائليـن:”لتكن مشيئتك كـما فـى السـماء كذلك على الأرض”، لذلك فلنستمع الـى نصيحة الرسول الذى قـال:”فـإذا كنتم تأكلون أو تشربـون أو تفعلـون شيئـاً فافعلـوا كل شيئ لـمجد اللـه”(1كورنثوس31:10).

_____________________

وسيلة نوال الحياة الأبـديـة

الدرجـة الأولـى : التصديـق

أي تصديق كلام الـمسيح وتعاليـمه ومواعيده الصادقـة الأمينة، فكم من الذين يدّعون الإيـمان وبـمعرفـة يسوع يسمعون أقوالـه ولا يصدقـونهـا. يعترفـون بأنهـم مؤمنون بـه ولكنهم يشكّون بصدق مواعيده.يدعوهم الـمسيح قائلاً:”تعالوا إليّ وأنا أريحكم”(متى28:11) فيذهبون الى غيـره ولا يرتكنون على قوتـه فـى إراحتهـم. ينادي قائلاً:”كل من يقبل إلـيّ لا أخرجـه خارجـاً”، فلا يقبلون اليـه بل يخافون منـه.

يقول:”أنـا هو الطريق والحق والحيـاة”، فيتخذون طرقـاً كثيرة لنفوسهم عاقبتها طرق الـموت، ومن جهة يحسبون ذواتهم مؤمنين بـه ومن أخرى لا يصدقون كلامـه.

وإذا كان أصعب شيئ على الإنسان ذاتـه هو عدم ثقة الغيـر بقولـه، فكم يصعب ذلك على يسوع الأميـن الصادق؟

إذا شعر إنسان بأنـه خاطئ وتأكد من الهلاك والـموت بسبب خطيئتـه ثم سمع من أحد الكهنة بأن يسوع أتـى ليخلّص ما قد هلك ومن يؤمن بـه يخلص من خطايـاه وأنـه مستعد لقبول أشقى الخطأة كـما قبل اللص فى ملكوتـه، فصرخ قائلا:ً أنا أصدق كلامـه ووعده وأثـق بـه ولا أخاف من الخطيـّة بعد، وقال يسوع هـو لـي وأنـا لـه- فهذا إنسان مؤمن بيسوع كـمخلّص.

الدرجـة الثانيـة: الإلـتجـاء إلـى إبن اللـه

لقد وثقت بصدق كلام يسوع وصدقت مواعيده فأظهر حقيقة هو أنك تلتجئ اليـه حالاً لتخلص من غضب اللـه ومن سيف عدل اللـه – فتعال اليـه بكل قلبك فيخلّصك.

لقد رتّب اللـه قديـماً مدن ملجأ لشعب اسرائيل لكي يلتجئ اليها القاتل ويخلص من ولـيّ الدم وكانت هذه الـمدن الـملجأ الوحيد لحماية القاتل من الـموت، فإذا صدق بوجودهـا وفائدتهـا ولـم يذهب اليهـا فـما الـمنفعة لـه، لهذا كان يقتضى العقل انـه بعد معرفتـه بوجودهـا وفائدتها أن يذهب اليهـا ويحتمي. ومن اكتفى بالتصديق بوجودها وفائدتها ولكن قال لا لزوم أن ألتجئ اليهـا، كان يُقتل من ولـيّ الدم، أما إذا إلتجئ اليهـا كان ينجو ويحيـا(تثنية الإشتراع19). هكذا الرب الإلـه من رحمتـه الواسعة وحنوه الأبوي علينـا نحن الخطأة عيّن لنـا ملجأ أمينـا لحمايتنا من الغضب الإلهـي. وقد كانت مدن الـملجأ رمزاً اليـه، فالخاطئ الذى يصدق ويلتجئ تُغفـر خطيتـه ويخلص من الـموت الأبدي وينال الحياة الأبديـة. فالـمرأة الخاطئة التى أتت الى الـمسيح وسكبت الدموع على قدميـه حتى بللتهـا بدموعهـا ومسحتهـا بشعر رأسها قد شعرت بثقل حِمل خطاياهـا الكثيرة وصدقت أن الـمسيح غافر الخطيـة والإثـم والـمعصيـة، فإلتجأت اليـه وسكبت الدموع الغزيرة على قدميـه فنالت الحياة الأبديـة وغفران خطاياهـا وما عاد إليـها خوف من عدل اللـه الذى أوفـاه الـمسيح حقـه عنهـا(لوقا37:7-50). فأجرة الخطية موت والنفس التى تخطئ هى تموت وهذا حسب العدل ، ولا يوجد هناك أمن لـمن يخطئ من الـموت إلاّ بالإلتجاء الى هذا الـملجأ الأمين الذى ينادى قائلاً:”من آمن بـي ولو مات فسيحيا وكل من كان حيـّاً وآمن بـي لن يذوق الـموت الى الأبـد”(يوحنا25:11-26) ونرى كذلك أن الـمسيح وبّخ الذين لـم يلتجئوا اليـه قائلاً:”ولا تريدون أن تأتوا إلـيّ لتكون لكم حيـاة”. إذاً الحياة بالإتيان اليـه لأنـه الـملجأ الوحيـد. وهذه هـى الدرجـة الثانية من الإيـمان، فالدرجـة الأولـى أي التصديق لا تكفى لأن “الشياطين يؤمنون هكذا ويقشعرون”، ولا ريب فعندهم كلامـه ولكنهم لا يلجأون اليـه بل يقاومونـه على الدوام.

الدرجـة الثالثـة: الإلتفات الدائـم إليـه وحده

لأنـه معطى الحيـاة الأبديـة والـمخلص الوحيد لأن الآيـة التى تقول

“من لـه الإبن” والذى قد قال “من آمن بـي”،لهذا يدعونـا الرسول قائلاً:”ناظريـن الـى رئيس الأيـمان ومكـمله يسوع”(عبرانيين2:12).

وقد قال الرب بلسان اشعيا النبي:”التفتوا إلـيّ وأخلصوا يا جميع أقاصي الأرض لأنـي أنا الرب وليس آخـر”(اشعيا23:45). “التفتوا إلـيّ” وليس الى العالـم. فإذا كان هناك من يصدق كلام الرب ومواعيده ويلتجئ اليه هارباً نحو الـملجأ الأمين من الغضب الآتـى ولكن لا يكون نظره دائـماً الى يسوع كحبيبـه ولا يلتفت الى الأمام نحو موضوع إيـمانـه لينال مواعيد اللـه العليـا،بل يلتفت الى الوراء يخشى أن يكون إيـمانـه غير قلبي وربما لجأ اليه لأجل غايـة جسديـة كالذين قال الرب عنهم”تبعتمونـي ليس لأنكم رأيتم آيات بل لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم

(يوحنا26:6). والخوف أن يصيبـه ما أصاب امرأة لوط التى صدقت قول الـملاك بخراب سدوم وعرفت مكان الـملجأ لحياتهـا ومشت مسافة نحوه ولكنها حولت نظرهـا عنـه والتفتت الى الوراء نحو ملذات سدوم وخيراتهـا فصارت عمود ملح(تكوين26:19). وهكذا أنت أيهـا الأخ العزيز قد صدقت وأتيت الى الـمسيح كـملجأك الوحيد فأنظر اليـه دائـماً لا تحوّل نظرك عنـه الى غيـره ولا تلتفت نحو العالـم وإنسى ما وراء وأمتد الـى الأمام إن كنت قد قمت مع الـمسيح فاهتم وأطلب ما فوق حيث الـمسيح جالس عن يمين اللـه، فلا يكفى لنوال الحياة الأبديـة والخلاص من سدوم العالـم انك تلجأ الى يسوع وتنظر الى غيره.تحضر فى كنيسته وقلبك فى لذّات العالـم وأفكارك فى الأشياء الدنيويـة الفانيـة. تقترب اليه بالصلاة ولكن بالجسم فقط لا بالروح، بعبادة طقسية خارجيـة ليست روحيـة لأن أفكارك شاردة فى أمور أرضيـة “اللـه روح والذين يسجدون لـه فبالروح والحق ينبغى أن يسجدوا”(يوحنا24:4). فالتفت اليـه وأخلص ايهـا الحبيب “لأن اللـه لـم يجعلنـا للغضب بل لإقتنـاء الخلاص بربنـا يسوع الـمسيح”. التفت الى يسوع بعين إيـمان حي فيخلصك ويقول لك” مغفورة لك خطاياك، إيـمانك خلّصك اذهب بسلام”، “لأن كل من يؤمن بـه لا يهلك بل تكون لـه الحياة الأبديـة”.

أنظر الى صليبـه كما نظر اللص وقال:”اذكرنـي يارب متى أتيت فى ملكوتك”(لوقا42:23) فيقول لك: “الحق أقول لك اليوم تكون معي فى الفردوس”(لوقا44:23) وتدخـل الـى الحيـاة الأبـديـة.

الدرجـة الرابعـة: الـتمسك بيسوع

عند الأخطار وفى الضيقات نتمسك بيسوع كصخر الدهور الأزلـي، اي التمسك بـه من كل القلب. فتمّسك بـمخلصك أيهـا الـمؤمن عند وقوعك فى الضيق والخطر كيعقوب وقل “لا أتركك إن لـم تباركنـي”

( تكوين26:32). لقد ذُكر فى الكتاب الـمقدس عن واسطة خلاص الـمذنب غيـر مدن الـملجأ (وهـى عامـة لكل ذنب) وهـى الـتمسُك بقرون الـمذبح فى هيكل الرب،فمتى ركض الإنسان الى الـمذبح وتمّسك بـه كان فـى أمان من الـموت. وأنت أيهـا الإنسان الخائف من الغضب الإلهـي أهرب لحياتك الى الـملجأ يسوع وتـمسك بقرون مذبح صليـبـه الـمبارك فتخلص من الـموت الأبدي والهلاك.

أنت غارق فى بحر هذا العالـم الـمتلاطم بأمواج الخطيـة وأمامك صخر كبير ثابت قريب منك فأركض اليـه وتمسك بـه بكل قوتك لكي لا تغرق فـى بالوعـة اليأس التى تحدرك الى قاع الهلاك. أنظر هـا هـو أمامك، أمسك بـه بيد إيـمانك ولا تتأخر، تـمثّل ببطرس الذى لـما خاف وابتدأ يغرق نظر الى يسوع ومد يد الإستغاثـة اليـه صارخـاً “يارب نجّنـي” (متى20:14)فحالاً مدّ يسوع يده القويـة وأمسك بـه وأنقذه من الغرق، فيستطيع يسوع أن يخلصك الآن فـى الحـال، مـدّ يدك بالإيـمان نحوه لأنـه قريب منك وقل يارب نجّنـي لأنـى احتميت بك وماسك إيـاك.

تـأمـل اأهـا الـمؤمن فى تلك الـمرأة النازفـة الدم التى آمنت بصدق بقوة الـمسيح على الشفاء والتجأت اليـه ونظرت الى شخصه المحبوب بين كل الجماهير كأنهـا لـم تنظر غيره ولكنهـا لـم تكتف بذلك بل مدّت يدهـا وتـمسكت بهدب ثوبـه فشفيت حالاً (لوقا43:8) من دائهـا الـمميت مع انهـا كانت قد لجأت الى أطباء كثيرين من الناس وأنفقت كل ما عندهـا ولـم تستفد شيئـاً بل صارت الى حال أردأ، لكن لـما أتت الى هذا الطبيب الشافـي ولـمست هدب ثوبـه شفيت حالاً.

فيـا مريض الخطيـة التى تسبب لك الـموت الأبدي أنظر الى يسوع طبيبك وتـمسك بحبال رحمته فتبرأ، لا تلتفت الى غيره بل أمسك بالحياة الأبديـة التى دُعيت اليهـا وجاهد جهاد الإيـمان الحسن فتنال الحياة الأبديـة بيسوع.

الدرجـة الخامسة: الإتكال على يسوع بثبات الى النهايـة

لأنـه القادر على خلاصك كما يقول لك”كن أميناً الى الـموت فسأعطيك أكليل الحياة”(رؤ10:2). والآن فلنأخذ مثالاً لإظهار هذه القضيـة فشعب اسرائيل الذين خرجوا من مصر بالإيـمان واجتازوا فى البحر الأحمر واعتمدوا لـموسى بالإيـمان وأكلوا طعاماً روحياً وشربوا شراباً روحياً لكن أكثرهم طُرحوا فى القفر وهلكوا فى البريـة لعدم ثباتهم فـى الإيـمان وخوفهم من كنعان وعدم إتكالهم على الرب، فصدقوا وعد اللـه بإخراجهم من مصر وإلتجأوا اليه فى ضيقهم وصرخوا عارفين ان لا ملجأ من يد فرعون إلاّ الرب ونظروا اليـه بواسطة عمود النار وعمود السحاب الذى كان يسير أمامهم وتـمسكوا بـه عند الأخطار لـما كانوا فى وسط البحر الأحمر معرضين للغرق. لكن بعدم ثباتهم فى الإتكال على اللـه عند إقترابهم الى كنعان بسبب خوفهم من سكانهـا، فلم يدخلوا لعدم إلإيـمان مع انهم كانوا مؤمنين أولاً لكن عدم إتكالهم على الرب الى النهايـة هلكوا.

فأنصحك أيهـا الـؤمن أن تستودع نفسك وجسدك بيد فاديك يسوع وسلّم روحك اليـه واتكل عليه الى النهايـة أي الى نهاية حياتك فتدخل الحياة الأبديـة فـمكتوب”اتكل على الرب بكل قلبك وعلى فطنتك لا تعتمد فى كل طرقك اعرفـه وهو يقّوم سبلك”، وايضا “سلّم للرب طريقك واتكل عليـه وهو يجرى..”، فإن كنـا نسلّم قلوبنـا ليسوع ونتكل عليـه فهو يحفظهـا فـى حياة أبديـة، وعلينـا أن نتأكد من ذلك مقتديـن ببولس الرسول القائل:”لأنـنى عالـم بـمن آمنت وموقن انـه قادر أن يحفظ وديعتـي الـى ذلك اليوم” ، وأيضا بإسطفانوس الذى لـما وقع الضيق العظيم سلّمهـا ليسوع قائلاً:”أيهـا الرب يسوع أقبـل روحـي”( أعمال الرسل58:7).

“يـا سـيّد دعهـا هذه السنة أيضـاً”(لوقا8:13)

قال يسوع هـذا الـمثل:”كان لرجل شجرة تين مغروسـة فـى كرمـه. فجاء يطلب ثـمراً عليهـا، فـما وجد. فقال لكرّام: لـي ثلاث سنوات وأنـا آجئ الى هذه التينـة أطلب ثـمراً فلا أجد، فاقطعهـا، لـماذا نتركهـا تعطّل الأرض؟. فأجاب الكرّام: أتركهـا، يا سيدي هذه السنة أيضاً حتى أقلب التربـة حولهـا وأسمّدهـا، فإن لـم تثـمر فى السنة الـمقبلة فإقطعهـا”(لوقـا 6:13-8).

فـى عالـم أصبحت الحياة فيـه معقدّة متشابكة، حافلة بالـمشاغل والـمشاكل، وفى زمان يضيع فيـه الفرد وسط الزحام والضجيج، وأمام طبيعتنـا البشريـة التى تفتـر بسهولـة بسبب ضعف الجسد وميلـه الردئ الذى يثقل النفس ويصرف ميلهـا دائـماً الى ما هو أحطّ، ينبغى لنا أن نجدّد حياتنـا حذراً من التقاعد والتقهقر والرجوع الى الوراء، فالكنيسة الـمقدسة الساهرة على خلاص أبنائهـا، لـم تر وسيلة أحسن بهـا نخلع الإنسان العتيق ونلبس الجديد إلاّ فى هذه الطريقة الخلاصية الروحية ألا وهـى الرياضة الروحية الـمقدسة لأنهـا تتيح لنـا الفرصة لأن نفهم أنفسنـا ونعرف حقيقتهـا بلا رتوش وبلا خداع أو مغالطـة. كـما أنهـا فرصـة نحاسب فيهـا أنفسنا أمام اللـه، ونستعرض فيهـا ظروف حياتنا، ونعيد تنظيم خطوطهـا بصدق وصراحـة وجـد وصرامـة.

فــما أحوجنـا لهذه الفرصة الخلاصية لأنهـا تعاوننا على إستكشاف مواهبنـا وإمكانياتنـا وما فينـا من خبـايـا. أنهـا فرصة تساعدنـا على أن نستعيد صوابنـا الذى طار منـا فـى عالـم يبدو انـه مجنون.

أنـها فرصـة نسترجع فيهـا أنفسنـا التى تخلّفت عنـا ونحن نجرى فى سباق الحياة الدنيويـة لأن تيارهـا الشديد قد جرفنـا بلا هوادة ولا رحـمة.

ان الرياضـة الروحيـة هى كلمة اللـه التى تلقى علينـا من الروح القدس

فهى تحوى جملة أوامـر مفيدة وفرائض حميدة ونصائح رشيدة ومواعظ خاشعة وهـى عـمل حقيقي للنعمة الإلهيـة فى القلوب بواسطة الروح القدس الكليّ القدرة، ذلك العـمل الذى يسبقـه الشعور العميق بالخطيئة وتعقبـه التوبـة الصادقـة والتجديد الأكيد.

فنشكره تعالـى على هذه النِعم العظيمة طالبين منـه الإفادة والعمل بـما يقال فى هذه الرياضة الروحية الـمقدسـة.

وتأملنـا اليـوم سيكون فـى هذه الآيـة:

“يا سـيّد دعهـا هذه السنة أيضاً”.

بعـد كل مـا فعلـه يسوع لأجـلنـا..

بعـد كل مـا أظهـره نـحونـا من العـنـايـة..

بعـد كل مـا سـمعنـا من مواعظ ورياضـات..

ألا يـحق ليسوع وكنيستـه أن يجد فينـا آثـاراً للبـِر والصلاح؟

فـهـل وجـد يـا تُـرى شيـئاً؟

هناك شجرة تيـن مغـروسـة فـى كرم، يشرق عليهـا نور الشمس وتسقيهـا الأمطار، ولكنهـا لـم تحـمل ثـمراً مدة ثلاث سنوات.

مـا هـو عـمل شجرة التـين؟، أليس لتأتـى بثـمر؟

وإذا توقفت عـن الثـمر، هـل لهـا الحق أن تبقى فـى قيد الحيـاة؟

رب الكرمْ يقول:”اقطعهـا..لـماذا تعطّل الأرض؟”

ألا يكفـى انهـا غيـر مـثـمرة؟

ولـماذا نبقيهـا فتأخذ جزءاً من الكرم، وتمتص عصارة الأرض، وتصد بأوراقهـا العريضة حرارة الشمس عن الكروم فتـميتهـا!!

لا ريب أن الشجرة كانت تحمل أوراقـاً خضراء، ولو لـم يكن كذلك لـما انتظر صاحبهـا ثلاث سنين لكي تثـمر. ولكن الورق لا يكفـى.

الورق لا يـأخـذ مكان الثـمر..

إذاً…اقـطعهـا!

وإذا بالكرّام يتوسل الى صاحب الكرم قائلاً: “يـا سيّد دعهـا هذه السنة أيضاً حتى أعزق حولهـا وألقى سماداًً، فإن أثـمرت وإلاّ فتقطعهـا فيما بعد”.

نعـم يـا سيـّد أسـمعنـا صوتك هذه السنة أيضاً فـى هذه الفرصـة الخلاصيـة الـمباركـة.

نعـم يـا سـيّد كـم من رياضات مرّت ولا زلنـا شجرة تين بأوراق دون

ثـمر. “يـا سـيّد دعنـا هذه السنة أيضاً”.

وهنـا نستخلص أربـع حقائـق يجب أن تسترعى إنتباهـنـا:

الحقيقـة الأولـى: “مـن يُعطى له كثيـر ينتظر منه كثيـر”

إختار اللـه الشعب العبرانى ليحمل رسالته، وأسبغ عليه إمتيازات كثيرة كانت لهـا سلسلة من الزعامة الروحيـة، أمثال: ابراهيم وموسى وداود واشعيا وارميا وعاموس والـمعمدان ثـم الـمسيح. ولا تزال تعاليـم رجال اللـه أنواراً ساطعـة وسط عالـم مظلم، ولكن هذا الإمتياز العظيم لـم يأت بنتيجة صالحة فى أخلاق الشعب العبرانـى. فانـه كان يعطّل الأرض، وكان يعيق تقدم ملكوت اللـه سنة بعد سنة حتى صدق قول الـمسيح:”لأنكم تغلقون ملكوت اللـه قدام الناس فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخليـن يدخلـون”(متى12:23).

نلوم الشعب العبرانـى ولا نلوم أنفسنـا!

لـماذا لا ينطبق الـمثل على الكنيسة الـمسيحية؟، ألـم يخترنـا اللـه أعضاء فـى جسده السريّ أي الكنيسة؟، ألـم يغرسنـا فـى كرم ملكوتـه لنأتـى بثـمر؟

مـا هـى إمتيازات الشعب العبرانـى بالنسبة للإمتيازات التى لنـا؟

كـان عندهم أنبياء… أمـا نحن فلنـا إبـن اللـه

كـان عندهم ذبائح وغنم.. أمـا نحن فعندنا ذبيحة الـمسيح الكفّارة

العظيمة

كـان عندهم هيكل مادي.. أمـا نحن فلنا هيكل روحي حقيقي

رمـزي “أنتـم هيكل الروح القدس”

عندنـا كتاب اللـه وأسرار كنيسته،أولادنـا يولدون فى بيوت مسيحية، عندنـا حريـة العبـادة، نعيش فى البلاد التى أشرق فيهـا نور الـمسيحية.

فإذا كان اللـه يقول بحق عن اسرائيل:”ماذا يصنع بكرمـي وأنـا لـم أصنعـه”(اشعيا5:4).

اشهدي أيتهـا السموات والأرض يقول الرب:

– أنـى لـم أجعل الظلمة فى أرض مصر وأحوّل نهارهم الى ليل مظلم، إلاّ لأنهم كانوا قد حوّلوا ليل شعبي الـمعطى لهـم للراحـة الى نهار بمشقات الأعمال وعدم الرقاد..
– أنـي لـم أتلف أشجارهم ومزروعاتهم بالبَرد والجراد وأجعل أرضهم مجدبـة إلاّ ليعتريهم الجوع كـما صنعوا بشعبي..
– أنـى ما بعثت ملاكي يقتل أبكارهم إلاّ لأنهم أحبوا قتل أبكار شعبي اسرائيل..
– أنـى لـم أضيّق عليهم بالضفادع إلاّ لأنهم اضطروا شعبي أن يكون غائصاً فى الطين كالضفادع..
– أنـى مـا حوّلت مياههم الـى دم إلاّ إنتقامـاً لدم أطفال العبرانيين الغرقـى فـى الـمياه..
– انـى لـم أغرق فرعون وفرسانه ومركباتـه فى البحر الأحمر إلاّ لأنهم غرّقوا شعبي الـمظلوم فى بحر دموعـه..
مـاذا وجب أن أصنـع لشعبـي ولـم أصنـعـه؟

_ أمـا جعلت لهم ملاكي قائداً كعمود نور يظللهم نهاراً من حر الشمس ويضيئ لهم ليلاً؟

– أمـا أنزلت لـهم الـمنّ فـى البرّيـة لقـوتهم؟
– أمـا أخرجت لهم مـاءً من صخرة يتبعهم فى مسيرهم مدة أربعين سنة؟
– أمـا وعدتهـم بأرض تدرّ لبنـا وعسلاً أرض الـميعاد.
ذلـك كلـه صنعـتـه لـشعـبــي..

و”قـد تركـونـي أنـا ينبوع الـماء الحـي واحتفروا لهـم أباراً مشققة لا تضبط الـماء”(أرميا13:2).

أحكـمي أيتهـا السماء عليهـم بـما يستحقون وأقضي أيتهـا الأرض بالعدل على شعبـي..

وكـما تشكّى الرب فى القديم من بنى اسرائيل، هكذا يتشكى اليوم من الـمسيحيين ويقول:”ربيّت بنين وشرفتهم وهـم تـمرّدوا علـيّ”

تـمرّدوا علي بالكبريـاء

“التى هـى ينبوع كل الخطايا ومن رسخت فيه فاض أرجاسـاً (يشوع بن سيراخ15:10). كـما فعل آدم ” تصيران كآلهة عارفين الخير والشر”(تكوين5:3)،وبانى برج بابل “وقالوا تعالوا نبن برجاً رأسه الى السماء”(تكوين4:11)، وفرعون مصـر “من هو الرب فأسمع لقوله”(خروج2:5)،وجليات”ولعن الفلسطيني داود بآلهته”(1ملوك43:17).

تـمرّدوا عـليّ بـمحبـة الـمال

كـما فعل بلعام. وجيحزي (4ملوك20:5)،وحنانيـا وسفيرة

(أعمال1:5-4).

تـمرّدوا عـليّ بالحسد

كـما فعل قايـين “فلما كانا فى الصحراء وثب قايين على هابيل ـخوه فقتله” (تكوين8:4)، وأخوة يوسف “فحسده اخوتـه”(تكوين11:37)

وهيرودس”فلـمّا سمع هيرودس الـملك إضطرب هو وكل أورشليم معه”

(متى3:2).

تـمرّدوا عـليّ بالشهوة الرديـئة

كـما فعل شمشمون “ثم إنطلق شمشون إلـى غزّة فصادف امرأة بغياّ فدخل عليهـا”(قضاة1:16).

وداود الـملك”فرأى عن السطح إمرأة تستحم وكانت الـمرأة جميلة جداً. فأرسل داود رسلاً وأخذهـا فدخلت عليه فدخل بهـا..وحملت الـمرأة”

(2ملوك2:11-5).

الحقيقـة الثانيـة: يحق للـه أن ينتظر ثـمراً ممتازاً من شجرة تتمتع بمثل هذه الإمتيازات

فـما هـو الثـمر؟

الإجـابـة فـى كتاب اللـه:

“وأمـا ثـمر الروح فهو محبـة-فرح-سلام-طول الأنـاة-لطف-صلاح-إيـمان-وداعـة-عفاف”(غلاطية22:5-23).

“قدمّوا فـى إيمانكم فضيلة، وفى الفضيلة معرفـة، وفى الـمعرفـة العفاف، وفى العفاف الصبـر، وفى الصبـر التقوى، وفـى التقوى مودة أخويـة، وفى الـموّدة الأخويـة محبـة”(2بطرس5:1-7).

فـهل يجد اللـه فينـا هذه الثـمار؟

أم على الرغم من جميع الإمتيازات لا نزال كبفية البشر أنانيين، محبين للـماديات، نطلب إرضاء أنفسنا ومنفعتنا الشخصية وخدمة ذواتنا ومصالحنا لا خدمـة الـمجموع؟

هـذا سؤال خطيـر يتوقف عليـه مصيـرنـا الخالـد.

إذن..هـل كنت شجرة تحمل ورقـاً أم ثـمراً؟

هـل كنت تاجراً غيـر مـثـمر؟

هـل كنت معلـماً غيـر مـثـمر؟

هـل كنت طالبـاًً غيـر مـثـمر؟

هـل كنت موظفـاً مـثـمر؟

تـذّكروا ان الورق لا يكفـى، والظاوهـر لا تنفع.

نـريـد ثـمراً..شجرة بلا ثـمر تعطّل الأرض وتسبب ضرراً لغيـرهـا.

إيـاكم أن تـمنعوا نور الشمس عن غيـركم بظل الشرور والتأثيـر السيئ.

إن كـل شجـرة لهـا ثـمرتهـا الخاصـة..

وكل أمـّة لهـا ميـزتهـا الخـاصـة:

فالعبرانيـون لهم عقيدتهـم بـإلـه واحـد

واليونانيـون لهـم فنونهـم وشعورهم الحي بالجـمال

والرومانيـون لهم نبوغهم فى القانون والنظام وإدارة الـمحاكم.

وكـل فـرد لـه مواهبـه الـخاصـة:

فرجال اللـه لهـم مواهبهـم الخاصـة:

فهـارون يخدم اللـه ببلاغته الخطابيـة

وموسى بقيادتـه العجيـبة

وأرميـا يتنبـأ، وبـاروخ يقرأ النبّوة على الشعب، وبولس يغرس ، وأبلّوا يسقي..وغيرهـم.

شخص عنده خمس وزنات وآخـر وزنتان وآخر وزنـة. أشخاص مختلفون لهم مواهب مختلفة استعملوهـا فأثـمرت.

وكـل عضو فـى الكنيسة لـه موهبته الخاصـة:

فالبعض يثـمرون بقوة قلـمهم

وآخـرون يثـمرون بقوة لسانهم وبلاغة كلامهـم

وآخـرون يثـمرون بجمال أصواتهـم

وآخـرون يثـمرون بفقرهم وإحتمالهم صدمات الحياة بصبر وإيمان

وآخـرون يثـمرون بثروتهـم وسخائهم فـى العـطاء

وآخـرون يثـمرون بقدوتـهـم الصالـحة

وآخـرون يثـمرون بالوعظ والإرشاد

وآخـرون يثـمرون بتهذيب نفوس الصـغار

وآخـرون يثـمرون بتخفيف آلام الـمرضى

وتـاريخ الكنيسة حـافـل بأشجار التين الـمثـمرة.

الحقيقـة الثالثـة: اللـه ينطق بحكم الهلاك على الذين لا يثـمرون

“كل شجرة لا تثـمر ثمراً جيداً تقطع وتلقى فـى النار”(متى19:7)

“إن كان أحد لا يثبت فيّ يُطرح خارجاً كالغصن فيجف فيجمعونـه ويطرحونـه فـى النتر فيحترق”(يوحنا6:15).

ولشجرة التيـنة يقول: هوذا ثلاث سنين آتـى أطلب ثمراً ولم أجد..اقطعهـا”(لوقا7:13).

لقد منح اللـه إمتيازات كثيرة للأمـة اليهوديـة ولكنهـا كانت شجرة تين عديمة الثـمر، لذلك خربت أورشليم وأعطيت بلادهم لآخريـن وتشتتوا فى جميع بلدان العالـم، فـهل يصدق هذا القـول على كل كنيسة لا تأت بثـمر؟

الحقيقـة الرابعـة: الحكم على شجرة التين بالقطع لـم ينفذ فوراً

لقد قال القاضي:”اقطعهـا”، ولكن جاء صوت الشفيع الحنون يتوسل

“يـا سيـّد دعهـا هذه السنة أيضاً حتى أعزق حولهـا وألقى دمالاً”

وإن كانت “أجرة الخطيـئة هـى موت”(رومية23:6)، إلاّ ان صوت الرحمة والنعمة يطلب عدم التنفيذ ويعطى فرصة “هذه السنة أيـضاً”

نعـم هذه الشجرة العقيمة هى صورة حياتـي، اللـه غرسني فى أرض كنيسته، من يوم وجدت فى هذا العالـم، أقامني بالقرب من ينابيع مراحمه ونعـمه. وكنت أستطيع كل يوم أن أستقي من مياه الخلاص فلقد سقانـي غارسي الإلهـي بدموعـه ودمـه.

ألـم يـبكي بسببـي؟

والأسرار التى اقتبلتهـا ألـم تكن فاعليتهـا من إستحقاقات آلامـه ومـوتـه ودمـه الـمسفوك حبـاً بـي؟

ومن وقت ولادتـي، أدخلني الرب ميراثـه، وقد حذّرنـي من أن يأتـى دور الكبريـاء وحب الذات فيفسد تلك الأثـمار، ونبهـني انـه لا يدوم إلاّ ما أكون قد فعلتـه لوجههـه تعالـى ولـمجده الأعظـم.

أيهـا الأحبـاء..

امـامكم الآن فرصة خلاصيـةفإكتسبوهـا. ربـما كانت يـد القضاء

سترتفع لتقول “اقطعهـا”، ولكن يـد الرحـمة استبقت الشجرة هذه السنة ايضاً علهـا تثـمر وتنجو من الهلاك الـمحتـوم.

“فاليـوم إن سمعتم صوتـه فلا تقّسوا قلوبكم”(عبرانيين7:3)..

أعـنـّا يـا إلـهنـا..اننـا بنعمة منك ولحبك لنـا، قد انتقلنا من حضن أمنـّا الى حضن كنيستك الـمقدسة حيث إغتذينـا بخبـز الحياة. كـم وهبتنـا من النعـم، وكـم أفضت علينـا من الإلهامات والتعاليـم الخلاصيـة، فبكل حق تقول لنـا: “ماذا كان ينبغى أن أفعلـه ولـم أفعلـه” وللأسف الشديد، اننـا لـم ننتج إلاّ أوراقـاً لا نفع لهـا ولـم يكن فينـا سوى مظاهـر الفضيلـة.

نعـم يـا إلهـي..هذا كل ما تجده فينـا، بعد كل ما فعلت واحتملت وقاسيت لأجلنـا. سامحنـا يا إلهنـا وأشفق علينـا.

أنـر عقولنـا لندرك سوء الحالـة التى أوصلنـا اليهـا تكاسلنـا عن القيام بواجباتنـا وتجاهلنـا ما كنتَ تأمرنـا بـه أو تلـهمـنا إيـاه.

نعـم يارب إن لومـك فـى محلّه وحكمك عادل وصبرت كثيـراً علينا ونحن نقر الآن ونعترف بأننـا لـم نتمم مقاصد حبك وعنايتك، ولكن بدالـة البنـوة نصرخ اليك قائليـن:دعـنا يـا سـيّد هذه السنة أيضاً ولك كل الشكر والـمجد إلـى الأبـد آميـن.

__________________
الـعـودة

“رجع إلـى نفسه وقال كـم من أجيـر لأبـي يفضل عنـه الخبز وأنـا ههنـا أهلك جـوعـاً”(لوقا10:15)

دوافـع الرجـوع إلـى النفس

1. الرجـوع إلـى اللـه

لـم يرجع الإبـن الضال الـى نفسه إلاّ بعد أن رجع الـى اللـه. قال الرب:”ارجعوا عن طرقكم الردّيـة واحفظوا وصـايـاه”(2ملوك13:17)، وقال ايضاً:”ارجعوا كل واحد عن طريقـه الرديّ وأصلحوا طرقكم وأعـمالـكم”(ارميا11:18). والرجوع الـى النفس والـى اللـه ينقذ الإنسان:”أعدّوا قلوبكم للرب وأعبدوه فينـقذكم”(1صموئيل4:7).

2. يقظـة الضـميـر

استيقظ ضـمير الإبن الضال وأحسّ بالـهوّة العـميقة التى تردّى إليهـا فرجع

الـى نفسه. قال بولس الرسول:”أدرّب نفسي كل يوم ليكون لـي دائـماً ضـمير بلا عثـرة من نحو اللـه والناس”(أعمال16:24) و ايضاً

“ويُظهرون عـَمل الناموس الـمكتوب فـي قلوبهم وضـميرهم شاهد وأفكارهم تشكو أو تحتج فيـما بينهـا”(رومية15:2)،

“حافظين سرّ الإيـمان فـى ضمـير طاهـر”(1تيموثاوس9:3).

3. الـمقارنـة بيـن الحـاليـن

قارن بين عهديـن، عهد البنـوّة وعهد العبوديـة فقال:”كـم من أجيـر لأبـي يفضل عنـه الخبز وأنـا هنا أهلك جوعـاً…”، وهكذا نحن نهلك جوعـاً إذا ابتعدنـا عـن اللـه.

4. الـمذلّـة والـمهـانـة

كثيـراً مـا تكون التجارب لنـا دافعاً قويـاً للرجوع الى اللـه. قال بطرس الرسول:”لأنكم كنتم كخراف ضالـة لكنكم رجعتم الآن الى راعى نفوسكم وأسقفهـا”(1بطرس25:2). كان القديس بطرس فى السجن مقيداً بسلاسل فكانت التجربـة لـه دافعـاً للرجوع الى النفس “فقال بطرس وهو قد رجع الى نفسه: الآن علمت يقينـاً أن الرب أرسل ملاكـه وأنقذنـي من يـد هيرودس”(أعمال11:12).

بـركات العـودة إلـى اللـه

1. عودة إلـى الخيـر

عاد إلـى نفسه وإلـى اللـه فعادت أليـه خيـرات الشبع والرخـاء.

2. عـودة إلـى إمتيازات البـنوّة

“فقال الأب لعبيده أخرجـوا الحـُلّة الأولـى وألبسوه وأجعلوا خاتـماً

فـى يده وحذاء فـى رجليـه وقدموا العِجل الـمسّمن واذبحوه فنأكل ونفرح”(لوقا22:15).

3. عودة إلـى فرح حضن الآب

“كان ينبغـى أن نفرح ونُسـر لأن أخاك هذا كان ميتـاً فعاش وكان ضالاً فوجد”(لوقـا 29:15).

_________________________

مـحبـة القـريب

“إذا أخطـأ اليك أخوك فاذهب وعاتبـه بينك وبينـه وحدكـما، فإن سمع لك فقد ربحتَ أخـاك”(متى15:18)

متى إجتمع قلب مُحب،وعقل مدرك يريد الخيـر، وكلام عذب حنون وود نشأت فـى الإنسان مجموعـة من الفضائـل تجعل حياتـه مع الآخـريـن حيـاة الـمحبـة، وتنمّى فى الـمجتمع السلام والآمـان، وتشفى الآلام التى تنشأ من الإحتكاك الـمتواصل بين الأخوة.

ان مـمارسـة الفضائل توحد القلوب وتنشر السلام فـى الـمجتمع، ومن تلك الفضـائــل:

1- التسـامـح

التسامح هو البحث الذكي لتفسير الأخطاء، وإلـتماس الأعذار للـمخطئ حتى يعاونـه على الخلاص من سقطاتـه وضعفاتـه لنحافظ على ربط الـمحبة ووحدانيـة القلب. وبهذا يوصي بولس الرسول “أن نسلك كـما يحق للدعوة التى دعينـا بهـا بكل تواضع ووداعـة وبطول آنـاة محتملين بعضنـا بعضاً فـى الـمحبة”(كولوسي12:3).

2- الإحـتمـال

صاحب هذه الفضيلة لا يتابع أخطاء الآخريـن ونقائصهم بشراهـة، ولا

يغضب إذا وُجهت اليـه الإساءة، بل يبتسم للإهـانـة وكأنـه لـم يسمع لهـم ولـم يرى.

لإكتساب هذه الفضيلة ذكر أحد الأبـاء انـه:”اذا كنت فى خلوتك وتذّكرت ان إنسانـاً أساء اليك وأحزنك، فقم فى الحال وصلّ من أجلـه من كل قلبك أن يغفـر اللـه لـه. وبذلك تنطفئ عنك محبة مجازاة الشر بالشر”. وقال ايضاً:”ان شتمك انسان فلا تجبـه حتى يسكت. وفتش فى نفسك بخوف اللـه فإنك سوف تجد ان ما قد سمعتـه كائن فيك وان العِلّة هى منك، وأذكر ان الرب يسوع من أجلك علّق على خشبة، ومن أجلك شتم، ومن أجلك سقي خلاً وسُـمّر بالـمساميـر، وقبل اللعنـة من أجلك، فعليك بإحتمال كل شيئ يلّـم بك بطيبـة نفس”.

ان الـمحبـة الكاملة تظهر عندما يعتقد الإنسان فى نفسه أنـه خاطئ وانـه ما عـمل شيئاً من الخيـر أمام اللـه، والآّ يعتبـر نفسه شيئـاً، وأن يرفض هواه، وأن يكون مستعداً إزاء كل كلمة يسمعهـا أن يقول: أغفـر لـي.

3- الإبتسامـة والبشاشـة

هذه الفضيلة لهـا فاعليتهـا مع الآخرين. فالإبتسامة التى تعلو شفتي صاحبهـا

تريح الذين يقربون منـه. وقد لا تكون إبتسامة عريضة بل بشاشة. انها تعبير عن نفس محبـة تريد أن تستقبل الآخرين إستقبالاً ودوداً. هذه النفس البشوش الـمبتسمة تعـمل بكلمات بولس الرسول:”أفرحوا فـى الرب”(فيليبي1:3). انهـا بشوشة حتى فى حزنهـا لأنهـا تكتمه حتى لا يتسرب الى الآخرين فيضايقهم.

أن أحاديث هذا الإنسان البشوش سارة، تشرح الصدر وتدفـئ القلب. انـه يتكلم من فضلة قلبه الصالـح الـمحب الـمتحد بإلـه الـمحبة.

4- إحترام آراء الآخـريـن

الإنسان الذى لا ينسى إحترام آراء الآخـريـن يرفع بشأنهم ويقويّ شخصياتهم. وهذه الفضيلة تنمو بحسن الـمعاملة وتثـمر بإحترام الآخرين لأنهـا تدرب صاحبهـا على طول الآنـاة والصبـر.

5- حسن التفاهـم

حسن التفاهـم سياسة حكيمة بناءة. انهـا تساعد فى بناء وحدانيـة الروح الـمسيحية فى الكنيسة بإزالـة أسباب الخصام والغضب. حسن التفاهم هو وليد الـمحبة فهو ليس ضعفاً أو إمتناعاً عن مواجهة الحقائق وإنـما سلوكاً لإنهـاء التمناقشات الرديئـة. فالـمتفاهـم يسمع ويجيب بطول آنـاة مهـما كان السؤال منفراً.

6- الإسـتماع لرأي الغيـر

ان الذى يستمع للغيـر بإهتمام وسلام وإنتباه يولد السرور فى قلب محدثـه، ويجذب ثقتـه وراحتـه.

كـما ان الإهتمام بالإستماع لآراء الآخريـن بغيـر تصنع أو تكلف يولد فى النفس التواضع

والوداعـة والبساطـة.

ان إحترام رأي الغيـر ينمى الصبـر، وحسن التفاهم بين الأفراد، ويوصل الى حلول سليمة مجزيـة.

7- آداب الليـاقـة والـمعاشـرة

نستطيع أن نسمي هذه الفضيلة ثوب الـمحبة. ويمتاز صاحبهـا بالعنايـة الدقيقة والرقيقة للآخريـن والعطف والـمودة. ان النسيان والإحتقار وعدم الإكتراث تجرح وتؤذى، أما الـمعاملة بلياقـة وأدب وإكرام تولد الحب والسرور فى النفس. كثيـراً ما تـتستر الـمحبـة الناقصة برداء الإفراط فى مظاهـر آداب اللياقـة والـمعاشرة، ولكن هذه الـمحبـة لن تدوم. وقصارى القول ان الفضائل التى ذكرناهـا قويـة التأثيـر فى نفس من يمارسها لأنهـا تعطى ثـماراً طيبـة، وتنتج وحدانيـة الروح للأسرة والكنيسة.

فالوداعـة زهرة الـمحبـة الأخـويـة، والإحتمال والبشاشـة وإحترام

آراء الآخـرين هو عرفهـا وطِيبهـا، والـمعاملـة بلياقـة والـمعاشرة الطيبـة عطاء بسرور “والـمعطى الـمسرور يحبـه الرب”.

8- محبـة القريب بأن تفرح لخيـره

من الـمعتاد اننـا نحزن لحزن اخوتنـا، ونتألـم لألـمهم، ونعزيهم فى حزنهم، وهذه هـى أفعال الـمحبـة الخارجيـة. ولكن هل نفرح لفرحهم ونسر لنجاحهم؟. قـد يبدو ذلك سهلاً ولكنه نادر الحدوث. فكثيراً ما نتألـم ونقلق إذا نجح أخونـا أو قريبنـا فى أمر مـا، لأننا نحب أن يكون هذا النجاح من نصيبنا نحن بدلاً منـه. هذا الشعور يـمليـه علينا الحسد وروح الحقد والأنانيـة. وهذا التصرف بعيد عن روح التقوى، فلتكن محبتنا قويـة وروحيـة، تفرح لخيـر الآخرين كما يقول الرسول:”فرحاً مع الفرحين وبكاء مع الباكين”(رومية15:12). ولعلاج مشاعرك الخاطئة أشكر اللـه على النعم التى أعطاهـا اللـه إيـاه، وأطلب بإخلاص أن يحفظهـا اللـه لـه. واللـه من أجل محبتك هذه يهبك نعمة البركـة والسلام والفرح الداخلي ويمنحك نجاحـاً. درّب حياتك على هذا السلوك بـمداومـة قراءة الإصحاح الثالث عشر من رسالة معلمنا بولس الرسول الى أهل كورنثوس عن الـمحبـة.

9- محبـة القريب بـمشاركـة آلامـه

مشاركة الألـم هو أن يقترب الإنسان بقلبـه من قلب متألـم ويأخذ لنفسه جزءاً من ذلك الألـم، ليخفف عن ذلك القلب الحزيـن. ولذلك يوصينـا الروح القدس قائلاً:” بكاء مع الباكين”.

ان السيد الـمسيح يشرح مجازاة الأبرار الذين شاركوا الـمتألـمين فـى ألامهم فيقول:”تعالوا يا مباركي أبـي رثوا الـملكوت الـمُعد لكم..لنـى جعتُ فأطعتمونـي، وعطشتُ فسقيتمونـي، كنتُ غريبـاً فآويتمونـي، عريـنـاً فكسيتمونـي، مريضاً فزرتمونـي، محبوساً فأتيتم إلـيّ. فيجيبه الأبرار حينئذ قائلين يارب متى رأيناك….فيجيب الـملك ويقول لهم بـما انكم فعلتموه بأحد أخوتـي هؤلاء الأصاغر فبـي فعلتم..”(متى34:25-40).

لقد أوضح السيد الـمسيح بقولـه هذا أنواع الـمشاركة فـى الألـم. إذن لا تدع أحداً حزينـاً إلا وأسمعتـه كلمة رقيقة من القلب للقلب، وإعتـن بـه عنايـة روحيـة، ولا تدعـه يتركك إلاّ وقد شاركته آلامـه بقدر طاقتك فيحسب لـه ذلك براً.

10- محبـة القريب بعـمل الخيـر لـه

عـمل الخير هو محصلّة العطف والرِقـة، وطول الآنـاة والصبـر

والإحتمال. فعل الخيـر هو عمل المحبـة ويسمو على الإيمان والرجاء.

لكى تقوم بـما تفرضـه عليك الـمحبة إليك بعض الـممارسات:

1. إهـتم بحياة القريب الروحيـة

اجتهد أن يعيش معك بروح التقوى، روح التفانـى، والروح الطيبـة.

– خصص جزءاً من صلاتك اليوميـة لتذكر أقرباءك وأتعابهم وآلامهم وضيقاتهم. أطلب الـى الرب من أجلهـم كـما من أجل نفسك.
– شجع قريبك على القراءة الـمشتركة فى الكتاب الـمقدس والـمداومـة على حضور القداسات الإلهيـة والإعتراف الـمنتظم.
– اشرح لـه وسائط النِعـمة الـمختلفة وطرق الـنمو الروحـي وتدرّب معـه على مـمارستهـا.
2. حافظ على الـمحبـة بين الأخـوة

اجتهد فى العـمل الفردي بين الرفقاء حتى تزيل كل سوء فهم يطرأ على الأسرة الـمسيحية، ولا تتأخـر أو تتهاون فـى إزالـة أي شكوك أو تذمـر.

وإلـه الـحبـة يحفظكم دائـما فـى وحدانيـة القلب والـمحبـة.

الأحـد الأول من أبيب

” ويـل لك يـا كورزيـن..ويـل لك يا بيت صيدا..

وأنتِ يا كفر ناحوم الـمرتفعـة إلـىالسـماء..ستهبطين الـى الجحيم”(لوقا13:10-15)

نطق الرب يسوع بهذه الكلمات فى نهاية خدمتة العلنية التى دامت ثلاث سنين. فبينمـا كان يسوع وتلاميذه على ظهر السفينة فى بحيرة طبريـة للـمرّة الأخيرة، وقع نظره على بيت صيدا وكفر ناحوم وكورزيـن، وكان

منظـر الوداع هـذا منظراً محزنـاً ومؤلـم جداً.

جاء إبن اللـه ليخلّص الناس من الهلاك، ولكن كورزين وبيت صيدا وكفر ناحوم رفضتـه ولـم تقبل تعاليـمه. وهـا هـى الـمرّة الأخيـرة التى ستسمع فيهـا كورزيـن وبيت صيدا صوت إبن اللـه مخلص العالـم.

والآن أخذ موقف الـمسيح يتغيـر من مخلّص رحيم إلـى ديـّان عادل، فيقول البشير متى:”حينئذ ابتدأ يوّبخ الـمدن التى صنعت فيهـا أكثـر قواتـه لأنهـا لـم تتب..ويل لك يا كورزين ويل لك يا بيت صيدا، لأنـه لو صنع فـى صور وصيدا القوات الـمصنوعـة فيكـما لتابتـا فى الـمسوح والرمـاد”(متى20:11-21).

ومـا أعظم الفرق بين حكم العالـم وحكم الـمسيح..ولـماذا نطق السيد بهذه الويلات؟

ألـم تكن تلك الـمدن من أسعد بلاد العالـم رخاء وشهرة وجمال؟

انهـا الـمدن التى صنع فيهـا الـمسيح أكثر معجزاتـه ونطق فيهـا بـمعظم تعاليـمه. ولكن سكّان تلك الـمدن هزئوا بـه وبتعاليـمه، ولـم يقبلوه مخلّصـاً لهم، بـل عرفوه “بنجّار الناصـرة”.

كانت لهم فرصة ليشاهدوا أعـمالـه، ويسمعوا أقوالـه ويزنوهـا ويقدّروهـا، ويفهموهـا، ويقبلوهـا، كـما فعل بطرس وأندراوس وفيلبس ويعقوب ويوحنا الذين كانوا من بيت صيدا. هؤلاء الخمسة رجال تركوا كل شيئ وتبعوا يسوع بينما كان بقية سكان بيت صيدا منهمكين فى أشغالهم وتجارتهم، ومنشغلين بجمع الأموال وغارقين فى بحر اللذات والشرور، فلم ينتبهوا لتعاليم الناصري ولـم يصغوا لصوتـه وإنذاراتـه الـمتواليـة مدة ثلاث سنوات. فـمضت السنون الثمينة وذهبت الفرصة الذهبية وجاء يوم الدينونـة “ويل لكِ يا كورزين، ويل لكِ يا بيت صيدا”.

أيهـا الأحبـاء..لنـا فـى هذه العبارات دروس خالدة. هذه نهايـة كل مدينة وكل بلد، وكل عائلة، وكل فرد يرفض دعوة اللـه. فمنذ أكثر من 1900 سنة جاء الـمسيح الى هذه البلاد وإتخذهـا وطنـاً لـه، وسكن فيهـا ثلاثـا وثلاثين سنة، وألقى فيهـا تعاليـمه التى أنارت الكون. ومنذ ذلك الحين وانجيل الخلاص يقرأ على مسامع سكان العالـم وسكان مدينتنـا هذه حيث يعلن فيهـا صوت اللـه من على الـمنابـر داعيـاً الجميع لقبول الحيـاة الأبـديـة.

فهـل مدينتـنـا اليوم تشبه مدينة كفر ناحـوم فى زمن الـمسيح؟

هـل نستطيع أن نقول عنهـا انهـا إرتفعت إلـى السـماء ..وسوف تهبط إلـى الجحيـم؟

كـم من السنيـن مضت وتعاليـم إبن اللـه تتلـى على مسامعنـا ومسامع أبائنـا وأجدادنـا؟

كـم مرّة دعـانـا اللـه لهجر الخطيـّة بفم كهنتـه من على هذا الـمنبر؟

مـاذا كان جوابنـا وجواب كنيستنـا؟

ألا تظنون ان مسئوليتنتا اليوم هـى كـمسئوليـة سكان كورزيـن وبيت صيدا وكفر ناحوم؟ الويل كان لـكورزيـن وبيت صيدا وكفر ناحوم لأنهـا لـم تتتب، فـهل نحن تبنـا ورجعنـا إلـى اللـه؟

الـمصالـحـة

إذا تـمت الـمصالحة بين اللـه والناس سهلت الـمصالحة بين الناس مع بعضهم البعض، لأن الـمصالحة مع اللـه تطالبنـا بتنفيذ إرادة الـمسيح فيـنـا.

يقول الـمسيح:”انـى أعطيتكم وصيّة جديدة أن يحب بعضكم بعضاً وأن يكون حبكم بعضكم لبعض كـما أحببتكم انـا”(يوحنا34:13). والـمصالحة بين الناس تهدف الى العمل على التعايش السلمي بحيث يسعى جميع الناس الى تكوين أسرة واحدة تعيش فى الـمحبة، لا فى العداء، والى إنـماء الوعي فى تقدير الواجب ومعرفـة جمال الحياة الجامعة بين الناس بدلاً من التطاحن والتقاتـل.

فلنطلب جميعـاً من الروح القدس – مبدأ الـمصالحـة- أن يعطى الجميع القوة الضروريـة حتى يصبح كل إنسان أداة سلام وتفاهم ومـحبـة.

والـمصالحـة الـمطلوبـة هـى:

أولاً- مصالحـة مع اللـه بالتـوبـة

ثانيـاً- مصالحـة مع القريب بالـمحبة والتسامح

والـمصالحة هـى فى صالح الإنسان لأنـه بدونها لا يشعر براحة القلب

وسعادته. فالقديس أغسطينوس يقول مخاطبـاً اللـه:” يا إلهـي انك خلقت هذا القلب من أجلك ولا راحـة لـه إلاّ منك”.

والكتاب الـمقدس يقول:” أنبذوا عنكم جميع معاصيكم التى عصيتم بها واصنعوا لكم قلباً جديداً فلماذا تموتون يا آل اسرائيل”(حزقيال31:18). و ايضاً “اقلع عن ذنوبك وقوّم أعمالك ونق قلبك من كل خطيئة”.

واللـه يريد أن يصالحنا معه عن طريق الـمسيح يسوع فقد قرر هو “أن يصالح بـه الجميع لنفسه مسالـماً بدم صليبه ما على الأرض وما فى السموات”(كولوسى20:1).

ولذلك يريد يسوع أن يتقابل معنـا كما تقابل مع نيقوديموس والـمرأة السامريـة وزكا العشّار الذين تغيـر مجرى حياتهم بقبولهم رسالته الخلاصـية. أنـه يقول لنـا:”تعالوا إلـيّ” (متى18:11)، ويقول اشعيا النبي:”هلّموا إبتاعوا بغيـر فضة ولا ثمن خمراً ولبنـاً”(اشعيا1:55).

لـماذا يجب علينـا أن نتصالح مع اللـه بالتوبـة؟

1. لأننـا بالخطيئة قد عصينـا اللـه وتـمردنـا عليـه.

الإنسان هو الخليقة الوحيدة التى تتمرد على ربهـا، بينما جميع الخلائق تنفذ أوامره – البحر ورياح العاصفة تهدأ بأمر الـمسيح(متى26:8)، والنيران لا تلتهم الفتية الثلاثة شدرك وميشك وعبدنغو بأمر اللـه (دانيال49:3) والأسود لا تفترس دانيال النبي عندما ألقي فـى الجب (دانيال39:14).

2. لأننـا بالخطيئة قد إحتقرنـا اللـه

إحتقرنـا اللـه مفضلين عليه الشهوات الـمثلثة والعالم والشيطان كما يقول الرب على لسان ارميا النبي:”تركونى أنا ينبوع الـمياه الحيّة واحتفروا لهم آباراً آباراً مشققة لا تـمسك الـماء”(ارميا13:2).

3. لأننـا بالخطيئة أنكرنـا جميل اللـه

أنكرنـا جميل اللـه علينـا وإستخدمنا مواهبـه فـى إهانتـه تعالـى.

4. لأننـا بالخطيئـة قد عشنـا فـى الظلام

لأنـه مكتوب” لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور ولا يقبل الى النور لئلا تفضح أعمالـه”(يوحنا20:3)، و “طريق الـمنافقين كالديجور فلا يعلمون بأي شيئ يعثرون”(أمثال19:4).

5. لأننـا بالخطيئة فقدنـا الحريـة

فقدنـا حريـة أبناء اللـه وأصبحنا عبيداً لأظلم الأسياد “لأن من يعمل الخطيئة هو عبد للخطيئة”(يوحنا34:8).

6. لأننـا بالخطيئة فقدنـا النِعـمة

فقدنا النِعمة وأصبحنـا بذلك أمواتـاً بعد أن كنـا أحياء “فنحن إذن

أيهـا الأخوة لا منـة علينا للجسد حتى نعيش بحسب الجسد لأنكم إن عشتم بحسب الجسد تموتون. وأمـا إن أمتم بالروح أعمال الجسد فستحيون”(رومية12:8-13).

7. لأننـا بالخطيئة أوجدنـا فراغـاً فـى قلوبنـا

وهذا الفراغ لـن يـملأ إلاّ بالتوبـة.

8.لأنـه بالتـوبـة سوف نقتل الشر

علينا إذن أن نقتل الشر وإلاّ فالشر الـموجود فينـا سوف يقتلنـا.

9. لأنـه بالتوبـة سنـتحاور مع الـمسيح

علينـا أن نقبل الحوار مع الـمسيح كي يهيئ لنا ظروف التوبـة لا سيـما وأنـه نموذج التوبـة بالرغم من برارتـه”ان الذى لـم يعرف الخطيئة جعله خطيئة من أجلنا لكي نصير نحن بر الله فيه”(2كورنثوس21:5).

10. لأنـه بالتوبـة سندفن مع الـمسيح

علينـا أن نُدفن مع الـمسيح كي نقوم معـه “فدفنـا معه فى الـموت حتى

اننا كـما أقيم الـمسيح من بين الأموات بـمجد الآب كذلك نسلك نحن ايضاً فى جدة الحيـاة”(رومية4:6). والتوبـة من مصلحتنا الشخصية لأننا لا نذهب الى السماء إلاّ عن أحد طريقين: البرارة والتوبـة، ولكن من منـا بار؟ “ليس بار ولا واحد”(رومية10:3)، والرسول بولس يقول عن نفسه:”فانى لست أشعر بشيئ فى ضميري لكنى لست مبرراً بذلك فأما الذى يحكم فـيّ فهو الرب”(1كورنثوس4:4).

11. لأنـه بالتوبـة سوف لا نتشبه بأهـل العالـم

علينـا أن نتوب ولا نتشبـه بأهل العالـم الذين يسأمون الكلام عن التوبـة وهم لا يعلمون أن التوبـة نعمه خاصة من عند اللـه، وانهـا فرصة تهيئها الكنيسة لـمن يرغب فـى الـمصالحة مع اللـه “الحكمة تنادى فى الخارج وفى الشوارع تطلق صوتها..الى متى أيها الأغرار تحبون الغرارة والساخرون يبتغون السخرية والجهال يبتغون العِلم. ارتدوا لتوبيخي فإني أفيض عليكم من روحي وأعلمكم كلامي”(امثال20:1-23).

12. لأنـه بالتوبـة سيتحقق لنـا الخلاص

علينـا أن نتوب والتوبـة ستحقق لنـا الخلاص “لأننا كنا قد صولحنا مع

اللـه بموت ابنه ونحن أعداء فبالأحرى كثيراً نخلص بحياتـه ونحن

مصالحون”(رومية10:5).

13. لأنـه لا يجب أن نؤجـل التـوبـة

علينـا أن نتوب وألاّ نؤجل التوبـة “اليوم ان سمعتم صوتـه فلا تقسوا

قلوبكم”(مزمور8:94). مـا أسعد النفس التى تقوم حال سقطـتها وتبدأ من جديد، فالذى يضر الإنسان الذى يسقط ليست السقطة فى ذاتها، وإنـما عدم القيام. ولكي نقوم حالاً من سقطتنـا يجب أن نفكر بأنـه إذا كانت الخطيئة إحتقاراً شنيعـاً للـه لأنـها تدل على الإعتقاد بأن اللـه لا يستوجب الـمحبة. فالإصرار على الخطيئة هو إحتقار أشنع. ويجب ان نعلم أن اللـه مستعد لقبول التائبين، ولكنه غير مستعد لقبول من يؤجل التوبـة، وأن تأجيل التوبـة يؤدى الى التمرد على الشر والتصلب فيـه. وكـم من اناس هلكوا لتأجيلهم التوبـة. يقول بولس الرسول:”أتحتقر غنى لطفـه وإحتمالـه وآناتـه ولا تعلم أن لطف اللـه إنـما يقتادك الى التوبـة. ولكنك بقساوتك وقلبك غير التائب تدخر لنفسك غضباً ليوم الغضب وإستعلان دينونة اللـه العادلـة”(رومية 4:2-5). وحتـى إذا انتهى التأجيل بالتوبـة فالوقت الذى نعيش فيه فى الخطيئة هو وقت ضائع لأن حياتنا بدون نعمة اللـه هى حياة لا فائدة روحيـة تجنى فيهـا.

مـا هـى التـوبـة؟

ليست التوبـة إنكاراً للحياة، بل هى حياة تنقّت من شوائب الخطيئة. والخطيئة جرح والتوبـة شفاء الجرح. الخطيئة شر والتوبـة إزالـة الشر.

التوبـة إنسحاق للقلب وندامـة. هـى تغييـر فى الأفكار والأحكام

“امتحنوا كل شيئ وتمسكوا بـما هـو حسن”(1تسالونيكي21:5).

التوبـة إلتزام بالواجب قبل الـمنفعةـ وتعلق بالفضيلة بدل اللذّه، وتقدير للأمور الفائقـة الطبيعة قبل الأمور الطبيعيـة.

هـل التـوبـة مـمكنـة؟

انهـا ممكنة لدى من يرغب فيهـا، فلا شيئ غير قابل للعلاج لدى طبيب كليّ القدرة وهو اللـه. غير أن التوبـة صعبـة فـى بدايتهـا، إذ من واجب التائب أن يطرد العدو من الدنـو، إلاّ ان التائب سيزداد قوة وشجاعـة لدى أول إنتصار. بالخطيئة سار الـمسيحي على قدميـه بعد أن كان يعدو ثم توقف بعد الـمسير، أو بالتوبـة سوف يسير بعد ان وقوف وسوف يعدو بعد مسيـر.

كيف نتـوب؟

أول مـا يلزم الخاطئ هو أن يشعر بقابلية بالإصلاح الداخلي ثم يرجع الى ذاتـه

بفحص الضميـر. يقول الإنجيل عن الإبن الضال:”فرجع الـى نفسه”(لوقا17:15). والرجوع الى الذات سيجعل الخاطئ يرى ذاتـه كما هو أمام اللـه. هذا خاصـة إذا فحص ضميره ووضع أمامـه يسوع النموذج الإلهـي.

قال كاتب الـمزامير بعد أن فحص ضميره:”لقد ضللت كالخروف الضائع فأنشد عبدك”(مزمور176:118)، وقال ايضاً “بسطت يديّ اليك. نفسي أمامك كالأرض مجدبـة”(مزمور6:142).

يفحص الخاطئ ضميره ويسأل يسوع مع الشاب الغني:”ماذا ينقصني؟”، وبعد ذلك ينبذ الخاطئ حياة الظلمة ويطلب حياة النور “قد تناهـى الليل واقترب النهار فلندع عنا أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور”(رومية13:13)، “فانكم كنـتم حيناً ظلمة أما الآن فأنتم نور فى الرب فأسلكوا كابناء النور”

(افسس8:5).

ويبدأ التائب بمقاومـة التيارات الناشئة عن الأنانيـة والشهوة ويتجرد من إرادتـه الذاتيـة ليجعل

من إرادة اللـه قاعدة لحياتـه، وهذا يتطلب إماتـه خارجيـة وإمـاتـة داخليـة:

– فالإمـاتـه الخارجيـة

وخاصة الحواس والميول الجسديـة، فلقد قال الرسول “لأنكم إن عشتم بحسب الجسد تموتون وأما إن أمتم بالروح أعمال الجسد فستحيون”(رومية13:8). اننا ملك الـمسيح “والذين للـمسيح صلبوا أجسادهم مع الآلام والشهوات”(غلاطية14:5)، ولذلك يقول لنا الرسول بولس:”فأسألكم أيهـا الأخوة بـمراحم اللـه أن تقرّبوا أجسادكم ذبيحة حيّة مقدسة مرضيـة عند اللـه عبادة منكم عقلية”(رومية1:12).

– الإمـاتـة الداخليـة

فتكون بالإنتصار على الخلل الذى يعترى الذاكره والعقل والإرادة والقلب وجميع ميولـه.

صـفات التـوبـة

يجب أن تكون التـوبـة:

1. متأهبـة

فيتوب الـمسيحي حينما يسمع صوت اللـه. أنكر بطرس الـمسيح ثلاث مرات، ولكن حالـما ألقى يسوع إليـه بنظرة التأنيب والرحمة يقول الكتاب:”فخرج الى خارج وبكى بكاء مراً”(متى75:26).

2. صـريـحة

على التائب أن يقول:”القلب المنكسر لا ترذلـه يا اللـه”(مزمور19:50) ، عليه ألاّ يخجل من التوبـة لأنـه لـم يخجل من اللـه عند إرتكابـه الشر، وعليه أن يسمع لقول الرسول:”أقول كلاماً بشرياً من أجل ضعف أجسادكم، انكم كما جعلتم أعضاءكم عبيداً للنجاسة والإثم كذلك الآن اجعلوا أعضائكم عبيداً للبِر وللقداسة”(رومية19:6).

3. عادلـة

يجب على التائب أن يكره ما سبق أن أحبه وأن يحب ما سبق أن كرهـه. يجب عليه أن يعمل ما عمله بولس الرسول الذى قال:”بل أقمع جسدي وأستعبده حذار أن أكون أنا نفسي مرذولاً”(1كورنثوس27:9).

4. قـويـة

إن قوة التوبـة تساعد التائب على عدم الرجوع الى الخطيئة وهذا سيلزم ما يلي:

اولاً: إيـماناً قويـاً -“فقاوموه راسخين فـى الإيـمان”(1بطرس9:5)،

و”الغلبة التى يغلب بها العالم هو إيـماننـا”(1يوحنا4:5).

ثانياً: ثقـة بنويـة – فاللـه قادر أن يصل بنا ومعنا الى قمة الكمال لو أردنـا نحن ووثقنـا بـه واعتمدنـا عليـه. ومهما كان بؤسنا كبيراً فهو بؤس محدود، أما مراحم اللـه فلا حد لهـا.

لا تيأس ابداً، بل إبدأ من جديد، لأن عمل التوبـة ليس عمل يوم واحد، بل هو عمل كل أيام حياتنـا.

فلنبدأ عمل التوبـة ولا نتركـه إلا بالـموت. ان الجرح الجسمانـي يتطلب وقتـاً كي يلتئم، وقد يترك بعض الأثـر، فكم بالأحرى جرح النفس!.

التوبـة حرب وحرب التوبـة تبقى ما بقيت الحياة، لأن طبيعة الإنسان متمردة، ولنعلم انـه كلـما إرتقينـا فى سلم الكـمال كلـما زادت حربنـا، إلاّ ان الحرب طريق للإنتصار. فلنحارب وسوف يحارب اللـه معنـا، وإن كنـا لا نراه. لقد شعرت بـه القديسة كاترينا السيانية بتجربـة قاسية، ولـما إنتصرت ظهر لهـا يسوع فقالت لـه:اين كنت؟ فأجابهـا كنت فى قلبك لأقويـك وأجعلك تنتصريـن.

أعـمال التـوبــة

تقوم أعـمال التوبـة فـى الآتـى:

1. تقبّل الصلبان التى تسمح بها العنايـة الإلهية وتقبلهـا بتسليم.
2. تـميم واجبات حالتنـا بروح مسيحية
3. الصوم خاصة فى السنة الـمقدسة “اما العاشر من الشهر السابع هذا فهو يوم الكفارة، محفلاً مقدساً يكون لكم، تذللون فيه نفوسكم وتقربون وقيدة للرب”(احبار27:23). والصوم يساعد على الإنتصار على التجار “هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة والصوم”(متى20:17).
4. الصدقـة الـماديـة “لأن الصدقـة تنجى من كل خطيئة ومن الـموت”، والصدقـة الروحيـة :”اعلم العصاة طرقك فيرجع اليك الخطأة”(مزمور15:50).
وهناك أناس لا يستطيعون أن يقوموا بأعمال التوبـة من صيامات ومشقات وصدقات فعليهـم أن يبتعدوا تماماً عن كل سبب خطيئة وأن ينموا كل يوم فـى إتحادهـم باللـه.

فلنسمع نداء اللـه لنـا ونعود إليـه ونتصالـح معـه.

______________________

صـلاة

أيهـا الرب الإلـه ان كلمتك قويـة جداً فهى كسيف ذى حديـن، فقد شقت البحر وجمّدت الـمياه بفم موسى النبي، واوقفت الشمس بفم إبن نون، وفتحت السموات وحبست الأمطار ثلاث سنين وستة أشهر بفم إيليـا، وأقامت الـموتـى وفتحت العميان وطهرت البرص وسكنت الرياح بفـمك الطاهـر.

ان كلمتك قدّست العالـم وبددت الغيوم وأقمعت الشهوات. ونحن فـى أشد الإحتياج لسماع صوتك الحنون والـى معرفـة الطريق ولا يتم ذلك إلاّ إذا سمعنـا صوتك وتبعناك يـايسوع فنصل الـى الخلود.

– إذا سمعنـا صوتك وتبعناك يا يسوع فلا نضل لأنك قلتَ :

“انا هو نور العالـم من يتبعني لا يمشى فى الظلام”.

– إذا سمعنـا صوتك وتبعناك يا يسوع فسنصل للآب السماوي لأنك قلتَ:

“انا هو الطريق والحق والحياة لا يقدر أحد أن يأتـى إلـى الآب إلاّ بـيّ”.

– إذا سمعنـا صوتك وتبعناك يا يسوع فأنك ترعانـا لأنك قلتَ:

“انا هو الراعى الصالح والراعى الصالح يبذل نفسه عن الخراف”.

– إذا سمعنـا صوتك وتبعناك يا يسوع فأننا نثبت فأنك قلت:

“انا الكرمـة وأنتم الأغصان”.

– إذا سمعنـا صوتك وتبعناك يا يسوع فأننا نطمئن قائلين:

“إذا سرتُ فى وادى ظل الـموت لا أخاف شراً لأنك معي”

فلا تحرمنـا يارب من كلـمتك الـمقدسة ضعهـا فـى قلوبنـا، بل أغرسهـا أنت فتنمو وتثـمر ثـماراً إلهيـة كثيـرة فنستحق الطوبـى الـمعطاة للذين يسمعون كلمـة اللـه ويعملون بهـا. آميـن.

____________________

لـماذا أؤمن بإقتدار الصلاة؟
“طلبـة البـارّ تقتدر كثيـراً فى فعلهـا” (يعقوب16:5)

الصلاة عقيدة عامة،يدين بهـا السواد الأعظم من كل شعب، وقبيلة،ولسان،وأمـة. فالذيـن يدينون بالصلاة،يزيـد عددهـم كثيراً على عدد معتنقـي أي دين من الأديان،لأن الـمصلّين هم مجموع الـمتعبدّيـن فى كل الأديـان. فلا غرابـة إذا قلنـا أن الـمؤمنين بالصلاة أكثر من الـمؤمنيـن بالإلـه الواحد الحي الحقيقي،إذ يكفى أن يؤمن الإنسان بوجود إلـه مـا،على شكل مـا، ليكون مؤمنـاً بالصلاة.
لذلك وانـا أتحدث عن إيمانـي بالصلاة، أرانـي محاطـاً بسحابـة من شهود لا يستطيع أحد أن يعدهـم، من كل الأمم والقبائل والشعوب والألسنـة. وفى إعتقادي أن الصلاة لا ينكرهـا إلا شخصان: أحدهما إنسان جاحد القلب يتغاضى عن أفضال الله عليـه فلا يرى ضرورة لتقديم الشكر إليـه، وثانيهمـا مخلوق جامد الإحساس لا يرى فى نفسه سوى أثر من آثار الـمادة التى لا تشعر ولا تتأثـر.
أنـا أؤمن بإقتدار الصلاة لأنهـا إحساس شبه غريزي
ان جمهوراً كبيراً مـمن يدّعون بعدم الإيمان بالصلاة يرتـمون على ركبهم كلّما جدّ الجـد ووجدوا أنفسهم فى مأزق حرج. يقول بعض الذين نجوا من مأساة إحدى البواخر التى إصطدمت بجبل ثلجي فى عرض البحر، ان الـمسافرين كانوا فى عشية تلك الليلة الشتويـة على فريقين:فريق كان منصرفاً الى الصلاة والتعبد للـه كعادتهم فى كل يوم قبيل النوم، والفريق الثاني كان لاهيـاً فى اللعب والـمجون. ومـا جاءت ساعة الخطر حتى اندمج الفريقان معاً فتألفت جماعة واحدة مصليـّة، وفى صلاتهـا كانت ضارعة، وفى ضراعتهـا كانت مرسلة صوتـاً واحداً منسجم النبرات، وبعد لحظة هدأ ذلك الصوت الـمنسجم وأبرقت أسارير وجوه الضارعين بعد إنقطاع رسائل البرق التى أرسلت للإستغاثـة، وإذا بهم قد وصلوا الى خاتمة التسبحة فلفظتهـا أفواههم ولفظت معهم أنفاسهم الأخيرة.
هذا دليل على أن الشعور بالحاجة الى الصلاة أمر يكاد يحس به كل الناس سواء بسواء، إلاّ ان قومـاً وضعوا أحجاراً على قلوبهم فقتلوا هذا الإحساس الـمقدس الذى يُحسب فى حكم الغريـزة.
أنـا أؤمن بإقتدار الصلاة، لأنـي خبرتُ الصلاة فى حياتـي
لقد علمت انهـا حقيقة واقعة لا تقبل جدالاً ولا إحتجاجاً،فالكلام فى الصلاة غير الكلام فى المعجزات لأن الصلاة حقيقة إختباريـة، لكن الـمعجزات حقيقة تسليميـة. فأنـا أومن بصحة الـمعجزات لأني أومن بصدق الكتاب الذى حدثني عنهـا. لكنني أومن بالصلاة لأنهـا فضلاً عن كون الكتاب الـمقدس يحدثني عنهـا، فإن نفسي تخبرني بحاجتي اليهـا،ووجداني يقر بأنها عنصر ملازم كيانـي، وإختباري يشهد لحقيقة إقتدارهـا. فقد تتحد صفوف الـمعارضين، وتتفق أقوال الـمتفلسفين، وتأتلف أصوات الـمادييـن، فتجتمع كلمتهم على إنكار حقيقة الصلاة أو بعث الشك فى إقتدارهـا، إلاّ أن هذه كلهـا لا تزيدني إلاّ صلابـة فى الإيمان بإقتدار الصلاة،بل يكون إيماني فى هذه الحال أشبه بشجرة بلّوط تتآمر عليهـا العواصف وتهزها هزّات عنيفة فلا تزيدهـا إلاّ رسوخاً وثباتـاً فى موقفهـا.
لا أهدف من قولـي أنـي خبرت الصلاة فى حياتي أن أقرر ان كل صلاتي أو معظمهـا قد أجيبت على الصورة التى طلبتهـا، وإنما أقرر من غير خلط أو إبهام أنـي ما طلبت مرّة أمراً من الأمور، ألا وقد نلت عنه جواباً مـا، على شكل مـا-بصرف النظر عن الشكل، وفى وقت ما-بصرف النظر عن طول الوقت أو قصره. وكم من مرّة طلبت فيها أمراً من الله، وألحتُ فى الطلب، فأتانـي عنه جواب على غير ما قصدت، وأحياناً كثيرة على عكس ما قصدت، لكنه كان على كل حال أفضل بكثير مما طلبت أو تـمنيت. فلئن خسرت ما طلبت، إلاّ انني نلت ما هو أفضل وكوفئت تعويضاً وفيراً عـما رغبت أو طلبت. فالصلاة، فى حقيقة الواقع، هى خير مكافأة لذاتها وهى تحمل معها خير تعويض لـما يفوت الـمرء منها. فقد يُحرم الإنسان بعض ما يريد، فيتمتع
بكل ما يحتاج اليه. وقد يُرفض الطلب، فيُقبَل الطالب، وقد يتعذر على الـمرء
ان ينال بعض ما يتمنى فيتمتع بمعاشرة من يتمنى.
أوَ ليس الـمُعطي أفضل من كل عطاياه، والواهب أعظم من كل هباتـه ونِعَـمه؟
فقد يطلب الـمرء أموراً عظيمة ليصبح بها إنساناً كبيراً فيجود عليه اللـه بإعلانات قدسيـة ليصيّره بهـا قديساً. قد يطلب الـمرء أن ينال كل شيئ ليتمتع بالحياة، فيمنحه اللـه حياة أفضل ليتمتع بها بكل شيئ. قد يطلب الـمرء أن يعطيه اللـه كل ما يريد، فيحرمـه اللـه بعض ما يريد ليـمتعه بكل ما يحتاج.
انـا أومن بإقتدار الصلاة لأن اللـه سبحانه و تعالى أمرنـا بهـا
فهو القائل:
– “ادعني فى يوم الضيق أنقذك فـتمجدّنـي”(مزمور15:90).
– ” هلّم نتحاجج يقول الرب.إن كانت خطاياكم كالقِرمز تبيض كالثلج.إن كانت حمراء كالدودّي تصير كالصوف”(اشعيا18:1).
– “ذكّرنـي فنـتحاكم معاً. حدثّنـي لكي تتبرر، اسألوني عن الآتيات من جهة بنيَّ ومن جهة عمل يدي أوصونـي”(اشعيا26:43).
– “إنـي أنـا الرب وليس آخر. إنـي لـم أتكلم فى الخفيّة فى موضع مظلم من الأرض ولم أقل لنسل يعقوب إلتمسونـي باطلاً “(اشعيا18:45-19)
– “إجتمعوا وهلّموا تقدموا معاً أيها الناجون من الأمم. أليس أنا الرب ولا إلـه غيري. إلـه بار ومخلّص. ليس سواي. التفتوا إلـيّ واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض. لأنـى أنا اللـه وليس آخـر. بذاتـي أقسمت خرج من فـمي الصدق كلمة لا ترجع انـه لـي تجثو كل ركبة ويحلف كل لسان”
(اشعيا20:45-23).
– “هكذا قال الرب. فى وقت القبول إستجبتك. وفى يوم الخلاص أعنتك”
– أطلبوا الرب ما دام يوجـد. أدعوه وهو قريب”
– “يا ذاكري الرب لا تسكتوا ولا تدعوه يسكب”
وقال السيد الـمسيح فى حديثة مع السامريـة:”تأتى ساعة، وهى الآن حاضرة حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين لـه”(يوحنا22:4).
فإذا كان رب الـمجد يدعو البشر الى الصلاة إليـه أفلا يقبل أبناء التراب هذه الدعوة؟
وإذا كان الخالق قد رضي تنازلاً منـه أن يُنادى الـمخلوق لـمعاشرتـه، أفلا يتشرّف الـمخلوق بتلبيـة هذا النـداء؟
وإذا كان اللـه القوي عن البشر طالبـاً ساجدين وعابديـن، أفلا يهتم البشر العَجَزة بطلب وجهه تعالـى؟
أنـا أؤمـن بإقتدار الصلاة لأن الصلاة هى إحدى العادات الشريفة التى كان الـمسيح متعوداً عليهـا مدة وجوده بالجسد على الأرض.
فكل مكان من خدمـة السيد الـمسيح قد تعطرّت أجواؤه بنسيم صلاتـه القدسيـة. فقد صلّى الفادي عند سفح الجبل، وعلى شاطئ الأردن، وفى البرّيـة وفى بستان جثسيمانـي وفى علّيـة صهيـون. وقبيل كل حادثـة فاصلة فى حياتـه، إنصرف إلـى الصلاة. فقد صلّى وقت عماده، وقبل أن يختار رسله، وعندما أرادت الجماهير أن تنصبـه ملكاً، وقبل صنعـه قيامة لعازر، وقبيل إرتقائـه صليب العار، وقبيل موتـه.
ولقد لاحظ أحد دارسي الكتاب الـمقدس أن كلمة “صلّى” ومشتقاتهـا قد وردت خمساً وعشرين مرّة فى الإنجيل بـمناسبة الكلام عن حياة السيد الـمسيح. ويحدثنـا كاتب الرسالة الى العبرانيين القديس بولس عن صلاة الـمسيح التشفعيـة التى يقدمها بإستمرار غالباً بغير صوت ولا كلام الى عرش النعـمة لأجلنـا:””من ثـمّ يقدر أن يخلّص أيضاً الى التمام الذين يتقدمون به الى اللـه، إذ هو حيّ فى كل حين ليشفع فيهم”(عبرانيين25:7).
فلو لم تكن للصلاة قيمة ممتازة، لـما أعطاها الـمسيح هذا الـمجال
الـمتسع فى برنامج حياتـه القصيرة على الأرض. ولو كان فى الإمكان أن يستغنى أحد عن الصلاة، لكان الـمسيح فى مقدمـة من يستغنون عنهـا. فإذا كان الكامل الأوحد قد رأى فيهـا ضرورة لازمـة، أفيعُقـل أن يستغنى عنهـا الـمجرّبون الساقطون؟. وإذا كان السيد قد قضى أوقاتـاً طويلة فى الصلاة، أفليس من الـمخجل الاّ يجد العبيد وقتاً كافياً للصلاة فى حياتهم التافهـة التى يُقضى أكثرهـا فى العبث واللهو والـمجون؟.
أنـا أؤمن بإقتدار الصلاة لأنهـا التعبيـر الطبيعي لأشواق نفسي بعد أن عرفَت فاديهـا، أو بالحري بعد أن عُرفت من فاديهـا. فهى لغة النفس فى حياتها الجديدة. هى تنهداتهـا فى أوقات شدتهـا، ونشيدهـا فى ساعات بهجتهـا. هـى لغـة أنينهـا فى آلامهـا وتعبيـر حنينهـا فى آمالهـا.
قد يمكنني أن أفهم أن يعيش السمك فى بيئة منقطعة فيهـا الـماء، وأن يغرّد الطير فى جو محروم من الهواء، وأن يـمرح الطفل فى بيت لا أثر فيه للغذاء،وأن يستشفى العليل فى مصّح لا إسم فيه للعلاج والدواء، لكنني لا أفهـم كيف يمكن للنفس الـمخلوقـة على صورة خالقهـا أن تعيش من غير أن تتحدّث معـه،ولا أن ترفع أشواقهـا إليـه، ولا أن تعبّـر عن شكرهـا وإمتنانهـا إليـه.
فليس من اضروري أن تكون تلك الصلاة طلبـاً ولا ضراعـة، بل ربما كنا
أقرب الى الصلاة الحقـة كلـما بعُدنـا عن الطلب. وربـما كنـا أكثر إقتداراً فى التوسل كلما كنا أكثر بعداً عن التسول. فالصلاة الحقـة قد تكون طلبـاً، وقد تكون تـمجيداً للـه. قد تكون شكراً للـه على ما وهبنـا من خيـر، وقد تكون إعترافاً بـما إقترفنـا من شر. وقد لا تكون هذا ولا ذاك ومع ذلك تكون صلاة بكل معنى الكلمة، بل تكون أقرب الى معنى الصلاة الحقـة منهـا فى أي حال أخرى. فقد تكون شركة هادئـة ساكنة مع اللـه لا يُسمع فيهـا صوت، ولا تتحرك فيهـا شفاه،وإنـما يتكلم القلب ويستمع القلب وتتحدث النفس. فالنفس الصغيرة، أو الـمتصاغرة، تكثر من الطلب والتوسل، ولعلهـا لا تدنو من اللـه إلاّ وفى قلبهـا أمنيـة وعلى لسانهـا طِلبـة. لكن النفس البالغـة تطلب اللـه لوجـه اللـه، وتتوجـه إليـه حبـاً فى تمتعهـا بـمرأى سنـاه، وتدنو منه لأنهـا تشعر انهـا فى بعدهـا عنـه ناقصة فلا تكمل إلاّ بـه،وانهـا من دونـه متعبـة فلا تجد راحتهـا إلاّ فيـه.
تقول النفس الصغيرة أو المتصاغرة: “أعطنـي سؤلـي”.
وتقول النفس الكبيرة الناضجة متههلـة ومترنـمة:
يـا طيب ساعات بهـا أخلو مع الحبيب
يجري حديثي معـه سراً ولا رقيب
أنـا أؤمـن بإقتدار الصلاة إلـى اللـه لأنني إن لـم أصلي إلـى اللـه تعالـى فلا مناص لـي من رفع طلباتـي الى شخص سواه، لأن نفسي أضعف من أن تتحمل وحدهـا أعباء هذا الوجود.
يقينـي ان كل الذين يدّعون عدم الإيمان بالصلاة، ويمتنعون عن الصلاة للـه، لا يتعففون عن ان يلتجئوا الى أصدقائهم او الى حكوماتهم فى حل معضلات حياتهم. وما أكثر الأوقات التى إرتموا فيهـا عند أقدام أعدائهم طالبين منهم العون والـمعونـة, فلست أعجب لأمر فى الحياة. عجبي من قوم يأنفون من الصلاة الى اللـه فى وقت لا يتورعون فيه من أن يرتموا فى أحضان أمثال نبوخذنصر وآخاب وهيرودس. قوم يتعففـون عن أن يطلبوا الى الرب، لكنهم لا يتعففون عن التذلل للعبـد، ومع ذلك فإنهم يدّعون انهم قوم منطقيون يعيشون فى الحياة بعقولهـم.
وفىالختام، أقرر إنـى أؤمن بالصلاة لأن إستجابتهـا أمر طبيعي. فمن الطبيعي إذا تحدث إنسان مـا إلى إنسان آخر حصل على إجابـة لكلامـه سواء بالرفض أم بالقبول. وقد علّمتنا الإكتشافات العلـمية الحديثة كيف يمكن للـمرء وهو موجود فى القاهرة أن يتخاطب مع إنسان آخر فى لندن، يستمع لصوتـه ويـميّز نبراتـه، حال كونـه لا يلمسه ولا يراه. ومن الغريب أن الناس يتحدثون الى بعضهم البعض وهم لا يرى أحدهم الآخر،ويصدقون هذا ويؤمنون بـه، ومع ذلك إذا قلت لهم أن فى إمكان الإنسان وهو على الأرض أن يتخاطب مع الذات العليـة فى السماء، قالوا لك هذا ضرب من الأوهـام. ان أكبر حجة لصحة الـمكالمات اللاسلكية هى إختبار الـمتكلـمين معاً، وكذلك أكبر حجة لصحة الصلاة وصدقهـا، هى إختبار الـمصلّين أنفسهم الذين ذاقوا طيبة الرب، فقالوا فيـه:”ذلك وإن كنا لا نراه لكننا نحبه فنبتهج بفرح لا يُنطق بـه ومجيد”.
كان أحد الأولاد مُمسكاً بخيط طيارتـه فى يوم كثير الضباب، فـمرّ به أحد الرجال الهازلين وقال:”مالي أراك أيها الصبي رافعاً وجهك الى فوق وماداً يدك إلـى العلاء؟”. أجاب الغلام: “انـي ممسك بطيارتـي”
فقال الرجل: ” ولكننى لا أراهـا”.
فكان جواب الغلام: “أي نعم. ليس فى إمكان أحد أن يراها لأن الضباب يحجبهـا عنـا، لكنني أحس بهـا لأنهـا تجتذب الخيط الذى بيدي”.
فـمع أننـا لا نستطيع أن نرى اللـه لأن حُجب الـمادة تحجب عنـا
مرأى سنـاه، لكن الـمصلّي صلاة حقـة يشعر بتلك الجاذبيـة
السحريـة الخفيـّة التى تجذب قلبـه إلـى اللـه فيقول مع ذاك:
“وهذه هـى الثقـة التى لنـا عنده انـه إن طلبنـا شيئـاً حسب مشيئـته
يسمع لنـا. وإن كنـا نعلم أنـه مهما طلبنـا يسمع لنـا، نعلم ان لنـا
الطلبات التى طلبناها منـه”(1يوحنا14:5-15).
__________________
مـشاكل الصلاة
يواجه الـمصلّي مشاكل عديدة يعجز عن حلهـا، وتضطره أحيانـاً لأن يترك عرش النعـمة مصارعاً مع نفسه فاشلاً فى حياتـه. وتنحصر هذه الـمشاكل فى ثلاثـة موضوعات: الجسد والجهل ونواميس الطبيعة.
أولاً- الجسد
هذا هو الجاسوس الذى فينـا ويحاربنـا، وهو أقوى جميع الأسلحة التى يحاربنا الشيطان بها، لأنـه يحاربنـا بهـا من داخل نفوسنا،وهو يعرضنـا للـمشاكل الآتيـة:
1. عدم الـميل للصلاة
كـم يحزن الـمؤمن عندما لا يرى فى قلبه ميلاً للصلاة ويسمع فى أذنـه همساً قويـاً: هل تعتبر نفسك مؤمنـاً باللـه وليس فى نفسك رغبـة لـملاقاتـه والتقابل معـه؟. وأحيانـاً يناديـه الصوت: لا تجهد نفسك باطلاً فى صلاة لا رغبة لك فيها ولا ميل لك إليهـا. فيجيب الـمؤمن هذا الهمس بالصمت مرّة وبالشك مرّة أخرى وبالفشل واليأس مرّة ثانيـة. عجبـاً بك..هل أدركت حتى الآن أن “القلب أخدع من كل شيئ وهو نجس(ارميا9:17)، فدعك من هذا ولا تصغ لصوت الشيطان ولا تكترث بـما يقول لك، بل ادفع نفسك فى محضر الرب وارغم نفسك على الصلاة. صلِّ مجاهداً، بل صلِّ أكثر فى كل مرّة، صلِّ و لا تستسلم للفشل حتى يجيئ فيك الـميل وتتكون فيك الرغبـة للصلاة.
لا تعتمد على برودة قلبك وجفاف عواطفك، بل أنظر إلـى يسوع فإنك مقبول فيـه. ان عدم وجود الـميل للصلاة فى داخلك ليس معناه عدم رضى الرب عليك، وليس معنـاه أن علاقتك باللـه ليست سليـمة. أرغم نفسك على الصلاة وصلِّ.
2. عدم القدرة على الصلاة
هذه الـمشكلة تواجه الإنسان وقد تعب جسده من الركوع وتصبب العرق على جبينـه وأسرع النوم بزيارتـه، فيصعب عليـه مواصلة الصلاة، وهنا يحتاج الـمصلّي لأن يشعر نفسه بأهميـة الصلاة وحاجتـه الشديدة إليهـا. ثـم يجثو فى هيئة لا تساعده على النوم، فلا يسند رأسه على وسادة، ولا يتكئ على مسند، ثم يرفع صوتـه أمام الرب معترفاً بعجزه عن الصلاة طالبـاً أن يُهب روح الصلاة واثقـاً أنـه نال ما أراد، ثـم يـتمم صلاتـه بعد كل ذلك وكلـه شوق وحماس.
3. الـملل من طول الإنتظار
يشتاق الإنسان أن يلمس إستجابـة صلاتـه بسرعـة فائقة. ولـما يطول به
الإنتظار يلجأ الى الكسل الروحي فيهمل الصلاة قائلاً: يظهر ان طلبتي هذه ليست وفق إرادة الرب. مع ان الرب يرفض احيانـاً أن يستجيب صلاتنـا إمتحانـاً لإيماننا أو لذة بسماع أصواتنـا ولجاجتـنا، لكنه مع ذلك يعطينا قوة ولذة ومتعة فى الصلاة.
طلب والد من أولاده أن يـبحثوا عن كنز فى حقل. بحث الأولاد حتى تعبوا جداً ولـم يجدوا شيئـاً. فقال لهم أبوهم: أنتم لـم تجدوا الكنز، ولكن الرياضـة التى روضتم بهـا أجسامكم جزاء كافِ لأتعابكم. فهؤلاء قد روّضوا أجسادهم ولـم ينالوا أمنيتهم، ولكننا فى الصلاة ننال ما نريد، وفى اللجاجـة والصبـر نتريض رياضـة روحيـة.
لقد صلّى السيد الـمسيح فى بستان جثسيماني قائلاً:”إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت”(لوقا42:22)
وكرّر هذه العبارة ثلاث مرات. وكانت الكنيسة تصلّي بلجاجـة من أجل بطرس الرسول (أعمال15:12)، فاللـه يوصي باللجاجـة مع الصبـر.
4. الإعتـماد على الشعور
يستسلم بعض الـمصلّين للألـم والحزن لأنهم لـم يشعروا بقوة هزّت أجسامهم إستجابـة لصلاتهـم، ويحزن البعض الآخر لأنهم طلبوا بالدموع ولـم تستجب عيونهم لطلباتهم فهم يعتقدون أن الدموع سر قوة الصلاة.
عجبـاً من قوم إتهموا الـمسيحية بأنهـا مسيحية الشعور، لأننـا لسنا
نعيش بعد بشعور أجسادنـا بل بقلوبنـا وعقولنـا. لسنا ننتظر الجسد
ليعلن لنا استجابة الرب،بل نؤمن بقلوبنا ونثق بعقولنا أن الرب قد وعدنـا بالإستجابـة، ولا نترك عرش النعمة حتى نقدم شكراً للـه لأجل إستجابتـه، فإننـا بالإيمان نسلك لا بالعيـان.
5. شرود الفِكر
من الصعب ان يحصر الإنسان فكره فى الصلاة وقتاً طويلاً، وسبب ذلك أن العقل لا يحتمل والشيطان لا يرغب،فيضطر الـمؤمن للـمصارعـة والجهاد العنيف.
ولذلك عندما تهاجمك سهام الأفكار الجارحة جاهد وإرفع صوتك، أو رنّم للـه بصوت مسموع حاصراً فكرك فى التسبيح،أو ردد بعض الـمزامير التى تحفظهـا بتأن وتأمـل. وإن لـم يهجرك ذلك العدو فإنهض وامشي فى غرفتك ذهاباً وإيابـاً مخاطبـاً الرب حتى تنتصـر، ثم ترجع جاثيـاً فى محضر الرب ثانيـة.
وهناك سلاح قوي لـمحاربـة الشيطان والأفكار هو سلاح كلـمة اللـه، فإقرأ فى كلـمة اللـه أو تـأمل فى بعض سطورهـا أو موضوعاتهـا، وذلك بأن تلقى نظرة شاملة إلـى معاملة اللـه لبني اسرائيل منذ خروجهم من مصر، متأملاً فى كل خطوة من خطواتهم ومعاملة الرب
لهم، مطبقـاً ذلك على حياتك،فترحل معهم إلـى البحر الأحـمر،
فـمارة، فإيليـم، ثم تصعد مع موسى الى جبل سيناء،وترحل مع الشعب الى قادش برنيع ثم تدخل الى كنعان. أو قاوم هذه الأفكار بأن تتأمـل فى حياة الـمسيح فتتصور نفسك معـه على الأرض، ترتفع معه الى الجبل لتصلّي، وتهبط الى الوادي لتعظ، ثم تسير معـه فى الطريق وتراه وهو يشفي الـمرضى ويقيم الـموتـى ويطهر البرص، وتذهب معـه الى قبر لعازر ثم ترافقه الى جثسيماني وتتـبعه حتى الصليب. ومـا أن تنتهـي هذه الرحلات التى تتخيلهـا حتى يكون ذهنك قد إنحصر فى الرب فتكمل صلاتك فى هدوء وسلام.
ثـانـياً- الجـهـل
الجهـل عقبـة كبرى فى سبيل تقديـم الصلاة الصحيحـة وفهم إستجابـة اللـه لهـا، ويتضح ذلك من الحقائق الآتيـة:
1. الجهـل بالطلب نفسه
وفى ذلك نرى أن صلوات الكثيرين لا تزيد عن كونها:
أ‌- طلبات أطفـال
كما يقول القديس بولس:”إنـي لـما كنت طفلاً كنت أنطق كالطفل وأعقل كالطفل وأفكر كالطفل”(1كورنثوس11:13)، فهذا يطلب أن تجري على يديـه معجزة، وهذا يرجو أن يكون صاحب أملاك، وهذا يتمنى أن يكون طبيباً، وهذا يرغب ألاّ يراه الـمُشرف لأن عمله ناقص، وهذا يطلب ألاّ يسألـه الـمدرس لأنـه لـم يستذكر الدرس وغيرها.
كل هذه صلوات، ولكن اللـه أعظم من أن يسمعهـا، مع انـه يستجيب فى بعض الأحيان لبعض الطلبات الصبيانيـة ليشجع مقدميها إذا كانوا أطفالاً فى الإيـمان.
ب- طلبات ماديـة
يقصد البعض بصلواتهم أن يحصلوا على طلباتهم الـماديـة فقط، وهذا يبخس الصلاة حقهـا ويسقط بها الى الأرض. ماذا يكون شعورك لو أحبك إنسان لينال منك شيئـاً، ألا تتألـم منـه؟، فكم بالحري شعور الرب إن كنا نطلبـه لننال منه الماديات فقط!.
قال القديس أغسطينوس:”اللهم إمنحني نفسك،فإذا منحتـني كل ما خلقتـه ولـم تعطني ذاتك فلا تشبع نفسي”.
وقال أحد القديسين:”مهما منحنتني يا إلهي من بركاتك فلا أرضى بـه إذا لـم تعطني ذاتك”. وردد احدهم نفس الفكرة إذ قال:”إليك إشتياقي وليس إلـى عطاياك”.
فشكراً للـه على عطيّة العطايا التى لا يعبـر عنهـا..ربنـا يسوع
الـمسيح. هذا هو الطِلبـة الأولـى والعظمى التى يجب أن نحصل
عليهـا،وهو كل مـا يجب أن نطلب.
ت- طلبات عـامـة
تلك كانت طلبـة بارتيماوس الأعمى الذى طلب من الـمسيح رحمته، ولكن الـمسيح أراده أن يخصص نوع الرحمة التى يريدهـا،فقال له:”ماذا تريد؟”، فلـما قال:”أن أبصر” إستجاب لـه.
نسمع صلوات كثيرة عامـة، فيوجد من يطلب مغفرة خطاياه دون أن يعترف بهـا واحدة واحدة..صلاتـه عامـة. ويوجد من يطلب قوة ولا يوضح القصد منها،هل للغلبـة على الخطيّة؟،أو لنجاح الخدمـة؟،فهذا صلاتـه عامـة. ويوجد من يطلب بركة فى الإجتماع الروحي ولا يوضح نوع البرَكة، هل هي الخلاص للخطاة؟،أو لبنيان الـمؤمنين؟،أو اي شيئ آخر..هذا أيضاً صلاتـه عامـة. لذلك ينبغي أن نخصص طلباتنـا عندما نقترب أمام العرش الإلهـي.
2. الجـهـل بطريقـة الطلب
يجهل الكثيرون كيف يقدمون صلاتهـم وذلك للأسباب التاليـة:
أ- البعض يقدمونهـا كفريضة
يظن البعض أنهم بصلاتهم يقدمون خدمـة للـه أو يظنون أنهم بكثرة
كلامهم يُستجاب لهـم(متى7:6)، لذلك ترى هؤلاء يقدمون صلواتهـم بروح
التهاون وعدم الإكتراث. وهذه الروح أشد إيلامـاً لقلب اللـه من تقديـم الصلاة نفسهـا.
ب- بدون الروح
صلاة بدون الروح القدس هى جسد بدون حيـاة. وكل إنسان ليس فيـه روح اللـه لا يـمكنـه أن يقدم صلاة فى الروح،كما أن صلاة يقدمهـا الإنسان بدون أن ينتظر إرشاد الروح هـى صلاة بدون روح. فعلينـا أن نطلب إرشاد الروح القدس لنـا فى كل ما ينبغي أن نصلّي من أجلـه فتكون صلاتنـا فى الروح(يهوذا20).
ت-بدون شفيع
لـن تقبـل أي صلاة لا تقدّم بإسم الـمسيح يسوع،لأنـه هو الذى يتقدم بنـا إلـى اللـه الآب،وبدونـه لا يـمكننـا الإقتراب أمام الآب السماوي،ولا يـمكننـا أن نسمعـه صوتنـا. ولذا يقول السيد الـمسيح:”كل ما طلبتم من الآب بإسمي يعطيكم. إلـى الآن لـم تطلبوا شيئـاً بإسمي”(يوحنا23:16-26)، إذ أن لنـا فى هذه الشفاعـة حقاً شرعيـاً بحكم بنوتنـا للـه.
ث-بدون عـمل
صلاة الكسول لا عـمل لهـا، قال نحميـا:”صلينـا إلـى إلهنـا وأقـمنا
حراساً”(نحميا9:4)، وقال الرب لـموسى عند عبور البحر الأحمر:”مالـك تصرخ إلـيّ،قل لبني اسرائيل أن يرحلوا”(خروج15:14).
3. الجهـل بطريقـة الإستجابـة
قال أحدهـم:قد تطلب سيدة من اللـه الصبـر فيعطيهـا طباخـاً بليداً، وقد يطلب مؤمن قوة روحيـة فيدخلـه اللـه إلـى ميدان للحرب،فعند النصرة يشعر الـؤمن بقوة اللـه،وعند الغلبـة يرى ذلك الـمؤمن أن اللـه هو الـمحارب والـمدافع عنـه.
كانت أم القديس أغسطينوس تصلّي لأجل إبنهـا لكي يخلص، ولـما أراد إبنهـا الذهاب الى إيطاليـا خافت عليـه من الـمادي فى الشر،فطلبت من اللـه أن يعطلّه، ولكن اللـه لـم يستجب لطلبتهـا حسب الظاهـر، فذهب أغسطينوس الى إيطاليـا وهناك تجدد وصار “القديس أغسطينوس”، وهذا ما كانت تتـمناه أمـه. لـم يستجب الرب لطلبتهـا ولكنـه إستجاب لجوهـر رغباتهـا. لقد صلّى الرسول بولس ثلاث مرّات من أجل الشوكـة التى فـى جسده(2كورنثوس7:12-9)، ولكن الرب لـم يستجب لـه لئلا يرتفع من فرط الإعلانات. وفـى هذا نرى أمـانـة الرب الذى خاف على الرسول من خطيّة الكبريـاء الهادمـة، فـمجداً للـه الذى لا يعطينـا بعض طلباتنـا خوفـاً علينـا ورفقـاً بنـا. ولكن الرب الـمُحب لـم يرض أن يترك الرسول بشوكتـه يقاسي مرارتهـا،فرفع عنـه ما كان يخشاه من إحتقار الناس لـه بسبب الشوكـة
(غلاطية14:4).
فهيـا نرفع قلوبنـا مهلليـن:”ما أعظم أعمالك يارب كلهـا بحكمة صنعت”.
نعـم يستجيب اللـه لنـا ولكن ليس بالطريقـة التى نريدهـا نحن،بل بالطريقـة التى يريدهـا هـو، فهـل نخضع لـمشيئـته؟
ثالثـا: نواميس الطبيعـة
يتحيـر العقل البشري، هل صلاة الإنسان على الأرض تغيـر نواميس الطبيعـة؟، وهل طلبـة الإنسان تغيـر مـا سبق اللـه أن نظّـمه؟، وهـل يخضع اللـه حقـاً لطلبات الناس وفى هذا خفض من عظمة الرب وسلطانـه؟
اللـه يستجيب لصلوات الـمؤمنيـن، وقد أعطاهـا اللـه سلطانـاً لتعمل ما تريد فى الخليقـة ما دامت وفق إرادتـه (1يوحنا14:5و15). وهل يصغـر مركز الآب لو إستجاب لطلبات إبنـه؟
صلّى اسحق فولدت إمرأتـه العاقـر (تكوين12:25)، وصلّى يشوع فوقفت الشمس فى كبد السماء نحو يوم كامـل(يشوع13:10)، وصلّى ايليـا فلم تمطر السماء ثلاث سنين وستة أشهر(يعقوب17:5و18)، وصلّى بولس وسيلا ففتحت أبواب السجن(أعمال26:16)،وطلب موسى دخول أرض كنعان فدخلهـا بعد صلاتـه بنحو 1500 سنة حين ظهر مع الـمسيح على جبل التجلّي(مرقس4:9).
أعطى اللـه الصلاة القوة الحقيقيـة لتكييـف مستقبل الناس ومستقبل العالـم كلـه.
وربـما يقول البعض:إن كان اللـه لا ينفذ شيئـاً إلاّ ما يوافق إرادتـه، فليس من الضروري أن أطلب، بل أترك لـه الأمـر ليعـمل حسب إرادتـه. ولكن من قال لنـا أنـه يعمل شيئـاً لو لـم نطلبـه نحن، وهو يريدنـا أن نعرفـه بطلباتنـا (فيليبي6:4)، لأنـه ينبغي أن تكون إرادتنـا هى إرادتـه ذاتهـا لتصيـر إرادتـه إرادتنـا، وحينئذ يمكننـا أن نطلب منـه ما نريد فيسمع لنـا ويخبرنـا بعظائـم لـم نعرفهـا
(ارميا3:33).
أمـا ان أردنـا معرفـة إرادة اللـه، فعلينـا أن ندرس كلـمة اللـه ونـنتظر إرشاد الروح القدس لأنهـما طريق الـمعرفـة الـمضـمونـة، وفى سبيل ذلك يجب على الـمصلّي أن يفرغ ذاتـه كليّة أمام اللـه من الآراء حتى يمكنـه أن يعرف إرادة اللـه تماماً ويسهل عليـه تنفيذهـا. ونقرأ عن يهوشافاط الـملك انـه إستشار الرب بعد أن جهّز الجيوش وأعلن الحرب على ملك آرام،فتألـم الرب من هذا التصرف الخاطئ وأجابـه بالقول:”أصعد وافلح”(1ملوك15:22)، وكأن اللـه يقول له: ما دمت قد اعتمدت على ذاتك من أول الأمـر ولـم تلتفت إلـيّ، فاصعد وأرنـي نجاحك وفرحك،فدخل الحرب وهُزم هزيـمة فاحشـة.
فلنسّلـم لـه كل قلوبنـا وإرادتنـا ونخضع للروح القدس الساكن فينـا وهنـا نصغي لصوتـه ونتـمم إردتـه كـما فى السماء كذلك على الأرض.
________________
الصلاة وشروطهــا
“اسهروا وصلّوا لئلا تدخلوا فـى تجربـة” (متى40:26)
1. ضرورة الصلاة
الصلاة هـى إتحاد النفس باللـه، فبواسطة الصلاة يرتفع الإنسان إلـى السماء ويخاطب اللـه سبحانـه وتعالـى ويطلب منـه جميع إحتياجاتـه. اللـه لـمّا خلق آدم جعلـه متعلقـاً بـه، فلا يعيش الإنسان بدون معونـته ولا يعـمل بدون مساعدتـه ولا يفكّر إلاّ بقوتـه ولا يخلص إلاّ بنعـمته. ولذا حيث ان الإنسان متعلق باللـه ويحتاج الى كل شيئ من اللـه فـمن الحمق والجهل أنـه يكُف عن الطلب ويلح فى السؤال، وهذا الطلب وهذا السؤال هو الصلاة.
السيد الـمسيح طالـما يذكّرنـا بالصلاة، فيقول لنـا:”صلّوا ولا تـملّوا.
“اسهروا وصلّوا”. “ان هذا الجنس لا يخرج إلاّ بالصلاة والصوم”، أي جنس الشيطان، أي اننـا لا يـمكننـا مقاومـة التجارب الشيطانيـة إلاّ بواسطة الصلاة والصوم. فهل يا ترى نريد أن نلهو ونلعب على مسرح هذه الحيـاة ونريد أن نتغلب على التجارب التى تداهـمنا؟
لا يا أبنائـي وبناتـي الأعزاء. نحن ندعى مسيحيين أي مثالنـا هو الـمسيح، ونرى أن الـمسيح الذى لـم يكن محتاج الى شيئ يصلّي فكان ينفرد فى الجبل وهناك يصلّي، فإذا كان معلـمنا يصلّي أفـمايجب علينـا الصلاة؟
2. مـفاعيـل الصلاة
نقرأ فـى انجيل القديس لوقـا عن أرملة نائييـن التى فقدت ابنهـا وحيدهـا، وفيما هى تودعـه مع جمع غفيـر وكانت تذرف الدموع السخينـة وتبكي بكاءً مرّاً نظر يسوع الى دموعهـا فتعطّف عليهـا وأقام لهـا إبنهـا. هذه الدموع هـى الصلاة، فالصلاة لهـا مفعول شديد على قلب يسوع فتجعلـه يتعطّف علينـا ويتحنـن ويعطينـا ما نطلبـه.
مفعول الصلاة هـى انهـا تقوينـا فى وقت التجربـة:”اسهروا وصلّوا لئلا تدخلوا فـى تجربـة”.
مفعول الصلاة يقوي الضـمير والإيمـان، فإذا نظرنـا الى صلاة كورنيليوس
الوثني نراها قد جعلت أن تكون هدايته إلى الإيمان الحقيقي بأعجوبـة.
3. شروط الصلاة
أ- أن يكون الإنسان فى حالـة النعـمة والقداسة
فكيف يمكن للإنسان الخاطي أن يطلب شيئـاً من اللـه وهو عدوه. يقول الرب فى اشعيا النبي:”إن خطاياكم حجبت بيني وبينكم فلا أعود أقبل تقادمكم”. فكيف يريد الإنسان الحيـاة وهو غارق بإرادتـه فى الـموت. فطهـّر نفسك وتصالح مع اللـه ثـم أطلب منـه مـا تشاء، والقديس يعقوب يقول”ما أعظم قوة صلاة البـار الفعّالـة”، وصلاة ايليـا النبي لأكبـر دليل على قوة صلاة البـار.
ب- أن تكون الصلاة بالإيـمان
فلابد عـندمـا نصلّي أننـا نؤمـن بقوة الصلاة وفاعليتها عند اللـه وإلاّ فـما فائدة صلاتنـا. قال السيد الـمسيح:”لو كان عندكم إيـمان مثل حبة الخردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا الى هناك فيطيعكم”
(متى19:17)، ولنـا مثال آخر فـى طلب رئيس الجند لعبده(متى8:8) وطلب الكنعانيـة لإبنتهـا (متى21:15-28).
ت- أن تكون بتواضع
لأن معنى الصلاة يتطلب ذلك، فالـمحتاج يطلب من الـمُحسن اليـه ولا بد
حتى يعطف قلب الـمحسن اليـه أن يستعمل الأدب والذوق ولا بد أن يكون
متواضعـاً، ومثلنـا فى ذلك مثل الفريّسي والعشّار(لوقا9:18-14)
ث- أن تكون بإنتبـاه وحرارة
يلزم أن الإنسان يعلم ماذا يطلب أو ماذا يقول. ليس إلاّ الـمجانيـن هم
الذين لا ينتبهون إلى ما يقولون، فالإيـمان يلزمنـا بأننـا نتخشع ونتنتبـه
لأننـا بحضرة من لـه سلطان علينـا فى الحياة والـموت.
هـذه الشروط الأربعـة يُضاف اليهـا شرط لازم لهـا وهو الإستمرار فى الصلاة، لذا يقول السيد الـمسيح لنـا دائـماً:”صلّوا ولا تـملّوا” و”صلّوا كل حيـن”. وهو يعطينـا مثلاً على الإلحاح والإسـتمرار فى مثل القاضي والأرملـة(لوقا1:18-8)، ومثل الصديقان(لوقا5:11-8).
صلاة: يارب أهدنـي الى الصلاة الحقيقيـة حتى أعترف أنك إلهـي، أنت خيري وحظي. أنت الـمُحسن إلـيّ، علـمني أن أرفع إليـك سؤالـي بكل تواضع وإيـمان وحرارة وإجعلنـي أن أثبت الى النهايـة لأسبّحك وأمجدك إلـى أبـد الأبديـن. آميـن.
__________________
سـماع كلـمة اللـه والعـمل بهــا
“أكلّمهم بأمثال لأنهم يبصرون ولا يبصرون ويسمعون ولا يسمعون ولا يفهـمون”(متى13:13)
1. اللـه لا يـمنّ علينـا بكلـمته
فى العهد القديـم كلّمنا اللـه بواسطة أنبيائـه، وفى العهد الجديد كلّمنا بواسطة إبنـه الوحيد. كان يسوع كلّـما تجمهـر حولـه الشعب يعلّمهم،فنسمعه وهو على الجبل يلقي هذه العظـة الباهـرة ويلقّن الناس وصيتـه الجديدة، ونسمعـه وهو على بحيرة جنيسارت فى سفينة بطرس وهو يعظ الشعب، ونراه فى كفر ناحوم فى بيت بطرس وهو يـبشّر ويشفي الأمراض،ونراه وهو فى بيت اليعازر وهو يعلّم مريـم بينـما مرثـا تهتم بأمور الـمنزل.
لقد أظهر لنـا إبن اللـه طريق الخير وطريق الشر، وأسمعنـا كلـمته الإلهيـة ولكن لا يكفي أننـا نسمع بل يلزمنـا أن نعـمل بـموجب ما سمعناه. ولذلك نجد الكتاب الـمقدس يتكلّم كثيراً عن ذلك، فالقديس بولس يقول:”ليس السامعون للناموس هم أبرار عند اللـه بل العاملون بالناموس هم يبررون”(رومية13:2)، والسيد الـمسيح يقول:”ليس كل من يقول لـي يارب يارب يدخل ملكوت السموات لكن الذى يعـمل إرادة أبـي الذى فى السموات هو يدخل ملكوت السموات”(متى21:7)، ويعطي لذلك أمثلـة عديدة (مثل الزرع) من اربعة فئات لم تستفد إلاّ فئـة واحدة(مرقس26:4-29)،ومثل البيت الـمبني على الصخر أو على الرمل. فنحن حقـاً نسمع ولا نسمع ونُبصر ولا نبصـر.
2. بدون نعـمة اللـه لا يـمكن أن تثـمر فينـا كلمة اللـه
يقول السيد الـمسيح:”بدوني لا تستطيعون أن تعملوا شيئـاً(يوحنا5:15)، ولذا بنعمة يسوع نستطيع عمل كل شيئ “أما عند الناس فغير مستطاع وأمـا عند اللـه فكل شيئ مستطاع”،هذا كان جواب السيد الـمسيح لتلاميذه الذين قالوا:”من يستطيع إذاً أن يخلُص”(متى25:19).
أنظروا فى الكتاب الـمقدس عن مفعول نعمة اللـه:
– هـى نعمة اللـه التى حوّلت شاول من وحش مفترس يضطهد بيعة اللـه إلـى رسول غيور يبشر بالـمسيح الذى أراد إضطهاده.
– هـى نعـمة اللـه التى جعلت داود النبي وهو صبي صغيـر السن أن يتقدم نحو جوليات الجبّار الذى أفزع كل صفوف اسرائيل،وبنعمتـه أمـاتـه.
– هـى نعمة اللـه التى قوّت سوسنـة العفيفـة وقاومت شيخا اسرائيل وفضّلت الـموت على انهـا ترضى بالخطيّة.
– هـى نعـمة اللـه التى جعلت القديسين بأجمعهم لا يهابون الـموت بل يتقدمون إليـه بكل شجاعـة طالبيـن اكليل الإستشهاد.
لذا أليس من الضروري إذن أن نطلب هذه الـنعـمة من اللـه حتى تثـمر كلـمته فينـا.
3. كيف نفسّر إذن قول الـمسيح لهم عيون ولا يبصرون ولهم آذان ولا يسمعون؟. أي أننـا نحب أن نسمع كثيـراً كلـمة اللـه ونسعى وراءهـا ونفرح عندما نعرف أنـه توجد رياضة روحيـة. ولكن أيهـا الأحبـاء فرحنـا وسعينـا مثل فرح وسعي الشعب اليهودي. أين الذين كانوا يجرون وراء يسوع؟، أليس هم الذين يصرخون قائليـن أصلبـه أصلبـه؟
قلبنـا ملآن من الضجـة، ملآن من الأفكار العالـمية، ملآن من الشهوات الرديئـة،ملآن بهموم الحيـاة. كل واحد يفكر فى مستقبلـه وما عساه أن يكون ولا يتكل على اللـه. لذلك هذا القلب الـملآن من ضجة الحياة لا تثـمر فيـه كلـمة اللـه،ولا تسمع فيـه كلمة السيد الـمسيح.
جاء فى سفر الخروج أن اللـه لـمّا كلّم موسى على الجبل قبل أن يسمعه صوتـه، حصل صوت رعد وبروق وزلزال ولـم يسمع موسى كلمة الرب،ثم صوت هديـر وهواء شديد ولـم يسمع كلمة الرب، ثـم نسيم عليل وفى هذا الهواء الهادئ اللطيف ووسط هذا السكون الجميل سمع موسى صوت اللـه معلنـاً لـه وصايـاه. فلا ننتظر نحن أن كلمة اللـه نسمعها وسط الضجة ووسط رنين الأفكار الـمتزاحمة وثورة الهموم الكامنـة فى النفس، ولكن يلزمنـا فى زمن النهضة الروحيـة أن نبعد عنـا كل الـمشاغل الدنياويـة ونبعد عنـا كل ضجة تمنعنـا من سماع كلمة اللـه فى داخلنـا ، ونلازم السكون قدر الإمكان متأمليـن فى هذه الكلـمة التى نسمعهـا فنتذوق حلاوتهـا. حقـاً ما أطيب الرب. تأملوا وجرّبوا وذوقوا ما أطيب الرب.
صلاة: يارب أعطني النعـمة لتثـمر كلـمتك فى داخلي وأتـمم إرادتك كل حيـن. أنـي أضع عليك كل إتكالـي أنت يا من قلت تعالوا إلـيّ يا جميع الـمتعبيـن والثقيليّ الأحمال وأنـا أريحكم. هبنـي الهدوء الباطنـي والسكينـة فى الضـمير لأستريح فيك وبك يا يسوع إلـى الأبد. آميـن.
________________
خلاص النفس
“اعـملوا لخلاصكم بخوف ورعـدة” (فيليبي12:2)
1. مسألـة الخلاص هـى مهـمة للغايـة
الخلاص هـى الـمسألـة الوحيدة التى من أجلهـا خُلقنـا، فهى مبدأنـا وغايتنـا. مهـمة للغايـة لأن نفسنـا ثـمينة للغايـة. ان الشيئ يغلو ويرخص فى السوق إذا كان كثيراً أو قليلاً والحال نفسنـا فريدة وحيدة،فـمن هذه الوجهـة هـى ثـمينة. ثـم أنهـا ثـمينة لأن السيد الـمسيح اشتراهـا بدمـه الثـمين فهى بثـمن دم إبن اللـه. ولكننـا لا نعرف قيـمة هذه النفس ولا نقدرهـا نسبة إلـى قلـة إيـماننـا، ولكن هناك من يقدر هذه النفس حق قدرهـا.
إسألوا الـملائكـة الذين يحرسون هذه النفس.
إسألوا قديسو العهد القديـم لـماذا ضحّوا بحياتهـم لأنهم عرفوا أن الحياة لا فائدة منهـا إذا خسرنـا نفسنـا “فماذا ينفع الإنسان لو ربح العالـم كله وخسر نفسه”(متى26:16).
2. يلزمنـا أن نعمل لخلاصنـا بخوف ورعدة
كما يقول القديس بولس، فهو الرجل الذى كان يقول أن أقمع جسدي وأستعبده لئلا أكون مرذولاً بعد أن وعظت كثيرين. والنبي والـملك داود كان يصرخ دائماً فى مزموره “يارب سـمّر خوفك فى لحمي”. ولكننـا نحن ضعفاء الإيمان والذين بالنسبة لهؤلاء نستحق العذاب لأننـا لا نهتم بأمر خلاصنـا. ماذا تنفع الـملّذات بعد الـموت؟، انـه فـى الأواخر يندم ويقول:واندمـاه،والهفتـاه!. ولكن ماذا ينفع الندم بعد أن تزل القدم فلا تنفع تأوهات ولا أنيـن، انـما الرب يضحك على هلاك الأشرار.
3. الخلاص مسألـة شخصيـة
لا يـمكن للإنسان أن يخلص بأعمال غيره. عجبـاً على قوم يتدهورون فى الخطايـا وينغمسون فى الرذائـل ويقولون سوف نتوب وصلوات أقربائنـا والقداديس التى تعمل على نياتنـا تخلصنـا من عذابات الـمطهـر. ومن يضمن لهم التوبـة بعد الإفراط فى الشهوات والـملذّات، ومن يضمن لهم الإسعافات بعد الـموت. أنظروا الى مثل العذارى الجاهلات (متى1:25-13) عندما طلبن من الحكيمات:”أعطيننـا من زيتكن” فكان رد الحكيمات: “انـه لا يكفي لنا ولكن فالأحرى أن تذهبن الى الباعـة”. فكأنهـن يقلن لا ينفع زيتنـا لـمصابيحكن. لا تنفع أعمالنـا لخلاصكن فكل واحدة تضيئ بزيتهـا بأعمالهـا الصالحة.
صلاة: يارب ضع خوفك فى قلبي. اجعلني أن أعمل لخلاصي بخوف ورعدة
حتى أتمكن من مقابلتك وتمجيدك والإلتصاق بك مدى الدهور كلها. آمين.
——————-
الخطيـّة وقصاصـاتهـا
“ان شعبي صنع شرين تركوني أنا ينبوع الـمياه الحيـّة وإحتفروا لهـم آباراً مشققة”(ارميا13:2)
· لا يوجد شيئ على هذه الأرض أردأ من الخطيّة الـمميتة لأنهـا تجدد صلب إبن الإنسان كما يقول لنا القديس بولس وتشهر إيـاه (عبرانيين6:6). ولا يوجد شيئ أشر منهـا لأنهـا خيانـة نحو الـمُحسن إلينـا. لـماذا خطيّة يهوذا عظيمة جداً، لأنهـا خيانـة الحب،فيسوع الذى ربـّاه مدة ثلاث سنوات،وهو الذى أحسن إليـه وها هو يسلّم الـمعلّم لأجل الـمال. ولذا يشتكي الرب الإلـه قائلاً:”ليس العدو يعيرني فأحتمل ولكن الذى أكل معي وشرب”(مزمور43:54-44). فالـمسيحيين والـمقربيـن إلـى يسوع أكثر وهـم الذين يأكلون جسده كل يوم ويشربون دمـه هـم الذين يطعنون قلبـه القدوس، ولأي شيئ؟، وبأي ثـمن؟. لهؤلاء يقول السيد الـمسيح فى شكواه الـمرّة: باعونـي بحفنـة من الشعير وبكسرة من الخبـز،أي بطعام البهائم وطعام الكلاب!
أنظروا إلـى اخوة يوسف وتأملوا حياتـه الـمؤثرة، وكيف أن اخوتـه باعوه حسداً وهو الـمسكين لا يقدر أن يتكلم، ويُضرب ويُهان وقد تحجّر قلبهـم ولـم يرأف. وأنـتم قد تحجّر قلبكم وعـميت عيونكم فلم تعودوا تشفقون على هذه الفريسة الـمسكينة التى بين يديكم وهى يسوع الـمسيح. مسكين يسوع مع بني البشر الذين أحبهـم وأراد أن يكون نعيمه معهم قائلاً:”نعيمي أن أكون مع بني البشر”.
· لـماذا الخطيّة عظيـمة لأنهـا إهانـة للـه عز وجلّ بحضوره فلا يستطيع أحد من البشر أن يشتم أحد العظماء ويهينـه أمام وجهه، ولكن الخاطي يتجاسر بوقاحـة أن يرفع رايـة العصيان ويتمرد ويعاند اللـه ويخالف وصاياه. لو كان الإنسان يتأمل وجود اللـه فى كل مكان لـما استطاع أن يخطئ. ولنتأمـل يوسف الصديق وصرختـه الشهيرة أمام زوجـة فوطيفار”كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ الى الله”
(تكوين9:39)، ولنـا مثال آخر مع سوسنة العفيفـة “خير لي أن لا أفعل ثم أقع فى أيديكما من أن أخطأ أمام الرب”(دانيال22:13)، ومثل يهوديت والقائد اليفانـا “اني لا استطيع أن آكل مما أمرت أن يُعطى لي لئلا تكون عليّ خطيئة”(يهوديت2:12).
ان اللـه ينزل القصاص على الذين يخالفونـه وقد أعدّ لهم مع الـملائكة الأشرار ناراً متقدّة لا تطفأ ودوداً لا يـموت. ولكن هذا القصاص الـمحتم لـم يكتفى بـه اللـه بل انـه أحياناً يظهر غضبـه على الذين يخالفونـه فى هذه الحيـاة، فقاييـن صار ملعونـاً تائهـاً على وجه الأرض يسمع دائماً هذه الكلمات ملعون أنت يا قايين وملعونـة الأرض التى شربت دم أخيك. ويقاصص اللـه العالـم كله بالطوفان، وسادوم وعـمورة بالنار والكبريت، وإمرأة لوط بأن صيرهـا عامود ملح،وشاول بأن نزع عنـه الـملك،وداود بأن ضرب شعبـه، والذين تـمرّدوا فى البرّيـة وهم ناثان وقورح فإبتلعتهم الأرض أحياء هم ومن معهـم. لا بل فى تاريخ الكنيسة نقرأ عن ديسقورس انـه قد اندلقت أمعاؤه منـه ومات، وأن يوليناوس الجاحد أصابتـه نبلـة فى قلبـه فكان يأخذ دمه بين يديه ويقول غلبتني يا جليلي.
فلنتذكر دائـماً عواقبنـا كما علّمنـا إبن سيراخ:”تذكر عواقبك يا إنسان فلا تعود تخطئ”. ولنتذكر دائـماً اننـا فى حضرة اللـه وانـه يرانـا ويراقبنـا فى كل لحظـة.
صلاة: إمنحنـي يارب أن أهرب من الخطيّة ومن أسبابهـا وأن أتجنب كل رذيلـة وأن أحبك وحدك وأقبل الـموت ولا السقوط فـى الخطيّة. آمين.
__________________
التــواضع
“والآن أنـا نبوكدنصّر أسبّح وأرفع وأعظّم ملك السماء الذى جميع أعمالـه حـق وسبله عدل ومن سَلك بالكبرياء فهو قادر على خفضـه”
(دانيال34:4)
فى حلم الـملك نبوكدنصّر نجد شجرة وسط الأرض نـمت وإرتفعت للسماء وبها ورق بهي وثـمر كثير وتحتها تستظل الوحوش وتأوي الى أغصانها الطيور وتغذّي كل دي جسد. ساهر قدير يأمر بقطعهـا وينثر أوراقها ويبدد سكانها ويأمر بترك أصلهـا ويوثق بالحديد ويبتـل بالندا وليأكل العشب وقلبـه قلب وحشي سبعة أزمنـة. ثم بعد مضي اثنى عشر شهراً كان يتمشى على سطح القصر وقال:”أليست هذه بابل التى بنيتها أنا الـملك بقوة عزّي وبهاء مجدي”، ثم يقول الكتاب الـمقدس” وفيما كانت الكلمة فى فم الـملك إذ وقع صوت من السماء إذ لك يقال يانبوكدنصر الملك أن المُلك قد زال عنك”(دانيال 4).
هذا مثل صغيـر به نفهم شناعة الكبرياء ولو كانت بسيطة. ان الرب يقاوم الـمتكبرين بذراع رفيعة،ويحط الـمقتدرين عن الكراسي ويرفع الـمتواضعين. هذه الكبرياء يـمقتها الرب لأنهـا أصل كل الرذائل،فالـمتكبر بسبب إعتداده بذاتـه لا يسستغيث باللـه ولا يصلّي ولا يعـمل حساب للعواقب ولا لوصايا اللـه والقريب. كيف يمكنه أن يعرف للتسامح طريق وهو صاحب العظمة والجلال، وينسى أن غفران خطاياه لا يـمكن إلاّ إذا سامح وغفـر.
مثل سقوط الـملائكة فنحن نقول مع لوسيفروس لا نخضع ولا نعبد. والـمتكبـر حسود، فإنظروا الى الشيطان كيف يحسدنـا لأننـا معدّيـن للسماء وهو يريد لنـا أن نخسرهـا.
أنظروا الى شاول وداود-شاول مع صموئيل النبي وكيف قدّم شاول الذبيحة لأنـه الـملك دون إنتظار لصموئيل النبي(1ملوك9:13)، وسقوط داود فى خطيئة الزنـا لكبريائـه (2ملوك11).
ومن جهـة أخرى فصلاة الـمتكبريـن مرذولـة، فأنظروا لـمثل الفريسي والعشّار (لوقا9:18-14)، ومثل قايين وهابيل(تكوين4)، ومثل اليفانا الذى تجبّر على الرب الإلـه وتصور أنـه لا يـمكن لأي قوة مهما كانت يمكنهـا أن تقف أمامـه فيموت بيد إمرأة وهى أضعف الـمخلوقات (يهوديت 13).
مـن أنت أيهـا الإنسان حتى تتكبّر؟، تصور ذاتك ومبدأك. أنك تراب. انك دودة الأرض الذليلة. قليل من الهواء يـمرضك. أكلك الذى تعتبره ألذّ شيئ عندك هو يكون سبباً لـمرضك وهلاكك. بأي شيئ تفتخر؟، بالجمال!. أنظروا لـم يكن أجمل من كليوباترة على ما يُقال ومع ذلك ماتت منتحرة وهلكت،فماذا نفعهـا جمالهـا؟.
فعلى أي شيئ تتكبّر؟
بالـمال!-كل شيئ يزول والكل عند الـموت سيّان فلا ينفع الـمال أمام الديّان ونحن لا نخلد على هذه الحياة ولا تدوم لذّتنـا.
بالوظيفـة!، بالحسب!..بأي شيئ تفتخـر؟
بالعكس أنظروا كيف ان الرب يكافئ الـمتواضعين. سيدتنـا مريم العذراء يقول لهـا الـملاك أنت أم اللـه فترد “انـا آمـة الرب”(لوقا38:1).
داود النبي يقول: “تواضعت والرب رفعنـي”.
يسوع المسيح يقول:”تعلّموا مني أنـي وديع ومتواضع القلب”(متى29:11).
فالـمتواضع كل إنسان يقدّره ويحترمـه ويحبـه، والرب يجعل فى تواضعـه نعـمة فيتعظّـم.
______________________
التــوبــة
“لأجل ذلك أقول لك أن خطاياها الكثيرة مغفورة لها لأنهـا أحبّت كثيراً”
(لوقـا 47:7)
مريم المجدلية كانت مشهورة فى المدينة بأنها إمرأة خاطئة لأنهـا نصبت حبال فخهـا لتصطاد كل من كان يراهـا. سمعت عن يسوع وعن تعاليمه فذهبت فى يوم من الأيام لترى هذا الرجل العظيم الـمشهور علّهـا تكسبه وتسقطه فى حبائلهـا، فتزيّنت بأحسن حللهـا وتجملّت بأفضل ما عندهـا وأخذت معها قارورة طِيب لتتعطر وتعطّر حبيبهـا الذى تكسبه. رأت يسوع وسمعت عظتـه ونظر إليهـا يسوع نظرة الإلـه الـمُشفق على خليقتـه فغيّر كيانهـا. انفردت مريم عن الجمع وفكّرت فى نفسها وتأملت ماضيهـا فخجلت ورأت يسوع يدخل بيت سمعان الأبرص فقامت مسرعـة وأخذت قارورة الطِيب التى فى يدهـا وسكبتـه على قدمي يسوع وبكت وبللّت بدموعهـا هذه الأقدام الطاهرة ومسحتهـما بشعر رأسهـا. يتذمّر سمعان، ويوبخـّه يسوع، ويعطيهـا الغفران لأنهـا أحبت كثيراً، فالغفران بقدر الـمحبـة (لوقـا36:7-50).
فالتوبـة هى التى هيّأت هذه النفس وجعلتهـا تنال الـمغفرة والسماح. ونحن غارقون فى بحر من الخطايا ويعترينـا الخجل والكسوف من الإعتراف. لـماذا لـم نخجل من إرتكاب الخطيّـة؟. لـماذا لا نخجل من مسك السيرة ودينونـة الغيـر؟. لـماذا لا نخجل من كبريائنـا وحسدنـا وبخلنـا ونـميمتنـا؟. كل هذا نصّرحـه لذواتنـا أمـا التوبـة والندامـة فهذا شيئ صعب لدينـا.
لابد أن تكون التوبـة حقيقيـة كمثال توبـة داود النبي لـمّا عرف بشر خطيئتـه من ناثان النبي فمزّق ثيابـه ولبِس مسحاً ومكث ثلاثـة أيام لا يأكل ولا يشرب كفّارة عن خطيئتـه. وكمثال توبـة أهل نينوى الذين تابوا بكرازة يونان النبي (يونان3). وكمثال الإبن الشاطر الذى فكّر حالاً وقال “أقوم وأمضي الى أبي وأقول له أخطأت الى السماء وأمامك ولست أهلاً أن أُدعى لك إبن”(متى28:21-32). وكمثال مريم المصرية التى تابت توبة حقيقية وسكنت البرارى ولم تقابل احداً من البشر لتكفّر عن آثامهـا العديدة.
من يتوب ويرجع الى الخطيّة تكون آواخره أشّر من أوائلـه، فيقول السيد الـمسيح فى انجيل القديس متى:”ان الروح النجس إذا خرج من الإنسان طاف فى أمكنة لا ماء فيهـا يطلب راحة فى يجد فيقول حينئذ أرجع الى بيتى الذى خرجت منه فيأتى فيجده فارغاً مكنوساً مزيّنـاً فيذهب حينئذ ويأخذ معه سبعة أرواح آخرين اشرّ منه فيأتون ويسكنون هناك فتكون آواخر ذلك الإنسان شرّاً من آوائلـه”(متى 43:12-45). والقديس بولس الرسول يقول”لأن الذين قد أنيروا مرّة وذاقوا الـموهبة السماويـة وجُعلوا مشتركين فى الروح القدس وذاقوا كلمة اللـه الطيّبـة وقوات الدهر الآتـي ثم سقطوا فلا يمكنهم أن يتجددوا ثانيـة للتوبـة صالبين لأنفسهم إبن اللـه ثانيـة ومشهريـن إيـاه”(عبرانيين4:6-6).
والسيد الـمسيح يهددنـا فى سفر الرؤيـا قائلاً:”فأذكر من أين سقطت وتُب
عن الأعمال الأولـى وإلاّ فأنـي آتيك وأزيل منارتك من موضعهـا إن لـم
تتب”(رؤيا5:2).
صلاة: أعطني يارب نعمة التوبـة الحقيقية والندامـة الكاملة على خطاياي وآثامـي وأنـي الآن أتوب عنها توبة صادقـة وأعدُك من الآن انـي لا أعود أرجع إليهـا. ثبّت يارب عزمـي وقويّ مقاصدي لأعيش متحداً معك وبك الى دهر الدهور. آميـن.
________________
آلام الـمسيح
“حينئذ قال لهم ان نفسي حزينة حتى الـموت فامكثوا ههنا وإسهروا معي”(متى38:26)
لقد أتت الساعة التى من أجلهـا أتـى الـمسيح، لذا يبدأ أن يخاف ويضطرب ويقول لتلاميذه “نفسي حزينة حتى الـموت. امكثوا معي ههنا”، ولكن الكل يتركوه، صار مهملاً مرذولاً من الكل حتى من أعزّ أحبائـه. وهناك فى هذا البستان الـمنفرد يـئن ويتوجع من ثقل الضربـة ومن عِظم الخطايـا. يقبضون عليـه ويأتون بـه أمام هيرودس وقيافا ثم أمام بيلاطس البنطي وهناك يُحاكم. هذا البرئ الذى طالـما تحنن على الجميع وصنع معهم الـمعجزات لا يجد من يحنّ عليـه. هذا الذى كان يعلّم العدل والإنصاف لا يجد من يُحاكـمه بالعدل. بدل الصوت الذى كان يسمعه “هوشعنا ملك إسرائيل”،يسمع الآن “ليس لنا ملك إلاّ قيصـر”. يجلده بيلاطس ويُلبسـه اكليل الشوك وأخيراً يُحكم عليـه بالصلب،فيحمل يسوع صليـبـه.
يسوع الـمسيح يوجـّه لكم هذا السؤال عينـه:”نفسي حزينـة حتى الـموت”، لقد ثقلت عليّ آثامكم وكثرت معاصيكم ولـم أعد أحتملهـا. تركتم يسوع فى آلامـه ولـم تفتكروا فيـه، ولو إفتكرتم
فـى آلامـه لـما سقطتم فى الخطيـّة. يحتمل الوحدة بدل سهراتكم
الخارجـة عن حدود اللياقـة. يحتمل السكوت ليعوّض عن كلامكم البطّال والسفيـه. يُهمل من أصدقائـه ليعوض عن عشرتكم الرديئـة. يقيد بالحبال ليعوض عن حريتكم الزائدة. يُجلد حتى يعوض عن تنعمات وملذّات أجسادنـا. ويُكلل بالشوك ليعوض الزينات الخارجـة عن حدود الحشمة واللياقـة.
يحـمل يسوع الصليب ومن ثقلـه يسقط تحته ثلاث مرات ولا يجد من يساعده إلاّ سمعان القيراونـي. ينظر الى بنات أورشليم ويعزّيهن قائلاً:”لا تبكين عليّ بل على أنفسكن وعلى أولادكن”. يعرق دمـاً ويلطخ وجههـه بالبصاق والتراب فيصير “لا منظر لـه فننظر إليـه ونشتهيـيه”.
يسوع يدعوك الى حمل الصليب معه أي لتحتمل التجارب ولتقبل الـمصائب وتقدمهـا كفّارة عن خطاياك للـه تعالـى. يعزّي بنات أورشليم أي يعزّي كل من يشفق عليـه ولكنه لا يعرف كيف يشفق، فبدلاً من أن تتأثروا من آلامـه وعذابـه خففـوا عنـه ببكائكم على آثامكم وخطاياكـم.
وكان وجهه ملطخاً بالبصاق ومعفراً بالتراب ليكفّر عما تضعه الإبنة أو الإمرأة من أنواع التجميل على وجههـا والخارج عن حدود الحشمة.
اخيراً يُعلّق فوق الصليب ويُرفع فوق خشبة العار كما رفع موسى الحيّة فى البريـّة حتى كل من كان مريضاً ينظر إليـه فيشفى، حتى كل من كان متألـماً ينظر إلـى آلامـه فيتعزى، وكل من كان مظلومـاً ينظر الى ظلـمه فيحتمل بصبـر.
“يا جميع عابري الطريق أنظروا وتأملوا هل من وجع كوجعـي”.
والآن جودي يا نفسي بعبَرات ثخينـة شفقـة على مخلصك يسوع وابكي على مـآثـمك العديدة التى سببت موت مخلّصك على خشبة العار ولنطلب منـه أن يهبنـا النعـمة حتى نحمل صليبنـا بصبـر ونجاهد الجهاد الحسن حتى ننال الإكليل الـمُعدّ للفائزيـن. آميـن.
________________
محبـة القريب
“انـي أعطيكم وصيّة جديدة أن يحب بعضكم بعضاً وأن يكون حبكم لبعض كـما أحببتكم أنـا وبهذا يعرف الجميع انكم تلاميذي إذل كنتم تحبون بعضكم بعض”(يوحنا34:13)
جاء فى انجيل القديس لوقا قصة الرجل الذى وقع بين أيدي لصوص فى الطريق بين اورشليم وأريحا(لوقا30:10-37). ولقد قابله كاهناً وجاز، وقابله لاوي وجاز، وقابله السامري فتحنن عليـه وحمله على دابـة إلـى الفندق ليعتنى بأمره ودفع عنـه دينارين. فالقريب هو السامري ولو ان العداوة كانت شديدة بين اليهود والسامريين. ومن هذا الـمثل نفهم وصية المسيح القائلة:”أحبّوا أعداءكم وأحسنوا الى من يبغضكم”. وبهذا نفهم قول السيد المسيح:”انـي أعطيكم وصيّة جديدة”. فالـمحبة وصيّة أزليـة،ولكن الجديد فى وصيّة الـمسيح هو محبة الأعداء،فهو يقول لنـا:”فانكم إن أحببتم من يحبكم فايّة منّة لكم فإن الخطأة يحبون من يحبهم”(لوقا32:6).
بدون الـمحبـة لا فائدة من كل الفضائل الأخرى لأن الفضائل كلهـا تزول بالـموت ولكن تبقى الـمحبـة. والقديس بولس الرسول يقول:”لو كنت أنطق بألسنة الـملائكة والبشر ولم تكن فيّ المحبة فأنما أنا نحاس يطن وصِنج يرّن. ولو كانت لـيّ النبوة، ولو كان لـي الإيمان كله حتى أنقل الجبال ولم تكن فيّ الـمحبة فلست بشيئ. ولو سلّمت أموالي للـمساكين وجسدي ليحرق ولم تكن فيّ المحبة فلا أنتفع شيئاً”(1كورنثوس1:13-3).
نقرأ من تاريخ الكنيسة أن الـمسيحيين الأوائل كانت عندهم محبة غريبة بعضهم لبعض، فعندما كانوا يُساقون الى السجون ويفرضون عليهم الأشغال الشاقة كان الذى ينتهى من عمله قبل الآخر (وكان كل واحد يجتهد أن ينتهى الأول) يساعد أخاه. وأن القديس باخوميوس مؤسس الرهبنات هو نفسه ارتد الى الـمسيحية بسبب ما رآه من حب الـمسيحيين بعضهم لبعض وخاصة لأجل أعدائهم.
“بهذا يعلم الجميع انكم تلاميذي إذا كنتم تحبون بعضكم بعضاً”، لقد أعطى السيد الـمسيح علامة الـمحبة لتكون عربونـاً بين الإخوة. فديانـة الـمسيح هى ديانـة السلام،ديانـة التعاون، والـمحبـة كما يقول القديس بولس “تتأنـى وتصبر وتحتمل”، وكمايقول القديس يعقوب “ان الـمحبة تستر جـمّاً من الخطايـا”(يعقوب20:5).
_________________
الثبات إلـى النهايـة
“أنـي آت عن قريب فتـمسك بـما عندك لئلا يأخذ أحد اكليلك”
(رؤيا11:3)
هذه الآيـة تذّكرنـا بقصة الأربعين شهيداً لـمّا طرحوا فى بركة ثلجية ووقف عليهم الحارس،وطلب أحدهم فى هزيع الليل أن يخرج ويكفر بالله وبالـمسيح وطلب أن يوضع فى ماء ساخن،فلـما وضعوه فيـما بعد نكرانـه مات على الفور فخسر الدنيا والآخرة. ثـم رأى الحارس فى الجو أربعون اكليلاً من الذهب تسطع كالشمس ونظر فإذا هناك تاج ليس تحته أحد، فحلّت النعمة فى قلبه وهتف معترفاً بالـمسيح ونزل الى البِركة لينال هذا الإكليل. فالسيد الـمسيح يقول لنـا تمسكوا بـما عندكم أي بـمقاصدكم الصالحة وغيرتكم الدينية لئلا يأخذ أحد اكليلكم، وهو يقول أيضاً :”من يثبت الى النهايـة فذاك يخلص”.
مهما بلغت حكمة الإنسان وسموه فى القداسة إن لـم يخف ويحافظ على حالتـه ويداوم على فضيلتـه فلا بد من سقوطـه. لا يوجد ولن يوجد أحكم من سليمان الحكيم هذا الذى أتت ملكة التيـمّن من أقاصي الأرض لتسمع صوتـه وحكمته وفى آخر حياتـه تعلّق بالشهوات وجعل ابنة فرعون تنتصر عليـه ويعمل لها صنماً ويعبده معهـا، ولذلك ينطفئ ذِكر هذا الرجل العظيم لأنـه لم يثبت فى برّه للنهايـة. ويُحكى انـه كان فى الإضطهادات الأولـى يعذبون الـمسيحيين بأنواع العذاب الكثيرة ومنهم من قطعوا لسانه وآخرون فقأوا عيونهم وكان الذين قد قُطعت ألسنتهم يتكلمون كالعادة بنعمة اللـه، ولـمّا خطئ أحدهم بخطية الزنا خرس فى الحال لأنـه لـم يثبت وزالت عنه نعمة اللـه.
الثبات من جهـة نعـمة مجّانيـة من اللـه، ومن جهة أخرى جهاد من قِبل الإنسان. فعندما صرخ بولس الرسول قائلاً:”من ينقذني من جسد الـموت هذا”سمع الصوت القائل “نعمتي تكفيك” يا بولس, ومن جهة أخرى نرى بولس يقول:”أني أقمع جسدي وأستعبده فلا بد من النعـمة والجهاد معاً للثبات. والسيد الـمسيح يقول:”من غلب فأني أوتيـه أن يجلس معي على عرشي كما غلبت أنا وجلست مع أبي على عرشه”(رؤيا21:3). فلنسأل الله وبشفاعة والدة الإلـه الطاهرة القديسة مريـم نعـمة الثبات للنهايـة. آمين.
_______________
لـمن تصلّي؟ وكيف تطلب؟
هـل تصلّي لـمن يُسيئ إليك وتطلب بركـة لـمن يلعنك؟
أذكر أن كلـمة واحدة من كلام الرب لا تسقط أبداً عندما نادى بالحب لكل إنسان.
لذا أريدك أن تصلّي دائـماً صلاة الحب والتسليـم لأن الله هو الحب.
جرّب التوبـة فـى صلاتك بأن تبارك فى كلـماتك مع الله الذين تقبلهم والذين لا تقبلهـم، لا مُرغـماً بل مُحبـاً.
درّب نفسك واسعـى أن يكون قلبك مثل قلب الرب يسوع فهو يطلب أن تكون حياتك هى صلاة تسليـم،والتسليـم معنـاه الإستسلام التام والكامـل لـمشيئـة الله.
فتخلو صلاتك إذنْ من قائـمة الطلبات، إلاّ طلب واحد وهو طلب إرادة الله.
سلّم كل مفاتيح حياتك دون أن تحتفظ بشيئ لنفسِك، وإرفع للـه كل شيئ وثق انك كـما باركتَ ورفعتَ سيباركك ويرفعك الرب القديـر.
______________
صلاة
أيها الرب الإلـه ان كلـمتك قويـة جداً فهى كسيف ذى حدّيـن. فقد شقّت البحر وجمّدت الـمياه بفم موسى النبي، وأوقفت الشمس بفم ابن نون، وفتحت السموات وحبست الأمطار ثلاث سنين وستة أشهر بفم ايليـا، وأقامت الـموتـى وفتحت أعين العـميان وطهّرت البرّص وسكنت الرياح بفـمك الطاهـر.

ان كلـمتك قدّست العالـم وبددت الغيوم وأقـمعت الشهوات.
ان كلـمتك أولدت الوفـاء من أبنـاء الإيـمان.
فلِمَ أضحت عقيـمة فى عصرنـا الحاضر، ولـِمَ ضعفت قوتهـا؟
هـل تغيرت عـمّا كانت عليـه..حاشا وكلا.ّ
فإنـه لا يوجد سبب لإبطال تأثيرهـا فى النفوس إلاّ عدم إستماع الـمسيحيين لـها كـما يجب. فـمنهم من يشمئز من إستماعهـا، ومنهم من يقاومهـا، علـماً بأننـا فى أشد الإحتياج لسماع صوتك الحنون وإلـى معرفـة الطريق ولا يتم لنـا ذلك إلاّ إذا تبعناك أنت وحدك.
· فإذا سمعنا صوتك وتبعناك يا يسوع لا نضلّ لأنك قلت: “انا هو نور العالـم من يتبعني لا يـمشي فى الظلام”.
· إذا سمعنـا صوتك وتبعناك يا يسوع فإننـا نصل إلـى الخلود لأنك أنت قلت:”أنا هو الطريق والحق والحيـاة لا يقدر أحد أن يأتـي إلـى الآب إلاّ بـي”.
· إذا سمعنـا صوتك وتبعناك يا يسوع فإنك ترعانـا لأنك قلت:”أنا هو الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخِراف”.
· إذا سمعنـا صوتك وتبعناك يا يسوع فإننـا نثبت على الإيـمان فإنك قلت: انا الكرمـة وأنتـم الأغصان”.
· إذا سمعنـا صوتك وتبعناك يا يسوع فاننا نطـمئن قائلين:”إذا سرتُ فى وادي ظل الـموت لا أخاف شراً لأنك أنت معـي”.
كلـمتك يارب هـى سراج – “سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي”.
كلـمتك يارب تحفظنـا من الخطيّة – “خبأت كلامك فى قلبي لكي لا أخطئ إليك”.
كلـمتك يارب لذيذة – “كلامك أحلى من العسل وقطر الشهد وشريعتك هى لذّتـي”
كلـمتك يارب تعطي الحيـاة- “كلام اللـه روح وحياة”
كلـمتك يارب سلاح – “كلمة الله حيّة وفعّالة وأمضى من كل سيف ذى حدّيـن”.
كلـمتك يارب تخلّص النفوس- “فإجعلنـا يارب أن نقبل بوداعـة الكلمة الـمغروسة القادرة أن تخلص نفوسنـا”.
أجعل يارب قلوبنـا كالأرض الجيّدة التى أنبتت الزرع الإلهـي وأعطت أثـماراً كثيرة لنستحق الطوبـى الـمعطاة للذيـن يسمعون كلـمة اللـه ويعـملون بهـا. آميـن.
_________________
“ليس لأحد سلطان على الروح فيضبطه ولا سلطان على يوم الـموت”(جامعة 8:8)
ليس شيئ من أمور هذه الدنيـا إلاّ وهو معرّض للشك، ولكن مهما وقع الشك فى أمور الحيـاة فإنـه يوجد أمـر واقع لا شك فيـه هو الـموت.

يدخل الإنسان العالـم من باب ولا بد له أن يخرج منـه من باب آخـر، فدخولـه من باب الولادة وخروجـه من باب الـموت. وعلى هذا الـمنوال نرى الناس على إختلاف حالاتهـم واحداً داخلاً إلى العالـم وآخر راحلاً عنـه، فإن حياة الإنسان ليست إلاّ ولادة وموتـاً فعند ولادتنـا نخرج من قبر مظلـم وعند موتنـا ندخل قبراً أظلـم و أفزع.
قال القديس أغسطينوس:”أمر موتنـا هو أكيد بلا ريب، ولئن كان الطفل حين
ولادتـه لا يعرف من أمر مستقبلـه شيئاً أيكون غنيـاً أم شقيـّاً، ولكن أمراً
واحداً يعرف عنـه بكل تأكيد هو إلتزامـه بأن يـموت”.
متى عرفنـا ذلك فـمابالنـا نعيش ونتصرف فى الحياة تصرف من لا يموت أبداً؟. هل نظن أن هناك قوة أو حيلـة يـمكننـا أن نستخدمهـا لنـمنع حكم الـموت علينـا أو نؤخره؟
هوذا القديس أغسطينوس يقول:”يمكن للناس مقاومـة النيران الـملتهبـة
وأمواج البحر الهائلـة والـملوك الجبابرة ولكنـه حينما يأتى الـموت
فـمن يستطيع أن يقاومـه؟”.
انـه لأمـر مؤكد أن الإنسان مخلوق من اللـه فيلزمـه الرجوع إليـه لأنـه مركزه” فأي إنسان يحيا ولا يرى الـموت، أي ينجي نفسه من يد الهاويـة”(مزمور48:88).
فـما أقوى إرتباط الـموت بالحيـاة، فالحيوان الذى يلعب فى الحقل سيشعر عـمّا قريب بالسكين. الثور والحـمل اللذان يمرحان فى الـمرعى إنـما يسـمنان لأجل الذبح،والأشجار لا تنمو إلاّ للقطع.
فـمتى تأكدت من ذلك أيها الإنسان فلا توهم نفسك بطول العيش ولا تحدثهـا كأن الـموت بعيد عنك، بل قل لهـا يا تُرى هل يدركنـا الـموت فى بحر هذه السنـة أم فى هذا الشهر أم فى الأسبوع أمم فى الغد أم فى هذا اليوم أم بعد هنيهـة فقط؟. قل لنفسك متى تخرجيـن يا نفسي من هذا الجسد؟،وأين يكون ذلك أفـى الشتاء أم فى الصيف؟، فى مدينـة أم فى قريـة؟، فى الليل أم فى النهـار؟، أيكون ذلك على غفلـة أم بـمرض أم بحادث آخر من الحوادث؟. مـا أصدق قول بعضهم:”حياة الإنسان كالعصفور الذى ينتقل من مكان إلى مكان وهو لا يدرى أين يلاقي حتفـه أفى عشـه أم وهو يستريح على شجرة أم وهو يلتقط فى الحقل أم وهو يستقي من غديـر؟”.
صوّر الحكماء الـموت على عمود عال بشكل رجل شجاع مترجّل تظهر عليـه علامات البأس وهو متشح بملابس حالكة السواد بحالة ترهب النفس، ووضعوا فى يده الواحدة منجلاً وفى الأخرى قوساً وحجبوا عينيـه بغطاء غليظ من قماش سميك وجعلوا على رأسـه إكليلاً مضفوراً من حشيش الافسنتين وسدوا أذنيـه بالرصاص ولم يضعوا فى رجليه حذاء بل أجنحة جوارح الطير. ولقد قصدوا بشدة بأسه أن يبرهنوا على إقتداره على إمتلاك النفوس مهما كانت عظمتهـا، وأرادوا بالـملابس السوداء أن يصوروا للناس ما يخلفه من الأحزان والحسرات، ومن إمساكه بالـمنجل والقوس أن يدّلوا على أنـه يضرب الكل بلا إستثناء فالبعيدون عنه وهم الشبان يرشقهم بقوسه والقريبون منه وهم الشيوخ يحصدهم بـمنجله، وقصدوا من إقفال عينيه أن يشيروا إلى انه لا ينظر إلى جلال العظماء ولا إلى ضِعة الـمتضعين، وأرادوا بحشيش الافسنتين ان الموت يخلف المراره، كما أرادوا من سد أذنيـه أن يشيروا الى انه لا يسمع التنهدات والزفرات ولا يرهب من التهديد والتخويف، ومن جعل رجليه بلا حذاء الى انه يفاجئ الإنسان فى أي وقت.
والوثنيون القدماء لم يبنوا مذابح للـموت بين مذابح آلهتهم الكثيرة الـمعلومـة والـمجهولـة لعلمهم بأنـه آخر عدو قوي لا يذعن ولا يلين بواسطة من الوسائط مهما كانت، فالرشوة لا يلتفت إليهـا والتقدمـة
لا يكترث بهـا فلا يرحم شبيـبة ولا يشفق على شيخوخة.
ومن عادات اهل إحدى بلاد الهند انهم يقيمون إحتفالاً كل مائة عام فى ساحة كان فى وسطها صخرة مرتفعة، وحين يتم الإجتماع فى ذلك اليوم يخرج منادِ فى الناس قائلاً: ليتقدم الآن ويصعد على هذه الصخرة من شهد مثل هذا الإحتفال منذ مائة عام،وحينئذ يسود على الكل صمت عميق وينتظرون حتى يبرز من بينهم رجل عبث به مر الأيام فيتثاقل فى مشيته ويصعد الصخر ببطء ويظهر امام الناس منحني الظهر أبيض الشعر مجعد الوجه تكسو وجهه سحابة مما لحقه من البلايا ثم يتكلم بحزن عما شهده فى بحر الـمائة عام من سقوط ممالك وإنهيار عروش وزوال أشخاص ويختم كلامه بقوله:كل ما استطيع ان اقوله عن هذه الحياة انها دار زوال فكل ما شهدته زال كما أني أنا أيضاً سأزول وسيأتى الإحتفال القادم وأنا تحت التراب وقد بلي لحمي وفنى عظمي”.
فكن على ثقة أيها الإنسان انـه كما سجّل إسمك فى عداد الـمولودين يوما
سيسجّل أيضاً ضمن الأموات فى يوم آخر، وما صنعتـه يوماً بأحد أقربائك الـمائتين سيصنع بك أيضاً يوم تموت، وكما تتكلم عـمن رحلوا قبلك وتقص أخبارهم فكذلك سيتحدث عنط من يبقون بعد رحيلك، وكما ورثت من سبقك سيرثك أيضاً من يلحقك. ومهـما بكى عليك وولول من تظن انهم يحبونك فلا بد انهم يوماً يضحكزن ويرجع إليهم السرور كما كان أثناء وجودك. سيأكلون على الـموائد التى كنت تأكل عليها ويشربون فى الأقداح التى كنت تشرب فيها، وبينما تكون أنت مرعى للدود والحشرات يكون أقرباؤك متنعمين بمالك مبتهجين بـميـراثك.
قيل ان أحد الملوك وهو يموت رأى أهله حولـه يبكون فقال لهم:”جُدت عليكم بالدنيا وجدتم عليّ بالبكاء، وتركت لكم ما جمعت وتتركوني أحمل على ظهري ما عملت”، وقال داود النبي:”نسيتُ من القلب مثل الـميت”(مزمور26:32).
فهـل هنـاك إذاً من شك فى الـموت؟
أحبـائـي، ان الـموت مـرّ ومكروه ولا شك فى ذلك، فهو قصاص الخطيـة، وفاصل الـمتحديـن، ومفرّق الـمتحابيـن، هو الـمغمض العينيـن فلا تنفتحـتان من بعد لرؤيـة الأهل والـمحبيـن والأخوة والبنيـن، أو لـمشاهدة القصور الـمشيّدة والـمزارع الخضراء والأشجار والأزهار الزاهيـة. الـموت يصم الآذان فلا تعود تسمع نداء الـمحبيـن وغناء الـمغنييـن. الـموت يطبق الشفتيـن فلا تنفتحان من بعد لتناول ما لذّ وطاب من الطعام والشراب، لا تنفتحتان للأحاديث سواء كانت صالحة أو طالحـة، ولا تنفتحان لـمخادعـة الإنسان لأخيـه الإنسان، ولا تنفتحتان لإهانـة الوضيع وشتمه ومداهنة الرفيع وتعظيمه، ولا تنفتحتان للوقيعة وقطع العِرض أو للقَسَم الكاذب أو الهزء بعقائد الديـن أو للـمؤامرة على إضرار القريب وسلب كرامتـه وخيراتـه.
هو الـموت تشل بـه اليدان فلا تـمتدان من بعد للـمحارم وتناول كؤوس الـمسكرات ولا تنبسطان لقبض الدراهم الزائلة.
هـو الـموت يخلع الرجلّين فلا تعودان تقويان على السير فى اثر الرغائب والجرى وراء العدو للإنتقام منه والجرى وراء القـمار أو للـمجالس البذيئـة التى لا يكون فيها سوى السخريـة والهزء والكلام الخارج عن حدود الأدب.
بـك أيهـا الـموت ينفصل الإنسان عن كل ما فى الدنيـا من الخيرات.
بـك أيهـا الـموت ينفصل الإنسان عن كل ما ملكت يداه من بيت ومتاع وحقول وماشية وزخرف وزينة ودنانيـر صرف العـمر فى جمعها.
بـك أيهـا الـموت ينفصل الإنسان عن كل كرامـة سهر الليلي فى طلبها.
بـك أيهـا الـموت ينفصل الإنسان عن بنيـن قضى فى تربيتهم السنين
الطوال وصرف فى خدمتهم وتربيتهم ونجاحهم كل عنايتـه وضحّى فى سبيل
اعزازهم كل راحتـه.
بـك أيهـا الـموت ينفصل الإنسان زوجـة محبوبـة كانت له عونا فى الضراء وشريكة فى السراء.
فـما أشد ضررك أيهـا الـموت ومـا أمرّك، فإذا كنا سمعنا بالداهية العظيمة فأنت هو، أو بهادم اللذات فأنت هـو، أو بـمفرّق الجماعات فأنت هو، أو باللص السالب الجسد حياتـه ونضارتـه فأنت هـو، أو بالناهب الإبن من حجر أبيـه والأب من بين أولاده والأم من بين صغارهـا فإنت هـو، أو بالقاتـل القاسي القلب الذى يقتل الإنسان الشريف ليجعلـه طعامـاً للدود والحشرات الدنيئـة فأنت هو أيهـا الـموت.
تلك أيهـا الأحبـاء خواص الـموت وأثاره التى نتصورهـا فيـه فنكرهـه كرهـا ما بعده كره، وتنقبض صدورنـا من ذكره وترتعد فرائصنـا من رؤيـة خيال خيالـه،فأي شر أقبح من شر الـموت!
فـما بالنـا إذاً لا نفتكر فى أننـا نموت والموت أمر محقق؟
ان من كان تحت خطر الإعدام يتصوره فى كل دقيقة، ونحن تحت خطر الـموت فلنتصوره على الدوام.
على أن كل الويلات التى يأتينـا بهـا الـموت ليست بشيئ إزاء ما نخشى الوقوع فيـه، فكيف يكون موتنـا ياترى؟
فلنتـأمل الآن فى موت الخاطئ وموت البـار
قال داود النبي “موت الخطاة بالسيئات”(22:33) و “كريم فى عيني الرب موت أصفيائـه”(15:115). انـه لأمر واضح أن الإنسان يحصد ما زرع ان كان شوكاً فشوكاً وان حنطـة فـمثلهـا، فالخاطئ الذى يحيا فى الشر وعمل السيئات يكون موته شريراً والذى يحيا فى البِر وعمل الصالحات تكون ميتـته صالحة. انـه من الـمحال ان الغرس تثمر ثمراً من غير نوعهـا، فالخروب لا يثـمر عنبـاً ولا الترمس يثمر لوزاً، وهكذا لا ينتج من الحياة الشريرة ميتة صالحة “فمن يجنى من الشوك عنباً أو من العوسج تيناً”
(متى16:7). ومن الـمحال أن يبلغ الى أورشليم من سلك فى طريق بابل بل يبلغ الى المكان الذى توصل اليه تلك الطريق السالك فيها، أي من يسلك طريق بابل الجهنمية لا يبلغ الى أورشليم السماويـة. والعدل يقتضي ان الإنسان يجنى مما صنعت يداه، والـمرء يجزى بما فعل، فإن فعل الخي يجز بخير وان صنع الشر يلق مثله وعليه اقتضى ان نبين كيفية موت الخطاة وموت الأبرار.
موت الخـطاه بالسيئـات
– يكون موته خطية:كموت شاول الذى قال لحامل سلاحه “استل سيفك وأوجأنـي به” ولـما أبى حامل سلاحه أخذ شاول سيفه وسقط عليه فمات (1ملوك 31)،ومثله موت يهوذا الإسخريوطى الذى
شنق ذاته(أعمال الرسل 18:1).
– يموت فى حال الخطيّـة: كموت فرعون إذ كان مضطهدا بني اسرائيل(خروج27:14)، وموت سكان سدوم وعمورة (تكوين24:19)،وموت كل خاطئ بدون توبة صحيحة.

وهذا الـموت الشرير لـه أسباب كالآتـى:
– لأن جميع الخطاه يرغبون فى ان يموتوا موتاً صالحاً ولكن يكون ما لا يرغبون.
– لأن جميع الخطاه فى هذا الموت يرغبون خسارة النفس وخسارة النفس هى خسارة الكل لأنه “ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه او ماذا يعطى فداء عن نفسه”(متى 26:16).
– لأجل العقوبات القاسية التى تلحق هذا الـموت الشرير أي الأنهر الناريـة والدود الذى لا يموت والسجن الأبدي.
والذيـن يـموتون فى حال الخطيّة على ثلاثـة أنواع:
1. الذين يموتون بغير توبـة بإختيارهم: وهم الذين يصرّون على خطيئتهم بعناد ولا يريدون الرجوع عنهـا ولا فى حال قربهـم على الـموت. هكذا مات يوليانوس الجاحد مجدفاً على الله فانـه رشق بحربـة سماويـة وقد أخذ كمية من دمـه ورشـه إلى الجو قائلا لقد غلبتني يا جليلي. ومثله كل الذين يرفضون التوبـة فى ساعة الـموت وفى خطره القريب، وكل الذين يموتون فى حال الكراهيـة والحقد والذين يأبون رد مال الظلم والذين يضطرمون بنار الشهوات الى منتهى الحياة.
2. الذين يموتون بحال الخطيـة ليس بإرادتهـم: وهم الذين يموتون من قِبل الإنتقام الإلهـي عقاباً لخطاياهم السابقـة التى أصرّوا عليهـا وذلك امـا لأن موتهم يكون فجأة واما لتغاضى أقربائهم عن إستدعاء الكاهن أو لثقل الداء وشدة الألـم الذى لا يدعهم أن ينتبهوا لأمر نفسهم.
3. الذين يموتون بتوبـة كاذبـة: وهم الذين لـم يحصلوا على التوبـة الحقيقية لأجل صعوبتهـا على من لـم يمارسها حال صحتـه، لأنـه يلزم التائب الحقيقي أن يغيـر قلبـه ويبغض ما كان يحبه قبلاً أشد محبـة ويحب ما كان يكرهـه أعظم كرهـا. ففى ساعة الـموت لا يظن ان الخاطئ ترك الخطيّة بل الخطيـّة تركتـه، والدليل انـه لو شفى من مرضـه لرجع إليهـا وكان له سوء فى الآخرة.
موت الأبـرار
الأبرار يكون موتهـم كريم لدى الرب لأنـه نهايـة الأتعاب والشقاء
وخاتمة الإنتصار على الأعداء، فأحرى بـه أن يُدعـى حياة لا موتـاً لأنهم يخرجون من مكان الشقاء الى مكان الراحـة والسعادة كقولـه تعالـى:”طوبـى للـموتـى الذين يموتون بالرب لكي يستريحوا من أتعابهـم”(رؤيـا 13:14). فالشدائد التى تحيق بالأشرار عند ساعة موتهم لا تلتحق بالأبرار “لأن نفوس الصديقين فى يد الرب فلن يـمسها العذاب” (حكمة1:3).
لـماذا يكون الـموت مراً؟
هناك ثلاثـة شدائد هـى التى تجعل الـموت مرّاً:
الأولـى: تعلق القلب بخيرات هذه الأرض.
الثانيـة: توبيخ الضـميـر على الخطايـا التى أقترفت
الثالثـة: تصور تلك الـمحاكـمة الأخيرة
1. تعلق القلب بخيرات هذه الأرض: ان تعلق القلب يجعل الـموت صعباً لأن الـموت هو وداع عام لكل ما عزَّ لدى الإنسان. هو وداع للأولاد لو كانوا وحيدين، وللأهل ولو أعزاء ومحبيـن، وللأصدقاء ولو كانوا مخلصين.
الـموت هو وداع للأموال والكرامات. الـموت هو وداع الأفراح العالـمية وسائر الـملّذات. فالخطـاة الـمتعلقة قلوبهم بمثل هذه الأباطيل يضطرون عند إنفصالهم عنها إلى أن يتأوهـوا مع أجاج الـملك صارخين:
“أهكذا يفصلنا الـموت الـمرّ. يقينـاً لقد دنت مرارة الـموت”(1ملوك33:15). فكيف يكون موت ذلك البخيل الذى أفنى زمانـه بجمع المال وكان يفضله على حياتـه نفسها ووضع كل سعادتـه فيـه وجعله إلهـاً لـه وموضوع عبادته فمتى رأى الورثة يتقاسمون خيراته ويفصلونها عنه قبل إنفصال نفسه من جسده فلا ريب انه يصرخ باكياً، وإن سألوه لـمَ تصرخ فيقول مع ميخا:”آلهتـي التى صنعتهـا أخذتموها وتقولون لـي ما لك؟(قضاة24:18)، فيبكي على خسارة ذلك الصنم الذهبي الـمتقوش الذى كان موضوعاً فى هيكل قلبـه، ويقول: ويل لـي فـماذا بقى لـي بذلت حياتـي حباً لـه وأفنيت عمري فـماذا بقى لـي. السماء خسرتهـا ونفسي أهلكتهـا وأيامي إنقضت وأموالـي أُخذت ولـم يبقى لـي غير القبر (ايوب17).
لقد قيل ان القنفذ بعد أن يكون أكل من ثمار الشجرة المتناثرة على الأرض يبتدئ ان يتمرغ فوق تلك الثمار الفاضلة عنه فيشبكها بشوكه ويحملها الى وكره محاولاً الدخول اليه من بابه الذى كان يصنعه ضيقاً مخافة أن يدخله غيره من الحيوانات فلا يستطيع الدخول فيضطر ان يلقى بما كان حامله فيدخل فارغاً كما خرج فلا يكون قد انتفع بما جمع. هكذا يمتنع على الإنسان ان يدخل القبر ومعه شيئ من خيرات هذه الدنيـا،بل كما دخلها عرياناً يعود الى القبر عرياناً. فلاشك ان موت من تعلّق قلبه بالخيرات الأرضية يكون موتاً مضاعفاً لإنفصال النفس من الجسد وإنفصال القلب مما تعلّق به.
أمـا الأبرار فلا يحزنون لتركهم هذه الخيرات لأنهم يكونون قد فصلوا قلوبهم عنها لعلمهم بزوالها بل يفرحون قائلين مع ايوب الصديّق:”عرياناً خرجت من بطن أمي وعرياناً أعود”. ولا يحزنون لمفارقة الأهل والبنين لأنهم قد أحبوهم باللـه فقط فيتركونهم بيد اللـه،ولا يحزنون لشيئ من كرامات هذه الأرض ومجدها الفارغ لأنهم اتخذوا اللـه مجداً لهـم.
2. ان توبيخ الضمير يجعل موت الأشرار مرّاً جداً لأنـه فى ذلك ولحين تستحضر امامهم جميع الأثام التى فعلوها ولا يعود يسليهم تذكرهم ما مضى من الكرامات واللذات ويكفى نموذجاً لذلك جميعه ما جاء فى سفر الـمكابيين عن انطيخوس الملك فهذا لـما داهمه الـموت استدعى اليه أشراف مملكته وبدأ يحزن ويكتئب متنهداً قائلاً:”الآن أذكر”، فقالوا له “أي شيئ تذكر أيها الـملك السعيد. أتذكر عظائمك ونصراتك الشهيرة فأجاب كلاّ بل أذكر الأثام التى ارتكبتها. “الآن أذكر” الشرور التى عملتها فى اورشليم. الآن أذكر نهبي بيت الـمقدس والـمجزرة العظيمة التى صنعتها فى الشعب وسلب اموالهم وإبطال أعيادهم وطقوس ديانتهم وإحراق توراتهم. فقالوا لـه:ليس وقت لمثل هذه التذكرات الـمحزنـة لأنك عليل. افتكر بالجيوش التى كسرتها والغنائم التى ربحتها والبلدان التى فتحتها. فأجاب الـملك: ويل لـي لست أذكر من هذا شيئاً (1مكابيين8:6-13).
فإذا كان رجل كافر محتقر جميع الشرائع وقواعد الضمير ما إستطاع ان يلقى عنه لدغ الضمير عند قرب نهايته الشريرة فماذا يا ترى سيحل بالـمسيحي الـمؤمن بالشرائع والوصايا والنواميس والـمستنير بأنوار التعاليم الصادقة؟
إن الخطـاة فى هذه الساعة ترى ضمائرهم قاذفة ما حوته من أدناس الخطايا وأقذار الذنوب وتكون لهم شوكاً حاداً ينفذ قلوبهم ولا تدعهـا أن ترتاح على الإطلاق،ودوداً لا يموت متولداً من حول الخطايا،وخصماً قاسياً لا يبرح يزعجهم وقاضياً صارماً يحكم عليهم بالهلاك أمام وجوههم. ويل للخطأة فى ذلك الوقت فإن بيوتهم تمتلئ بالشياطين وترقص حولهم الجان فيقول احد تلك القوى الشريرة للخاطئ التعيس: لا تخف انك ستشفى من مرضك لا تعترف بخطاياك الآن، ويقول له الشيطان الآخر: كيف تؤمل ان الله يسمع تضرعاتك وأنت من سنين عديدة أصم عن إستماع صوتـه تعالـى، ويقول لـه آخر: كيف تستطيع الآن ان تداوى أمراض نفسك وتصلح ما عكسته وترد ما سلبته من الصيت والـمال، وذاك يوسوس لـه قائلاً: أما تعلم ان جميع اعترافاتك باطلة لأنها كانت خالية من الندامـة.وهذا كله ليزيد اضطرابه ويقطع رجاءه كقول الكتاب الـمقدس:”يطلب السلام فلا يكون بل تأتيـه داهية على داهيـة”(حزقيال25:7-26).
أمـا الأبرار فلا يزعجهم شيئ من ذلك لأن ضمائرهم تكون مطمئنة إمـا لأنهم ما خطئوا قط أو كفـّروا عن خطيئتهم بتوبـة صادقـة وحينئذ تكون لهم التعزيـة بـما فعلوه من الخير وإحتملوه من بلايـا هذه الدنيـا، كما يعزيهم أيضاً النظر إلى صورة الـمصلوب وأيقونـة مريم العذراء والأسرار التى يتسلحون بها ورجاؤهم بأن اللـه يرسل ملائكتـه الحرّاس لـمعونتهم على طرد قوات الجحيم وتأتـى الأم الإلهيـة لتضعهم تحت لواء حمايتها وهكذا يرقدون بالسلام التام.
ان تصور ذلك الحكم الأخيـر الـمهول القريب ان ينصب على الخطاه من الديـّان القائل: “أغربوا عني” يكفى أن يجعل موتهم بأعظم تعاسة وشقاء. فإن كل الويلات التى يأتينـا بها الـموت ليست بشيئ ازاء ما نخشى الوقوع فيه من بعده. آه اننـا نخاف أن يصير بنا الـموت الى نار حامية ولهيب دائم فيحرقنـا على جمرات الجحيم ويذيقنا العذاب الأليـم. آه ان هذا جلّ ما نخشاه منك أيهـا الـموت. وأي قلب لا يذوب حزنـاً ويخاف من هذا الـمصير الـمشئوم وأي مصير أشنع من هذا!. ترك الأحباب وملاقاة الويل والعذاب-خسارة الدنيا وهجر خيراتها وسكنى الجحيم ومكابدة عذاباتهـا-الجسد يأكله
الدود والنفس تتعذب بالنيران. ربنـّا ما هذه الحال الشقيّـة؟
أموتـاً وعذاب ونـار؟، فهذان ويلان لا يحتـملان.
رضينـا اللّهـم بحكمك علينـا بالـموت أحد الويليـن فأكفينـا ويل العذاب الـمؤبد، فويل لنـا أحسن من ويليـن.
رضينـا سكنى القبور الـمظلـمة فنجـّنـا من سكنى دار الهالكيـن الـمهولـة واجعل لنـا الـموت سلـماً للحيـاة الأبديـة وباباً ندخـل منـه إلـى فردوس النعيـم فإن ذلك يخفف مصابنـا.
غيـر أن رجاء الأبرار باللـه الصادق فى مواعيده يجعل موتهم حلواً لذيذاً، ولذا يتوقون إلى انحلالهم من هذا الجسد ليكونوا مع الـمسيح كما قال بولس الرسول:”من يعطيني أن أنحلّ من هذا الجسد وأكون مع الـمسيح”(فيلبي23:1)،وكذلك داود النبي هتف قائلاً:”اخرج من الحبس نفسي لكي أشكر اسمك”(مزمور8:141).
والآن أيهـا الإنسان الـمسيحي اسمع واعمل بـما قالـه اشعيا النبي:”أوصِ بيتك لأنك تموت ولا تعيش”(اشعيا1:38)، ولـما قالـه عاموس النبي:”استعد للقـاء إلهـك”(عاموس12:4)، وبـما قالـه السيد الـمسيح:”اسهروا إذاً لأنكم لاتعرفون اليوم ولا الساعة”(متى13:25).
فيـا بني البشر، أيهـا البائسون، ان الـمنيّـة تدعوكم بعد هنيهات والديـّان
الرهيب متأهب لـمحاكمتكم فبـماذا تتلهون وتضيعون هذا الوقت القصير فى الإهتمام بالأمور الباطلـة؟. لقد قال بولس الرسول:”مفتديـن الوقت لأن الأيـام شريرة”(افسس17:5).
فلنستعد إذاً للـموت لننال السعادة الأبديـة تلك التى لـم يستطع بولس الرسول ان يعبـّر عنهـا لأنـه لـم يجد فى كل قواميس اللغـة ألفاظاً مناسبة تساعده على التعبيـر فاكتفى بقولـه:”ما لـم ترى عيـن زلم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر مـا أعدّه الله للذين يتقونه”(1كورنثوس9:2).
لنستعد للـموت حتى تتـمتع أعيننـا بالنظر إلى ملك الـملوك فى بهائـه وعندئذ نهتف مع داود النبي هتاف الفرح قائليـن:”ان يومـاً واحداً فى ديارك خير من الف”(مزمور10:85). وأخيراً نتوسل إلى اللـه أن يساعدنـا فى جهادنـا الروحي لنستعد تمام الإستعداد حتى لا نحرم من ذلك الصوت الإلهـي الـمفرح القائل لكل مستعد:”أدخل إلى فرح سيدك”(متى21:25). ولإلهنـا الـمجد دائماً أبديـاً. آميـن.
——————
“جاهدت الجهاد الحسن وأتممت شوطي وحفظت الإيـمان وإنـما يبقى اكليل العدل الـمحفوظ لـي الذى يجزيني بـه فى ذلك اليوم الرب الديـّان العادل”(2تيموثاوس7:4-8)
الحياة التى تعيش فى فيض النعـمة حياة قويـة زاخرة لا ينضب معيـن قوتهـا ولا يجف ينبوع حيويتهـا، ذلك لأنهـا دائـمة الإتصال بينبوع حياة الأبد وقوة الخلود.
هكذا كانت حياة …… هذا الرجل التقي الغيور فقيدنـا………
واننـا إذ نجتمع اليوم لنودع هذا الرجل العظيم الذى أحبنـا وأحببـناه لا نجد عزاء لإنتقالـه عنـا فى أن نعيد على مسامعكم ثبوت حقيقة الـموت، فلستم فى حاجـة أن أدلكم على هذه الحقيقـة فهى أمر واضح لا يحتاج إلـى بيان.ولكن مـا يعزينـا الآن هو تلك العِبـرة والعِظـة التى تتـمثل
أمامنـا فى هذه الساعة فى هذا الكتاب الـمفتوح أمامنـا الذى إذا نظرنـا إلى ماضيـه نراه مبتهجاً، وبنظرنـا الى حاضره رأينـاه واثقـاً، وبنظرنـا إلى مستقبلـه رأينـاه كان راجيـاً وآملاً.
ان الراحل الكريـم تربـّى تربيـة مسيحية دفعتـه الى الكفاح فى الحيـاة بكل هـمة ونشاط وصعد سلّم الحياة العمليـة فكان قدوة حسنة ومثالاً طيبـاً.
فإذا نظرنـا إلـى الـماضى نراه مبتهجـاً
نعـم انـه سرور الإكتفاء لأنـه قد أتـم الرسالـة التى وضعهـا الرب على عاتقـه على خير ما يكون إداء الرسالـة.
كان رجل صلاة..كان رجل خدمـة وتضحيـة..كان أبـاً للأطفال وأخاً للشباب وزميلاً للشيوخ.
نعم إذا نظرنا إلى ماضيـه نراه كان أمينـاً إلى الـموت. نظر إلى من أحبتـه نفسه وسلّم لـه تسليـماً كاملاً:
– سلّم لـه وقتـه: لأنـه لـم يصرف وقتـه لخدمـة أحد غير الرب ومن غيره يستحق وقتنـا، لذلك استعمله هو كعطيـة مقدسة فى الـمسيح.
– سلّم لـه الأيدي: اليد التى كان يرفعهـا وإذا ما سألـه الرب ما هذا الذى فى يدك عندئذ أجاب: رائحة سرور الرب أمدّها فى عمل الخير وخدمة الفقراء والـمساكين.
– سلّم لـه القدميـن: إذ بهما كان يسعى فى طريق الصلح والسلام فإستحق أن يقال عنـه:”ما أجمل أقدام الـمبشرين بالسلام الـمبشرين بالخيرات”. بهما كان ينطلق الى بيت الرب فرحاً قائلاً مع داود النبي:”فرحت بالقائلين لي إلى بيت الرب ننطلق”.
– سلّم لـه صوتـه: فللرب وحده كان يحرّك لسانه لشكره وتسبيحه والتحدث بفضله تعالى عاملاً بقول داود النبي:”صالح الإعتراف للرب والإشادة لإسمك أيها العلي..الإعلان برحمتك فى الغداة وبأمانتك فى الليالي”.
– سلّم له عقله وأفكاره: قال ان ذلك كله هدية من الرب الإله ومن الواجب ان تُرد الى مهديها لذلك قال مع الرسول:”إني أستأسر كل فكر إلى طاعة الـمسيح”، لذلك عقله وفكره كان يردد مع داود النبي قائلاً:”اللهم افحصني واعلم قلبي، امتحني واعلم أفكاري”.
– سلّم لـه إرادتـه: علم حسب تعليم الرسول بولس:” ان الله هو الذى يعمل فينا الإرادة والعمل حسب مرضاتـه”. فأخضع إرادتـه للـه تعالـى، بل لاشاها أمام الإرادة الإلهيـة فقال:”لتكن مشيئتك كما فى السماء كذلك على الأرض”(متى10:6).
– سلّم لـه قلبـه: سمع الصوت القائل:”يا بنيّ أعطني قلبك”، فأجاب فى الحال: خذه يارب فهو عرشك الـمقدس. اجلس عليـه وتسلّط،وطالبـاً مع الـمرّنم “قلبـاً نقيـاً أخلق فيّ يا اللـه وروحـاً مستقيماً جدّد فى داخلي”(مزمور12:50).
– سلّم لـه حيـاتـه: فقال وهل أستطيع أن أحيا لغيـر ربّي وإلهي، فلأجلـه أسلّم حياتـي لأنـه وحده الذى مات لأجلي.
وإذا نظرنـا إلـى حاضـره نراه واثقـاً، فإن حياتـه كانت مليئة بثقة من وضع يده فى يد الرب، فى يد القوة والحيـاة. حياة الواثق الذى يقف على شاطئ نهر الحياة يشرب منـه ويرتوى، فحق لـه أن يقول مع الرسول:”قد جاهدت الجهاد الحسن وأتـممت شوطي وحفظت الإيـمان”.
– إنـه جاهد الجهاد الحسن: وبذلك صوّر لنـا وجوده فى ساحة الصراع. لقد كان إنساناً يصارع عدوه وقد كلّقـه هذا الصراع جهداً يضنـي وفكراً وعرقـاً.
– إنـه جاهد لأجل غايـة: ان الصراع الذى كان أمامـه هو صراع الحياة الروحيـة. انـه جاهد ضد العالـم والخطيّة والشيطان واتخذ لـه رفيقاً أمينـاً فى الجهاد هو يسوع الفادي.
– إنـه أتـم الشوط: وبذلك وضع أمامنـا صورة لـميدان سباق ركض فيه بسرعة إذ أعد نفسه إعداداً تامـاً للدخول فى هذا الـميدان.
– إنـه أكـمل السعي: وقال “الآن ياسيدي أطلق عبدك بسلام لأن عينيّ أبصرتـا خلاصك”(لوقا26:2).
– كان امينـاً فى الخدمـة يسهر على راحة الأخريـن أو السؤال عنهم أو الصلاة من أجلهـم.
– كان أمينـاً نحو زملائـه فكان مثالاً للطاعـة والـمحبة الأخويـة والقدوة الحسنـة.
– انـه حفظ الإيـمان إذ كان متمسكاً بـه وكان معلّـماً عمليـاً لم يترك فرصة إلاّ وتكلّم فيهـا، وحفظـه للإيمان هذا كان أكبر مشجع لإتمام الرسالـة التى ألقيت على عاتقـه.
وبذلك استحق أن ينتظر اليوم الذى فيـه يجزيـه الرب بإكليل العدل لأنـه جاهد الجهاد الحسن وأتم الشوط وحفظ الإيـمان.
والآن أيهـا الراحل الكريـم هنيئـاً لك حياة الخلود ورفقـة الـملائكة والقديسين. الرب يعزينـا جميعاً ويعطينـا أن نـموت ميتة صالحـة ويرحمنـا برحمتـه، له الـمجد الدائـم إلى الأبد آميـن.
________________
كيف أنت الوجود؟
كيف أنت الوجود؟
كيف أنت الزمان؟
كيف أنت الأبديــــة؟
كيف أنت الوجود؟،كيف أنت الزمان؟وكيف أنت الأبديــة؟
هـو سؤال الإنسان،وبـه عدد كبيـر من علامـــات الإستفهام؟
وإن كان الإنسان لا يضع علامات إستفهام كيف يكون إنسانا؟
عريانـا خرج من بطن أمه،وعريانـا يعود إلـى قبــره.
وكل تساؤلات الإنسان يريد بها أن يصل إلـى الحقيقة.
منهم من يسعون إلى الحقيقة لأنها الحقيقة،ومنهم من يسعون إليها لكى يتخذوا منها حقيقة لأنفسهم لكى بواسطتها يـثبـتون انهم هم الحقيقة.
فللسامعين لهم تأثيـر كبيـر،ولذلك يأسرونهم بحقيقـتهم الذاتية ويؤثرون عليهم لأنهم يتصورون انهم أصحاب الحقيقة. مثل هؤلاء سريعا ينكشفون لأن ما يتوهمونـه بأن لهم وحدهم معرفة الحقيقة، وبهذا التوهم تنكشف أمورهم سريعا.
فمن هـم؟
لقد نسوا انهم تراب وإلـى التـراب يجب أن يعودوا.
كيف يـجرؤ مثل هؤلاء أن يحددوا الوجود؟
كيف يجـرؤ مثل هؤلاء أن يضعوا زمـانــا؟
كيف يجـرؤ مثل هؤلاء تحديد مصيـر الأبـديـة و مـحددين هـذا الـمصيـر؟!
كـتبوا فى كـتبهم،وذكروا فى أحاديثهم من الألف إلـى الياء الكثيـر والكثيـر عن الحياة والـموت،ولـم يعرفوا أن الإنسان مـخلوق اللـه لا يعرفه إلا الخالق.
كان حكمهم على مظاهر الحياة الخارجية،وكان قرارهم بغيـر حكمة منهم.
صرخوا وإعترضوا وحكموا وقرروا ووضعوا فلسفات وتفسيرات عن كيفية موت الإنسان ولـماذا قضي عليـه الـموت؟
تساؤلاتك أيهـا الإنسان كثيـرة وأردت أن يكون الجواب عليها حسب هواك أنت.
رددت كثيـرا يا إنسان وقلت كيف أنت الوجود؟،وكيف أنت الزمان؟ وكيف أنت الأبدية؟
أما سـمعت كثـيرا قول الله “أنـــا هـو هـو أمس واليـوم وإلـى الأبـــد”( )
الله هـو الوجود،والزمان فى قبضـته،والأبديــة هـى حياتــــه.
وسؤال الرب لك اليوم أيهـا الإنسان:
كيف وجودك أنتَ؟،و كيف تعيش زمانك؟
لا تعذّب نفسك أيهـا الإنسان بـبشريتك الضعيفة،ولا تدع هـذه البشرية تقف عائقا فـتعيشها فى الزمان وبذلك تُحرم من الأبديـة.
فالزمـان غيـر بـــاق، والأبـــدية هـى اللــــه.
وعليه، إذا كان يوم القيامة والظهور الإلهى يوم إمتحان لتومـا الرسول فاليوم هو إمتحانك أنت يـا من تتسآل كثيـرا عن معنى الحياة والـموت وتحلل وتعلل، فليس ذلك من شأنك لأن الوجود هو الله والزمان فى يده والأبــديــة هـى اللـه.
إذن قوٌم ما فيك من ضعف، ولا تكن غيـر مؤمن بــل مؤمنـاً، ولا تكن من أصحاب العلامات الظاهرة الـملموسة.
لأنه طوبى لـمن يؤمن ولم يرى. آميـن
____________________
حيـــــاة الأبــد
فـى هـذا الـزمـن الذى يُسـمى الـزمـن يعـيـش الإنسان
فـمتى يـبطل الـزمـن؟،ومتى يُنـسى الـزمـن لـيـكـون الإنسان فى حياة الأبد.
حياة الأبــــد… حيث رب الأبــــد..
حـيـاة الأبــد…حيـث نعــيم الأبـــد..
حــيـاة الأبــد.. حيـث قديسي و ملائكـة الأبـــد
هـى الحيـاة وليس بعدهـا حيـاة..
هـى الحيـاة التى ليس فيها ظلم.. ليس فيهـا شـقـاق..
ليس فيها إلا كـل مـا هـو حياة بحق عن معنى الحيـــاة وكيف تكون الحيـــاة.
إ نـهـا رسـالة السـماء للإنسان لتعلن دائـما لـه، وتذكّره بهــذا الـمـعنى الواقعى الذى يجب أن يكتب،لا كتابة الأرض، بل كتابة الأبديـة التى لا تـمحى،ولـن تـمحى ابداً.
إستيقظ أيهـا الإنسان وتأمل فـى ما هى الحياة،ومعنى الحياة، وأين هـى الحياة؟
إ نـــهــا فــى يـــســوع…
فيسوع هـو “الحيـاة”(يوحنا6:14)
فيسوع هو “ماء الحياة” (يوحنا13:4-15)
فيسوع هو “خبز الحياة” (يوحنا 18:6)
لهـذا فهـى حيـاة أبـــديــة.
_____________________
لا تخف لأنـي معك
“لا تـخـف لأنـــى مـعــك..لا تـرتـعـب فــأنــا إلــهــك
قــد فـديـتـك وقــوّيـتـك وعـضـدّتـك لأنـك لــي”
(اشعيا 10:41)
أذكـر ذلـك لأن هـذا الكلام عـلـيـه نـسـتـنـد..
كـلـمة الله الـتى فـيهـا يقـول:
“لا تـخـف لأنــــى مـعــك”
إنهـا لـيـست لـمـجرد الـتعـزيــة،بـل هـى دائـمـة لـكل ظـروف حـيـاتـنـا.
لـذلك قـال الرب فيـهـا:”لأنــى مـعـــك”.
ووجــودى دائــم إلــى الأبــد..
لا يـكـون فقط فـى مـحـنـة..أو تـجـربـة..
أو مـنـاسـبـة..أو أي ظـروف مـن ظـروف الـحـيـاة..
بــل هـو وجــود دائـــم..
لأن اللـه دائــم الـوجـود..
فـلا خـوف عـلـيـك طـالـمـا قـيلتْ لك من الرب:
“لا تخف لأنـى معـك”.
لـمـــاذا الإضـطـراب؟..لـمــاذا الإنـــزعــاج؟!..
لـمـــاذا الـتــردد؟!..لـمـــاذا الـخــوف؟!..
ألـيس الله هو إلــهــك الذى تعبده وتؤمـن بـه؟
وهو الذى يـقـول لـك:
“لا تـخف لأنـى مـعـك..لا تـرتـعـب فــأنــا إلـهـك”.
أيــوجــد تــأكـيـد أكـثـر مـن ذلـك؟
هـو اللـه الذى أحبـك ووضـع قـلـبه فـى قـلـبـك،
وهو أيضـاً الذى فـداك.
والفـداء شـمـل كـل شيئ..
غـسـلـنـا بـدمـه،وبـهـذا الـغـسـل كان التـطهـيـر
الذى يـُبـعـد عـنـا كـل نـجـاسـات الـعـالـم،وكـل مـغـريــاتـه،وكـل كـبريائـه.
فــدانـا بـدمـه،وهـذا الدم قـادر دائـمـا أن يـصـُد عـنـا كـل تـجارب الـعـدو..ويـضـعـنا دائـمـا فـى بـُوتـقـة الإمـتـحـان الذى مـنه نـخـرج مـنـتـصـريـن..
قــد فـدانـا وهذا الفداء أعطانـا قـوتـه لكي نقف أمام عـدو خـلاصـنا الذى يـجـول حـولـنا كـالأسد الـزائـر يـريـد أن يـفـتـرس،ولا يـجـد فـيـنا أي مـجـال لأن قـوة الرب فـيـنا تـعـضـدنـا وتـسـنـدنـا.
انـه الرب الذى يلـمـس كـل خـطـواتـنا ويعـرف أيـن يـكون إتـجـاهـنـا.
وإذا مـا أراد لـنا عـدو الـخـيـر أن يـحـيد بـنا عـن الـطـريـق الـصـحـيـح فالله يُوقـف كـل مـحـاولاتــه مـهـما كـانـت شـديـدة أوقـويــة.
نـضـعـف أحـيـانـا كـثـيـرة، ولـذلـك نـرتـعـب ونـخـاف.
ولكن فـيـمـا نحن فـى هـذه الـحـيـاة يضـع اللـه فـى قـلـوبـنا نــاراً مقدسـة تـحـركـنا بـعـيداً عـن
خـطـوات عـدونـا وبـذلـك يـصـحو إيـمانـنـا فـنـتجـدد حتى نـكـمل الـمسيـرة الـى أرادهـا الله لـنـا،وهـى:
أن نـعـيش فـى مـحـبة الله دائـمـا..
وعـلـيـه، فلنتــأمـل يا أخوتـي دائـمـا فى كلـمـات الله فـهـى سـلامـنـا فـى جـمـيع أطـوار حياتـنـا.
“لا تـخـف لأنـى مـعـك،لا تـرتـعـب فـأنـا إلـهـك.
قـد فـديـتك وقـويتك وعضدتك فــأنت لــي”
______________________
الصبـر
“فإنكم محتاجـون إلى الصبـر حتى إذا عـملتم بـمشيئة الله تحصلون على الـموعد”(عبرانيين36:10)
يحتاج الإنسان إلـى الصـبر ..
ومـا هـو هـذا الصـبـر؟
هـل صبـر الإحتمال؟
هـل صبـر تخطى العقبات؟
هـل الصبـر لعدم التردد؟!..
هـل الصبـر للـقــوة؟
هـل الصبـر لزيادة الإستكانـة؟
هـل الصـبـر لعدم القلق؟
أي صبـر يريده الإنسان ولأي صبـر يحتاج؟
هـل لأن الصبـر فضيلـة؟
إن كان كذلك فلا يكون “إحتياج”.
إذا أُعتبر فضيلة أو تطلع إليه الإنسان كفضيلة فلا يكون “إحتياج”،بــل يجب أن يكون أساسـاً للحـيـاة.
أين صبركم للحيـاة؟
أين صبركم فـى القلق؟
أين صبركم فـى الإضطراب؟
أين صبركم فـى الخوف؟
أين صبركم فـى التجربـة؟
أين صبركم فـى الآلام؟
أين صبركم فـى الحياة؟
أيــن صبركم للسـمــاء؟
ولذلك يقول بولس الرسول:”إن عملتم مشيئة اللـه تحصلون على الـموعـد”
هـل تعرفون هـذه الـمشيئة؟
ومــن هو صاحبهـا؟
ومــاذا يريـد؟
صاحبهـا هـو الذى قال: “أنتم أحبائـي”(يوحنا15:15).
هـذه هـى إرادتــه التى بموجبهـا إن نـُفـّذت تحصلون على الـموعـد.
فلنطلب من إلـه الصبر والتعزيـة ليـملأنـا من ثـمر الروح “الصبر” (غلاطية22:5).
——————
“لـماذا تطلبيـن الحي بين الأموات. ليس هو ههنـا لكنـه قام”(لوقا5:24-6)
انـه قــام….فهذا نصـر
انـه قــام….فهذا حب
انـه قــام….آيـة الآيات مرسومـة فى الوحي
انـه قــام….عنوان الحيـاة الجديــدة
انـه قــام… وإرتسمت ثـمرة القيامـة فى كل شيئ..فى الطبيعة وفى الشريعة..فى كل زهرة من الطبيعـة زاهيـة، وفى كل ورقـة باهيـة، وفى كل نبتـة ناميـة، وفى كل ذى حياة باديـة أو خافيـة.
يتجمع تاريخ الجنس البشري ويتأرجح بين لحظتيـن حاسـمتين، وموقعتيـن فاصلتيـن.
فـى الأولـى سقوطـه…وفـى الثانيـة قيامـه
فـى الأولـى موت…وفـى الثانيـة حيــاة
الـموقعـة الأولـى: بيـن آدم الأول والشيطان وحدثت فى جنة عدن تحت شجرة معرفـة الخيـر والشر وفيهـا إنهزم آدم وسقط وإنهزم الجنس البشري فطُرد من الفردوس وكُتب عليـه وعلى نسله الـموت.
الـموقعـة الثانيـة: بين آدم الثانى (الـمسيح) والـموت وكل جنوده،
وحدثت فى القبر الفارغ وفيها انتصر المسيح وانتصرنا معه،فقام واقامنا معه. ونستطيع ان نتأمل رسالة القيامة فى:
1. نصرة القيامة
2. نور القيامة
3. حياة القيامة فى حياتنا
أولاً- نصـرة القيامـة
لـم ينصر الـمسيح بقيامتـه مملكة على مملكة، ولم يهزم دولـة الرومان ليرد الـمُلك لإسرائيل، لكنـه
هزم مملكة الـموت وأقام ملكوت الحياة.
هزم مملكة الشيطان وأقام ملكوت اللـه.
هزم مملكة الباطل وأقام ملكوت الحق.
هزم مملكة الشر وأقام ملكوت الخيـر.
هزم مملكة الجسد وأقام ملكوت الروح.
هزم مملكة الظلام وأقام ملكوت النـور.
فالقيامـة تقف حداً فاصلاً بين عصريـن، هما عصر الناموس وعهد الـنعمة
“لأن الناموس بـموسى أعطى أما النعـمة والحق فبيسوع صارا”.
والقيامـة تقف حداً بين حقيقتيـن هما عجز الناموس وكفايـة الفداء “لأنـه ان كان بالناموس برّ فالـمسيح إذاً مات بلا سبب”.
وفـى نصرة القيامـة نرى:
1. نصرة الـمسيح على الـموت
2. نصرة الـمسيح على الخطيـّة
3. نصرة الـمسيح على الشيطان وكل قوات الشر
1. نصرة الـمسيح على الـموت:
حب الخلود والـمحافظة على تاحياة طبيعة فى الإنسان، لذلك فهو يخاف الـموت ويخشى القبـر. لذلك فإن الـموت هو ألد أعداء الإنسان، كيف لا وهو الذى يسيطر على حياة كل حي على كرة الأرض. وفى مختلف العصور والأزمان جاهد الإنسان فى سبيل التغلب على الـموت فى سبيل الـمحافظة على الحيـاة. فقدمـاء الـمصرييـن كان دينهم حب البقاء فإكتشفوا فن التحنيط ليحفظ أجسادهم من الفناء وبنوا الأهرامات العظيمة للـمحافظة على الجسد إلى أن تعود إليـه الروح. وغير الـمصرييـن كثيرين أيضاً عندهم أكثر من هذه الـمعتقدات،ولكن فشل الإنسان فى التغلب على الـموت أو إنقاذ حياتـه.
لكن الـمسيح بقيامتـه كسر شوكة الـموت وغلب الهاويـة وقال:”أين
شوكتك يا موت. أين غلبتك يا هاويـة”، فإنتصرنـا نحن على الـموت
بقيامـة الـمسيح لـه الـمجد.
2. نصرة الـمسيح على الخطيـّة:
ليست حياة الإنسان هى الـمدة بين الـمهد واللحـد، وليس الـموت هو نهايـة أيامنـا على الأرض.
إذاً مـا هـى الحيـاة؟، ومـا هـو الـموت؟
الحيـاة: هـى أن نوجد مع اللـه ونرث السماء “لأن لـي الحياة هى الـمسيح”(غلاطية20:2)، “أنـا هو القيامـة والحياة. من آمن بـي وإن مات فسيحيـا وكل من كان حيـّاً وآمن بـي فلن يـموت إلى الأبد”
(يوحنا25:11-26).
والـموت: هو عـمل الخطيئـة وعقابـه هو عذاب الآخرة”لأن أجرة الخطيـة هـى موت”(رومية23:6).
والـمسيح بقيامتـه أنقذنـا من موت الخطيـّة أي من الـموت الأبدي.
3. نصرة الـمسيح على الشيطان وكل قوات الشر:

الشيطان شخصيـة ساقطة شريره كله شر وليس فيـه خير، كله باطل وليس فيـه حق،كله ظلام وليس فيـه نور. لـه جنود وأعزان فهو يعمل مع جنوده وأعوانـه على مقاومـة ملكوت اللـه وإسقاط كل من يستطيع
إسقاطـه من بنى الإنسان.
وبـما أن الـمسيح قد ناب عن الإنسان فى محاربـة ابليس وإنقاذ الجنس البشري، لذلك كانت الحرب بينـه وبين الشيطان قاسيـة ومرّة. فهو حاربـه فى البرّيـة وإنتصر عليـه، وحاربـه فى كل حياتـه على الأرض وهزمـه. ولكن هزيـمة الشيطان الساحقة كانت فى القيامـة لأن الـمسيح بقيامتـه خلّص البشريـة بأسرهـا من موت الخطيـّة وعبوديـة الشيطان.

ثانيـاً – نـور القيـامـة
القيامـة كلهـا أنوار على أنوار ولكن سأقتصر على ثلاثـة منها:

1. نور الحـق
2. نور الحيــاة
3. نور الخلـود
1. نور الحـق: عندما يتأمل الإنسان العالم ويرى ما فيه من ظلم وآلام، يفقد إيـمانـه بعدالة الأرض والسماء لأنـه يرى أن العالـم للفجـّار وليس للأبرار، للأقويـاء دون الضعفاء، للأغنيـاء وليس للفقراء.
فهاكم مثلاً ان الله تعالـى أجزل عطاياه للأشرار ممثليـن فى شخص الغني
وضنّ بها على الصالحين ممثلين فى شخص لعازر الفقير(لوقا19:16-31).
ومثلاً آخر يوحنا الـمعمدان الذى يضعه هيرودس فى السجن وهو الذى عـمّد الـمسيح ورأى الروح نازلاً عليـه مثل حمامـة وسمع صوت الله يقول “هذا هو ابني الحبيب الذى به سررت”، فكيف يكون الـمسيح فى العالـم ويترك يوحنا فى السجن بينما نراه يسمح لهيرودس أن يتمتع بشهواتـه الأثيـمة مع هيروديـا (لوقا19:3-20)؟، وكيف يحدث أن يُسجن الحق ويجلس الباطل على كرسي الظلم؟، ولهذا فلقد إضطر يوحنـا أن يرسل اثنين من تلاميذه إلى الـمسيح ليسألوه:”أأنت هو الآتـي أم ننتظر آخـر”(لوقا20:7).
لكننـا فى نور القيامـة نرى نور الحق الذى يقول لنـا:
” طوبـى للـمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات”
“طوبـى للحزانـى لأنهـم يتعـزون”
“طوبـى للرحـماء لأنهـم يرحـمون”
“طوبـى لأنقيـاء القلب لأنهم يعاينون اللـه”(متى3:5-8).
فى نور القيامـة نرى نور الحق الذى نشاهده جالساً على كرسي الدينونـة
فيديـن بيلاطس وقيافـا وهيرودس والذين صلبوه، نرى لعازر فى حضن ابراهيم والغنى فى عذاب اللهيب،”هآنذا آتِ سريعاً وجزائـي معي لأكافـئ كل واحد على حسب أعـمالـه”(رؤيـا12:22). فيالنور القيامـة العظيم، انـه نور الحق.
2. نور الحيـاة:

الحياة بعد الـموت حقيقة عمليـة لا خبـر نظري فقد قام الـمسيح وظهر للكثيريـن، وقام ايليـا وموسى وأبصرهـما التلاميذ، والله إلـه ابراهيـم واسحق ويعقوب ليس إلـه أموات بل إلـه أحيـاء. ففى نور القيامـة العظيـم نرى أن لنـا بعد الـموت حيـاة خالـدة
” لا تتعجبّوا من هذا لأنها تأتى ساعة يسمع فيهـا جميع من فى القبور صوت ابن الله فيخرج الذين عملوا الصالحات إلى قيامـة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامـة الدينونـة”(يوحنا28:5-29).
3. نـور الخلود:
يعتقد بعض الناس بالخلود ولكنـه ليس الخلود الذى أوجده لنـا نور القيامـة. فلقد إعتقد البعض انهم فى العالـم الآخر يأكلون ويشربون ويزوجون ويتزوجون،وإعتقد الهنود بهذه العقيدة فكانوا يقتلون الـمرأة التى يموت زوجهـا لتلحق بـه فى عالـم الآخرة،وإلى غير ذلك من الإعتقادات. لكن السيد الـمسيح أوضح لنـا حياة الخلود وعرفهـا لنـا بأنهـا:
– حياة روحيـة: إذ قال “لأنهم فى القيامـة لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة اللـه”(متى30:22).
– حياة أفضل: إذ تتخلص النفس من كل أتعاب الجسد وآلام الحيـاة لأنـه مكتوب “سيمسح الله كل دمعة من عيونهم”(رؤيا4:21).
– حياة أكـمل: لأنـه طُلب منـا الـكمال حيث قال:”كونوا كاملين كـما أن أباكم السماوي هو كامل”(متى48:5).
حقـاً ان نور القيامـة هو نور الحق-نور الحيـاة –نور الخلود.
ثالثـاً – حيـاة القيـامـة فى حيـاتنـا
ان الـمسيح بقيامتـه لـم ينتصر على كل أعدائـي فحسب، لكنه أيضاً أعطانـي حياة النصرة والغلبـة التى أحيا بهـا فى حياتـي على الأرض، والحيـاة التى أعطاهـا لـي هى حياتـه هو التى تحيـا فـيّ “فأحيـا لا أنـا بل الـمسيح يحيـا فـيّ”. وحياة الـمسيح التى انتصرت فى القيامـة هـى نفس حياتـه التى تنتصر فـيّ وتنصرنـي على الخطيـّة والشيطان والعالـم والـموت والهاويـة وكل قوات الشر.
ألا يـا حياة القيـامـة الـمنتصرة أشرقـي على حياتنـا حتى نعيّد عيد النصرة الدائـمة، فليس فى الوجود ما يهزمنـا أو يخيفنـا.
يـا أخـى الذى لـم تنتصر حياتـه بعد قُـم وإنتصـر بقوتـه على كل
أعدائك لأنـه قام وأقامـك معـه.
قـم وإنتصر وإمتلئ من روح الرجـاء لأن مسيحنـا الحي سيأتـي ويديـن العالـم ويـملك على العالـم ونحن نـملك معـه.
ختامـاً أتـمنى لكم عيداً سعيداً وعـمراً مديداً راجيـاً رب القيامـة أن يجزل عليكم جزيـل النِعـم وغزيـر البـركات وسلام الرب يكون معكم أجـمعيـن. آميـن.
_________________
آمنـت…ارحـمني…نجـّنـي
آمنتُ بالآب والإبن والروح القدس
آمنتُ بالذى يُحيـي ويُـميت
آمنتُ بالذى ينظر إلـى الأرض فترتعد من أساسهـا
آمنتُ بالذى قـال أنا القيامـة والحيـاة
آمنتُ بالذى قال أنا حبز الحياة والذى يؤمن بي لا يموت وإن مات فأنا أقيمه
آمنتُ بالذى جاء يدعو الخطـأة إلى التوبـة ووهب الناس القوة والـمغفرة
آمنتُ بالذى يستجيب دعاء كل من يدعوه بقلب نقي بكثرة رحمـتـه
آمنتُ بالذى يجود ولا يبخـل ويعطـى ولا يـمنع
آمنتُ بالذى يسمع الدعـاء ولا يقطع الرجــاء
+++++++++++++++++
إرحـمني يا سيدي فإنـي محتاج إلى رحـمتك
إرحـمني يا سيدي فانى خلقة يـمينك وعمل يديك الطاهـرة
إرحـمني يا سيدي فإنـي مسبـي خاطئ وقد جئت لأرضيـك
إرحـمني يا سيدي يا واسع الجود وأنا ياسيدي حزين تائب إليـك
إرحـمني يا سيدي وأغفر لـي جميع خطاياي لأجل العهد الجديد الذى أعطيتنـا بـه الرحـمة والخلاص إلـى جميع الدهـور.
نجـّنـي يارب من الفخـر والعـظـمة والعجب والكبـريـاء
نجـّنـي يارب من الحسد والحقد والـنميـمة والدينونـة
نجـّنـي يارب من الزلاّت والسقطات وكل الأعـمال الشيطانيـة
نجـّنـي يارب من هلاك النفس والجسد ولا تسلـمني بيد العدو
نجـّنـي يارب لأنتصر على عدوي ولا تظفره بـي لئلا يفتخر أنه قهرني
نجـّنـي يارب وإحفظنـي فى الليل والنهـار وأوقات الساعـات.
لـك الـمجد دائـماً أيهـا الآب والإبـن والروح القدس إلـه واحد آميـــن.
_________________
وعـود الـمسيح
لا يخفى علينا أن الحياة المسيحية هى حياة محبة فلقد قال السيد المسيح:”بهذا يعرف الجميع انكم تلاميذى إذا كنتم تحبون بعضكم بعضاً”(يوحنا35:43). وكذلك لايخفى علينا ان الحياة المسيحية هى حياة إيـمان، فلقد قال القديس بولس: “بغير إيـمان لايستطيع أحد ان يرضى اللـه”(عبرانيين6:14).
ولكن لعلنا ننسى من حين لآخر ان الحياة المسيحية هى ايضا حياة رجاء فإن الانجيل من آلفه الى يائـه هو رسالة رجاء،اذ انه يعدنا على لسان ربنا يسوع المسيح بكل ما نطلبه عندما نستعين بأمنا مريم العذراء او القديسين فنردد:
“لكى نستحق وعود المسيح”.
وعود الـمسيح، فلولا رجاؤنـا لـما كنـا هنا فى هذا الـمساء الـمبارك ولا كنا قرأنـا هذه الكلـمات.
ترى مـا هـى وعود الـمسيح؟
اننا نرجو من الله بشفاعة القديسين نِعماً عديدة،نِعماً روحية ونِعماًمادية،نعماً لأنفسنا ونِعماً لغيـرنا،نِعماً لعائلاتنا ولوطننا ولكنيستنا وللعالم بأسره.
وعود الـمسيح – من منا لم يعرف شيئا من الظلمة او الضلال او المرض او القلق او الخوف او الحزن او اليأس فيما مضى من حياتنا؟، بل فى هذه اللحظة ألسنا محتاجين الى كل ما وعدنا به يسوع بمجيئه وحياته وتعاليمه وضمنه لنا
بالآمه وموته،وأكده لنا بقيامته وصعوده وجلوسه عن يمين الآب السماوي؟
وعود الـمسيح – ان الغاية من حياتنا كلها هو ان نستحق وعود المسيح،هذا هو اساس رجائنا وثقتنا وشجاعتنا وسلامنا وفرحنا. فلنكن واثقين بجودة أبينا السماوي معتمدين على وعود ربنا يسوع المسيح،راجين رجاء ثابتاً متيناً كل ما نطلبه وفوق كل شيئ ان نستحق وعود المسيح.
وما هى وعود المسيح هذه التى نرغب فى ان نستحقها؟
اقرأوا الأناجيل الأربعة تجدوا فيها اكثر من مئة موضع حيث يعدنا يسوع بكل نعمة نستطيع ان نتصورها،وبنعم اخرى لم نكن لنتصورها. الله محبة وابن الله محبة ولا تعرف المحبة حداً لجودتها وسخائها.
يمكننا ان نختار بعضاً من هذه الوعود لأنها عديدة ونستعين فى ذلك بما ورد فى انجيل القديس يوحنا، فهو ذاك التلميذ الذى كان يسوع يحبه والذى إتكأ فى العشاء السرّي على صدره(يوحنا30:21)،فكان يعرف حق الـمعرفـة تلك الوعود التى تدفقت من قلب يسوع الأقدس ولا تزال تـملأ قلوبنـا ثقـة ورجـاء وقوة وفرحـاً.
1. بإسم يسوع الحق الحق أقول لكم ان كل مـا تسألون الآب بإسمي يُعطيكموه”(يوحنا23:16)
من وعود الـمسيح انـه فى ليلة العشاء السرّي كلّم يسوع تلاميذه كلامـاً
عبـّر بـه عن الحب والشوق والحنو والرأفـة والرغبات الـملتهبـة فى قلبـه، وهو مشرف على آلامـه وموتـه من أجلنـا. وفى أثنـاء كلامـه هذا قال يسوع:”الحق الحق أقول لكم إن كل مـا تسألون الآب بإسـمي يعطيكموه. إلى الآن لـم تسألوا بإسـمي شيئاً. إسألوا تعطوا ليكون فرحكم كاملاً”(يوحنا23:16-24).
“كل ما تسألون الآب بإسمي يُعطيكموه” أي تنالونـه، انـه وصف عجيب وقول عظيم وقول حاسم وقول قاطع لاريب فيـه ولاشك. يعدنـا يسوع بأن الآب السماوي سيعطينـا كل مـا نطلبـه منـه بإسم يسوع.
ونحن ….ألسنـا هنـا لكي نسأل الآب بإسم يسوع؟
أليس هو يسوع نفسه بيـّن للآب بدمـه الـمسفوك وجسده الـمجروح إستعداده للوفـاء بـما وعدنـا هو بـه قائلاً” كل مـا تسألون الآب بإسمي يعطيكموه”؟
لن يخلف يسوع بوعده. عرف القديس بطرس ذلك عندما تفرّس فى الرجل
الأعرج من بطن أمـه وقال لـه:”ليس لي فضة ولا ذهب ولكني أعطيك ما
عندي:بإسم يسوع الناصري قم وأمشى”(اعمال6:3).
هذا الإسم الأقدس هو كما قال الرسول بولس:”يفوق كل إسم لكي تجثو
بإسم يسوع كل ركبة مما فى السموات وعلى الأرض وتحت الأرض”
(فيلبي9:2-10).
هذا الإسم الأقدس هو ما قال عنـه القديس بطرس:”ليس إسم آخر تحت السماء مـمنوحاً للناس بـه ينبغي أن نخلص”(اعمال12:4).
هذا الإسم الأقدس هو فرح الـملائكة، وقوة الشهداء، ونور الـمعترفيـن، وطهارة العذارى، وقداسة جميع القديسين.
هذا الإسم الأقدس هو مـا ينجّينـا من كل شر وخطيئـة، ومن مكايد الشيطان ومن الـموت الأبدي.
ان إسم يسوع معناه “الله يخلّص” (متى21:1)، فعندما نكرر هذا الإسم الأقدس فى صلواتنـا كأننا نسمع القديس بولس القائل:”إذا كان الله معنـا فـمن علينـا. الذى لـم يشفق على إبنـه بل أسلـمه عن جميعنـا كيف لا يهبنـا معه كل شيئ”(رومية31:8-32).
“كل ما تسألون الآب بإسمي يعطيكموه”..لاشك فى وعد يسوع هذا، امـا الشك فهو فينـا، أعنى قلـة إيـماننـا،وقلة رجائنـا، وقلة محبتنـا. وبـما نعرف من ضعفنـا وقلة إيـماننـا وجهلنـا لـما يجب أن نسأل الآب بإسم يسوع، فلنلتجئ إلى القديسين طالبيـن منهم أن يساعدونـا بشفاعتهم القويـة لكى نزداد إيـمانـاً ورجاء وثقـة، ولكى نفهم ما يجب أن نسأل الآب بإسم يسوع، وكيف يجب أن نسألـه، ولا سيمـا لكي نستحق وعود الـمسيح، ولتكن حياتنـا كلهـا تحقيقاً لقول الرسول بولس:”مهما أخذتـم فيـه من قول أو فعل فليكن الكل بإسم الرب يسوع”(كولوسى17:3).
2. الخلاص – “انـا الباب..إن دخل بـي أحد يخلص”(يوحنا9:10)
لقد وصف لنا القديس متى حياة يسوع العلنية بقوله:”وكان يسوع يطوف فى الـمدن كلها والقرى يعلّم فى مجامعهم ويكرز ببشارة الـملكوت ويشفى كل مرض وكل ضعف ولـما رأى الجموع تحنن عليهم لأنهم كانوا معذبين بائسين مشتتيـن مثل الخراف التى لا راعـى لها”(متى35:9-36).
– “مثل الخراف التى لا راعى لها”، أليس هذا بوصف دقيق للإنسان بدون الله؟
– “مثل الخراف التى لا راعى لها”، هم الضالون الذين لا يعرفون الله ولم يسمعوا بوعود المسيح. وهم العميان والـمتكبرون الذين يهملون الله ويعرضون عن وعود المسيح. وهم الأغبياء البلداء الذين ينسون الله ووعود المسيح فى سعيهم وراء وعود العالم والجسد والشيطان. وهم الـملحدون
الـماديون الذين ينكرون الله ويزدرون بوعود المسيح.
– “خراف لا راعى لهـا”، عميان يقودون عمياناً. عبّاد يسجدون لأصنام
صنعتهـا أيديهم. ان هذه الخراف التى لا راعى لها، معذبـة ومنطرحـة
وتائهـة فى صحراء الجهل والظلـمة والضلال والخطيئـة.
نعم ان الإنسان بدون الله مثل الخراف بدون الراعـى، فلا يرى أمامـه إلاّ الظلمة والبرد والخطر واليأس والـموت. قد يتمتع مدةً بساعات لذّة وطمأنينة وسعادة، ولكن هى لذّة بلا قناعـة وطـمأنينة، وبلا سلامـة وسعادة، وبلا غد. لا عجب إذن ان يسوع تحنن فى يومـه، وانـه لايزال يتحنن على الـمعذبيـن الـمنطرحيـن مثل الخراف التى لا راعى لهـا. ولولا يسوع لكنـا نحن من هذه الخراف. على أننـا، بعون اللـه ونعـمته، قد سمعنـا وقد صدقنـا يسوع القائل:”الحق الحق أقول لكم أنـى أنـا باب الخراف. جميع الذيـن أتوا هم سرّاق ولصوص..أنا الباب. إن دخل بـي أحد يخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعـى. السارق لا يأتـى إلاّ ليسرق ويذبح ويهلك أمـا أنـا فإنـما أتيت لكيـما تكون لهم حياة وتكون لهم أوفـر”(يوحنا7:10-10).
“انـا الباب. إن دخل بـي أحد يخلص”، هذا هو الوعد الأساسي من وعود
الـمسيح – الخلاص. كل الوعود الأخرى ليست إلاّ وسائل نستعملهـا
للخلاص، أو ثـماراً تنتج من حصولنـا على الخلاص. الخلاص هو الغايـة من وجودنـا فى هذا العالـم، فى هذا الـمكان، وفى هذا الزمـان. فإن اللـه خلقنـا لكى يشركنـا فى حياتـه الإلهيـة، وسعادتـه الكاملـة.
هذا هو خلاصنـا، وليس هناك غرض سواه.
قال يسوع:”ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالـم كله وخسر نفسه، أم ماذا يعطى الإنسان فداء عن نفسه”(متى26:16)، بعبارة أخرى ليست هناك شيئ لـه قيـمة بالنسبة لـي إلاّ الخلاص. هذه هى الحقيقة العـملية الجوهـريـة. هذه هى الحكـمة الأوليـة الضروريـة.
ومـا هو هذا الخلاص الذى يجب أن نفضلـه على كل شيئ غيـره؟
ان الخلاص بحصر الـمعنى هو الـموت فى حالـة النعـمة. من يـمت وفى نفسه الـنعمة الـمبررة فهو يخلص. فـمن ثـم نرى انه يمكننا القول ان الخلاص هو النعمة الـمبررة بعينهـا. على ان هذه النعـمة ليست بمثابة مفتاح سحري لا نستعمله إلاّ فى لحظة موتنا لكى يفتح لنا باب السماء. النعـمة هى مبدأ حيوي، بل هى حياتنا الجديدة الفائقة الطبيعة، حياتنـا الـمسيحية، حياتنا الحقيقيـة التى يجب أن نحياهـا فى كل ساعة وفى كل دقيقة من أيامنـا على هذه الأرض. وكـما أننـا لا نتنفس مرة واحدة فقط فى كل أسوع أو فى كل يوم، كذلك يجب أن تؤثـر النعـمة فى جميع أفكارنـا وأقوالنـا وأفعالنـا، وأن تقدسنـا وتؤهلنـا فى كل حال ومرحلة من أحوالنـا ومراحلنـا فى سيرنـا الدائـم من الزمـان إلى الأبديـة.
فإذن الخلاص بـمعناه الكامل هو حياة جديدة نبدأهـا على الأرض
ونواصلهـا إلى الأبد فى السماء. هذا هو الخلاص الذى خلقنـا لـه اللـه والذى يعدنـا بـه يسوع فى قولـه:”أنا الباب. إن دخل بـي أحد يخلص”.
قد دخلنـا فى هذا الباب الذى هو يسوع فى يوم عـمادنـا، ذلك اليوم الـمبارك الذى فيـه أتـتنا نعمة المسيح وجعلتنا أبناء اللـه وإخوة يسوع، ووارثيـن معـه لـملكوت السموات، وأعضاء فى جسده السرّي الذى هو الكنيسة، وهياكل يسكنهـا الثالوث الأقدس.
فـما دمنـا فى حالة النعـمة يستطيع كل منـا أن يقول: انا إبن الله بفضل يسوع الـمسيح، وانـا أخ ليسوع بنعمة يسوع، وأنـا وارث مع يسوع لـملكوت السماء بحق دم يسوع، وأنـا عضو من أعضاء جسد يسوع السرّي بلطف من يسوع، وأنـا هيكل يسكنـه الثالوث الأقدس برحـمة من يسوع.
حقـاً انهـا دعوة مسيحيـة عظيـمة، فيـا أيهـا الـمسيحي إعرف عـظمتك. وهذه الدعوة، هذه الحيـاة، هذه العـظمة هى ما وعدنـا يسوع بـه حينما قال:”انا الباب إن دخل بـي أحد يخلص”.
ولكن، هل نقدّر هذا الخلاص حق قدره؟
هـل نسلك كـما يحق للدعوة التى دعينـا إليهـا؟
هـل نقّدر هذه الحيـاة التى أدخلنـا يسوع فيهـا والتى يريد أن تكون لنـا أوفـر؟
وبكلـمة واحدة: هل نحيا حياتنـا الـمسيحية؟
ان يسوع بابنـا ونحن خرافـه. هو راعينـا الصالح الذى قال:”ان خرافي تسمع صوتـي وأنـا أعرفهـا وهى تتبعنـي”(يوحنا27:10). فهل نسمع صوت يسوع وهل نتبعه حتى يعرفنا يسوع، لا فى يوم الأحد فقط، ولا فى عيد الـميلاد وعيد الفصح، بل فى كل يوم وكل دقيقة؟
قد يقول مسيحي:ألا يكفى أن أموت فى حالة النعـمة؟، فأقول لـه: نعم يكفى أن تموت فى حالة النعـمة، ولكن ما أدراك بأنك ستموت فى حالة النعمة ان لـم تحيـا فى حالة النعـمة؟. أهكذا تفهم وتقدر الحياة التى أتـى يسوع لتكون لك وتكون لك أوفـر؟
ما رأيك فى رجل تقدّم لـه آلاف الجنيهات ويكتفى بأن يأخذ منها جنيها
واحداً؟
ومـا رأيك فى رجل يقدم لـه بيت كبير جميل ويفضل أن يسكن فى كوخ حقيـر؟
نعـم انك جاهـل أيهـا الـمسيحي الذى عندك كنوز تفوق جميع كنوز
الأرض ولا تستعملهـا ولا تستفيد منها.
ان يسوع راعيك الصالح ولكن لست انت بخروفه الصالح، يدعوك يسوع الى مراع خصيبة، ولكن لا تسمع صوته ولاتتبعه. فأخاف عليك الآن وفى ساعة موتك.
“انا الباب. ان دخل بي أحد يخلص”، بهذا الباب دخل القديسون وعلمونا بحياتهم التقية ان الخلاص الموعود لنا هو الحياة المسيحية بتمام معناها. وإذا كان هؤلاء القديسون يتمتعون الآن بملكوت السموات فليس ذلك لأنهم ماتوا فى حالة النعمة فحسب، بل لأنهم عاشوا فى حالة النعمة، لأنهم سمعوا صوت الراعي الصالح وتبعوه اتباعا قريبا فى كل يوم وفى كل دقيقة من حياتهم. فليس لنا إلاّ ان نطلب بشفاعتهم ان يكون يسوع باباً لنـا ندخل منه ونخرج ونجد تلك الـمراعى الخصيبة التى تشبعنا إيمانـاً حياً ورجاء حقيقياً ومحبة فعالـة لكى نخلص بكل معنى الكلمة، اعنى لكى نحيا حياتنا المسيحية ليل نهار مادمنا فى هذا المنفى. فيا ايها الراعى الصالح، اجعلنا من خرافك الصالحة التى تسمع صوتك فتأتى اليك. آميـن.
3. مغفرة الخطايا – “من غفرتـم خطاياهم تُغفـر لهم”(يوحنا23:20)
فى يوم من الأيام جاء بطرس الى يسوع وقال له:”يارب كم مرّة يخطأ إليّ أخي فأغفر له، أإلـى سبع مرات؟، فقال له يسوع لا أقول لك إلى سبع مرات بل إلى سبعين مرة سبع مرات”(متى21:18-22). ثم حكى يسوع مثل الـملك الذى ترك لعبد من عبيده ديناً مقداره عشرة آلاف وزنـة، ثم رفض ذلك العبد أن يترك لأحد رفقائـه ديناً مقداره مائـة دينار، فغضب الـملك على ذلك العبد ودفعه الى الـمعذبيـن حتى يوفى جميع ماله عليـه. وأضاف يسوع قائلاً:”فهكذا أبي السماوي يصنع بكم إن لـم تغفروا من قلوبكم كل واحد لأخيـه”(متى35:18). فليس من الغريب إذن ان يسوع يعلـمنا أن نصلي قائليـن:”ابانا الذى فى السموات…أغفر لنا خطايانا كما نحن أيضاً نغفر لـمن أخطأ إلينا”(متى 12:6). ان لـم نغفر نحن لـمن أخطأ إلينـا فلن يغفر اللـه لنا خطايانا التى بها قد أخطأنـا إليـه. شرط غريب، ولكن الأغرب أن يغفر اللـه لنا خطايانا مهما كثرت عدداً ومهما عظمت جرمـاً. قد يخطئ الينا الناس ولكن ما هى خطاياهم هذه بالنسبة الى ما نخطئ نحن به إلى اللـه؟
مـا هى الذنوب التى يرتكبهـا أخي نحوى بالنسبة الى الذنوب التى أرتكبهـا نحو اللـه، انهـا مثل جنيه واحد، بل هى مثل قرش صاغ واحد بالنسبة الى مليون جنيـه. فكأن اللـه يقول لـي: تنازل عن ذلك القرش وسأتنازل عن جميع تلك الـملاييـن.
نعم انـه قول غريب، قول لا يفهم ولا يصدق مـا لـم نفهم ولـم
نصدق القديس يوحنا القائل:”من لايحب فإنـه لايعرف اللـه لأن اللـه محبـة”(1يوحنا8:4). وبـما ان اللـه محبةفلا يمكن ان يجمع بينه وبيننا إلاّ الـمحبـة. على ان محبتنـا لن تكون كاملـة ما لم نحب جميع اخوتنا البشر. وقد أكدّ لنـا ذلك القديس يوحنا بقولـه:”ان قال أحد انـى أحب اللـه وهو مبغض لأخيـه فهو كاذب”(1يوحنا20:4).
ولكن قد يشك أحد الـمسيحييـن فى غفران اللـه لـه، فيقول مثلاً: انى خاطئ كبير وليست هناك وصيـة من وصايا اللـه إلاّ وقد خالفتهـا، وليست هناك خطيئة من الخطايا الرئيسية وغير الرئيسية إلاّ وقد إرتكبتـها، وان ذنوبـي أكثـر من نجوم السماء، فهل يريد اللـه أن ينساهـا؟. لقد منُّ لا مرة، ولا عشر مرات، بل مرات لاتحصى، فهل يريد الله أن يحييـني؟، انـى أعتقد أنـى لا أستحق الغفران!
صدقت، أيهـا الخاطئ، انك لا تستحق الغفران ولا يستحقـه أحد إرتكب
ولو خطيئة مميتة واحدة. فإن الخطيئة الـمميتة هى موت للنفس، ولا تستطيع النفس الـميتة أن ترد الحيـاة لذاتهـا. والخطيئة الـمميتة هى إختيار بـه يفضل الخاطئ الخليقة على الخالق، بل هى شر من ذلك، لأن الخاطئ يفضل نفسه على اللـه. فكيف يقدر هذا الخاطئ الـميت أن يستحق الغفران والنعـمة والحيـاة؟
مـا لايستحقـه الخاطئ قد استحقـه لـه حمل الله الحامل خطايا العالـم، مخلصنـا يسوع الـمسيح. أتـى يسوع ليخلصنـا من الخطيئة – من الخطيئة الأصليـة ومن كل خطيئة شخصيـة. وبينـما كان يسوع ينازع على الصليب رأى كل خطيئة من خطيئة أبوينـا الأوليـن إلى آخر خطيئة سترتكب قبل نهايـة العالـم. ملاييـن وملاييـن من الخطايـا حملهـا رجل الأوجاع ومات لكى لايموت الخطأة. تـألـم يسوع ألـماً لايوصف، آلـمته أوجاعـه الجسديـة وآلـمته خطايانـا، ولكن الذى قطع أوتـار قلبـه هو علـمه بأن بعض الخطأة لن يستفيدوا من موتـه وانهـم سيهلكون يائسين من رحمته ومن رحمة أبيهم السماوي.
يحتمل قلب يسوع الآلام كلهـا، يحتمل الجلد والشوك والـمساميـر، يحتمل التجاديف والإهانات، ولكن هناك شيئ واحد لايحتمله وهو أن لايثق الخاطـئ بـه وأن لا يؤمـن الخاطئ برحـمته وحبـه وغفرانـه.
انـنا لا ننسى قول يسوع لتلاميذه فى مساء قيامته من بين الأموات:”السلام لكم، كـما أرسلني الآب كذلك أنا أرسلكم. ولما قال هذا نفخ فيهم وقال لهم خذوا الروح القدس من غفرتم خطاياهم تغفر لهم”(يو21:20-23).
بهذه الكلمات وعدنـا يسوع بالغفران – مهما كانت خطايانـا.
بهذه الكلمات الـمؤثرة تمت رسامة الكهنة الأوليـن وتكّـمل سلطانهم
على جسد يسوع – على جسده البشري فى سر القربان الـمقدس وعلى جسده السّري فى سر التوبـة.
وبهذه الكلمات انفتح للإنسان الخاطئ باب أمل وثقـة لن يسّده إلاّ الخاطئ نفسه. لقد قال يسوع من صميم قلبـه الأقدس:”تعالوا إلـيّ ياجميع الـمتعبيـن والـمثقليـن وأنـا أريحكم”(متى28:11)، ولا يزال يقول هذا فى شخص الكاهن الـموجود فى كرسي الإعتراف ليستقبل الـميت ويرد إليـه حياتـه الحقيقيـة.
وأؤكد لكم أن أشد فرح يذوقـه الكاهن هو إشتراكـه فى ذلك الفرح الذى وصفه يسوع بقولـه:”أقول لكم انـه يكون فى السماء فرح بخاطئ واحد يتوب أكثـر مما يكون بتسعة وتسعين صدّيقاً لايحتاجون الى التوبـة”(لوقا17:5). فيفرح الكاهن مع الآب السماوي القائل على لسان والد الإبن الشاطر:”لنأكل ونفرح لأن إبنى هذا كان ميتـاً فعاش وكان ضالاً فوجد”(لوقا23:15-24).
يـا أخـي..إمـا أنت فى حالة النعـمة وإمـا لست فى حالة النعـمة، إذ ليست هناك حالة ثالثـة بين حالة النعـمة وعدمهـا. فإذا كنت فى حالـة النعـمة كنت مسيحياً حقيقياً، مسيحيـاً حيـّاً، يرضى عنك يسوع، فلايجب عليّ إلاّ أن أحثك على البقاء فى حالتك السعيدة وعلى التقدم فى النعمة بـنموّك فى الإيـمان والرجـاء والـمحبـة وجميع الفضائل الجامعـة بينك وبين يسوع.
ولكن إن لـم تكن فى حالة النعمة فـماذا يـمنعك من إسترداد النِعـمة؟
أنت مسيحي ميت لاتفيد نفسك ولا الكنيسة، ولامصيـر لك إلاّ الجحيـم. فـماذا يصدك عن إسترجاع حياتك الحقيقية وحقك فى السعادة الأبديـة؟
ألعلّك تستحـي من خطاياك؟، ولكنك ما إستحيت من إرتكابهـا فلـماذا تستحي من إستغفارهـا بإعتراف متواضع بسيط سيفرّح اللـه والـملائكة والكاهـن الذى يعرّفك؟. أو هـل تشك فى ان تُغفر لك خطاياك؟، انـه شك باطل ووهم فارغ، وقد سمعت يسوع يعدك بالغفران.
أو لعلّك تخاف من الإعتراف بخطاياك؟. ولكم ممـن تخاف؟
من اللـه؟، وهو أبوك.
من يسوع، هذا الذى مات من أجلك؟
من الكاهـن؟ وهو أخوك من تراب واحد؟
يـا أخى، إن لـم تكن فى حالـة النعـمة، وان لـم ترد أن تعترف بخطاياك، فليس ذلك إلاّ لأنك مزمع على البقـاء فى خطاياك. أي لأنك عبد شهواتك، أو لأنك تفضّل الـملذات العابرة الخادعـة على السعادة الدائـمة الحقيقيـة، أو لأنك قليل الإيـمان والحب وكثيـر الحقد والحسد والكبريـاء والأنانيـة.
يا خـى، انك لاتضرّ إلاّ نفسك، فلماذا تقسّى قلبك وتظل ميتـاً وهناك يسوع يعدك بالحيـاة والرحـمة والغفران ويدعوك كما دعا لعازر الـميت قائلاً:”تعال خارجاً”(يوحنا43:11).تعال خارجاً من قبر جهلك وحماقتك وكبريائك وأنانيتك. تعال خارجاً من قبر ضلالك وظلـمتك وموتك إلى حيث يسوع طريقك وحقك وحياتك.
لنطلب من اللـه أن يفهـمنا رحمته ورأفـة قلبـه الأقدس وأن يجعلنـا مستحقين دائـماً الغفران الذى لايزال يسوع يقدّمـه لنـا، ومستحقيـن السلام الذى يصالحنا مع اللـه بدم الـمسيح، ومستحقيـن الفرح الذى لايعرفـه إلاّ النقي الضـمير والسليم القلب، ومستحقيـن الحياة التى لاتقتلهـا إلاّ الخطيئة ولا تقيمهـا إلاّ التوبـة والإعتراف والعزم الثابت على البقاء فى حالـة النعـمة.
4. النـور- “أنا نور العالم. من يتبعني فلايمشي فى الظلام”(يوحنا12:8)
يُفتتح العهد القديم:”فى البدء خلق الله السموات والأرض…وقال الله ليكن نور فكان نور. ورأى الله النور انـه حسن وفصل الله بين النور والظلام”(تكوين1:1-4). ثم يأتـى العهد الجديد فيقول القديس يوحنا”فى البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله…فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس، والنور يضيئ فى الظلمة، والظلمة لم تدركه”(يو1:1-5).
وقال القديس يوحنا أيضاً فى رسالته الأولـى:”هذه هى البشرى التى سمعناها منه ونبشركم بها، ان الله هو النور وليس فيه ظلمة البتـة”(1يو5:1). نعم ان الله هو النور الـمطلق اللانهائـي، فلابد لإبن الله الـمتجسد من ان يكون نوراً ايضاً. وقد أكّد لنا ذلك يسوع نفسه بقولـه:”أنـا نور العالـم، من يتبعني فلايمشي فى الظلام”. وبقولـه هذا يعدنـا يسوع بأنـه سيكون نوراً للذين يتبعونـه فيهديهـم بين ظلمات هذا الـمنفى حتى يصلوا إلى الآب السماوي.
ان العالـم مفتقر الى هذا النور فى ايامنا هذه. ان يسوع هو نورنـا وهو
طريقنا وحياتنـا، ولكن قوات الظلمة تريد أن تطفئ هذا النور وتضلنـا عن هذا الطريق وتشّوه هذا الحق وتـميت هذه الحيـاة.
ان يسوع هو نورنـا، فعلينـا أن لا نبتعد عن نورنـا وإلاّ هلكنا فى ظلام الخطيئة أو فى ظلام الجهل والضلال واليأس.
ان يسوع هو نورنـا كمـا قال القديس بولس فى رسالته لأفسس:”انكم
كنتم حيناً ظلمة أما الآن فأنتم نور فى الرب، فاسلكوا كأبناء النور”(اف8:5).
ان يسوع هو نورنـا لأنـه مخلصنـا وبهذا فالنور هو النعـمة التى تمكننـا من الحياة الـمسيحية والسلوك كأبناء النور. لقد أشار يسوع بذلك بقولـه:”إن النور يبقى معكم زماناً يسيراً فسيروا مادام النور معكم لئلا يدرككم الظلام، لأن الذى يمشي فى الظلام لايدرى أين يتوجه. مادام النور معكم فآمنوا بالنور لتكونوا أبناء النور”(يوحنا35:12-36).
ان يسوع هو نورنـا لأنـه يعلـمنا الحق الذى هو موضوع إيماننا الـمسيحي وأساس حياتنـا الـمسيحية. هذا هو النور الذ قصده صاحب الـمزامير:”كلمتك مصباح لقدمي ونور لسبيلي”(مزمور105:118).
يسوع هو النور، أي الحق الذى عناه يسوع فى قوله:”ان انتم ثبتم على كلمتي
فبالحقيقة تكونون تلاميذي وتعرفون الحق والحق يحرركم”(يوحنا31:8-32
ان الـمسيحيين هم أبناء النور، ولكنهم لايسلكون كأبناء النور لأنهم لايؤمنون بالنور إيـماناً ثابتاً حياً، ولايؤمنون لأنهم لايعرفون الحق الذى أتـى يسوع ليشهد لـه.
أيهـا الـمسيحي، هل تعرف هذا الحق الذى وحده يحررك من ظلام الجهل
والضلال؟ فلا تضيّع الوقت فى قراءات لاقيمة لهـا بل قد تضر نفسك وتلوث طهارتك وتشوّش عقلك، ولديك جميع كنوز الحكمة والعلم والحق.
فلنطلب من رب النور ان يساعدنا على أن نؤمن بالنور ونسلك كأبناء النور متمسكين بالحق، ومتعـمقين فى درسنا وفهمنـا وتقديرنا للحق.
نعم يارب، أنت نور العالـم فإجعلنـا نتبعك لكي لانمشي فى الظلام، بل نسير فى النور “بنورك يارب نعاين النور”(مزمور10:35)، ونسير مع صاحب الـمزامير”أمام الله فى نور الأحياء”(مزمور14:55)، حتى نصل معك وبك الى السماء “حيث لايكون ليل ولايحتاجون الى سراج ولا الى نور الشمس لأن الرب الإلـه ينيـر عليهم ويـملكون الى دهر الدهور”(رؤيا5:22).

5. الكنيسة – “الحق الحق أقول لكم ان الذى يقبل من أرسلني يقبلني”(يوحنا20:13).
فى يوم من الأيام خرج يسوع إلى الجليل ليصلّي وقضى ليلتـه فى الصلاة إلى
اللـه، فلـما كان النهار دعا تلاميذه وإختار منهم اثنى عشر وسماهم رسلاً
(لوقا12:6-13). وهؤلاء الإثنى عشر أرسلهم يسوع وأمرهم قائلاً: أكرزوا قائليـن قد اقترب ملكوت السموات…هـا أنـا مرسلكم مثل خراف بين ذئاب فكونوا حكماء كالحيّات وودعاء كالحمـام..من قبلكم فقد قبلنـي،
ومن قبلنـي فقد قبل الذى أرسلنـي”(متى5:10و7و16و40).
وفى انجيل القديس لوقا نقرأ أن يسوع عيّـن اثنين وسبعيـن تلميذاً “وأرسلهم اثنيـن اثنيـن أمام وجهه إلى كل مدينـة وموضع أزمع أن يأتـى إليـه”، وقال لهم:”من سمع منكم فقد سمع مني، ومن احتقركم فقد احتقرنـي ومن احتقرنـي فقد احتقر الذى ارسلني”(لوقا1:10و16).
ونعلـم ان يسوع وجـّه الى سمعان بطرس وحده هذا القول العجيب:”أنت الصفا وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها”(متى18:16).
وفى يوم آخر أشرك يسوع الرسل الآخرين فى بعض السلطان الذى كان قد وعد بطرس بـه، وذلك فى قولـه لهم:”الحق أقول لكم ان كل ما ربطتموه على الأرض يكون مربوطاً فى السماء وكل ما حللتموه على الأرض يكون محلولاً فى السماء”(متى18:18).
وأخيـراً فى ليلة العشاء السرّي قال يسوع للإثنى عشر:”الحق الحق أقول لكم
ان الذى يقبل من أرسله يقبلنـي والذى يقبلني يقبل الذى ارسلني”(يوحنا20:13).
أيهـا الأحبـاء، قال القديس بولس:”ان هذا لسر عظيم”(افسس32:5)، وأراد بهذا الوحدة التى تجمع بين الـمسيح وكنيسته، والتى شبّههـا القديس بولس بالوحدة الجامعة بين العروس والعريس. وهذه الوحدة، التى هى أيضاً فى قول القديس بولس وحدة الرأس والجسد، وفى قول ربنا يسوع وحدة الكرمـة والأغصان، هذه الوحدة التى يعبّر يسوع عنها تعبيراً مدهشاً فى قوله:”الحق الحق أقول لكم ان الذى يقبل من أرسله يقبلني والذى يقبلني يقبل الذى أرسلني”(يوحنا20:13).
مـا معنى هذا القول العجيب والغريب:”الذى يقبل من أرسلـه يقبلـني”؟
ان اللـه وحده يعلم الجواب الكامل على هذا السؤال، لأن الكنيسة كما قال الرسول بولس هى سر عظيم، وواجبنـا الأول تجاه هذا السر هو أن نؤمن بـه لأن اللـه قد أوحى إلينـا بـه على لسان ربنـا يسوع الـمسيح.
ولكن هناك إعتبارات تساعدنـا على فهم قول يسوع وتدفعنـا الى الثقـة والشجاعـة والحماسة فى القيام بواجباتنـا من حيث كوننـا منـتميـن الى الكنيسة. فاننـا نعلم ان الكنيسة هى سر حب، وهى سر قدوة، وهى سر وحدة. وفى كل من هذه الإعتبارات نور ينّور عقلنا وقوة تقّوى إرادتنـا على الإجتهاد الدائـم فى حياتنـا الكنسية لكى نستحق ما وعدنـا يسوع بـه فى قولـه””الذى يقبل من أرسلـه يقبلـني”.
اولا: الكنيسة سر حب
فإن سر التجسد هو فوق كل شيئ سر حب، كما قال القديس يوحنا:”بهذا
تتبّين محبـة اللـه لنـا ان اللـه أرسل إبنـه الوحيد الى العالـم لنحيـا بـه”(1يوحنا9:1). أمـا الكنيسة فهى إطالـة التجسد وإمتداده فى الـمكان والزمان. صحيح ان ناسوت يسوع هو الآن فى السماء أو مختف فى سر القربان الأقدس، على ان يسوع يتجسد من جديد بنوع ما فى الذين يرسلهم لكي يواصلوا عمل الحب، أعنى فى الحبر الأعظم وفى الأساقفة والكهنـة. فلذلك عندما نقبل هؤلاء نقبل يسوع نفسه وآباه السماوي. فضلاً عن ذلك ان قبولنـا لرؤساء الكنيسة ولكل من يرسله يسوع هو برهان قاطع على حبنا ليسوع وأبيـه السماوي، فإن هذا الحب يتحقق لا بالكلمات الفارغـة بل بالأعمال، ومن أهم هذه الأعمال الخضوع والإنقياد للذين يرسلهم يسوع ليشتركوا معه فى عمل خلاصنـا.
ثانيا: الكنيسة سر قدرة
ألا يشهد لذلك وجود الكنيسة، وجودها الـمستمر غير الـمنقطع مدة عشرين قرناً على الرغم من الإضطهادات وهجمات أعدائهـا فى كل عصر. لن تقوى عليهـا أبواب الجحيـم..قد قام كثيرون عليها من رؤساء الهراطقة والإنشقاق، وقد شنعت بها أقلام العلماء الكذبـة، بل قد خانهـا نفر من أبنائهـا، ومع هذا “لن تقوى عليهـا أبواب الجحيم”.
قد عانت الكنيسة البلايـا والشدائد والأوهان وفى كل ذلك كأننـا
نسمعها تقول مع الرسول بولس:”بكل سرور أفتخـر بأوهانـي لتستقر فـيّ قوة الـمسيح. لذلك أرتضي بالأوهان والشتائم والضرورات والإضطهادات والشدائد من أجل الـمسيح لأنـي متى ضعفت فحينئذ أنا قوي”(2كورنثوس9:12-10).
نعم، إن قوة الكنيسة هى قوة الـمسيح، هى قدرة اللـه الذى يختار الجاهل من العالـم ليخزى الحكماء ويختار الضعيف من العالـم ليخزى الأقوياء”(1كورنثوس27:1). فلذلك عندما نقبل من يرسله الـمسيح، مهما كانت قوتـه أو ضعفـه، فاننـا نقبل الـمسيح وقوة الـمسيح التى لن تقوى عليها أبواب الجحيـم.
ثالثا: الكنيسة سر وحدة
بعد العشاء السرّي صلّى يسوع من أجل رسله وخلفائهم، وفى أثناء هذه الصلاة الـمؤثرة للغايـة قال:”ياأبت كما أرسلتني الى العالـم ارسلتهم أنا الى العالـم…ولست أسأل من أجل هؤلاء فقط بل أيضاً من أجل الذين يؤمنون بـي من كلامهـم، ليكونوا بأجمعهم واحداً كما أنك أنت أيهـا الآب فـيّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينـا”(يوحنا18:17-21).
فإذن، وحدة الكنيسة هى بنوع سرّي لكن حقيقي، هى وحدة اللـه نفسه..ان هذا لسر عظيم لانفهـمه..ولكن ليس من الضروري أن نفهـمه، بل أن نحياه، أي أن نحقق هذه الوحدة فيـما بيننـا، وفيـما بيننـا وبين الذين يرسلهم يسوع ليقوموا مقامـه فى إدارة حياتنـا الكنسية وصيانـة هذه الحياة وإمدادهـا بالأسرار الـمقدسة وبكلمة الحق والحيـاة.
إذن، يجب أن نفهم كيف يلزمنـا أن نقبل الذين يرسلهم يسوع لكي نقبل فيهم يسوع نفسه ونزداد وحدة معـه ومع الآب السماوي. الحبر الأعظم والأساقفـة والكهنـة هم الـمرسلون من عند يسوع، هم إخواننـا من تراب واحد ولكن هم أيضاً ممثلوا يسوع الـمسيح ويأتوننـا مع سلطتـه ومع قوتـه. ومهمـا كان لهم من فضائل شخصيـة أو لـم يكن لهم، فقد إختارهم يسوع وأقامهـم ممثليـن له وأرسلهم إلينـا.
أفلا يجب إذن أن نحترمهم ونطيعهم ونحبهم ونصلّي من أجلهم ونساعدهم على القيام بمهمتهـم؟، وإلاّ كيف نستطيع أن ننتمي إنتمـاء حقيقيـاً، إنتـماء حيـّاً الى الكنيسة الواحدة الجامعة الـمقدسة الرسوليـة؟
“الذى يقـل من أرسله يقبلنـي”
نعم، بقبولنـا للحبر الأعظم والأساقفة والكهنة نقبل يسوع وحبـه وقوتـه، وهذه الوحدة التى تحقق فينـا قول بولس الرسول لأهل أفسس:”فلستم إذن غرباء ولا دخلاء بل أنتم رعيّة مع القديسين وأهل بيت اللـه. وقد بنيتم على أساس الرسل والأنبيـاء وحجر الزاويـة هو الـمسيح يسوع الذى فيـه يُنسق البنيان كله فينمو هيكلاً مقدساً فى الرب”(افسس19:2-21).
فعلينـا نحن الذين نتمتع بنعمة هذه الوحدة أن نسلك كأبناء مخلصيـن أوفيـاء، مطيعيـن لأمنـا الكنيسة الـمقدسة. علينـا أن نصلّي ونضحي بأنفسنا لتحقيق هذه الوحدة التى يرغب حبرنا الأعظم فيها أشد الرغبـة. هذه الوحدة التى هى أهم أهداف الـمجمع الـمسكوني الفاتيكاني الثانـي. فلنصل يوميـاً من أجل تحقيق هذه الوحدة، ولكي نحقق فى أيامنـا قول الرسول بولس:”وللجميع رب واحد وآب واحد هو فوق الجميع ومع الجميع وفى الجميع”(افسس5:4).
6. الفرح – الحق الحق أقول لكم انكم ستبكون وتنوحون..ولكن حزنكم يؤول الى فرح”(يوحنا20:16).
فى ليلة من الليالي منذ الفي سنة تقريبا جاءت بشرى السماء بالفرح لبعض الرعاة فى البادية “وإذا بـملاك الرب قد وقف بهم ومجد الله أشرق حولهم فخافوا خوفاً عظيماً. فقال لهم الـملاك: لاتخافوا فهـاءنذا ابشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب”(لوقا9:2-10).
“ابشركم بفرح عظيم”، لقد أتى يسوع الى العالـم لكي يملأ القلوب والنفوس فرحاً عظيماً. ذلك العالـم الذى أتـى يسوع إليـه كان بأمس الحاجـة الى الفرح كما وصفه القديس بولس:”وبما انهم لم يؤثروا أن يستمروا على معرفـة الله أسلمهم الله الى رأي مرذول …ممتلئين من كل إثم وشر وزنى وبخل وخبث…لافهم لهم ولانظام ولا ودّ ولا عهد ولا رحمة”(رومية28:1-32). وصف هائل، لكنه وصف دقيق للذين يعرضون عن الله ولا يعرفون معنى الفرح العظيم الذى أتـى بـه يسوع. العالـم بدون الله هو عالـم بدون فرح.
مـا هو هذا الفرح العظيم الذى أتـانـا به يسوع والذى لايزال يقدمـه لكل من يريده؟
انـه ليس ذلك الفرح فى اللذات الـماديـة العابـرة، بل هو الفرح الناتج بمـا وعدنـا يسوع بـه من الـمغفرة والحياة والنور، ومن الإيـمان والرجاء والـمحبـة، ومن الأسرار الـمقدسة ومواهب الروح القدس وممارسة الفضائل الـمسيحية. أي السعادة الكبرى فى معاينـة الله وجهاً لوجه إلى دهر الدهور.
السعادة الأبديـة هذه هـى الغايـة، وهذا هو الفرح العظيم، فـما هى آلامنـا وأحزاننا ودموعنا فى هذا الـمنفى الوقتي القصير آزاء الـمجد الـمزمع والفرح الـموعود بـه لنـا. هذا الفرح نالـه يسوع لنـا بآلامـه وموتـه وقيامتـه الـمجيدة.
“ولكن حزنكم يؤول الى فرح…أنتم الآن محزونون لكني سأراكم فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم”(يوحنا20:16-22).
لقد وعدنا يسوع أيضاً بالألم وبالصليب: وأنا إذا إرتفعت عن الأرض جدبت إلي الجميع”(يوحنا32:12)، وعليـه فإن كان فى آلام يسوع وموتـه على الصليب أكبر دليل على حبـه لنـا، فيجب أن تكون آلامنـا وأحزاننـا هى دليل على حبنـا ليسوع، فالحب يستدعي الحب. وها هو قول بولس الرسول لنـا:”انـي أحسب أن آلام هذا الدهر لا تقاس بالـمجد الـمزمع أن يتجلى فينـا”(رومية18:8)، واسمعوا قول بطرس:”ايها الأحباء لا تستغربوا ما يصيبكم من حريق البلوى إمتحانـاً لكم محتسبين ان قد عرض لكم أمر غريب. لكن افرحوا بـما انكم تشاركون الـمسيح فى الآلام حتى إذا تجّلى مجده تفرحون أيضاً مبتهجيـن”(1بطرس12:4-13).
فلنطلب من الله ان يساعدنا على فهم الصليب وتقدير الصليب وتقبل الصليب فى حياتنا اليومية لكى نستحق ما وعدنا به يسوع بقولـه:”الحق الحق أقول لكم انكم ستبكون وتنوحون…ولكن حزنكم يؤول الى فرح…ولاينزع أحد فرحكم منكم”.
7. السـماء – “آتـي وأخذكم إليّ لتكونوا أنتم حيث أكون أنا”(يوحنا3:14).
ذات يوم قال يسوع:”ان للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكاراً وأما ابن البشر فليس له موضع يسند اليه رأسه”(متى20:8). ان يسوع ابن الآب الوحيد لم يقدر ان يجد على هذه الأرض مسكناً ثابتاُ لأنـه لم يكن من العالـم. ان التابعيـن ليسوع لا ينتمون بعد الى هذا العالـم”انهم ليسوا من العالـم كما أني أنا لست من العالـم”(يوحنا16:17)، فلذلك نسمع يسوع قائلاً:” آمنوا بـي أيضاً. ان فى بيت أبي منازل كثيرة وإلا لقلت لكم فإني منطلق لأعد لكم مكاناً. وإذا انطلقت وأعددت لكم مكاناً، آتـي وآخذكم إليّ لتكونوا حيث أكون أنـا”(يوحنا1:14-3).
“آتـي وآخذكم إليّ لتكونوا حيث أكون أنـا” – يجب ان نتذكر هذا الوعد الآن وفى كل يوم من أيام حياتنـا الـمسيحية.
آتـي وآخذكم إليّ لتكونوا حيث أكون أنـا”- ان لم يتحقق فينا هذا الوعد فما الفائدة من وعود يسوع الأخرى. ان تلك الوعود التى وعدنا يسوع بها لكى تقودنا الى يوم سعيد يأتينا يسوع فيـه ويأخذنـا إليـه لنكون نحن حيث يكون هو. هذه هى غايتنـا القصوى وهذه هى السعادة الكبرى.
كيف نستطيع أن نستحق هذه النعـمة العظيـمة؟
اننـا لا نستطيع ان نستحق هذه النعـمة من أنفسنا، فإن النعمة كما يلوح من الكلمة هى شيئ ينعم الله بـه على من يشاء. هذه الحقيقة هى سبب للرجاء والثقة فإن الله كما يقول القديس بولس:”يريد ان جميع الناس يخلصون ويبلغون الى معرفـة الحق. لأن الله واحد والوسيط بين الله والناس واحد، وهو الإنسان يسوع الـمسيح الذى بذل نفسه فداء للجميع”(1تيموثاوس4:2-6).
فإذن، ليس إعتمادنـا على أنفسنا، بل على فادينا يسوع الـمسيح، وليست إستحقاقتنـا القليلة، بل ثقتنـا كلها بإستحقاقات وسيطنا يسوع الـمسيح. وهذه الإستحقاقات ليست بعيدة عنا ولكنها بالقرب منا وفى متناولنـا يومياً إذا أردنـا نحن أن نقبلهـا. هنا السر العميق سر الإرادة البشريـة، فإذا أردناهـا هناك الحياة، وهناك النور والحق، وهناك الفرح، وهناك أم يسوع والقديسين. هناك جميع وعود الـمسيح والـمسيح نفسه الـمستعد لأن يأتـى ويأخذنـا إليـه، إذا أردنـا نحن أن نكون معـه.
مسؤوليـة عظيمة، ضخمة، وهى مسؤوليتنـا نحن اليوم وغدا وفى كل غد
ما دمنا على قيد الجيـاة.
فلنطلب من امنا الحبيبة مريم العذراء ولنقل:يا أم يسوع وأمنا تضرعي لأجلنا لكي نستحق مواعيد الـمسيح.
ولنصلي ليسوع صارخيـن:”يا يسوع يا من وعدتنـا بنعمك وبنفسك، نشّط إرادتنـا الضعيفة وزد أيماننـا وثبتنـا فى الثقـة بك لكي نستحق وعودك الى أن تأتـي وتأخذنـا إليك لنكون نحن حيث تكون أنت مع الآب السماوي فى وحدة الروح القدس الى دهر الدهور. آميـن.
_______________
“وأخذ يسوع الأرغفـة”
نقرا فى انجيل القديس مرقس معجزة إشباع الجموع والذى يقدر عددهم بخمسة آلاف رجل من خمسة ارغفة وسمكتين والتى أخذها يسوع وباركهـا وأعطاهـا ليأكلوهـا (مرقس35:6-44). وحينما نرجع الى مكان هذه الحادثـة وهو البريـة القاحلة تتكشف لنا الحاجـة الـماسة إليهـا لأن “هناك جمع كبيـر” أخذ الجوع منـه كل مأخذ. هذا الـمشهد هو صورة للناس الذين حولنـا جياع إلى خبز الحيـاة، انهم يـملأون العالـم، فهناك جوع وعطش لشيئ أفضل، والرب لا يترك الجموع أنـه يتحنن كما جاء”فتحنن عليهم لأنهم كخراف لا راعي لها”(مرقس34:6).
نحن ننظـر فقط ونتأثـر ولكن لا فعل. لقد دعى يسوع تلاميذه ليقدموا الـمساعدة “أعطوهم أنتم ليأكلوا”. الرب يدعونـا لـمعاونتـه “عاملون معاً”، وهذا هو الـمقصود ليس لننجو بأنفسنا بل لنجول مفتشيـن عن الآخريـن.
هل تتذكرون كلام الرب لـموسى”نزلت لأنقذهـم والآن هلّم فأرسلك الى فرعون وتخرج شعبي”(خروج8:3و10).
ان الأرغفـة هنـا لهـا العديد من الـمعانـي والرموز:
1. هى صورة الله لعجزنـا وعدم كفايتنـا
اننا نمتنع عن الـمهمة الخلاصيـة وعن رسالة الإنجيل والشهادة للـمسيح
لشعورنـا بالعجز، وهكذا كان موسى الذى قال للرب:”من أنـا حتى ترسلنـي”، وهكذا كان جدعون”بـماذا أخلّص إسرائيل”، وهكذا كان اشعيا”ويل لـي أنـي هلكت”، وهكذا كان ارميـا”انـي لا أعرف أن أتكلـم لأنـي ولد”. ولكن يقول القديس بولس:”اختار الله جهال العالـم ليخزى الحكماء. وضعفاء العالـم ليخزى الأقويـاء، وأدنياء العالـم
والـمزدرى وغير الـموجود ليبطل الـموجود”(1كورنثوس27:1-28).
ويختار الله أرملة صرفت لتطعم ايليا، ويختار الغلام الصغيـر ليطعم الخمسة آلاف من خمس خبزات شعير طعام الفقراء.
2. هـى شعار التضحيـة
فالأرغفـة ترمز إلى الذات الـمكسورة، الـمتضعـة كقول الرب يسوع:”إن أراد أحد أن يأتـى ورائـي فليكفر بنفسه”، ” وإن لـم تقع حبة الحنطة فى الأرض وتـمت فهى تبقى وحدها ولكن إن ماتت تأتـى بثـمر كثيـر”. ويسوع هو “السراج الـموقد الـمنيـر”، فلا إضاءة بدون إحتراق. فالناس الـمحتاجون الجياع لا يمكن أن ينالوا البركـة الحقيقية من حياتنـا إلاّ إذا إنكسرنـا كما فعل يسوع عندما “كسر
الخبزات” قبل إستخدامهـا.
3. هـى ذات مـوزعـة
أطلب من يسوع أن يجعلك رسولاً فى كل مكان، أترك لـه وحده مهمة التوزيع وتعييـن الـمكان، وفى هذا الأمـر عليك أن تنكر ذاتك وبذلك تكون حياتنـا أرغفـة بيـن يديـه.
4. هـى أداة قوة
بالرغـم من ان الأرغفـة كانوا خمسة فقط ولكنهـا كانت أداة قوة “فأكلوا جميعهم وشبعوا”.
5. هـى تحريض على التسليـم
لقد أخذ يسوع الأرغفـة، انـه لـم ينتزعهـا بل سيأخذهـا إن أعطيتهـا أنت لـه.
6. هـى ثقـة ان الله لا ينسى شعبـه ورسله
“فرفعوا ما فضل من الكِسر اثنتي عشرة قفة مملوءة”، فالـمسيح لا ينسى تلاميذه فهو يهتم بإحتياجات خدامـه.
والآن أعطى خبـز حياتك ليسوع “ليكسرها ويباركهـا” وأعطهـا أنت للآخريـن فتكون سبب بركـة ورجاء وشهادة حيـة للـمسيح.
___________________

أؤمـن بكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسوليـة
ان السيد الـمسيح له الـمجد أسس طغـمة أرضيـة تشابـه الطغـمة السماويـة وهى الكنيسة. وهذه الكنيسة لها علامات أربعـة مـميزة لهـا وهـى: واحدة – مقدسة – جامعـة –رسوليـة كما جاء فى قانون الإيـمان.
ان الـمسيح قد جاء إلى العالـم وعلّم البشر تعاليـم الخلاص، ولكن لـمن يا ترى أودع هذه التعاليـم؟ هذه التعاليـم –هذا الإنجيل بشرى الخلاص – انه تعالـى قد سلّم كل ذلك إلى طغـمة منتظمة متقنـة لها فى السماء صورة وفى الأرض صورة -هذه الطغـمة هى الكنيسة.
فلها صورة السـماء لأنـه كـما أن الأرواح الطوباويـة تقّسم الى
تسع طغمات وهى: الـملائكة ورؤساء الـملائكة والرئاسات والسلاطين والكراسي والأرباب والقوات والشاروبيم والساروفيم، كذلك فى هذه الكنيسة تسع طغـمات هى: الـمرتّل والـمقسم والأناغنوسطس والإيبودياقون والدياقون والأرشيدياقون والكاهن والأسقف والبطريرك أو البابا الأكبـر.
وهذه الكنيسة لها صورة الأرض لأن الأنبياء والرسل شبهوهـا ببيت اللـه،
وبجبل عال ظاهر لدى الأرض كلها، وبمملكة تدوم الى الأبد، وبـمدينة،
وبمحكمة منتظمة، وبقطيع سلّـمه تعالـى لإدارة الأساقفة(اعمال16)،
وبسفينـة وبجيش. وقد رآهـا يوحنا فى رؤياه فقال:”ظهرت آيـة عظيمة فى السماء إمرأة ملتحفة بالشمس وتحت قدميها القمر وعلى رأسها إكليل من اثنى عشر كوكبا وهى حبلى تصيح وتتمخض وتتوجع لتلد وإذا بتنين أشقر ظهر ليبتلع ولدها عندما تلد”(رؤيا12). فالكنيسة هى إمرأة لأنهـا عروس الـمسيح، وهى آيـة عظيمة وقد شيدهـا الـمسيح لا بسلطان الـملوك وقوة الجيش بل بإثنى عشر صياداً. وظهرت هذه الآيـة فى السماء لأن أصل الكنيسة سماوي ومؤسسها سماوي وتعاليـمه وقوانينـه سماويـة ساميـة، ومقره الدائـم فى السماء، وحياة كنيسته سماويـة وآمالهـا وأميالهـا وأعضاؤها الأبرار سماويون.
هذه الكنيسة التى أسسها الـمسيح تتـميز بعلامات أربعـة هى: الوحدة والقداسة والجامعيـة والرسوليـة.
مـا هـى الكنيسة؟ انهـا جماعـة الـمؤمنيـن الـمشتركيـن بإيـمان واحد وأسرار واحده خاضعيـن للرعاة الشرعييـن الذين رأسهم الحبر الرومانى الأعظم.
1. الكنيسة الواحـدة
ان الكنيسة الواحدة تصف خالقهـا ومؤسسها بالوحدة بقولهـا:”أؤمـن
بالله واحد”، وتؤمـن بأنـه وحيد الجوهـر ووحيد العـمل ووحيد
الـمحبة. وكـما أن الآب لم يخلق إلاّ عالـماً واحداً فى مرتبة الطبيعة، كذلك الـمسيح لم يخلق إلاّ كنيسة واحدة فى مرتبـة النعـمة. وبهذا الصدد صدق قول البشير:مهما يعمله الآب يعمله الإبن على مثالـه (يوحنا19:5)، فالإبـن على مثال الآب الصانع العالـم الواحد صنع أيضاً هو كنيسة واحدة التى هى مملكتـه وحظيرتـه وجسده السريّ.
وهذه الوحدة أشار اليها الأنبياء والقديسون والعقل النطقي فحسب هوشع النبي (اصحاح 2) ان هذه الكنيسة هى عروس الـمسيح الواحدة التى تكلل عليهـا إلى الأبد. وبولس الرسول قال: ان الـمسيح أحب الكنيسة عروسته وبذل نفسه من أجلها(افسس25:5). والتمس الـمسيح فى ليلة آلامـه أن تكون هذه الكنيسة واحده كما انـه هو والآب واحد (يوحنا20:17).
ومـا أجمل نص بولس الرسول الى أفسس:”اجتهدوا فى حفظ وحدة الروح فإنكم جسد واحد وروح واحد كما دعيتم الى رجاء دعوتكم الواحدة وللجميع إيمان واحد ورب واحد ومعموديـة واحدة وإلـه واحد وآب واحد”(افسس3:4). من ذلك يتبين لنـا إلتزامنـا بإتباع هذه الكنيسة الواحدة وعلى ذلك يتعلق أمر خلاصنـا.
والتقليد ينادي أيضاً بوحدة الكنيسة وكفانا شاهداً ما ثبتـه الـمجمع النيقاوي بهذه العبارة: “اؤمـن بكنيسة واحدة”، لذلك حق للعلامـة أوريجانوس أن يقول هذه العبارة الـمشهورة:لاخلاص خارجاً عن الكنيسة.
والعقل يثبت لنا ذلك، فإذا كان الله واحداً وصادقـاً نتج أن الإيـمان لايمكن ان يكون إلاّ واحداً. والكنيسة لاتكون إلاّ واحدة لأن الإيـمان الـمستودع للكنيسة الواحدة ليس شيئاً آخر، ولأن الدين الـمؤسس من الـمسيح الواحد هو للبلوغ الى السعادة الواحدة السماويـة.
2. كنيسة مقدسـة
لـما كان تعالـى قدوساً وقد خلقنـا على صورتـه لنتقدس بقوانـا الثلاث، أوجد لنـا تعالـى واسطة حيّـة لتقديسنـا. هذه الواسطة هى الكنيسة البريئة من كل عيب، فإن الـمسيح نفسه حسب تعليم الرسول قد بذل نفسه من أجل تقديسهـا(افسس25:5)، وبذلك قد قدّس تعاليمهـا وأسرارها ووصاياهـا وأعضاءهـا الـمدعويـن الى القداسة.
أيـن الكنيسة أيها الأحبـاء؟
الكنيسة حيث القداسة، فالكنيسة إذاً مقِدسة ومقدَسـة. فهى مقدسة بوصاياها وأسرارها وعباداتهـا وآدابهـا وتعاليـمها، فمنهـا تلقينـا التوراة التى فيها قيل لـموسى:”إذا امتثلتم أوامري وحفظتم عهدي تكونون لـي شعباً مقدساً”(خروج6:19). وهذه الوصايـا هى الوصايا العشر ووصايا الكنيسة التى تأمرنـا لتقديسنا بالإعتراف والتناول والأصوام وحضور القداسات الإلهيـة.
ولكن كيف تجعلنـا الكنيسة قديسيـن؟. ان ذلك يتم بالأسرار، فالـمعموديـة والتوبـة تبعث النفوس الـميتة – المعموديـة تلدنـا لحياة النعمه والتوبـة تقدم لنا دفـة النجاة من الغرق وتمحو خطايانا. وكذلك أسرار الحيـاة فى الكنيسة بها نتسلح لـمحاربـة عدو الكنيسة والـمسيح، فبعد ان قامت إبنـة يايروس من الـموت أعطي لهـا الطعام لتأكل، كذلك نحن بعد أن نقوم من موت الخطيـة يُقدم لنـا الطعام الحقيقي السماوي جسد الـمسيح ودمـه. ولدوام القداسة قد إرتفع الزواج الى سر عظيم فصار الـمضجع نقياً. وسر الكهنوت الذى بـه يتقدس الـمؤمنون الراغبون فى خلاصهم. وهناك سبباً اخيراً للتقديس هو سر الـمسحة الذى يُعد الـمؤمنيـن للدخول إلى الأبديـة بسلام وإطمئنان عند الساعة الأخيـرة.
تقدس الكنيسة أيضاً اولادها بأدابها وتعاليمها، فآدابها وتعاليـمها ودستورها وعوائدها تطابق روح الإنجيل الطاهر وهى وسائط لتسهيل حفظ الشريعة الإلهيـة.
وتقدس الكنيسة أولادهـا بعباداتهـا التقويـة، من أخويات وجمعيات
وصلوات متنوعـة كمسبحة الورديـة والصلوات الخاصـة بالعذراء مريم والقديسين، وزياح القربان والرياضات الـمختلفة.
والكنيسة مقدسة لأنـه خرج منها قديسون عظام اشتهروا بالعِلم والعفاف والقوة والـمحبة والعجائب الـمختلفة، لذلك يقول لنـا الرب “كونوا قديسين كـما أني أنا قدوس”.
3. كنيسة جامعـة
هذه هى العلامـة الثالثـة لتـمييز الكنيسة الحقيقيـة. قال الرسول لأهل روميـة فى بدء الكنيسة: ان إيمانكم قد ذاع فى العالـم كله،والواقع ان الكاثوليك يفوق عددهم جميع الأديان الأخرى عدداً إذا لاحظنـا كل دين بـمفرده فلقد بلغ تعداد الكاثوليك فى العالـم الى 500 مليون وأكثـر.
تثبت كثلكة الكنيسة من العهد القديم والجديد والتقليد الرسولـي، فحسب قول الـمرنّم: ان الـمسيّا يسجد له جميع الـملوك وتتعبد له كل الأمم(مزمور71)، وانـه يسجد له من جميع عشائر الأمم(مزمور28:21)، وجاء فى اشعيا أن جبل بيت الرب يوطّد فى رأس الجبال ويرتفع فوق التلال ويجري إليـه جميع الأمم ويصعد إليـه شعوب كثيرون(اشعيا2). والواقع ان هذا القول ينطبق على الكنيسة الكاثوليكية لأنهـا اليها وحدها ينضوى كل
الشعوب وانها وحدها ترتفع سائدة جميع أقطار العالـم.
وفى العهد الجديد أمر السيد الـمسيح تلاميذه أن يذهبوا ويكرزوا بالإنجيل للخليقة كلهـا(مرقس15:16)، وأن يكونوا لـه شهوداً فى اورشليم وجميع اليهوديـة وفى السامرة وإلى أقاصي الأرض(اعمال الرسل8:1)، ومرقس الإنجيلي يصّرح ان الرسل قد خرجوا بعد قيامـة الـمسيح وكرزوا فى كل مكان(مرقس20:16).
أمـا التقليد الرسولـي فإن القديس أغناطيوس لقّب كنيسة الـمسيح بكاثوليكية قبل الـمجمع النيقاوي، فانـه لـما سأله الحاكم الروماني من أي دين تدين أنت، أجابـه اننى من الكنيسة الكاثوليكية. لقد تلقبت الكنيسة بالكثلكة فى نهايـة الجيل الأول وبدايـة الجيل الثاني ودعيت بهذ الإسم لأنهـا كانت ممتدة فى الأرض كلهـا. وكان يفتخر أحد القديسين قائلاً ان اسمي مسيحي ولقبي كاثوليكي.
4. كنيسة رسوليـة
قال السيد الـمسيح:”كما أرسلني أبـي هكذا أنا أرسلكم أيضاً”(متى18:28). لقد قيل ان الإنسان يُعرف قدره من ثلاثة:من هديته وإنشائـه ورسولـه.
– نعم ان الـمسيح أهدى عروسته الـمحبوبـة الكنيسة هدايا كثيرة هى أسراره وجسده وآلامـه وصليبـه ودمـه وشركة قديسيـه.
– من إنشائـه، فإن إنشاء الـمسيح هى الأناجيل الـمقدسة فهى تحوى الآداب والتعاليـم الرائعـة والـمعانـي الساميـة.
– من رسولـه، فإن الرسل جميعهم قد ضحوا بحياتهم من أجل الـمسيح ومن أجل إيـمانـه الذى تسلموه وبشروا بـه. فإذا كانت رسالة إبن الله من أبيـه شرعيـة ثابتـة، كانت رسالة رسله شرعيـة وثابتـة أيضاً.
ان الكنيسة الكاثوليكية هى رسوليـة بالنظر الى التعاليـم والخلافـة. فالبنظر للتعليـم: لأنهـا ما تعتقد بـه الآن قد اعتقدت بـه دائـماً ولم تعلّم قط إلاّ الحقائق الـمسلّمة من الرسل إمـا بالإنجيل وإمـا بالتقليد. والـمسيح الذى وعد كنيسته قائلاً: انا معكم كل الأيام وإلـى منتهى الدهر” يحافظ على كنيسته إلى الأبد. والكنيسة حاربت دائماً كل تعليم فاسد مضاد للتعليـم الصحيح الذى تسلّمته من الـمسيح يسوع.
وبالنسبة للخلافـة، فتعاقب رعاتهـا قد ابتدئ من الرسل ووصل إلينـا سالـماً بلا إنقطاع.
فعلينـا إذاً أيها الأحبـاء أن نكرّم رئيس هذه الكنيسة الواحدة الـمقدسة
الجامعة الرسوليـة وأن نكرم خلفاؤه تكريماً خاصاً معتبرين اوامرهم وقوانينهم، والأساقفة والبطاركـة والكرادلـة والقصّاد والـمعاونين لهم فى تدبير وسياسة الكنيسة، وأن لا نسمح لأحد أن يتفوه أمامنـا بـما يحط من شأنهم وبذلك تتحقق اننـا نكرم الـمسيح رأس الكنيسة ورأسهم لأنـه قد قال:”من قبلكم فقد قبلني ومن أهانكم أهانني”. فإذا ما قمنا بإكرام الكنيسة ورؤسائها وحفظنـا إيمانهـا وثبتـنا فى تعليمها نستطيع بنعمة رأسها يسوع الـمسيح أن نتمتع يوماً بنصيب أعضائها القديسين فى البيعـة السماويـة. آميـن.

______________
يوم الأضحـى
شاخ ابراهيـم،وشاخت إمرأتـه،ولـم يرزق ولداً وظل طويلاً يأمـل، شأن كل إنسان، إلـى أن فات الآوان وإنطفأ فيـه كل أمل ولهذا عيّن وكيلاً لـه ووارثـاً لأملاكـه.
وامتدت يد اللـه وهو فى هذه الحالـة فبدّلت من أمره وأتتـه بالعون من طريقيـن. وإذ كان اللـه يسلك بـه سبيل الإيـمان طلب منـه:
– أن يؤمـن بإلـه واحـد
– أن يؤمـن بإلـه قديـر
فإن اللـه الذى سيدلـي بإسمه يومـا لـموسى، يريد أن يكون الإلـه الواحد، الإلـه الحقيقي لا يشاركـه فى ذلك شريك.
آمـن ابراهيـم وكان مبعث الإيـمان باللـه فى الشعب فكان رأس شعوب كثيرة حملت وديعـة الإيـمان باللـه الواحد وتناقلتهـا الأجيال، جيل بعد جيـل.
ولهذ الإلـه الواحد من القدرة ما ليس لآلهـة الشعوب الـمجاورة وقد سمعه ابراهيـم يقول له يوماً:”اصيّر نسلك كتراب الأرض حتى ان أمكن أن يحصى إنسان تراب الأرض فنسلك أيضاً يُحصى”(تكوين16:13).
وطلب اللـه من ابراهيم أن يبرهن عن إيـمانـه بالفعل:”انطلق من أرضك
وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التى أريك”، وذهب ابراهيم تلبيـة للدعوة “فأخذ إمرأتـه وجميع مايـملك وخرجوا ليـمضوا..”(تكوين5:12).
انهـا حقاً مغامرة، ولكن “بالإيمان ابراهيم لـما دُعي أطاع أن يخرج إلى الـموضع الذى كان له أن يأخذه ميراثاً، فخرج لايدري إلى أين يتوجـه”(عبرانيين8:11).
هذا هو جوهر إيمان إبراهيـم، وعلى مثالـه يريدنـا الله سبحانـه وتعالـى أن نثق به وأن نتعلق به مهما كانت ظلمات الحيـاة.
ولم يكتف الله من ابراهيم بهذا الإيـمان والسخاء الذى رافقـه، بل أراد أن يسمو به إلى الذروة حيث يتفتح الإيـمان بالله حباً، وحيث تفوق الثقـة باللـه كل حكمة بشريـة.
ورزق ابراهيم أخيراً إبنـاً، وبذلك نال ابراهيم مكافأة إيـمانـه. وكان يفخر بابنـه ويزهو ويقول فى نفسه وهو يراه يكبـر بأن قد صارت لـه الآن ذريـة تعقبـه على رأس العشيرة. وإذ باللـه يفاجئـه بالتضحيـة الكبرى، “ابراهيم! لبيك! – خذ ابنك وحيدك الذى تحبـه (اسحق) وامض الى أرض الـموريـّا وأصعده هناك محرقـة على أحد الجبال الذى أريك”(تكوين1:22-2).
ويرتقي إيـمان ابراهيم مع ذلك الى حيث يسمو بـه اللـه، فيرضى مرة
أخرى:”فبّكر ابراهيم من الغداة وأكفّ حماره وأخذ معه غلامين وابنه وشققّ حطباً للـمحرقـة وقام ومضى الى الـموضع الذى أشار له الله إليـه”(تكوين3:22). أصبح الآن إيـمانـه رجاء وحباً، وبذلك بلغ الذروة التى دعاه اللـه الى إرتقائهـا. ويأتيـه اللـه أخيراً بالحل للغز، وبالخاتـمة للعذاب:”لاتمد يدك الى الغلام ولاتفعل به شيئاً فانـي الآن عرفت أنك متّق للـه فلم تذخر ابنك وحيدك عني”(تكوين12:22).
وعليـه علينا ان نتمثل بإبراهيم فى إيمانـه العظيم باللـه:
1. إيـمان بأن اللـه يستطيع أن يقيمه من الأموات
2. إيـمان بلا تردد، فلم يسألـه كيف وعدتنـي يارب أنـه بنسلي يتبارك الأمم والآن تطلب ذبحـه؟
3. إيـمان بسرعـة، لـم يستشر أحداً بل بكّر فى الصباح حتى لا تعطله زوجتـه.
4. إيـمان عملي، ليس بالقول والكلام فقط بل مستعد فعلاً أن يذبح ابنـه.
5. نتيجة إيـمانـه العملي استطاع أن يعرف الله معرفـة إختباريـة أكثـر من الأول.
6. إيـمان بأن اللـه قادر أن يقيـمه من الأموات وحسب وعده كان يؤمن بأن بإبنـه يتبارك جميع الأمم، وعلى ذلك لم يستشر إنساناً بل قدم ابنـه لأنـه هديـة اللـه إليـه، فأراد أن يقدمـها لصاحبهـا طائعاً مختاراً ذبيحـة مقدسة. ونتيجة لهذا الإيـمان العملي إزدادت شركتـه ومعرفتـه للـه.
فلنطلب من اللـه إيـمان مثل إيـمان أبينـا إبراهيـم، هذا الإيـمان العـملي والشركة معـه ومعرفتـه حتى نلتقى بـه يومـا من الأيام ونعايـن مجده تعالـى. آميـن.

__________________
الصــوم
أمـر عادى فى مصر وفى الشرق فغالبـاً ما نسمع كلمة “أنـا صائم”، نسمعها على سبيل العذر فى العمل فينقص الوقت الرسمي فى صوم رمضان. وفى الغرب اختفت تقريبـاً عادة الصوم بسبب التقدم الصناعي والحضاري. وفى مصر، هل يصومون فى القاهرة كما يصومون فى الصعيد؟
إذن..ما هو تفكيرنـا عن الصوم فى هذه الأيـام؟
عليّ ان أرى شخصيـاً عـما إذا كنت أمجّد الله فى طعامـي ام لا، فإستخدام هبات اللـه تربطنـا بالخالق فى فرح الحياة وتمجيد الرب فى مخلوقاتـه، على أن لا نتخذ من هذه الهبات والعطايـا معبوداً لأنفسنا كما قال بولس الرسول:”ان أمثال أولئك لايخدمون ربنا الـمسيح بل بطونهم” و”ان إلههم البطن ومجدهم فى خزيهم وهمّهم فى الأرضيات”(فيلبي19:3).
فـما هو إذن الصوم الـمقبول عند اللـه؟
– هو الصوم عن الشهوات لخدمة الآخريـن:
“أليس هذا هو الصوم الذى آثرتـه حلّ قيود النفاق وفك ربط النير وإطلاق الـمضغوطين أحراراً وكسر كل نير، أليس هو أن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل البائيسين الـمطرودين بيتك وإذا رأيت العريان أن تكسوه وأن لاتتوارى عن لحمك”(اشعيا6:58-7).
– هو حيـاة التوبـة:
” مزّقوا قلوبكم لاثيابكم وتوبوا الى الرب فإنـه رؤوف رحيم طويل الأناة وكثير الرحمة”(يوئيل13:2-14).
الصوم الحقيقي إذن هو الصوم الـموجـه بنيـة خالصـة نحو البحث عن اللـه والإهتـمام بالقريب.
أنواع الصـوم:
– الصائمون مرغـمين: أكثر من نصف الناس لايأكلون حسب جوعهم.
– الصائمون لضبط الذات: فهناك من يصوم من اجل الصحة ومن اجل جسم سليم رياضي، أو من يصوم لإتزان الشخصية الإنسانيـة كوسيلة للسيطرة على الغرائز وعلى شهوة اللسان وللكفاح ضد الشهوات وحتى يسمح للروح ان يأخذ مكانـه كـمحيي ومحرّك ليصل الإنسان للحريـة الحقيقية. ليس الصوم هو اولاً تقشف بل وسيلة للملء والكمال.
– الصائمون من اجل اللـه، فالصوم هو تعبير عن الحب والحب هو أن نعيش بتواضع الحياة اليومية ونتحمل الصعاب. والصوم هو سيطرة الروح على الجسد ووضع الروح تحت سيطرة اللـه.
إذن، يجب أن ينبع الصوم من القلب وأن يعبّر عن ذلك فى جسدنا بالإمتناع. الصوم لايرضي اللـه إلاّ إذا كان موقفـاً، فهو موقف الإنسان كله جسداً وروحـاً، موقفاً دينيـاً حقيقيـاً، موقف عبـادة.
الصوم هو وسيلة لتعيش إتحادنـا بالـمسيح وبالآخريـن.
الصوم هو نـمو روحـي مشترك.
الصوم هو مشاركـة فى آلام الآخريـن.
الصوم هو مشاركـة أخـويـة.
الصوم هو وسيلة لتطهيـر النفس.
والصوم هو طريقـة صلاة كأبنـاء لآب واحد.
لـماذا نصوم؟
– لنطلب النعـمة كمثال داود عندما طلب شفاء إبنـه (2صموئيل16:12-27).
– لنطلب الـمغفرة كمثال لأهل نينوى (يونان5:3).
– لنطلب النور من أجل عمل شاق (اعمال23:14).
ان القيام بالصوم كفريضـة، متعب، أما القيام بـه عن رغبـة وإرادة فهو محيي. ان الصوم ما هو إلا وسيلة لخدمـة الـمسيح فقيمتـه إذن نسبية. ان ديننـا ليس هو ديـن الصوم، إنـما هو دين يسوع الـمسيح.
يجب علينـا ألاّ نبالغ فى قيمة الصوم، كما يجب علينـا ألاّ نحقّر من قيـمته. علينـا أن نعطى الصوم القدر الـمطلوب من الأهـمية فى ربطه بالـمشاركـة والصلاة ونذكر قول الـمسيح للفريسين:”الويل لكم أيهـا…لأنكم تعشرون…وتركتم أثقل الناموس الحق والرحمة والإيـمان. كان ينبغى أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك”(متى23:23).
لاحظ انـه يجب عليك الـمحافظة على ثمار الصوم بطرق مختلفة قد تكون أكثر إرتباطاً بالجياة:
– التحرر من سيطرة الوقت والنجاح فى إستعماله لتكون أنت السيد وليس الوقت هو الذى يسيّرك.
– التوقف قليلاً وإبطاء الإيقاع السريع للحياة اليوميـة.
– الـمحافظة على الـمعدات والأدوات التى قد تكون فى عهدتك.
– محاربـة العنف والظلم.
– الحرمان الإرادي من وجبة مع العائلة أسبوعياً.
وهناك وسائل أخرى قد تعّوض الصوم بالطريقة الـمألوفـة أو تتبع جنباً الى جنب معه فتعطيـه حياة جديدة وطعماً جديداً. لقد صام الـمسيح 40 يومـاً ولكنه لم يتظاهـر بصومـه.
لقد استعمل الصوم كوسيلة فى الوقت الذى كان فيه لابد من الصوم كوقت
التجارب، وكذلك فإن الكنيسة تستعمل الصوم الذى يساعدنا فيه على الإتحاد بالرب عن طريق الصلاة وعلى الإتحـاد بالآخريـن عن طريق الـمشاركـة.
فلا نقل لكل من نراه “انا صائم” ولنتذكر قول السيد الـمسيح:” أما أنت فإذا صمت فادهن رأسك وأغسل وجهك لئلا تظهر للناس صائـماً بل لأبيك الذى فى الخفيـة وأبوك الذى ينظر فى الخفيـة هو يجازيك”(متى16:6-17).
_________________

أمثـلة على العِفـة
أراد الرومان القدماء أن يكون فى رومـا ست بتولات يسهرن على دوام إشتعال النار الـمقدسة على مذبح آلهة النار “Vesta”، وكان كاهنهم الأعظم يختارهن من أوجـه العائلات فى تلك الـمدينة ويفرض عليهن حفظ العفـة طول مدة خدمتهن. فـمن خالفتهـا أو تركت النار الـمقدسة تنطفئ عُوقبت بدفنهـا حيّة. وكانت الحكومـة تغـمرهن بـمظاهر التبجيل وتمنحهن إمتيازات عظيمة ومن جملتهـا قبول القضاة شهادتهن، وحق العفو عن مجرم ذاهب الى محل الإعدام يصادفنـه على طريقهن. ومع ذلك لم يجد الكاهن الأعظم ست نساء يتطوعن للقيام بتلك الوظيفـة، فتحتم تعيينهن بالرغم منهن وإقامـة حرّاس لعفتهن. أمـا السيد الـمسيح فكان مجرد تصريحـه بأن البتوليـة أفضل من الزواج كافيـاً لإيجاد ملايين من البتولييـن والبتولات فى كل أنحاء العالـم.
+ فى القرن الخامس عشر دخلت جماعة من الهراطقة الهوسيين Hussites دير للراهبات البندكتيات فى بلدة فى المانيـا، فأمر قائدهم جميع الراهبات بالـمثول أمامـه، ثم انطلق هو ورجاله بالإنصراف دون إيذاء الديـر. بعد ساعة بعث رسولاً يبلّغ الرئيسة أمر القائد بإحضار راهبـة سحرتـه بجمال عينيهـا وتهديده بالإنتقام الهائل ان خولفت إرادتـه. فقلعت تلك الراهبـة عينيهـا وقدمتهـما لرسول القائد فى صحن وقالت له والدم يتدفق من محجريها على الخدين: “أعط رئيسك عيني وتوسل إليـه أن يكتفى بهـما، فلايلحق بنا ضرر”. كان لعفـة تلك البطلة وقع شديد فى قلب القائد فإرتدع عن شهوتـه.
+ كان القديس توما الإكويني (+1274) ابن نحو 18 سنة قد قصد اخوتـه مقاومـة دعوتـه الرهبانيـة فحبسوه فى قصر أبيهم فى بلدته بإيطاليا، ثم أدخلوا عليـه إمرأة ساقطة، فحين رآها تناول قطعة فحم محترقـة من الـمدفأة وانقض بها عليها فلاذت بالفرار. ثـم ركع متوسلاً الى اللـه بدموع غزيرة أن يمنحه عفة راسخة، فبعث إليـه ملاكيـن قالا له: “قد إستجاب الرب صلاتك”، ثم منطقاه من قبل اللـه بـمنطقة العفـة الدائـمة مؤكديـن له انهـا لن تفارقـه. وفى الحقيقة قد لبسها القديس الى النسمة الأخيرة من حياتـه وبعد موتـه صنع كثير من أمثالهـا لتلاميذ المدارس والكليات.
+ فى عام 1926 ركبت صبيـة مسيحية فى القدس سيارة منطلقة الى بيت لحم، وفى أثناء السفر حاد السائق عن الطريق وأوقف السيارة بجانب بئر بعيدة عن الأنظار. ودعا السائق الفتاة الى الشر فرفضت قائلة: الـموت ولا العار، هذه دراهمي وجواهري خذها بل انتزع نفسي من صدري، اما عفتي فمن المحال ان تمسها”، فأخذ النذل الدراهم والجواهر ورمى الفتاة فى البئر، ثم عاد بسيارتـه الى القدس. بعد قليل رجع السائق ببعض الركاب الى جوار البئر، فذهب الى الفتاة لوحده وسمع فرح الصبيـة وصلاتهـا، فمد يده الى حجر كبير ليدحرجه عليها ويقتلها، عندئذ عضتـه حيّة فسقط على الأرض يصرخ ويستغيث. فأتـى الركاب ووجدوه منازعاً فى أشد الأوجاع ثم سمعوا نداء الفتـاة. فأخذ أحدهم أربطة وربطها مع أربطة الآخرين وطلب من رفقائه أن يدلوها الى داخل البئر وبذلك الحبل الغريب أخرجوا الفتاة سالـمة.
+ حدث اثنـاء إجتياح جيوش العرب لبيت الـمقدس ان هجم الجنود الغزاة على أحد أديرة العذارى وأمسكوا بعذراء راهبة جميلة وقدموهـا هديـة لقائد فرقتهـم. ولـما أراد إفسادهـا قالت له: تمهّل عليّ قليلاً لأن بيدي مهنـة تعلمتها من الراهبات ولاتصلح لعملها إلاّ عذراء وإلا فلا نفع لها. فقال لها: وما هى، قالت له: هى دهن إذا ما دهن به إنسان فلن يؤثر فيه لاسيف ولا أي نوع من الأسلحة البتـة. وأنت محتاج الى ذلك لأنك فى كل وقت تخرج للحرب. فقال لها: وكيف أتحقق من ذلك. فأخذت زيتاً ووجهت الكلام قائلة: ادهن رقبتك أولاً وأنا أضرب بالسيف وأعطني السيف كى أضربك به. فقال لهـا: لا بل ادهنى رقبتك أولاً وأنا أضرب بالسيف، فأجابتـه الى ذلك بفرح وأسرعت ومدت القديسة رقبتها وضرب بكل قوتـه فتدحرج رأسها على الأرض. وهكذا رضيت عروس الـمسيح أن تموت بالسيف على أن تدنس بتوليتهـا، فحزن القائد جداً وبكى بكاء عظيماً إذ قتل مثل هذه الصورة الحسنة وعرف انها خدعتـه لتفلت من الدنس وفعل الخطيـة.
+ يوجد بطلان شهيدان من أجل حياة الطهارة، استشهدوا فى حكم دقلديانوس، هما الشهيدة ثيئودورة والشهيد ديديموس. فقد أراد الوالـي بعد أن فشل فى إقناع ثيئودورة فى التبخيـر للأوثان، إفساد عفتهـا، فأودعها أحد بيوت الشر، ولكن جاء شاباً مسيحياًً يدعى ديديموس تمكن بحيلة أن ينقذها من ذلك البيت بأن استبدل ملابسها وأخرجها من البيت فى زي جندي وبقى هو مكانها. ولـما أكتشف امره، أمر الوالـى بقطع رأسه بالسيف وطرح جسده فى النار، وبينما كان الجند يسوقونـه لـمكان الإعدم رأوا ثيئودورة تجرى خلفه وقالت بلهجة التوبيخ: لـماذا هكذا يا أخي تختلس أكليلي. واكتشف امرها واستشهد الإثنان فى وقت واحد سنة 302م.
____________________

الأخـوة وحياة الروح
“إذا حـييـتـم بحسب الجسد تـموتـون، وإذا أمـتم بالروح أعـمال الجسد فسـتحـيون” (رومية 13:8).
كـما أن الإنسان جسدُُ وروح، كذلـك الأُخـوّة.
أُخـوّة بحسب الجسد وأخـوّة بحسب الروح.
الأُخـوّة ليست صـلة الدم والرحـم فحسب.
الأُخـوّة مـوقف..
ليست الأُخـوّة الحقيقيـة هـى الجسديـة بل الروحـية، ولهذا يصيـر أبناء الله أخوة فـى الروح لأب واحـد. يقفـون موقفـاً ثابتـاً تجـاه بعضهـم البعض، وتجـاه أبيهـم.
هـذا الـموقف الثابت والـمُعـلن هو موقف الحب، كذلك يربطهـم ويوحدهـم الـمصيـر الـمشترك.
ورابطـة الجسد فقط بعيدة تـمام البعـد عن هذا الـمفهـوم، إذ أن صلـة الرحم متى جفّت من الحب يـبُست، فالأخـوة لا تعنـى بطريقـة محدودة أن نولـد من نفس البطن بل ان يربطنا روح واحد هو من فوق فتنظر الى سائر البشر نظرتك الى نفسك ما امكنك ذلك، وان تعطى دونـما انتظار أن يبادلك ولو شخص واحد العطاء من اي نوع سواء ماديّ أو
أدبـيّ أو حتى معنـويّ.
ليس فى الأخوة إختيـار ولهذا لا تخلو الأخوة من الألـم. والخلاصـة أن ما قيل فى وصف الـمحبـة لا ينفصل ولا ينتقص فى شيئ عـمّا يجب أن يقال عن الأخـوة.
“لـم تتلقوا روح العبوديـة لتعودوا الى الخوف، بل روح تبـّن بـه ننادى أبـّا يا أبت. وهذا الروح نفسه يشهد مع أرواحنـا بأننـا أبناء الله…فإذا كنـا أبناء الله فنحن ورثـه الله وشركاء فى الـميراث، لأننـا إذا شاركنـاه فـى آلاـمه نشاركـه فـى مجده أيضاً”(رومية15:8-17).
__________________

” ان هذا لسر عظيم. أقول هذا بالنسبة الى الـمسيح والكنيسة”(افسس32:5)
تدعونا الكنيسة الـمقدسة الى التأمل فى المحبة الإهيـة التى دفعت ابن الله الى النزول من السماء لكي يخلصنا من خطايانا ويشركنا فى الحياة العجيبة الـمشتركة بينه وبين أبيـه السماوي. وكما تعلمون، قد خلّصنا يسوع من خطايانا بموته على الصليب، أما إشتراكنا فى الحياة الإلهيـة فهذا أمر يتـم فينـا بواسطة نعمة الـمسيح، هذه النعمة التى تأتينـا خاصة من الأسرار السبعة التى رسمهـا يسوع ووكّلهـا إلى كنيستـه. هذا هو عمل المحبة الإلهيـة، هذه الـمحبة الـمتمثلة، الـمتجسدة، الـمضطرمـة فى قلب يسوع الأقدس.
لقد سمعنا قول القديس يوحنا:”وأما يسوع فلـما انتهوا إليـه ورأوه قد مات لـم يكسروا ساقيه لكن واحداً من الجند فتح جنبـه بحربـة فخرج للوقت دم وماء”(يوحنا33:19-34)
فتح جنبـه بحربـة..
نحن نفتح صندوقاً لكى نرى مافيـه، او لكى نضع شيئاً فيه أو نأخذ شيئاً
منه. ونفتح رسالة او كتاباً لكى نقرأه، ونفتح باباً لكى ندخل أو نخرج
منـه. وبكل هذه الـمعاني قد فتح جنب يسوع، لا بحربـة الجندي، بل
بحكمة الله وبعنايتـهالأبويـة. نعم، فتح جنب يسوع، كما يفتح صندوق لكى نرى فيـه قلبـه الأقدس، ولكى نضع فى هذا القلب كل رجائنـا وكل ثقتنـا، ولكى نأخذ من هذا القلب كنوز الحياة والقوة والشجاعة والنشاط. وفتح جنب يسوع كما يفتح كتاب لكى نقرأ فى هذا الجنب الـمفتوح روايـة الـمحبة التى لا محبة فوقهـا. وفتح جنب يسوع ايضاً، كما يفتح باب تمثيلاً لما يسميـه الرسول بولس “سراً عظيماً”، حيث يقول:”ان هذا لسر عظيم. أقول هذا بالنسبة الى الـمسيح والكنيسة”(افسس32:5).
أجل فتح جنب يسوع الـمصلوب للدخول والخروج، لدخولنا نحن فى المسيح، ولخروج الكنيسة من الـمسيح. هل تستغربون كلامي هذا؟ انـه ليس كلامي أنا، بل هو حقيقة علّـمها آباء الكنيسة وأثبتها البابا لاون الثالث عشر والبابا بيوس الثانى عشر.
هناك القديس يوحنا ذهبي الفم يصرّح بأننا جميعاً واحد من جنب يسوع.
وهناك القديس أمبروسيوس يذكر جنب يسوع الـمفتوح ويقول:”الآن تبنى الكنيسة. الآن تتكون، الآن هى تُخلق”.
والبابا لاون الثالث عشر جزم بأن الكنيسة خرجت من جنب آدم الثاني وهو
نائم على الصليب. أما البابا بيوس الثانى عشر فقد أكّد هذه الحقيقة وكررها
وفسرها تفسيراً مؤثراً فى رسالته العامة التى وجهها الى العالم الكاثوليكي.
ولادة الكنيسة من جنب يسوع الـمطعون،التى هى جسد الـمسيح. الكنيسة التى أسسها يسوع بدمـه الـمسفوك وأحياها بموتـه. الكنيسة التى أحبها ولا يزال يحبها قلب يسوع الأقدس. الكنيسة التى نحن أعضاء فيها لأننا أعضاء فى جسد يسوع وأعضاء بعضنا لبعض. الكنيسة التى لا خلاص لنا إلاّ بواسطتها ولا حياة لنا إلاّ فيها. الكنيسة التى هى بيتنا الحقيقي لأنهـا كما قال الرسول بولس:”هيكل روحي مبني على أساس الرسل والأنبياء وحجر الزاويـة هو الـمسيح يسوع”(افسس20:2).
الكنيسة التى تجمع بيننا وبين الـمسيح فى وحدة وثيقة مدهشة فاننا على رأي الرسول بولس:”نحن الكثيرين خبز واحد وجسد واحد لأننا جميعاً نشترك فى الخبز الواحد”(1كورنثوس17:10).
نعم، الكنيسة الـمحبول بها يوم البشارة، المولودة على الصليب من جنب يسوع الـمفتوح فى جمعة الآلام، الظاهرة للناس عند حلول الروح القدس فى أحد العنصرة، هى الكنيسة الواحدة الجامعة الـمقدسة الرسولية.
ان المجمع الفاتيكاني الثاني نبـّه العالم كله على وجود الكنيسة ومعناها وأهميتها وقوة تأثيرها فى حياة العالم، ولا يليق أن نكون نحن أعضاء الكنيسة أقل إهتماماً بالكنيسة من إخواننا الخارجين عنها، فضلاً عن ذلك ان احدى الغايات الرئيسية من المجمع الـمسكوني هى السعي وراء الوحدة المسيحية. أي وحدة جميع المسيحيين فى جسد يسوع الذى هو الكنيسة. وقد عبّر عن هذه الغايـة مراراً عديدة البابا يوحنا الثالث والعشرون فى قوله:”ان المجمع المسكوني دعوة للسعي وراء الوحدة التى لأجلها صلّى الـمسيح لأبيـه صلاتـه الحارة.
اننا نصلي دائماً لأجل الوحدة الـمسيحية، وهذه الوحدة هى وحدة كنسية لن نفهمها ما لـم نفهم حقيقة الكنيسة، أي حقيقة كونها جسد الـمسيح وحقيقة كوننـا نحن أعضاء فى هذا الجسد.
وأذكّركم بأن حياتنا المسيحية الشخصية ليست حياة يعيشها كل منا فى نفسه وبنفسه ولنفسه. فإن كل مسيحي لا ينتمى إلى المسيح إلاّ بإنتمائـه إلى جسد الـمسيح الذى هو الكنيسة. والحياة المسيحية بتمام معناها هى حياة مشتركة بين الـمسيح والـمسيحي، وبين كل فرد مسيحي وجميع الـمنـتميـن معه الى جسد الـمسيح. بعبارة أخرى، حياتنا المسيحية هى حياة مشتركة بين جميع أعضاء الجسد، ولكن مع الأسف، نرى كثيرين من أعضاء الكنيسة يجهلون أو يهملون حقيقة الكنيسة، وبالتالي حياتهم المسيحية ضعيفة جداً لأنهم لا يفهمون كما ينبغي ان حياتهم الـمسيحية هى حياة كنسية، حياة جماعيـة، حياة مشتركة، حياة تضمهم الى المسيح وتضمهم بعضهم الى بعض. وبالعكس، المسيحي الذى يعلم أن الكنيسة هى جسد يسوع، والمسيحي الذى يعلم انه عضو حي فى هذا الجسد الحي، يجد فى علمه بهذه الحقيقة كنوزاً وافرة من القوة والشجاعة والأمل والثقة، بل انـه يجد الكنز الأكبر الذى هو محبة الـمسيح. هذه الـمحبة التى بها كما قال الرسول بولس:”أحب المسيح الكنيسة وبذل نفسه لأجلها ليقدّسها..ويُهديها لنفسه كنيسة مجيدة لا كلف فيها ولاغضن..منزهة عن كل عيب”(افسس25:5-27). هذه المحبة التى هى أساس وركن وكمال حياتنا كأعضاء جسد المسيح الذى هو الكنيسة.
أيها الأحباء، عندما أراد بولس الرسول أن يقدّم للأزواج المسيحيين مثالاً للحب الذى يجب وجوده بين الزوجين المسيحيين، لم يَرَ مثالاً أعلى وأفضل من حب المسيح لجسده الكنيسة. فعلى الزوج المسيحي يقول بولس الرسول أن يحب زوجته كما يحب المسيح جسده الكنيسة.
“فاننا أعضاء جسده من لحمه ومن عظامه ولذلك يترك الرجل أباه وأمـه ويلزم امرأته فيصيران كلاهما جسداً واحداً. ان هذا لسر عظيم. أقول هذا بالنسبة الى المسيح والكنيسة”(افسس30:5-32).
نعم، ان هذا لسر عظيم، سر مثمر، سر يعود اليه كوننا مسيحيين فإنـه كما
أن الطفل يولد من الحب المشترك بين الزوجين المسيحيين، كذلك كل
مسيحي يولد من الحب المشترك بين المسيح وجسده الكنيسة.
هذا هو السر العظيم، سر جسد المسيح الذى هو الكنيسة، سر حياتنا ووحدتنا فى المسيح وبالمسيح، سر الحب الظاهر الصادر من جنب يسوع المفتوح، الحب الحي الـمحيي المتشخص فى قلب يسوع الأقدس والذى نريده ان يتحقق فى كل منا قائلين مع بولس الرسول:”أنا حي، لا أنا بل انما المسيح حيّ فيّ”(غلاطية20:2).
———————-
المسيحية وشخصيـة الإنسان
خُلق الإنسان على صورة الله فى الحرية والإرادة والقداسة والنطق ليكون نموذجاً مباركاً للعمل الإلهي، إذ يتمجد الله بما فى خليقته وعمله من حُسن وما فى صنعه من جمال. والإنسان قد خُلق على أعلى مستوى من الحُسن والى أعمق أبعاد الملء فلقد دُعي الى الوجود والكيان. وسر عظمة الإنسان أن لديه أبعاداً لا تتوفر لأي خليقة أخرى، إذ له البعد الداخلي وله البعد الخارجي. له الحياة الباطنية وله الحياة الإجتماعية أيضاً. عنده العمق وعنده الإتساع أيضاً. فيه الروح وفيه الجسد، فيه الحياة الروحانية السماوية الملائكية، وفيه الحياة المادية المرتبطة بالكون وتراب الأرض. فيه العقل والنطق، وفيه العاطفة والحواس، وفيه الإرادة والحرية وفيه الحركة والحيويـة. وبإختصار فيه كل ما تتطلبه الحياة السماوية والحياة الأرضية معاً.
هذه الأبعاد المجتمعة فى إنسجام عجيب هى التى تعطى الإنسان قيمة تجعله تاج الخليقة المادية كلها، وفى هذا يقول كاتب رسالة العبرانيين مستشهداً بما رنّم به داود النبي:”وضعته قليلاً عن الملائكة، بمجد وكرامة كللّته، وأقمته على أعمال يديك. أخضعت كل شيئ تحت قدميه”(عبرانيين7:2-8).
ولقد بيّن الله لنا عظم محبته للإنسان أنه نزل من المجد ليحتضن الطبيعة البشرية ويقتبلها فى أقنومـه متحداً بها صائراً فى شبه الناس مساوياً لنا فى كل شيئ فيما عدا الخطيّة وحدها. ومن خلال تجسد المسيح أصبح الإنسان ذا رتبة أعظم من مركزه الأول إذ صار الإنسان شريكاً لرب الـمجد، وصار الرب بكراً بين أخوة كثيرين. ولقد احتفظ الرب بجسده بعد القيامة ليكون شفيعاً ووسيطاً وحيداً لجنس البشرية أمام الآب السماوي. وأصبح الله حاضراً فى العالم وليس مشاركاً لتاريخه فقط بل لجوهره أيضاً، وأصبح الإنسان الـمختوم بالروح القدس حاملاً المسيح وصار الجسد الـمعّمد هيكلاً للروح القدس وعضواً فى جسد المسيح الحي أي الكنيسة.
وكما خلق الله آدم وجعله فى الجنة متمتعاً بالمجد والفرح والنور والبهاء الذى يعيش فيه الثالوث الأقدس، فإن الله أعطى للإنسان أن يشاركه فى عملية الخلق، إذ أمر الله آدم وحواء أن يكثرا وينسلا ويملآن الأرض. فالرجل والمرأة يقدمان جسدهما فى ذبيحة الحب والإتحاد، والله ينفخ فى الجنين نفخة الحياة وهذا الجسد المستقل وهذه النفخة الفريدة هما اللذان يكونان الإنسان فى كيان شخصي.
ان الله يعطى إهتمامه لكل واحد فى أبوة عجيبة لا يمكن تصورها ، وقد كشف لنا الرب يسوع عن هذا السر الأبوي الـمذهل إذ يقول عن نفسه انه راعي الخراف لهذا يفتح الباب والخراف تسمع صوته فيدعو خرافه الخاصة بأسماء ويخرجها ومتى أخرج خرافـه الخاصة يذهب أمامها و الخراف تتبعـه لأنها تعرف صوتـه:”أنا الراعي الصالح وأعرف خاصتي وخاصتي تعرفني كما أن الآب يعرفني وأنا أعرف الآب”(يوحنا8:10و14). ومن هذا القول الإلهي يتبين لنا ان الله يتعامل مع أولاده معاملة خاصة وله علاقة سريـة هى علاقة الـمعرفـة الإختباريـة الباطنية، أعطاها الرب نموذجاً وصفياً هى العلاقة الفريدة التى بينه وبين أبيه الصالح.
لأجل هذا نقدم الشكر والسجود للرب يسوع لأنه خلقنا بشراً على صورتـه، ولأنـه تجسد وأخذ طبيعتنـا وصار واحداً منا، ولأنـه يعرف كل منا معرفـة خصوصيـة. كل ما يمسنا يمس حدقـة عينـه إذ نقشنا على كفه بل وضعنا فى جنبه الـمطعون وصار ضامناً لنا ومسئولاً عنا. وإذا كان رئيس الكهنة فى القديم يكتب أسماء الأسباط الإثنى عشر على سترته عندما يدخل الى قدس الأقداس ليخدم، فما كان هذا إلاّ رمزاً لما يعمله الرب يسوع معنا إذ يحمل شخص كل واحد فينا فى قلبـه وعلى منكبيـه.
مـبارك أنت يارب فى محبتـك. مستحق كل شكر وتمجيد إلى أبد الأبديـن. آميـن.
النظرة التكاملية للشخصيـة:
يقول معلمنا لوقا البشير عن الرب يسوع له الـمجد:”وأما يسوع فكان يتقدم فى الحكمة والقامـة والنعمة عند الله والناس”(لوقا50:2). ومن خلال هذه الآيـة الـمقدسة نستطيع أن نتبين نظرة الله الى الإنسان، هذه النظرة التكاملية التى بدأ علماء النفس فى العصر الحديث بالتكلم عنها بينما سبقهم الرب يسوع فى إختبارها بالآف السنين.
· كان ينمو فى الحكمة… وهذا ما يسميه العلماء النمو العقلي
· كان ينمو فى القامـة…وهذا ما يسمى بالنمو الجسمي
· كان ينمو فى النعـمة…وهذا ما ندعوه بالنمو النفسي
· عند اللـه…………..وهذا ما نطلق عليه النمو الروحي
· وعند النـاس……….وهذا هو الـنمو الإجتماعـي.
فالمسيحية تهتم بتنمية القدرات العقليـة كي تُستخدم فى مجالها لسيطرة الإنسان على الطبيعة وأداء رسالته فى الحياة، ولكنها تعطى للعقل استنارة وحكمة إلهيـة تجعله خاضعاً لكلمة الله بعيداً عن كل تمرد فكري وإنحراف ذهني شيطاني.
والمسيحية تهتم بتنمية الطاقات النفسية فيحيا المسيحي مبتهجاً سعيداً له نفسية سويّـة إيجابية خالية من كل كبت وحرمان وشعور بالنقص أو شعور بالتفوق، أو كل ما يعطل النمو النفسي السليم من عقد نفسية وإنفعالات مكبوتـة.
والمسيحية تهتم أيضاً بالنمو الجسمي وتقدر قيمة الجسد كوزنـة هامة فى
حياة الإنسان وكهيكل للروح القدس وكأداة تستخدم لتنفيذ مقاصد الله وكإناء مبارك سيحمل النور والبهاء متجلياً فى مجد لا ينطق به عند مجيئ الرب.
والمسيحية تهتم أيضاً بالنمو الإجتماعي وتقدر العلاقات الإنسانية والتفاعل الإجتماعي وأهمية الدور الذى يؤديـه المؤمن فى حياته مع الناس والآخرين والجماعات بكافة أنواعها وأبعادها وهى ترى فى هذا النمو برهاناً على صدق الإيمان ونقاوة المحبة وسلامة الرجـاء المبارك الداخلي.
والمسيحية تهتم أيضاً بالنمو الروحي السليم لأنه هو قمة النمو المتكامل، فالروح هى التى تقود كل نمو داخلي، وهى التى توجـه كل الطاقات نحو السماء، وهى التى تعطى القدرة على البذل وتهّون الـمعاناة وتنمي وتخصب الكيان، ولها عين بسيطة نقيـة تعاين الله وترى ما لا يُرى، ولها أذن مختومـنة تسمع الأصوات القادمـة من الأبديـة وهذه التى لا يسمعها أهل العالم فى ضجيجهم وصخبهم، ولها قلب يحس بأمور لا يحسها غير المؤمن.
كيف يتحقق هذا النمو الـمتكامـل؟
لا يمكن أن يتحقق هذا النمو المتكامل لمسيحي لا يعي رسالته ولا يدرك مسئوليته، إذ يلزم أولاً وقبل كل شيئ أن يثق المسيحي أنه ليس ترساً فى آلـة، وليس نقطة فى محيط واسع، وإنما هو كاهن الخليقة وتاجها، وقد حمّله الرب مسئوليـة تنفيذ مقاصده الإلهيـة فى دائرة حياتـه الخاصـة مهما كانت بسيطة وصغيرة وتافهة فى نظر الناس. ولا يمكن أن يتحقق هذا النمو الـمتكامل إلاّ من خلال الإرشاد والتوجيـه النـيّر السليم والطاعة الحقيقية للروح فى كافـة الـمجالات.
فكما أن الأباء الجسديين يهتمون بنمو أولادهم فى الجسد وفى العِلم والمعرفـة، فإن الأباء الروحيين الحقيقيين يهتمون بالتدبير السليم المتكامل الواعي الذى يحرص على تقدم كل جانب من جوانب الشخصية. وكلما كان المسيحي مطيعاً للحق الذى فى كتابه المقدس والذى فى مرشده الروحي كلما كان مستعداً لتقبل النضج فى كافة مجالاته والأمانـة فى حفظ الوصية، والإختبار السليم لمحبة المسيح، والإنفتاح الصادق للمسات الحب الإلهي. هذه كلها تجعل الشخصية خصبة نامية لها القدرة على العمق كما تغوص الجذور فى التربة، ولها القدرة على العلو كما يعلو التخيل فى الهواء، ولها القدرة على الإتساع كما تتسع الأغصان لحمل مئات العناقيد والأثمار. إن الشخصية كفاح مستمر وجهاد دائم وإنتصار مستمر على إستعباد الذات وليس فى إستطاعة الإنسان أن يحقق إمكانياتـه إلاّ بالجهاد وإحتمال الـمعاناة والسيطرة على الأهواء والشهوات.
يرى أحد الفلاسفة أن العلامة الحقيقية لنمو الشخصية هى تخلصها من
الإنفراديـة وقدرتها على البذل والتلاحم مع الآخرين. ويقول برداييف الفيلسوف: “إن أشر أنواع العبودية هى إستعباد الإنسان لنفسه، تقوقعـه فى الأنا الـمغلقة ودورانـه حول ذاتـه الـميتة”. ويفرّق الفيلسوف بين الشخصية والفرديـة، فالرجل الفردي يعنى بالتعبير عن رغباتـه وشهواته ويستشعر دائما أنه فى عزلـة عن سائر الناس، ولكن صاحب الشخصية يرى ان له رسالة وأن عليه أن يقوم بنصيبه فى خدمة الإنسانية. والشخصية تنمو فى كنف الحب والعطف والعمل الخلاّق الموجـه إلى الخير العام الشامل. إن الوجود الحق عند هذا الفيلسوف هو وجود الشخصية الحرّة، والحريـة هنا هى ما قصده الرب يسوع..الحريـة الباطنيـة.. التى تقفز بالإنسان خارج سجن ذاتـه وتعطيـه القدرة على الإنفتاح على الآخرين ومحبة الغير وخدمتـه.
وقد شرح الرسول بولس هذا الإتجاه فى إلهام عجيب عندما بيّن أن أعضاء الجسد الواحد تستمد كيانها من خلال عضويتها الحيّة، وأن المواهب الشخصية ليست للأنانيـة وإنـما لعمل الخدمـة لبنيان جسد المسيح، كما أوضح أن الهدف النهائي من جهادنـا سوياً ونمونـا سوياً “أن ننتهي جميعنا إلى وحدانيـة الإيمان ومعرفـة إبن الله إلى إنسان كامل الى قياس ملء المسيح”(افسس13:4).
مـاذا تقدم الـمسيحية لبناء الشخصيـة؟

1. طبيعـة جديـدة
المسيحية لا تضع رقعة جديدة على ثوب عتيق ولا خمراً جديدة فى زقاق عتيق، وانما تصنع حياة جديدة وطبيعة جديدة “إن كان أحد فى المسيح فهو خليقة جديدة، الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً”(2كورنثوس17:5). وتبدأ بذرة هذه الحياة الجديدة من خلال الولادة الثانية فى سر المعمودية، ثم تنمو من خلال وسائط النعمة المختلفة كالتناول من الأسرار الإلهيـة والصلاة والتغذى بالكلمة وتقديم توبة مستمرة فى سر الإعتراف.
هذه الحياة الجديدة لا تنهى على الإنسان العتيق الفاسد والطبيعة الموروثة بالجسد نهائياً، ولكنها تبطل مفعوله طالما إرادة الإنسان متحدة ومتجاوبة مع مشيئة الله فى الطبيعة الجديدة، فى هذا يقول الرسول بولس:”فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ”(غلاطية20:2).
ويمر المسيحي فى مراحل روحية حتى يصل الى إختبار إختفاء الذات وظهور المسيح تماماً. ففى بدايـة الطريق يقول:”أحيا أنا والمسيح”، ثم يتقدم فيقول “أحيا مقدّمـاً المسيح عن إرادتي ومشيئتي”، وفى مزيد من التقدم يقول مع القديس بولس:”احيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ، متمسكاً بقول رسول الجهاد:”ليس أني قد نلت أو صرت كاملاً، ولكنى أسعى لعلي أدرك الذى لأجله أدركني أيضاً المسيح يسوع. أيها الأخوة أنا لست أحسب نفسي أني قد أدركت. ولكنى أفعل شيئاً واحداً. إذ أنا أنسى ما هو وراء وأمتد الى ما هو قدام. أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليـا فى المسيح يسوع”(فيلبي12:3-14).
وهذه الطبيعة الجديدة التى تسرى فى الروح والنفس والجسد تمد المسيحي بإمكانيات معجزيـة:
– تعطيه القدرة على المحبة وغلبة الذات الى حد محبة الأعداء.
– تعطيه القدرة على القداسة وغلبة الأهواء والشهوات الى حد الكمال المسيحي.
– تعطيه القدرة على الإتضاع والوداعة والإحتمال الى حد التشبه بالمسيح ذاتـه.
– تعطيه القدرة على غلبة الزمان بتحدياته المختلفة الى حد أن تصبح الأمور غير المرئية كأنها مرئية بيقين ثابت وإيمان راسخ.
– تعطيه القدرة على خدمة الآخرين الى حد تجاوز كل متعصب وتحيّز وإنغلاقيـة.
– تعطيه القدرة على قبول نفسه بضعفاتها ومواهبها الى حد قبول الآخرين وإحتمال أضعاف الضعفاء (رومية7:15).
ومن خلال هذه الطبيعة الجديدة التى تنمو بالنعمة وإخلاص القلب وصفاء النيـّة وصدق الشهادة للحق فإن المسيحي يستطيع لا أن يكون شخصية ذا تأثير قوى فحسب بل شخصية معجزيـة أيضاً.
2. سـمو الدوافـع
للحياة الروحيـة الباطنية تأثير على دوافع الشخص ميوله وإستعداداتـه وغرائزه وعواطفـه وإتجاهاتـه وكافـة محركات القوى الداخليـة والجهاز النفسي.
– فالدوافع البيولوجية تتقدس بعمل الروح القدس والجهاد النسكي، ولا
يصبح المسيحي مستعبدا للغرائز الأولية بل تعطيه النعمة والقدرة على السيطرة بإرادة ذاتيـة نشطة مدربّـة مستنيرة يستعملها لتميم مقاصد الله فى حياته الجسدية.
– والدوافع النفسية تتسامى بعمل النعمة فلا يصبح المسيحي ذليلاً لإبتسامات
الآخرين ورضائهم أو لكرههم لأن الحق يقدس العواطف ويعطى منظاراً
جديداً للحياة والمشاعر والعواطف وكافة الإنفعالات النفسية.
– والمحركات الإجتماعيـة تتطهر بقوة الصليب المحيي إلى الحد أن الإنسان يستطيع أن يقول مع الرسول بولس:”عزمت ألاّ أعرف بينكم شيئاً إلاّ يسوع المسيح وإياه مصلوبـاً”.
– ومن خلال تقديس الغرائز والحاجات النفسية والعواطف الإنسانيـة يعود الجهاز الداخلي الى إنسجامـه الأصيل، وتصبح قوى الإنسان فى تناغم وهارموني عجيب. ذلك الإنسجام المذهل الذى كان يتمتع به آدم فى الجنـة عندما كانت القوى الروحية والنفسية والجسمية تعمل معاً فى وحدة وألفـة من خلال حياة الشركة والوحدة بينه وبين الله.
– وهذا النوع من الحياة يلغي الكبت والصراع ويمنع المجالات التى تسبب العقد النفسية مثل القلق والتوتر الإنفعالي وسرعة التهيج والكآبـة والشعور بالضجر والنقص والخوف والفزع والشعور بالذنب وتأنيب الذات تأنيباً مرضيـاً. فالمسيحي الحقيقي الذى تعامل مع الله وأدرك كثرة مراحمه ولطفه وعظم غفرانـه وطول آناتـه يمتلئ بروح الإيجابية والتفاؤل المبارك الذى يجعله ينشد دائماً مع الرسول بولس:”لم يعطنا روح الفشل بل روح القوة والمحبة والنصح”(2تيموثاوس7:1).
ولـما كانت الشخصية تفاعلاً بين القوى الداخلية والخارجيـة، فإن المسيحية التى تقدس الداخل وتطلق كافة الطاقات الإيجابية وتبنى أسوار اورشليم الداخلية وتملأ الأودية المنخفضة وتكسر الأكمة والجبال المتعالية وتصلح الشعاب الملتوية، فإن مثل هذه الحياة تشع نوعاً من السلوك المسيحي الذى يتسم بالسمات الآتية:
+ وداعة دون ضعف او جبن
+ تعفف دون وسوسة او تشكك
+ بساطة دون جهالة او غباوة
+ حيوية دون قلق او ارتجالية
+ مرح دون هزل او استهتار
+ وقار دون غم او تكلف وفريسية
هذه السيكولوجية المسيحية هى ثمرة عمل النعمة وسريانها فى شخصيته “وأما ثمر الروح فهو محبة فرح سلام طول أناة لطف صلاح ايمان وداعة تعفف. ضد امثال هذه ليس ناموس”(غلاطية22:5).
وهذه السيكولوجية تختلف اختلافا جذرياً عن نفسية التدين المريض والأفكار الدينية الخاطئة، إن التدين المريض يخلق شخصية مختلفة فقيرة عاجزة عن ان تحيا بإلهام الروح الحرّة التى تعبر نفسها بالنوازع الخلاقة وبواعث الحب والعطف.
وإذا كان احد القديسين يقول إن النعمة تسري من خلال الروح الى النفس
الى الجسد فإن هذا السريان يعمل فى تكامل لإيجاد هذه السيكولوجية التى يمدها الروح القدس بالطاقة والديمومة والنصرة. ويعبر الجسد عما فى الداخل بالعين المتعففة والفم الطاهر الرزين المبتسم، والوجه المشرق الفياض والرقبة المستعدة للإنحناء والطاعة والصوت الخفيض المحمل بالحب الداخلي والحزم الصادق.
3. استقرار وراحة دون ان تكون مخدراً
إن الإستقرار الحقيقي هو فى الإتجاه نحو الله على حد تعبير القديس اوغسطينوس إذ يقول:”يارب لقد خلقتنا متجهين إليك ولذلك لن تجد قلوبنا راحة إلاّ إذا استقرت فيك”. ومشكلة العزلة والفراغ النفسي التى يعانى منها شباب هذا الجيل مرجعها ان مسيحيتنا الآن مسيحية سطحية لم تدخل الى الأعماق. أن محك صدق الحياة المسيحية هو ذلك الإستقرار الداخلي والإتزان النفسي العجيب والتصميم الدؤوب والإصرار العنيد على السير فى الطريق حتى المنتهى. ومن الأمثلة على وضوح هذا الإستقرار فى يد الله سيرة ابائنا الرسل الأطهار، فحياة الرسول بطرس توضح كيف كان مستقراً فى يد الله هادئاً مطمئناً مصمماً على أن يطيع الله أكثر من الناس مهما كلفتـه هذه الطاعة. وأما الرسول بولس فقد كان مع سيلا فى السجن متحدياً بإستقراره ظروف الحياة الخارجيـة الصعبة.
ان حياة التسليم التى شعارها”إن عشنا فللرب نعيش وإن متنا فللرب نموت” هى مصدر كل راحة وإستقرار داخلي. على أن هذا الإتكال العجيب على الرب والثقة المطلقة فى صدق مواعيده وأمانتـه الكاملة لا يعنى أن أولاد الله يعيشون فى تواكل وكسل وتراخ. ان قول ماركس:”الدين أفيون الشعوب” قول خاطئ لأن ما يظنه ديناً إنما ليس مسيحية فى معناها الصحيح، فالمسيحية التزام بقضايا الإنسان وحمل لمسئولياتـه وإشتراك عميق فى كل معاناة، ذلك لأن المسيح حمل عارنا والتزم بنا الى حد الموت من أجلنـا.
إن المسيحية ليست ملجأ للحمايـة من مظالم المجتمع وشقائه وليست مخدراً تغرق الإنسان فى الوهم والغيبيـات، وليست ضعفاً وخضوعاً بل هى إكتشاف للأبديـة التى فى الداخل وشهادة للحق الـمعّاش فى الباطن.
– سر القيامـة هو الذى يزيـل الجزع
– وسر الرجاء هو الذى يطرد القلق
– وسر الحب هو الذى يطرد الخوف
– وسر الإيـمان هو الذى يعطى الغلبـة على العالـم
فالمسيحي إذن هادئ مستقر دون أن يكون هذا ضعفاً وكسلاً وتراخياً، وهو إيجابي دؤوب دون أن يكون طموحـه صنماً لتآليـه الذات.
4. خدمـة الـمصالحـة
يقول الرسول بولس:”ان الله الذى صالحنا لنفسه بيسوع المسيح أعطانا خدمة المصالحة. أي ان الله كان فى المسيح مصالحاً العالم لنفسه وغير حاسب لهم خطاياهم وواضعاً فينا كلمة المصالحة إذاً نسعى كسفراء عن المسيح كأن الله يعظ بنا، نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله”(2كورنثوس18:5-20).
وخدمة المصالحة التى حدثنا عنها الرسول بولس لها أبعاد ثلاث:
_ صلح بين الإنسان والسماء
– وصلح بين الإنسان ونفسه
– وصلح بين الإنسان والآخرين
إن المصالحة مع السماء قدّمها الإبن من خلال صليبه إذ يقول الرسول بولس:”لأنه فيه سُرّ أن يحل كل الملء وأن يصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته سواء كان ما على الأرض أم فى السموات”(كولوسي20:1).
ولقد كانت عداوة الإنسان وتمرده وتأهله ورغبته فى الإستقلال عن الله سبباً فى الحجاب الذى بين السمائيين والأرضيين، ذاك الحجاب الذى شقّه الرب بموته على الصليب ودخل بنفسه الى الأقداس مرة، ووجدت ذبيحتـه فداءاً أبدياً وقبولاً ورِضى عند الآب السماوي. ومن خلال هذا الوسيط الحقيقي صارت لنا الجرأة أن نمثل أمام الأب نفسه وندخل معه الأقداس غير المصنوعة بيد مخاطبين الآب نفسه أباً لنا، فالكتاب يوضح أن الرب دخل كسابقه لأجلنا، وأما الدينونة فقد أبطلها الى الأبد والعداوة انتزعها والخطيئة كسر شوكتها وأعطى للذين يؤمنون به أن يكونوا أولاداً لـه.
وتمتد خدمة المصالحة الى الإنسان نفسه، فما دامت الخطيئة التى هى سبب العداوة قد رُفعت، وأبطل الرب قوة فاعليتها، فإن الإنسان يتصالح مع نفسه أي انـه يعود الى حالة الإنسجام التى كانت قبل السقوط فى الجنـة.
وتمتد خدمة المصالحة الى حياة المؤمن مع الآخرين فتضحى علاقاتـه طاهرة نقية مملوءة محبة وبذلاً، سواء كان مجالها هو الأسرة أو المجتمع الخارجي.
فليعرف الإنسان الـمؤمن طاقاتـه ومن يكون حتى تصبح مسيحيته شاهدة على شخصيته الـمستقرة المملوءة بالسلام والفرح والإطمئنان الداخلي والذى ينعكس على سلوكياتـه مع الآخرين فيروا أعمالـه “فيمجدوا الآب السماوي”.
——————

حكـمة الإنسان تـقـواه
حكـمة الإنسان تـقـواه..
خشـيـة الرب هـى الـحـكـمـة..
والتـقـوى هـى عـبـادة اللـــه..
ولا يـُعـبـد اللــه إلاّ بالـمـحـبـة…
فالتقوى السامية الأصيلة مرتكزة على الوصيـة الأولـى..
“أن تحب الرب إلهـك مـن كل قلبك ومـن كل نفسك”..
فالتقوى هـى أن تحب اللـه..ولا تـُفـاض فـى قـلوبـنـا الـمحـبة إلاّ بواسطة الروح القدس الذى أعطى لنا..
التقوى أو عبادة اللـه الحق عبادة صحيحـة مفيدة للجميع..وهـى التى تبعد عنا متاعب الحياة ..أو تخففهـا وتؤدى بنا إلـى الخلاص والحياة حيث لا وجع..بل تمتع دائم بالخيـر الأبوى الأسمـى..
انـى أحثك يا أخـى على أن تبلغ هذا الخيـر بقدر ما إستطعت..وأن تحافظ عليه بإستمرار كـما أشتهيه لنفسى..
إقرعْ باب الحياة بقداسة حياتك يفتحـه لك إلـه الحياة..
سـلْ وأطلب وإقـرعْ بقلبك لأن اللـه يفتح للسائل بـقلبه..وعلى القلب
أن يكون ورعـاً ليسأل وفقا لنظام..ويقرع حيث يجب أن يقرع..ويطلب ما
هو نافـع..
وتقوم التقوى على أن تحب اللـه مجاناً وعلى ألاّ تطلب خارجاً عنه الـمكافأة التى ترجوهـا إذ لا أحد خـيـر منـه..
وهـل يسألك اللـه شيئا ذا قيمة إذا كنت لا تحترمـه؟!..
انه يعطى الأرض وأنت تفرح يا من تحب الأرض فتصيـر أرضيـا..
إن كنت تفرح حين يُعطى الأرض فكم يكون فرحك عظيما حين يعطيك ذاته صانع السماء والأرض.
أنت تبحث كيف تُرضى اللـه؟!..ومـاذا تقّدم لـه؟!..
قـّدِم له نفسك..وماذا يطلب منك الرب سوى ذاتك؟!..
لقد خلقك أفضل مخلوقات الأرض كلها..وبحث عنك بعيدا عنك لأنك كنت تائهاً..
فإحتقـر ما أنت الآن لتصيـر ما لستَ الآن…
أصلح نفسك..وسبّح اللـه فـى يُسرِكْ ..واشكُ نفسك فـى عُسرِك…يوم تأنف من فساد فيك وتصلح نفسك بـمساعدة خالقك تستقيم وترعى التقوى والبـِر….
إن خدمتَ اللـه حُـباً بالزمنيات لـم تكن نيّتك مستقيـمة..
إنك تراقب من لا يعبدون اللـه فتجدهـم يملكون خيـرات تتوق إليهـا بطاعتك للـه..
قائلا فـى قلبك وأي نفع لـى من طاعـة اللـه؟!..وهـل أملك ما لذلك الذى يجدّف عليه كل يوم؟!..
أصلي فأجوع..ويجدّف فيعيش فـى بحبـوحـة!!..
إن وضعت هـمـّك فـى هذه الأمـور كنت ذلك الإنسان القديم..
لو كنت الإنسان الجديد لرجوت الـميراث الجديد لا القديـم..
إن رجوت الجديد دُست الأرض وإحتقرت مجد العظماء..
ومتى إحتقرت هذا كله تواضعت لئلا تزِل إن إرتفعت..
إرفع قلبك إلـى العُلـى..إلـى جوار الرب ولا تخالفـه..
الـمتكبـرون يرفعون قلوبهم ولكنهم يخالفون اللـه..
إن أردت أن يكون قلبك فوق فإلزم الرب..
وإن كان قلبك ملازمـا للرب..فالرب يمسك به لئلا يسقط على الأرض..
أكرم اللـه..يكرمـك اللـه..
جــزاء التقـوى.. حياة إلـى الأبــد.
———————-
أبـناء النـور ليـسوا هـم أبـنــاء الـظـلام
مـن يعـمل البـِر والصلاح لا يخـشى النـور،بل يقبل إلـى النـور.
ولا يطلب الظـلـمة،إلاّ مـن يـحـيد عـن أعـمال الـنـور.
إن الفحص الذاتـى والرجـوع إلـى النفس يجعـل الإنسان يرى سيـئاتـه بعين بصيـرة نقـّادة،فيـرى نقائـصـه كـما هـى فـى حقيقـتهـا،لا كـما تصورهـا لـه أهـواؤه فيسهـل عليـه إذ ذاك إصلاحهـا.
أمـا الـمغتر بذاتـه الذى لا يلقـى على نفسه إلاّ نظـر الإعجاب لكى يـرى مـا أودع اللـه فيـه من الخصال الحقيقية أو الـموهـومـة،فـإنـه لا يتأتـى لـه أن يتقّدم شيئـا فـى طريق الكـمال.
فـإن وجوب معرفـة الإنسان لذاتـه وإقراره بذنوبـه يجعلـه يدقـّق الـنظر أكثـر فأكثـر فيـرى شناعـة رذائلـه ونقائصـه وعيوبـه ويعرف ذاتـه على حقيقتها دون مجامـلة أو تغطية أو لف ودوران.
وكل إنسان ولـو بلغ ذروة الكمال لايصلح أن يكون حَكَـمـاً فـى أمور نفسه لأن حب الذات يعـمى بصيـرته،فهـو فـى حاجـة إلـى إنسان متـجرد من الغرض يفتح عينيه ويـريـه ما قد طالـما سهـا عنـه أو تساهـى. ومـا سر الإعتـراف إلاّ الطريـق الأمثل لذلك فهو السر الذى يـولـيّ الإنسان ثقـة كبـرى بأن النفس تصبح فـى حالـة الصداقـة والإتحاد مع اللـه تعالـى.
وإذا صار الإنسان غيـر مدرك لنعـم وفضل اللـه عليه وقـد تقّسى قلبه وزاغ عـن الحـق، وإتكل علـى كل ما هـو عـرضـى فـى الحياة، وسيطرت عليه روح الأنانية، إذ جعل منهـا محوراً لكل شيئ، وتغلغل إنسان الكذب والنفاق والريـاء، ففـاحـت رائحته الكريهـة التـى لا تحتـمل.
وهنـا يصرخ هذا الإنسان طالباً الله ونحوه يرفع الأيدى وأمـامه يذرف الدمـوع، وإليـه يصرخ، عندئذ يقول الرب: “هـا آنذا أضحك عند عطبكم،وأستهزئ عند حلول ذعركم”..
وسر ذلك كلـه قـائـم فـى إن الإنسان جـعـل الله غـائـبـا عـن حيـاتـه، فـأصبح قلبـه فـارغـاً قـد إحتـلـّتـه وترّبعـت فيها آلهـة أخـرى كاذبـة، وهكذا إنعدمـت مـحـبة الله فى هذا الإنسان ومـحبـة هذا الإنسان لأخيـه.
فلتتنازل أيها الإنسان الشقي عـن كبـرياؤك، وأنانيـتك فسر شقاؤك
هو فى الحقيقة أنك فقدت الـمحبـة.
هـذا هـو سـر نـكبـة وشـقاء الإنسان..
فليصلح هذا الإنسان مـا قـد فسد، يرجـع إلـى مسلك رشـيد يعـتمد علـى الجـوهـر الحـقيقـى… اللــه مـحـبـة
فعُد يا أخي الى الله، تُب معترفـا بخطاياك واطلب منه أن تعرف معنى الحب الحقيقي هذا الذى تجسد ومات وقٌبر وقام لكي يعطينـا الحيـاة والنور والرجـاء.
____________________
نـداء
اللّهم إن أبيـت أن أُطـيعـك يـا طـبـيـبي كيلا أمرض، فسأطيعك تخـّلصـاً من مرضـى.
وُضعت لـى شرائع يـوم كنت بصـحة جـيدة كيلا أحتاج فيـما بعد إلـى طبيب.
وإحتـقـرتُ شرائعك حيـن كنتُ مـعـافـى فشعرت بـما لـي من خـبـرة شخصيـة،وكـم ساهـم ذلك فـى هلاكـى. ورحـتُ أمرض وأتـألـم مـلازمـا الفراش، إنـمـا لـم أيــيأس.
وبـما أنـى لـم أتـمكن من زيارتك يـا إلهـي ويا طبيبي تنازلتَ وجئتَ إلـيّ، ولـم تحتقـر الجـرح الذى إحتقرك صحيحا.
بدأتُ أشعر بالألـم حين نبذتُ وصاياك ولـن أشفـى من ألـمى قبـل أن أشرب كأس التجارب الـمريـرة والضيقـات والعذابات والشهوات التى تكثـر فـى هـذا العـالـم.
قلتَ لـي:إشرب فـتحيـا.وكي لا أجيبك فـى مـرضـى لا أستطيع،
شربتهـا أنتَ أولا أيهـا الطبيب الصحيح الجسم.
أي حنظـل لـم تشربـه فـى كأسك؟!..
إن كانت الآلام مُـرّة، فقد رُبطتَ وجـُلدتَ وصـُلبـتَ..
وإن كان الـموت مـُراً،فقد كان لـك أيضا مـنـه نصـيـب..
إن كان الضعف يخشى هذا النوع مـن الـموت،فلـم يكن ذاك النوع أكثـر عاراً من موت الصليـب..
لـولا مساعدتـك لـي..فـمـاذا كـان يـحـّل بــي؟!..
ولـولا عـنـايـتك بـي..كيف كـان يـأسـي؟!..
ولـولاك..أيـن كنـتُ مـنـطرحـاً؟!..
لقـد إستدركـتنـى بـرحـمـةِ مـنك ياإلهـي، فكل مـا فـيّ هـو بكليّتـه منك أيها الرحيم.
هـا انـا أسمعك قائلاً:
“أنظـر إلـى نفسك. عــُد إلـى نفسـك ايهـا السائـر بعيداً عـن ربـك. تطلعتَ كثيـراً إلـى نفسك ومـا بقيت فيهـا،فطُردت منهـا وإنتـفيت عنهـا،ثـم إستلقيـت فـى الخـارج.
أحبـبتَ العـالـم وخـيـراتـه الـزمـنيـة والأرضـيـة.
إن أحبـبت نفسك وأهـملتَ خالقـك تدنـّيت كثـيراً وسقطت بحبك لـما هـو أدنـى منك.
أنت أقـل مـن اللـه،وأقـل مـنه بكـثـيـر،كـما الـمصنوع أقل من الصانـع.
أحّــبْ اللـه حـبـاً يُنسيك ذاتك مـا أمـكن..
حـبّك للعالـم أنساك ذاتك،فـلُينْسك ذاتك حبك لصانع العالـم إندفعت فهلكتَ.
عليك أن تشكو نفسك وتُصلحـها وتكشفهـا لنـفسك،ثـم تعتـرف خجلا بالعيب الذى فيك وعليك أن تتوق إلــى الطهـارة.
يـا من ذهبت على هواك فعدتْ خجلاً..
نــادِ يسوع ولا تـدعِ الصـحـة..
إن مـن يقـبل الطبيب يـمرض برجـاء،أمـا الذى يضـربـه فـى ثورة جنونـه فهو مريض يائـس،وأي مريض يقتـل طبيـبـه؟!..
مـا أعظم سخاء الطبيب وقدرتـه وقد ترك دمـه علاجـا لقاتـله الـمجنون؟!..
علـى الصليب الذى رُفـع فـوقـه قـال:
يـأبـتِ أغـفـر لـهـم لأنـهـم لا يدرون مـا يعـملون.
هـم حـمقـى ..وأنــا طبيب..
هـم ثـائـرون ..وأنــا صـابــر عليـهم..
شفـاؤهـم علـيّ بعد أن يقتلونـى..فكن بـيـن الذين يُشفيهـم.
——————-
حضور الله فينـا
غاية التقوى وسبب وجودها واكليها انما هو حضور الله فينـا. ولكن ما أقلّ من يحصل على هذا الحضور من النفوس، وما أكثر من يحسبونه مستحيلاً. فــما السبب هذا؟
اننـا نعامل الله معاملـة الغائب
فالحضور يقتضى الإلتقاء والتحادث، فكيف نبلغ الى الحضور مع من لا يكون حاضراً أبداً؟. وهـل نستطيع الحضور مع الله حضورنا مع أي إنسان؟
ان بين الأنواع المختلفة لحضور الله فى العالم نوعاً يهيئ لنا الوصول الى هذا الحضور وهو ما نحاول أن نعالج شرحه الآن:
يقول لنا التعليم المسيحي ان الله فى كل مكان. فهذا الحضور الشامل الكلي يؤثر كثيراً فى بعض النفوس، ولكنها قليلة. أما أكثر النفوس فحضور الله فى كل مكان عندها يوازي غيابه عن أي مكان. وعامة الناس لا ترى كيف أن حضوراً غير شخصي يمكنه ان يكون باعثاً للبار والأثيم على الحضور مع الله؟
ثـم ان للـه حضوراً خاصاً فى السماء. ولكن السماء بعيدة جداً عنـا، ولابد من قوة عظيمة للتجديد لكى تخلق تواجداً أو حضوراً لا تتلفـه تلك المسافة السحيقة. مثل هذا الحضور لا يصعب على شخص كالقديس توما الإكويني، من يصوره معاصروه سائراً مرفوع العينين وهو مستغرق فى تأمله فى الله. هذا وإن الله حاضر فى القربان المقدس، وان كان حضوراً سريّاً، فهو حي، إذ اننـا نرى شيئاً، ونحس بشيئ يضمن لطبائعنا الضعيفة حضوراً ما. وأن لم يكن ما نرى وما نذوق سوى ظاهر تبعد حقيقته عن ذهننا، فإن هذا القليل يسعف إيماننا، فنعبد، تحت الظواهر، الحقيقة الإلهيـة. ثم أن الحضور القرباني فى التناول يدوم قليلاً، وليس بوسعنا ان نقيم دائماً أمام القربان المقدس.
ننسى ان الله حاضر فينا
الحضور الإلهي او سكنى الله فينا بالنعمة قد أثبته ربنا يسوع المسيح وفسّره القديس بطرس:”ان قدرته الإلهية أولتنا كلّ ما يؤول الى الحياة والتقوى. ذلك بأنها جعلتنا نعرف الذى دعانا بمجده وفضله فمنحنا بهما أثمن المواعيد وأعظمها لتصيروا شركاء الطبيعة الإلهية”(2بطرس3:1-4). وهذا التعليم السامي قد اوضحه القديس بولس:”السر الذى كان مكتوما منذ الدهور والأجيال وأعلن الآن لقديسيه الذين شاء ان يعلمهم ما هو فى الأمم غنى مجد هذا السر أي المسيح فيكم”(كولوسي26:1).
فلا ننكر هذه الحقيقة ان الله فينا بالنعمة التى حصلنا عليها بالمعمودية وسر مسحة الميرون ونحافظ عليها بسري التوبة والتناول، ونقدم ثمارها بأعمال المحبة والرخمة مع الآخريـن.
“ان إبن البشر إنما أتى ليطلب ويخلص ما قد هلك”(لوقا10:19)
ما أحسن سماحة القلب،فهى أجمل ما تحلّت به النفس وأفضل درجات البِر والكمال. هى مبعث العواطف النبيلة ومصدر الجود والإحسان والعدل والإنصاف. كيف لا وهي التى بعثت زكّا على الإسراع الى قبول المخلّص فى بيته بفرح وإبتهاج.
تُرى ما الداعي وما المحّرك الذى جعل زكّا يهتف ويقول تلك العبارة الدالة على كرم النفس، فمن ذا يسمعه قائلاً:”هاأنذا يارب اعطي المساكين نصف أموالي وإن كنت غبنت أحداً فى شيئ أرده أربعة أضعاف”، إلاّ ولا يسعه ان يقول لولا رحمة الله وتحننه على زكّا وقبول زيارتـه وقبول توبتـه فهى التى جعلت قلبه ولسانه يهتفان.
ان الله رحيم وهو ينتظر على الخاطئ الأثيم ليرحمه ويغفر له كما قال اشعيا النبي:”لذلك ينتظر الرب ليرحمكم”(اشعيا18:30)، فى حين نرى ان الخاطئ لا يكاد يقترف خطيئته حتى يستحق بعدها ان يعاقب عليها اشد عقاب فيقتلع إقتلاعا من بين الحنطة ويلقى فى النار. ولكن الله لوفرة رحمته وحلمه وشفقته يدعه الى يوم الحصاد ويترقب توبته اليه ورجوعه كما قال القديس بطرس:” ان الرب لا يبطئ بوعده كما يزعم قوم وإنما يتأنى لأجلكم إذ لا يريد ان يهلك احد بل ان يقبل الجميع الى التوبة”(2بطرس9:3). ولذلك لما كثرت ذنوب الناس فى ايام نوح لم يعاجلهم بالعقاب كما كانوا يستأهلون بل اوعز الى نوح ان يبني الفلك ليكون آية مؤذنة بوشك حلول غضبه عليهم لعلهم يرتدعون. وكثيراً ما يدعو الأثيم اليه ليتوب إذا رآه مصراً على إقتراف آثامـه فقال الله لأورشليم على لسان ارميا النبي:”أنت قد زنيت مع أخلاء كثيرين فارجعي إليّ يقول الرب”(ارميا1:3)، وقال ايضاً:”تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والمثقلين وأنا أريحكم”(متى28:11). فلا يكاد يرى خروفا من غنمه ضالاً حتى يعدو وراءه يطلبه وإذا وجده حمله على منكبيه وعاد به فرحاً مسروراً. فهو الذى ردّ السامريـة ومريم المجدلية ولاوي العشّار، واليوم يرّد زكّا العشّار والذى أسرع الى الأمام وصعد على الجميزة فقال له السيد له المجد: “يا زكا أسرع وانزل فاليوم ينبغي لي ان امكث فى بيتك”. دخلت النعمة فى قلب زكّا فصّرح قائلاً:هاأنذا يارب اعطي المساكين نصف أموالي وان كنت قد غبنت أحداً فى شيئ أردّ أربعة أضعاف. فقال له يسوع اليوم وجب الخلاص لهذا البيت”، وقد تحقق قول السيد المسيح القائل:”اذهبوا واعلموا ماهو اني اريد رحمة لا ذبيحة لأني لم آت لأدعو صديقين بل خطأة”. وأيضاً أراد الرب ان يضم اليه جميع سكان اورشليم من اليهود وسواهم إذ خاطب اورشليم قائلاً:” يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين اليها كم من مرة اردت ان اجمع بنيك كما تجمع الدجاجة فراخها
تحت جناحيها فلم تريدوا”(متى37:23).
وإذا اقلع الخاطئ الأثيم عن آثامـه وعاد الى الله يبادر الله الى الصفح عنه ويتغاضى عما تقدم له من الذنوب مهما كانت فاحشة. رجع زكا الى الرب فسمع من فمه الحلو هذه الكلمات:”يا زكا أسرع وأنزل فاليوم ينبغى لي ان امكث فى بيتك. اليوم حصل الخلاص لهذا البيت”، ولقد قال اشعيا النبي:”ليترك المنافق طريقه والأثيم أفكاره وليتب الى الرب فيرحمه والى الهنا فانه يكثر العفو”(اشعيا7:55).
يجب على الخاطئ إذا كان الله ينتظر عودته اليه ان يسارع اليه، لا أن يضم خطيئة الى خطيئة فيزداد فوق الزنى نميمة وثلباً للناس، وفوق النميمة حلفاً وكذباً. وقد طال انتظار الله له حتى كادت رحمته تذهب وكثر ما يتلطف به ويترقبه وهو غافل عنه وعن جهالاته. لقد قال الرسول بولس:”لاتحتقر ايها الإنسان غنى لطفه واحتماله وآناته ولا تعلم ان لطف الله يقتادك الى التوبة ولكنك بقساوتك وقلبك الغير التائب تدّخر لنفسك غضباً ليوم الغضب وإعتلان دينونة الله العادلة الذي سيكافئ كل احد بحسب اعماله”(رومية4:2-6).
فإغتنموا إذاً أيها الأحباء فرصة إنتظار الله لكم قبل حلول وقت غضبه
وارجعوا اليه تائبيـن.
ويجب على الخاطئ ايضاً إذ كان الله يدعوه ان يجيبه ويسمع نداءه ولا نجاة له إلاّ إذا وافق بإرادتـه إرادة الله وأحبّ لنفسه ما يحب له الله، وقال له مثلما قال القديس بولس:”يارب ماذا تريد أن أصنع”(اعمال6:9)، وكما قال ايوب البار:”انك تدعوني فأجيبك وتنعطف الى صنع يديك”(ايوب15:14)، لا أن يصّم أذنـه عن سماع نداء الله وهنا سيقول له الرب كما قال لشاول الطرسوسي:”شاول شاول لماذا تضهدني”.
حافظوا إذاً على برارتكم ما استطعتم وابكوا ما بقيتم لتأخركم الى يومكم هذا عن إجابة دعوة الله واطلبوا شكره لمغفرته لكم مع عدم استحقاقتكم وقولوا له قول النبي داود:”علّمني يارب طريقك فأسلك فى حقك. ليفرح قلبي فى خشية اسمك. أعترف لك ايها السيد إلهي بكل قلبي وأمجد إسمك الى الأبد”(مزمور11:8-12).
فيـا بحر الرحمة احمنـا من المنتهى المخوف وبئس المصير. الهمنا التوبة الصادقة والحرص على رضاك والهرب مما قد يغضبك. أنك أبونا الرؤوف وإلهنا الرحيم الشفوق. أشركنا فى ملكك السماوي الذى ارجوه لكم بنعمة الآب والإبن والروح القدس. آمين.
——————
سماع كلمة الله والعمل بهـا
“أكلمهم بأمثال لأنهم يبصرون ولا يبصرون ويسمعون ولا يسمعون ولا يفهمون”(متى13:13).
الله لايـمنّ علينـا بكلمتـه
ففى العهد القديم كلّمنا بواسطة انبيائه، وفى العهد الجديد كلمنا بواسطة ابنه الوحيد. كان يسوع كلما تجمهر حوله الشعب يعلمهم. فنسمعه وهو على الجبل يلقي هذه العظة الباهرة ويلقن الناس وصيتـه الجديدة. ونسمعه وهو على بحيرة جنيسارت فى سفينة بطرس وهو يعظ الشعب. ونراه فى كفرناحوم فى بيت بطرس وهو يبشر ويشفي الأمراض. ونراه وهو فى بيت اليعازر وهو يعلم مريم بينما مرتا تهتم بأمور المنزل.
الله يرينا طريق الخير والشر
لقد اظهر لنا ابن الله طريق الخير وطريق الشر. واسمعنا كلمته الإلهية ولكن لا يكفي اننا نسمع بل يلزمنا ان نعمل بموجب ما سمعناه،ولذلك نجد الكتاب المقدس يتكلم كثيرا عن ذلك. فالقديس بولس يقول:”ليس السامعون للناموس هم ابرار عند الله بل العاملون بالناموس هم يبررون”(رومية13:2)، والسيد المسيح يقول:”ليس كل من يقول لي يارب يارب يدخل ملكوت السموات لكن الذي يعمل إرادة ابي الذى فى السموات هو يدخل ملكوت السموات”. ويعطي لذلك تشابيه عدة (مثل الزارع) والذى فيه اربعة فئات لم تستفد إلا فئة واحدة (تشبيه البيت المبني على الصخر او على الرمل. فنحن حقاً نسمع ولانسمع ونبصر ولا نبصر.
بدون نعمة الله لا يمكن ان تثمر فينا كلمة الله
يقول السيد المسيح:”بدوني لا تستطيعون ان تعملوا شيئا”(يوحنا15)، ولذا بنعمة يسوع نستطيع عمل كل شيئ:”اما عند الناس فغير مستطاع واما عند الله فكل شيئ مستطاع”، هذا جواب السيد المسيح لبطرس الذى قال “من يستطيع إذاً أن يخلص”.
انظروا فى الكتاب المقدس عن مفعول نعمة الله:
– هى نعمة الله التى حولت شاول من وحش مفترس يضطهد بيعة الله الى رسول غيور يبشر بالمسيح الذى اراد إضطهاده.
– هى نعمة الله التى جعلت داود النبي وهو صبي صغير السن يتقدم نحو جوليات الجبار الذى قرع كل صفوف اسرائيل وبنعمة الله أماته بمقلاعه الصغير.
– بنعمة الله تقوت سوسنة العفيفة وقاومت شيخا اسرائيل وفضلت الموت على انها ترضى بالخطية.
– هى نعمة الله التى جعلت القديسين بأجمعهم لا يهابون الموت بل يتقدمون اليه بكل شجاعة طالبين اكليل الإستشهاد.
فلذا، اليس من الضروري ان نطلب هذه النعمة من الله حتى تثمر كلمته فينا؟
كيف نفسر قول المسيح لهم عيون ولايبصرون ولهم أذان ولايسمعون؟
أي اننا نحب ان نسمع كثيراً كلمة الله ونسعى وراءها ونفرح عندما نعرف انه توجد رياضة، ولكن ايها الأحباء فرحنا وسعينا مثل فرح وسعي الشعب اليهودي. اين الذين كانوا يجرون وراء يسوع اليس هم الذين يصرخون قائلين اصلبه اصلبه. قلبنا ملآن من الضجة. ملآن من الأفكار العالمية. ملآن من الشهوات الرديئة. ملآن بهموم الحياة. كل واحد يفكر فى المستقبل وما عساه ان يكون ولا تتكل على الله. لذلك هذا القلب الملآن من ضجة الحياة لا تثمر فيه كلمة الله. لا تسمع فيه كلمة السيد المسيح. جاء فى سفر الخروج ان الله لما كلّم موسى على الجبل قبل ان يسمعه صوته حصل صوت رعد وبروق وزلزال ولم يسمع موسى كلمة الرب، ثم صوت هدير وهواء شديد ولم يسمع كلمة الرب. ثم نسيم عليل وفى هذا الهواء الهادئ اللطيف ووسط هذا السكون الجميل سمع موسى صوت الله معلناً له وصاياه. فلا ننتظر نحن ان كلمة الله نسمعها وسط هذه الضجة ووسط رنين الكلمات المتزاحمة وثورة الهموم الكامنة فى النفس، ولكن يلزمنا ان نبعد عنا كل المشاغل الدنيوية ونبعد عنا كل ضجة تمنعنا من سماع كلمة الله فى داخلنا ونلازم السكون قدر الإمكان متأملين فى هذه الكلمة التى نسمعها فنتذوق حلاوتها. حقاً ما أطيب الرب. تأملوا وجربوا وذوقوا ما أطيب الرب.
يارب.. اعطني النعمة لتثمر كلمتك فى داخلي وأتمم إرادتك كل حين. اني أضع عليك كل إتكالي انت يا من قلت تعالوا اليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وانا اريحكم هبني الهدوء الباطني والسكينة فى الضمير لأستريح فيك وبك يا يسوع الى الأبد. آمين.
————–
الصلاة وشروطهـــا
“اسهروا وصلّوا لئلا تدخلوا فى تجربـة” (متى40:26)
ضرورة الصـلاة
الصلاة هى إتحاد النفس بالله، فبواسطة الصلاة يرتفع الإنسان إلى السماء ويخاطب الله سبحانه وتعالى ويطلب منه جميع احتياجاتـه. الله لما خلق آدم جعله متعلقاً به، فلا يعيش الإنسان بدون معونته ولا يعمل بدون مساعدته، ولا يفكر إلاّ بقوته ولا يخلص إلاّ بنعمته. ولذا حيث ان الإنسان متعلق بالله ويحتاج الى كل شيئ من الله من الحمق والجهل انه يكفى عن الطلب يلح فى السؤال وهذا الطلب وهذا السؤال هو الصلاة.
السيد المسيح طالما يذكرنا بالصلاة فيقول:”صلوا ولا تملوا”. “اسهروا وصلوا”. “أن هذا الجنس لا يخرج إلاّ بالصلاة والصوم”. هذا الجنس أي جنس الشيطان، واننا لا يمكننا مقاومة التجارب الشيطانية إلاّ بواسطة الصوم والصلاة. فهل يا تُرى نريد ان نلهو ونلعب على مسرح هذه الحياة ونريد فى نفس الوقت ان نتغلب على التجارب التى تداهمنا؟. لا يمكننا إلاّ بالصلاة. نحن نُدعى مسيحيين أي مثالنا هو المسيح وها نحن نرى أن المسيح كان ينفرد فى الجبل وهناك يصلي، فإذا كان معلمنا يصلي أفـما يجب علينـا الصلاة!
مفاعيـل الصلاة
نقرأ فى انجيل القديس لوقا عن أرملة نائين التى فقدت ابنها وحيدها وفيما هى تودعه مع جمع غفير وكانت تذرف الدموع وتبكي بكاءً مراً نظر يسوع الى دموعها فتعطف عليها وأقام لها إبنها. هذه الدموع هى الصلاة فالصلاة لها مفعول شديد على قلب يسوع فتجعله يتعطف علينا ويتحنن ويعطينا ما نطلبـه.
مفعول الصلاة هى انها تقوينا فى وقت التجربة “اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا فى تجربة”.
مفعول الصلاة يقوي الضمير والإيمان، فإذا نظرنا الى صلاة كرنيليوس الوثني نراها قد جعلت ان تكون هدايته الى الإيمان الحقيقي بأعجوبـة.
شروط الصلاة
1. أن يكون الإنسان فى حالة النعمة والقداسة، فكيف يمكن للإنسان الخاطي ان يطلب شيئاً من الله وهو عدوه. يقول الرب فى اشعيا النبي”ان خطاياكم حجبت بيني وبينكم فلا أعود أقبل تقادمكم”. وكيف يريد الإنسان الحياة وهو غارق بإرادته فى الموت؟. فطهّر نفسك وتصالح مع الله ثم أطلب منه ما تشاء. والقديس يعقوب الرسول يقول:”ما أعظم قوة صلاة البار الفعّالـة”، ولنا مثال فى صلاة إيليا النبي وكيف ان حبست الأمطار وكيف عادت.
2. ان تكون الصلاة بإيـمان. فلابد عندما نصلي اننا نؤمن بقوة الصلاة وفاعليتها عند الله وإلاّ فما فائدة صلاتنا ولهذا قال الرب يسوع:”لو كان لكم إيمان مثل حبة الخردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا الى هناك فيطيعكم”. ولنا مثال فى ذلك فى طلب رئيس الجند لعبده وطلب الكنعانية لإبنتها.
3. أن تكون بتواضع. لأن معنى الصلاة يتطلب ذلك فالمحتاج يطلب من المحسن اليه ولابد حتى يتعطف قلب المحسن اليه ان يستعمل الأدب والذوق وان يكون متواضعاً، ومثالنا فى ذلك مثل الفريسي والعشّار.
4. أن تكون بإنتبـاه وحرارة. يلزم أن الإنسان يعلم ماذا يطلب او ماذا يقول. ليس إلاّ المجانين الذين لا ينتبهون الى ما يقولون. فالإيمان يلزمنا بأننـا نتخشع وننتبه لأننا بحضرة من له سلطان علينا فى الحياة والموت.
هذه الشروط الأربعة يضاف إليها شرط لازم لها وهو الإستمرار فى الصلاة ولذا السيد المسيح يقول لنا دائما:”صلوا ولا تملّوا”، “صلّوا كل حين”، ويعطينا مثلاً فى الإلحاح والإستمرار وذلك فى مثل القاضي والأرملة، ومثل الصديقان.
يارب أهديني الى الصلاة الحقيقية حتى أعترف أنك أنت إلهي ، أنت خيري وحظي. أنت الـمُحسن إليّ علّمني أن أرفع إليك سؤالي بكل تواضع وإيـمان وحرارة، واجعلني أن أثبت إلى النهايـة لأسبحك وأمجدك ألى أبد الأبديـن. آميـن.
—————–
خلاص النفس
“اعملوا لخلاصكم بخوف ورِعدة”(فيلبي12:2)
أهميـة الخلاص:
مسألة الخلاص هى مهمة للغايـة لأنها المسألة الوحيدة التى من اجلها خلقنا فهى مبدأنا وهى غايتنا. مهمة للغايـة لأن نفسنا ثمينة للغايـة. ان الشيئ يغلو ويرخص فى السوق إذا كان كثيراً أو قليلاً والحال نفسنا فريدة وحيدة، فمن هذه الوجهة هى ثمينـة. ثم أنها ثمينة لأن السيبد المسيح اشتراها بدمه الثمين فهى بثمن دم إبن الله. ولكننا نحن لا نعرف قيمة هذه النفس ولا نقدرها نسبة الى قلة إيماننا. ولكن هناك من يقدر هذه النفس حق قدرها. اسألوا الملائكة الذين يحرسون هذه النفس. اسألوا قديسوا العهد القديم لماذا ضحوا بحياتهم لأنهم عرفوا أن الحياة لا فائدة منها إذا خسرنا أنفسنا ولهذا قيل:”ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه”.
العمل من أجل خلاص النفس
يلزمنا ان نعمل لخلاصنا بخوف ورعدة كما يقول القديس بولس:”أن أقمع جسدي وأستعبده لئلا أكون مرذولاً بعد ان وعظت كثيرين”. والنبي والملك داود كان يصرخ دائما فى مزموره:”يارب سمّر خوفك فى لحمي”. ولكننا نحن ضعفاء الإيمان الذين بالنسبة لهؤلاء نستحق جهنم لأننا لا نهتم بأمر خلاصنا، فماذا تنفعنا الملذات بعد الموت؟ انـه فى الأواخر سيعض الإنسان على لسانه ويقول “واندماه والهفتاه”، ولكن ماذا ينفع الندم بعد ان تزل القدم لا تنفع التآوهات ولا الأنين ولهذا قال الرب:”انما الرب يضحك على هلاككم”.
الخلاص مسألة شخصيـة
لا يمكن الإنسان أن يخلص بأعمال غيره. عجباً على قوم يتدهورون فى الخطايا وينغمسون فى الرزائل ويقولون سوف نتوب وصلوات أفربائنـا والقداديس التى تعمل على نياتنـا تخلصنا من عذابات المطهر. ومن يضمن لكم التوبـة بعد الإفراط فى الشهوات والملذات. ومن يضمن لكم الإسعافات بعد الموت. أنظروا الى مثل العذارى الجاهلات-“اعطينا من زيتكن تقول الحكيمات. انه لا يكفي لنا ولكن فالأحرى أن تذهبن الى الباعة. لا ينفع زيتنا لمصابيحكن. لا تنفع أعمالنا لخلاصكن. كل واحد يضيئ بزيتـه بأعماله الصالحـة.
يارب ضع خوفك فى فمي. يارب اجعلني أن أعمل لخلاصي بخوف ورعدة حتى أتمكن من مقابلتك وتمجيدك والإلتصاق بك مدى الدهور كلها. آمين.
—————–
الخطيـّة وقصاصتهـا
“ان شعبي صنع شرين تركوني أنا ينبوع المياه الحيّة واحتفروا لهم أباراً مشققة”(ارميا13:2)
لا يوجد شيئ على هذه الأرض أردأ من الخطية الـمميتة
لأنها تجدد صلب ابن الله كما يقول لنا القديس بولس (عبرانيين6) وتشهر إياه. ولا يوجد شيئ أشر منها لأنها خيانة نحو المحسن إلينا. لماذا خطية يهوذا عظيمة جداً؟. لأنها خيانة الحب. فيسوع الذى رباه مدة ثلاث سنوات يسوع الذي أحسن اليه فى هذه اللحظة يسلمه لأجل المال، ولذا يتشكى الرب الإله قائلاً:”ليس العدو يعيرني فأحتمل ولكن الذى أكل معي وشرب”. فالمسيحيين والمقربين اليه أكثر الكل الذين يأكلون جسده كل يوم ويشربون دمه هم الذين يطعنون قلبه القدوس ولأي شيئ وبأي ثمن!. يقول لكم السيد المسيح فى تشكه الـمرّ:”باعوني بحفنة من الشعير وبكسرة من الخبز”، أي بطعام البهائم! أنظروا الى اخوة يوسف وتأملوه فى حياته المؤثرة،كيف ان اخوته باعوه حسداً وهو المسكين لا يقدر ان يتكلم ، ويُضرب ويُهان وقد تحجر قلبهم ولم يرأف. وأنتم قد تحجر قلبكم وعميت عيونكم فلم تعودوا تحنّون الى هذه الفريسة المسكينة التى بين يديكم وهى يسوع المسيح. مسكين يسوع مع بني البشر الذين أحبهم وأراد أن يكون نعيمه معهم قائلاً:”نعيمي أن أكون
مع بني البشر”.
لـماذا الخطيـّة هى عظيمة؟
لأنهـا إهانة لله عز وجلّ بحضوره فلا يستطيع أحد من البشر ان يشتم احد العظماء ويهينه أمام وجهه، ولكن الخاطي يتجاسر بوقاحته ان يرفع راية العصيان ويتمرد ويعاند الله ويخالف وصاياه. لو كان الإنسان يتأمل وجود الله فى كل مكان لما استطاع ان يخطئ ولنا أمثلة فى يوسف الصديق وإمرأة فوطيفار، وسوسنة العفيفة، ويهوديت واليفانا.
قصاص اللـه
ان الله ينزل القصاص على الذين يخالفونه وقد أعد لهم مع الملائكة الأشرار ناراً متقدة لا تطفأ ودوداً لا يموت. ولكن هذا القصاص الـمحتم لم يكتف به الله بل انه أحياناً يظهر غضبه على الذين يخالفونه فى هذه الحيـاة. فقايين صار ملعوناً تائهاً على وجه الأرض يسمع دائماً هذه الكلمات ملعون أنت ياقايين وملعونة الأرض التى شربت دم أخيك. يقاصص العالم بالطوفان، وسادوم وعمورة بالنار والكبريت، وإمرأة لوط بأن صيّرها عامود ملح، وشاول بأن نزع عنه الـملك، والملك داود بأن ضرب شعبه، والذين تمردوا فى البريّة وهم ناثان وقورح فإبتلعتهم الأرض أحياء هم ومن معهم. لا بل فى تاريخ الكنيسة نقرأ عن ديوسقورس انه اندلقت أمعاؤه منه ومات، وان يوليانوس الجاحد أصابه سهم فى قلبه فكان يأخذ دمه ويريه ويقول غلبتني ياجليلي، وأجاج ملك عماليق وغيرهم.
مـاذا نعمل؟
لنتذكر دائماً عواقبنا كما علمنا يشوع ابن سيراخ:”تذكر عواقبك يا إنسان فلا تعود تخطئ”.
ولنتذكر اننا دائماً فى حضرة الله وانه يرانا ويراقبنا فى كل لحظة.
يارب إمنحني أن أهرب من الخطيّة ومن أسبابها وأن أتجنب كل رذيلة وأن أحبك وحدك وأقبل الـموت ولا السقوط فى الخطيـّة. آمين.
_______________
التــواضع
“والآن أنا نبوكدنصر أسبّح وأرفع وأعظّم ملك السماء الذي جميع أعماله حق وسبله عدل ومن سلك فى الكبرياء فهو قادر على خفضـه”(دانيال34:4)
نقرأ عن حلم نبوكدنصر وكيف ان شجرة وسط الأرض نـمت وارتفعت للسماء وبها ورق بهي وثمر كثر وتحتها تستظل الوحوش وتأوي الى أغصانها الطيور وتغذى كل ذى جسد،ثم يأمر الرب بقطعها وينثر أوراقها ويبدد سكانها ويوثق بالحديد ويبتل بالندى وليأكل العشب وقلبه قلب وحش سبعة أزمنة. وتم تفسير ذلك الحلم بعد مضي اثنى عشر شهراً بينما كان نبوكدنصر يتمشى على سطح القصر وقال:”أليست هذه بابل التى بنيتها أنا الملك بقوة عزتي وبهاء مجدي”، ثم يقول الكتاب:”وفيما كانت الكلمة فى فم الملك إذ وقع صوت من السماء قال للملك”يانبوكدنصر ان الـمُلك قد زال عنك”.
هذا مثل صغير نفهم به شناعة الكبرياء ولو كانت بسيطة. أن “الرب يُقاوم الـمتكبرين بذراع رفيعة ويحط الـمقتدرين عن الكراسي ويرفع المتواضعين”. هذه الكبرياء يمقتها الرب لأنها أصل كل الرذائل، فالمتكبر بسبب إعتداده على ذاته لا يستغيث بالله ولا يصلي ولا يعمل حساب بعواقبه ولا لوصايا الله والقريب. كيف يمكن ان يعرف للتسامح طريق وهو صاحب
العظمة والجلال وينسى ان غفران خطاياه لا يمكن إلاّ إذا سامح وغفر.
انظروا سقوط الملائكة،فنحن نقول مع لوسيفورس لا نخضع ولا نعبد. والـمتكبر حسود، فالشيطان يحسدنا لأننـا معدّين للسماء ويريد أن يخسرها لنا.
أنظروا الى شاول وداود، وكيف ان شاول أخذ التقدمة ورفعها بدلا من صموئيل النبي، وأما شاول فأراد ان يعُد الشعب بدون أمر الرب لكي يتفاخر بقوتـه.
من جهة أخرى فصلاة المتكبرين مرذولـة وها لدينا مثل الفريسي والعشّار، ومثل قايين وقابيل.
أنظروا الى مثل أليفانا الذى تجبّر على الرب فتصوّر انه لا يمكن لأي قوة مهما كانت يمكنها أن تقف أمامه فيموت بيد إمرأة أضعف المخلوقات.
من أنت أيها ألإنسان حتى تتكبر؟. أنك تراب. انك دودة الأرض الذليلة. قليل من الهواء يمرضك. أكلك الذى تعتبره ألذ شيئ عندك هو يكون لك سبب لـمرضك وهلاكك. بأي شيئ تفتخر؟. بالجمال أنظروا لم يكن أجمل من كليوباترة على مايُقال ومع ذلك ماتت منتحرة وهلكت فماذا نفعها جمالها. ولم يكن أجمل من الملكة اليزابيث ومع ذلك فالموت بدد هذا الجمال وجعل صورتها تتغير وتكون أسوأ صورة يخاف منه البشر. فعلى أي شيئ تتكبر؟. بالـمال؟، كل شيئ يزول والكل عند الموت سيّان ولا ينفع المال أمام الديّان ونحن لا نخلد على هذه الحياة ولاتدوم لذتنـا. بالوظيفة او الشهرة؟، كلها زائلـة.
بالعكس، أنظروا كيف ان الرب يكافئ المتواضعين. سيدتنا مريم العذراء يقول لها اللاك أنت أم الله فترد “أنا آمة الرب”. داود النبي يقول:”تواضعت والرب رفعني”. يسوع المسيح يقول:”تعلموا مني أني وديع ومتواضع القلب”.
فالمتواضع كل إنسان يقدّره ويعتبره والرب يجعل فى تواضعه نعمة فيتعظّم.
______________
التــوبــة
“لأجل ذلك أقول لك أن خطاياها الكثيرة مغفورة لها لأنها أحبت كثيراً”(لوقا47:7)
مريم المجدلية كانت مشهورة فى المدينة بأنها امرأة خاطئة لأنها نصبت حبال فخها لتصطاد كل من كان يراها. سمعت عن يسوع وعن تعاليمه فذهبت فى يوم من الأيام لتتفرج على هذا الرجل العظيم المشهور علّها تكسبه اليها وتسقطه فى حبائلها فتزينت بأحسن حللها وتجملت بأفضل ما عندها وأخذت معها قارورة طِيب لتتعطر وتعطر حبيبها الذى تكسبه. رأت يسوع وسمعت عظته ونظر اليها يسوع نظرة الإله المشفق على خليقته فغيّر كيانها. انفردت عن الجمع وفكّرت فى نفسها وتأملت ماضيها فخجلت ورأت يسوع يدخل بيت سمعان فقامت مسرعة وأخذت قارورة الطِيب التى فى يدها وسكبتها على قدمي يسوع وبكت وبللت بدموعها هذه الأقدام الطاهرة ومسحتها بشعر رأسها. يتذمر سمعان فيوبخه السيد المسيح ويعطيها الغفران لأنها أحبت كثيراً والغفران بقدر الـمحبة.
فالتوبـة هى التى هيأت هذه النفس وجعلتها تنال المغفرة والسماح. ونحن غارقون فى بحر الخطايا ويعترينا الخجل والكسوف من الإعتراف. لماذا لم نخجل من إرتكاب الخطيّة؟. لماذا لا نخجل من مسك السيرة ودينونة الغير؟. لماذا لا نخجل من كبريائنا وحسدنا وبخلنا ونميمتنا؟. كل هذا نصرّحه لذواتنا أما التوبة والندامة فهذا شيئ صعب لدينا.
لابد ان تكون التوبـة حقيقية ومثالها توبـة داود النبي لما عرف بشّر الخطيّة من ناثان النبي فمزّق ثيابه ولبس مسحاً ومكث ثلاثة أيام لايأكل ولا يشرب كفّارة عن خطيئته. ومثال ايضا أهل نينوى الذين تابوا بكرازة يونان النبي. ومثل الإبن الشاطر الذى فكّر حالاً وقال “أقوم وأمضي إلى أبي وأقول له أخطأت الى السماء وامامك ولست أهلاً أن أُدعى لك ابن”. ومثال مريم المصرية التى تابت توبة حقيقية وسكنت البراري ولم تقابل أحداً من البشر لتتعبد وتكفر عن آثامها العديدة.
ومن يتوب ثم يرجع الى الخطيّة تكون أواخره أشر من أوائله، فيقول السيد المسيح:”ان الروح النجس إذا خرج من الإنسان طاف فى أمكنة لاماء فيها يطلب راحة فلا يجد فيقول حينئذ ارجع الى بيتي الذى خرجت منه فياـي فيجده فارغاً مكنوساً مزيناً، فيذهب حينئذ ويأخذ سبعة أرواح لآخرين أشر منه فيأتون ويسكنون هناك فتكون آواخر ذلك الإنسان أشرّ من أوائله”(متى43:12). والقديس بولس يقول:”لأن الذين قد أُنيروا مرّةً وذاقوا الموهبة السماوية وحُعلوا مشتركين فى الروح القدس وذاقوا كلمة الله الطيبة وقوات الدهر الآتى ثم سقطوا فلا يمكنهم أن يتجددوا ثانية للتوبة صالبين لأنفسهم ابن الله ثانية ومشهرين إياه”(عبرانيين4:6). والسيد المسيح يهددنا فى سفر الرؤيا قائلاً:”فأذكر من أين سقطت وتُب واعمل الأعمال الأولى وإلاّ فأني آتيك وأزيل منارتك من موضعها ان لم تتب”(رؤيا5:2).
فلنصل:أعطني يارب نعمة التوبة الحقيقية والندامة الكاملة على خطاياي وآثامي وأني الآن أتوب عنها توبة صادقة وأعدك من الآن أني لا أعود أرجع اليها. ثبّت يارب عزمي وقويّ مقاصدي لأعيش متحداً بك الى دهر الدهور. آمين.
____________________
محبـة القريب
“أني أعطيكم وصيّة جديدة أن يحب بعضكم بعضاً وأن يكون حبكم لبعض كما أحببتكم أنا بهذا يعرف الجميع انكم تلاميذي إذا كنتم تحبون بعضكم بعض”(يوحنا34:13)
جاء فى انجيل القديس لوقا قصة الرجل الذى وقع بين أيدي لصوص فى الطريق بين اورشليم وأريحا وكيف ان قابله كاهنا فجاز وقابله لاوي وجاز وقابله السامري فتحنن عليه وحمله على دابة وارسله الى الفندق ليعتنى بأمره ودفع عنه دينارين (لوقا30:10-37). فالقريب هو السامري ولو ان العداوة شديدة بين اليهود والسامريين. ومن هذا المثل يستنتج وصية المسيح القائلة:”أحبوا أعداءكم وأحسنوا الى من يبغضكم”. وبهذا المثل نفهم ايضاً قول السيد المسيح:”اني أعطيكم وصية جديدة”، فالمحبة وصية أزلية ولكن الجديد فى وصية المسيح هو محبة الأعداء، فهو يقول لنا:”فانكم ان أحببتم من يحبكم فاية فضل منكم فإن الخطأة يحبون من يحبهم”(لوقا32:6).
بدون المحبة لا فائدة من كل الفضائل الأخرى لأن الفضائل كلها تزول بالموت ولكن تبقى المحبة، ولهذا يقول القديس بولس الرسول:”لو كنت أنطق بألسنة الملائكة وأبشر ولم تكن فيّ المحبة فانما أنا نحاس يطن وصنج يرّن. ولو كانت لي النبوة… ولوكانت لي الإيمان كله حتى أنقل الجبال ولم تكن فيّ المحبة فلست بشيئ. ولو سلّمت أموالي للمساكين وجسدي ليحرق ولم تكن فيّ المحبة فلا أنتفع شيئاً”(1كورنثوس1:13-3). قرأت ان المسيحيين الأوائل كانت عندهم محبة غريبة بعضهم لبعض فعندما كانوا يساقون الى السجون ويفرضون عليهم الأشغال الشاقة كان الذي ينتهى من عمله قبل الآخر (وكان كل واحد يجتهد ان ينتهى الأول) يساعد أخاه. ونقرأ ايضاً ان القديس باخوميوس مؤسس الرهبنات هو نفسه ارتد الى المسيحية بسبب ما رآه من حب المسيحيين بعضهم لبعض وخاصة لأجل أعدائهم.
“بهذا يعلم الجميع انكم تلاميذي اذا كنتم تحبون بعضكم بعضاً”. لقد أعطى السيد المسيح علامة المحبة لتكون عربوناً بين الأخوة، فديانة المسيح هى ديانة السلام، ديانة التعاون. والمحبة كما يقول القديس بولس “تتأنى وتصبر وتحتمل”، وكما يقول القديس يعقوب” المحبة تستر جماً من الخطايا”.
فلنطلب من الله أن يغرس فينا محبتـه لكي نحب الآخريـن ولتظهر محبتـه فينـا فيروا أعماله فينـا فيمجدوه دائمـاً.
________________
الثبات الى النهايـة
“أني آت عن قريب فتمسك بما عندك لئلا يأخذ أحد كليلك”(رؤيا11:3)
هذه الآيـة تذكرنا بقصة الأربعين شهيداً الذين لما طرحوا فى بركة ثلجية ووقف عليهم الحارس وطلب احدهم فى هزيع الليل ان يخرج ويكفر بالله والمسيح وطلب ان يوضع فى ماء ساخن، فلما وضعوه فيه بعد نكرانه مات فوراً فخسر الدنيا والآخرة. ثم رأى الحارس فى الجو اربعون اكليلاً من ذهب تلمع كالشمس ونظر فإذا تاج ليس تحته أحد، فحلّت فى قلبه النعمة وهتف معترفاً بالمسيح ونزل فى البركة لينال هذا الإكليل. فالسيد المسيح يهددنا بذلك الذى حدث فعلاً قائلاً لنا:”تمسكوا بما عندكم”، أي بمقاصدكم الصالحة وغيرتكم الدينية لئلا يأخذ أحد اكليلكم. والسيد المسيح نفسه يقول:”من يثبت الى النهاية فذاك يخلص”.
مهما بلغت حكمة الإنسان وسموه فى القداسة إن لم يخف ويحافظ على حالته ويداوم على فضيلته فلا بد من سقوطه. لا يوجد ولن يوجد أحكم من سليمان الحكيم هذا الذى أتت ملكة التنيمن من أقاصي الأرض لتسمع صوته وحكمته، فى آخر حياته لأنه تعلق بالشهوات وجعل ان ابنة فرعون تنتصر عليه يعمل لها صنما ويعبده معها، ولذلك ينطفي ذكر هذا الرجل العظيم ويحذف من سفر القديسين لأنه لم يثبت فى برّه للنهايـة. يوليانوس الجاحد كان رجلاً مسيحيا، وفى إضطهاد الإمبراطور السابق خبأه أحد الأساقفة حتى مات الإمبراطور وحيث ان العائلة الإمبراطورية انقرضت بأسرها ولم يبق إلاّ هو فقلّدوه الـمُلك فكفر بالمسيح وأخذ يحارب المسيح حتى اصابته نبلة اخترقت قلبه فكان يأخذ من دمه ويقول غلبتني ياجليلي، فلأنه لم يثبت للنهاية فى مسيحيته يموت اشنع ميتة لأنه اراد محاربة المسيح وهدم ديانته.
الثبات من جهته نعمة مجانية من الله ومن جهة أخرى جهاد من قبل الإنسان، فعندما صرخ بولس الرسول قائلاً:” من ينقذني من جسد الموت هذا سمع الصوت القائل تكفيك نعمتي”،ومن جهة اخرى نرى بولس يقول:”اني أقمع جسدي وأستعبده” فلابد من النعمة والجهاد معاً للثبات. والسيد المسيح يقول:”من غلب فأني أؤتيه ان يجلس معي على عرشي كما غلبت انا وجلست مع ابي على عرشه”(رؤيا21:3).
فلندعوا الله أن يكون نصيبنـا جميعاً ان نغلب ونجلس على العرش بشفاعة والدة الإله الطاهرة القديسة مريم وجميع القديسين. آمين.
—————–
صلاة
أيها الرب الإلـه ان كلمتك قوية جداً فهى كسيف ذى حدين، فقد شقّت البحر وجمدّت المياه بفم موسى النبي، وأوقفت الشمس بفم ابن نون، وفتحت السموات وحبست الأمطار ثلاث سنين وستة اشهر بفم ايليا، وأقامت الموتى وفتحت العميان وطهرّت البرّص وسكنت الرياح بفمك الطاهر.
ان كلمتك قدست العالم وبددت الغيوم واقمعت الشهوات.
ان حكمتك أولدت الوفاء من أولاد الإيمان، فلِم أضحت عقيمة فى عصرنا الحاضر؟ ولـِم ضعفت قوتها؟. هل تغيرت عما كانت عليه؟ حاشى وكلا، فانه لايوجد سبب لإبطال تأثيرها فى النفوس إلاّ عدم إستماع المسيحيين لها كما يجب. فمنهم من يشمئز من إستماعها، ومنهم من يقاومها علماً بأننا فى أشد الإحتياج لسماع صوتك الحنون وإلى معرفـة الطريق ولا يتم لنا ذلك إلاّ إذا تبعناك أنت وحدك.
فإذا سمعنا صوتك وتبعناك يايسوع لا نضل لأنك قلت “أنا هو نور العالم من يتبعني لا يمشي فى الظلام”.
إذا سمعنا صوتك وتبعناك يايسوع فاننا نصل الى الخلود لأنك قلت “أنا هو الطريق والحق والحياة لايقدر أحد أن يأتي إلى الآب إلاّ بي”.
إذا سمعنا صوتك وتبعناك يايسوع فانك ترعانا لأنك قلت”أنا هو الراعي
الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخِراف”.
إذا سمعنا صوتك وتبعناك يايسوع فاننا نثبت على الإيمان لأنك قلت”أنا الكرمة وأنتم الأغصان”.
إذا سمعنا صوتك وتبعناك يايسوع فاننا نطمئن قائلين”إذا سرتُ فى وادي ظل الموت لا أخاف شراً لأنك معي”.
كلمتك يارب هي سِراج لأنه مكتوب”سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي”
كلمتك يارب تحفظنا من الخطيّة لأنه مكتوب”خبأت كلامك فى قلبي لكي لا أخطئ اليك”.
كلمتك يارب لذيذة لأنه مكتوب”كلامك أحلى من العسل وقطر الشهاد وشريعتك هى لذّتي”؟
كلمتك يارب تعطى الحياة لأنه مكتوب”كلام الله روح وحياة”.
كلمتك يارب سلاح لأنه مكتوب”كلمة الله فعّّالة وأمضى من كل سيف ذى حدّين”.
كلمتك يارب تخلّص النفوس فإجعلنا يارب أن نقبل بوداعة الكلمة المغروسة القادرة ان تخلص نفوسنا، واجعل قلوبنا كالأرض الجيّدة التى أنبتت الزرع الإلهي وأعطت أثماراً كثيرة لنستحق الطوبـى الـمعطاة للذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها. آمين
——————-
الرسالة الأولى
ان الزمان،ماضيه وحاضره ومستقبله، لا يشعر بالبقاء ولا بد له من الفناء، فالماضي غار فى بحر العدم، ولا وجود له، والمستقبل مجهول غير معروف،
والحاضر وقتي ان دام ساعة يتغير بعدها.
مالك، أيها القلب تجّد فى أثر السعادة فى هاتـه الحيـاة؟ وأنت تعلم ان ليس فيها سعادة او سلام، انها لأوهام وأباطيل تدعوك الى محبة العالـم، فتجعل الحياة شقاء لا يفارقك فيها التعب والألـم، ولا يزول عنك الهم والقلق. ابحث وفتش هل تجد شيئاً يستحق ان تتعلق بأهدابـه، وتتمسك بأسبابـه؟
وهل ياترى ما هو اجدر بحبك الخالص غير يسوع! فلا تضع قلبك على شيئ فى هذا العالم، لا على الأموال والطمع فيها فقد يفسدها الصدأ وينخرها السوس ويسرقها اللصوص، فضلاً عن انه ليس فى إستطاعة مادة حقيرة إشباع نفس خالدة مخلوقة على صورة الله، ولا على الأولاد فربما اخترتهم الـمنيّة، واستأثر بهم الموت تاركين لك الحسرة والشقاء. ولا على كرامة انت فيها فانها لا تدوم، وليس ذلك إلاّ لأن الزمان متقلب، ولا على الأصدقاء فقد يغير الزمان قلوبهم وليس فى إستطاعتهم خلاصك.
حقاً ان آمال الحياة باطلة وكلها أكدار. فإلتفت الى يسوع وحده، وليكن تعلقك به دون غيره فهو وحده يشبع نفسك ويسد كل احتياجاتك بحسب غناه فى المجد، وهو لا يدعك تخور عند الضيق ولا يهملك وقت الحزن ولا ينساك فى الشدة ولا يتركك حين الهرِم، بل يكون لك فى كل زمان ومكان حصنا حصينا وحرزا منيعا، لأنه هو هو أمس واليوم والى الأبد. لا تتكل على انسان مهما كانت قوته ومهما كانت صداقته ومحبته لأن كل بشر ضعيف وكل إنسان سواء أكان محبوبا عندك ام عدواً لك، فإن الإنسان متغير كالريح ومتقلب كالزمان. اجعل كل ثقتك فى يسوع وليكن اعتمادك عليه وحده فليس لأحد فى الدنيا راحة، وما أنت إلاّغريب فى هذه الديار، ان شئت ان تكون سعيداً وكاملاً فلا تكن أنانياً محباً لذاتك-احتقر كل ما العالم- واعدّ كل ما فيه مرذول به وتذوق تعزيات يسوع الحلوة. لا تستطيع ان تحدق بعين الى فوق وبالأخرى الى أسفل ولا يمكنك أن تذوق محبة الله وأنت متمسك بعد بمحبة العالم، ولا تقدر أن تتمتع بالروحيات وأنت منعطف الى الجسديات.
اعلم ان الرب يريد قلباً نقياً كاملاً خاليـاً من حب العالـم.
—————-
الرسالة الثانية
أقول هذا ايها الأخوة ان الزمان قصير فبقى ان يكون الذين لهم بناء كأنهم لا بناء لهم. والباكون كأنهم لا يبكون والفرحون كأنهم لا يفرحون والمشترون كأنهم لا يملكون والمستعملون هذا العالم كأنهم لا يستعملونه لأن هيئة هذا العالم فى زوال.
لا تدع قلبك يميل الى الدنيا ويفتتن بحبها ويتعلق بأباطيلها بل تخلص من كل هوى وكن حراً ليكن كل شيئ عندك فى العالم كأنه لا شيئ. من جعل الرب نصيبه وذاق حلاوة الإيمان به وشعر بسلوانه واشرّب قلبه من حبه لا يستطيب بعد ذلك محبة العالم ولا يتعلق بما فيه. امعن فى البحث فإنك لا تجد إنسانا شغف بالعالم ونال السعادة. هب انك امتلكت كل شيئ ووضعت قلبك على كل شيئ اليس منزلك القبر كغيرك ومثواك الرمس،ألست تنزل اليه معريّ من كل شيئ، تستوى فى ذلك مع اكثر الناس فقراً واشدهم بؤسا!
جرّد ذاتك من كل تعلق دنيوي تستمتع بالراحة وتشعر بسلوان لذيذ ما اتعس الساعة التى فيها يتعلق قلبك بالعالم وما اشد نكدها وكدرها تشعر بثقل وتعب وتحس بهم وقلق كثير. ما اسعد الوقت الذى تفكر فى الله.
—————-
الرسالة الثالثة
إن السلام الحقيقي التام ليس إلاّ هدوء الضمير وطمأنينة القلب والحصول على السعادة والدوام عليها بين تيارات العالم وتقلباته. اثبت فى ان تظفر بهذا السلام. اترك ما إذا فقدته حزنت عليه وتوجعت لفقده، ولا تعلق قلبك بما يتألم لا خوفا من ضياعه، وضع كل ثقتك فى الله وحده. لا تتداخل فيما لا يعنيك ولا تهتم بما لا يخصك ولا تلهُ بأمور باطلة وابتعد عن الخصام والمنازعات والحسد وعن كل ما من شأنه ان يفقدك السلام. استأصل العادات الرديئة منك وليكن ضميرك طاهرا ونيتك سليمة ورغبتك مقدسة ولا تسيئ الظن بأحد وخالف هواك والجم آلامك وقاوم حواسك واضبط ميولك لتجد راحة وسلاما. فإن السلام فى مقاومة الأهواء وعدم الإستسلام لها لا فى طاعتها والإنقياد لها.
التفت الى الله وسلمه قلبك واخضع له ارادتك واحبه فتظفر بالسلام والسعادة. كن وديعا انيسا محبا للصلح فتكون ابنا للسلام. طهّر ذاتك واحتقر كل ما فى العالم ولا تعلق قلبك بشيئ مما فيه فتشعر بسلام الله. من يجد السلام فهو خير ممن يملك العالم بأسره. كن صبورا قوي النفس ذا ضمير سليم فيكون السلام فى قلبك فإن الصبور يرتاح ويطمئن الى الله حتى اذا ألـمّت به الشدائد واحاطت به الكوارث والآلام. لا تظن ان العدو بعيد عنك بل هو يلازمك فاضبط نفسك وادخل الى ذاتك واقتل كل ميولك المنحرفة عند ذلك تشعر بحلاوة ما هو مُرّ لديك الآن. كن هادئا ساكتا فتكون فى طمأنينة وراحة واعلم ان روح الله القدوس لا يسكن إلاّ القلب الوديع السليم الهادئ.
———————-
الرسالة الرابعة
انت لست لنفسك وانما انت لله الذى ابدعك وصورك كما انت. كل ما عندك وفيك ولديك انما
هو من الله. فمن العدل ان تحيا لمجده. ان من خلقك يريدك. والذى صنعك يطلب قلبك فكرّس له ذاتك وسلّم له قلبك”انكم لستم لأنفسكم لأنكم اشتريتم بثمن فمجدوا الله فى اجسادكم وفى ارواحكم التى هى لله”.
كرس قلبك ليسوع خصوصا فى ابان شبيبتك فتفرح وتسر طول ايام حياتك وتكون فى شيخوختك سعيدا لأنك تكون قد ادخرت لنفسك فرح الروح وسكينة القلب وهدوء الضمير وقهرت شهواتك وميولك وما تدخره من شيئ فى سني حياتك الأولى يكن لك زخراً مدى حياتك.
ان الرب لأجلك صُلب ولأجلك احتقر ولأجلك سلّم نفسه فسفك دمه وقد اشركك فى مجده واوجدك فى ذاته فماذا ترد للرب من اجل كل حسناته. انه لا يريد منك مكافأة اذ هو غني كثير الإحسان ولا يطلب منك شيئا سوى قلبك مهما اعطيته عدا ذاتك لا يقبله ولا يرضى به. هو غنى عن عطاياك ولكنه يريدك انت ذاتك فسلّمه قلبك وحده فأنت خليقته فإذا أعطيته ذاتك فلست بالـمتفضل أو المنعم عليه بشيئ فكل شيئ له وإن سلمته قلبك فقد أسلمت كل شيئ عندك. رغبائك وميولك وعقلك وفكرك وإرادتك وحواسك وكل شيئ تشعر به او تحسه فى ذاتك وان اعطيته قلبك لا يغتصبه منك بل يأخذه ويطهره وحينئذ تعود مرتقيا اليه متصلا به. وكل افكارك عنه فإذا انت مغتبط وسعيد شأن كل متحد به ومرتبط به فإذا كان قد وهبك ذاته فهل يصعب عليك ان تسلمه ذاتك وقلبك. لا تبق لنفسك شيئا بل ليكن كل شيئ لله وحده. سلّم ذاتك تنل ربحا أوفر وجزاءً أعظم هو ملكوت السموات. أعط نفسك لله فتملك الله نفسه.
————————-
الرسالة الخامسة
لك يقول الرب:
بنـيّ..أنـا الرب حِصـنك فـى يوم الضـيق
تعـال إلـيّ متى ساءت حالـك..إنك تحرم نفسك تعزيـة السـماء كلّـما تباطأت فـى الإلتجـاء إلـى الصلاة. أنـا أنقذ الـمتوكليـن عليّ. لا معـونـة مُجديـة خارجـاً عنـي…إنـي قريـب
هـل الأمـر عسيـر؟…هـل أقـول ولا أفعـل؟
أيـن إيـمانك؟…اثبت فـى جهادك ولا تجـزع وكن طويـل النفس، قويّ العزيـمة يأتِك العزاء فـى حيـنـه.
إنتظـرنـي ولا تيأس..آتِ وأشفـك..
فما يؤلمك مـا هـو إلاّ تجربـة ومـا يهولك ما هو إلاّ خوف بلا سبب.
من طبع الإنسان أن تعبث بـه الأوهـام ومن دلائـل ضعفـه أن ينقاد لهواجس العدو بـمثل هذه السهولـة، فلا يضطربـن إذن قلبك ولا يجزع.
آمـن بـي وثـق برحـمتي لأنـي أقرب ما يكون منك فـى الساعـة التى تظن انك بعيد عنـي. وأحسن فرصـة تغنـم فيهـا إستحقاقاتك هـى الساعـة التى تظن فيهـا ان آمالك تكاد تضيـع.
ليس معنى ان مـا جرى لك غيـر ما تبغـى هو ضياع الأمـل، ولا
كلـما ألـمّت بك محنـة أن تقف عندهـا وكأنـما فقدت كل أمل بالفرج وانك مخذول فقد حرمتك التجربـة مـما تتـمناه من سلوى، فـما يُنـال ملكوت السموات يا أحبائـي إلاّ بهذا السبيـل. انـه ولا شك خيـر لك ولسائـر أبنـائـي أن تجرّبكم الشدائـد من أن يجرى كل أمـر وفق رغائبكم. أنـي أعلـم ما لا تعلـم أنت وأقول لك انـه أفيـد لخلاصك أن أدعك أحيـانـاً بلا شهيـّة لئلا تشمخ وتـتكبـر إذا توالت عليك البـركات وتعود فتعجب بنفسك من غيـر سبب. فـمن وسعـى أن أنزع ما وهبت وأن أعيـده ساعـة تروق لـي إعادتـه.
متـى وهبـتكَ، وهبتـكَ من عندي ومتى نزعتُ لـم أسلبكَ ما هـو لك لأن كل عطيـّة صالـحة وكل موهبـة كامـلة هـى لــي.
وإن ألقيتُ عليكَ ثقلاً ..وإن أنزلت بك شدة فلا تسخط ولا يـهـُنْ عزمُك فانـى أستطيع أن أخـفف عنك.
لـو نظرتَ الـى الحـق لرأيتَ يا إبنـي ان من واجبـك وقت الشدة ليس فقط أن تستسلـم وأن تـرضى فحسب، بل أن تبتهج وتؤدى لـي الشكر وتحسب عذابـي لك أحيانـاً هو فرحك الأوحـد.
إنـي قلت لتلاميذي كـما أحبنـي الآب كذلك أحبكم..
ومـا أرسلتهم يفرحون فى هذا الدهـر،بل يجاهدون.
لـم أرسلـهم يسعون وراء الجـاه، بل الإهـانـة.
لـم أرسلهـم يرتاحـون، بل يكدّون
ويـومـاً ليس بـبعيد سوف يجنون بالصـبر وافـر الثـمر.
أنــا أحبـك وأنتظـر منك حبــك..
فهـذا حديـثي إليـك يا بنـيّ فلا تنسـاه
أنــا الرب حصنـك يوم الضــيق.
+++++++++++++++++++
الرسالة السادسة
إلى الذين يريدون أن يملكوا سريعاً …….
اليهم نوجه هذه الملاحظات العمومية لحسن السيرة المسيحية والدخول فى حياة السماء:
– كل شيئ ينتهى على الأرض كما الملذات كذلك الألام اما الأبدية فلا نهاية لها.
– ماذا تنفع فى ساعة الموت جميع الرتب السنيّة التى نحوزها ونرتقي اليها فى هذه الدنيا.
– كل ما يأتينا من الله السراء والضراء هو نافع مفيد لخلاصنا.
– يجب علينا ان نتجرد من كل شيئ لنكسب كل شيئ وهو الله.
– لا سلام على الأرض خارجاً عن الله.
– لا شيئ ضروري للإنسان غير حب الله وخلاص النفس.
– لا خوف علينا من شيئ إلاّ من الخطيئة فقط.
– من خسر الله فقد خسر كل شيئ.
– من لا يشتهي شيئاً مما فى العالم فهو ملك العالم.
– من يصلي يخلص ومن يهمل الصلاة يهلك.
– نتقبل الموت إذ لا بد منه ولكن بشرط اننا نرضي الله ونعمل إرادته المقدسة.
– كل صعوبة وعذاب فى سبيل إكتساب الله هو قليل لا يُعد.
– كل عذاب هو خفيف لمن استحق عذاب جهنم.
– كفانا إلقاء النظر الى يسوع المصلوب لإحتمال كل الشدائد والأتعاب بشجاعة وصبر.
– كل ما لا نصنعه لأجل الله وحباً به فهو سبب عذاب لنا.
– من لا يريد إلا الله وحده هو غني عن كل شيئ سواه.
– طوبى لمن يمكنه القول من صميم الفؤاد يا يسوع انى اطلبك وحدك ولا أطلب شيئاً غيرك.
– من يحب الله يلتذ بكل شيئ ومن لا يحبه لا يلتذ بشيئ اصلاً.
فليحي يسوع حبنا ولتحيى مريم رجاءنا.
————–
الرسالة السابعة
ليكن الله رائدك واليه توجه كل ثقتك ورغبتك واقصى امانيك، ممّ تخشى إن جعلت إعتمادك كله على الله. لا تخف شيئاً، فبه يسعد حالُك وينعم بالُك وبدونه تصير دائما فى شقاء وتتقطع نفسك حسرات وتتقلب على جمرات الألم، ليكن هو سلوانك وبغيتك فلا شيئ على الأرض يقضى مضجعك اجعله رجاءَك وتعزيتك فتجد كل شيئ سهلاً امامك. لا تنفعك امور الدنيا ولا يمنحك السلوان شيئ على الأرض إن لم يكن الله معك تلتمس منه وحده.
أي امر يفيدك فى هذه الدنيا ان لم يكن يسوع معك، لا أحد يستطيع ان يسعدك، ولا يقدر قوى ان ينقذك، ولا يمكن مكان ان يسترك ويصونك. فإن كان معك صار ساعدك وناصرك وحافظك ومرشدك وقوتك وعزاؤك ومنتهى آمالك وغاية سلوانك. كل ما يتراءى لك نفعه فى هذه الحياة وانه السبيل لنيل السلام والسعادة بدون الله، هو فى الحقيقة غش وخداع، وفى الواقع تعب وإدعاء، فوضع الثقة كلها فى الله وتوجيه الرغبة اليه وحده هو غاية الحياة وأقصى ما تصبو اليه النفوس.
انظر وتطلع ايها الحبيب ها هى ذى امامك خلائق لا تحصى وكائنات لا تقع
تحت حصر ولكنها كلها عدم ومن العدم جاءت والى العدم تعود، فهل تطلب
سلامتك وراحتك من عدم لا ثبات له ولا دوام لوجوده؟
ان الذى لا يتغير هو الله وحده فهو باق الى الأبد تزول الكائنات وتغنى كل الخلائق ويدوم الله وحده كل شيئ يتغيّر ويحوله الزمان والله وحده هو هو امس واليوم والى الأبد، لا يتغير ولا ينتهى وسنوه لن تفنى ابد الأبدية ودهر الدهور.
—————-
الأخــوة
إذا حـييـتـم بحسب الجسد تـموتـون…
وإذا أمـتم بالروح أعـمال الجسد فسـتحـيون…
كـما أن الإنسان جسدُُ وروح، كذلـك الأُخـوّة.
أُخـوّة بحسب الجسد وأخـوّة بحسب الروح.
الأُخـوّة ليست صـلة الدم والرحـم فحسب.
الأُخـوّة مـوقف..
ليست الأُخـوّة الحقيقيـة هـى الجسديـة بل الروحـية، ولهذا يصيـر أبناء الله أخوة فـى الروح لأب واحـد. يقفـون موقفـاً ثابتـاً تجـاه بعضهـم البعض، وتجـاه أبيهـم.
هـذا الـموقف الثابت والـمُعـلن هو موقف الحب، كذلك يربطهـم ويوحدهـم الـمصيـر الـمشترك.
ورابطـة الجسد فقط بعيدة تـمام البعـد عن هذا الـمفهـوم، إذ أن صلـة الرحم متى جفّت من الحب يـبُست، فالأخـوة لا تعنـى بطريقـة محدودة أن نولـد من نفس البطن بل ان يربطنا روح واحد هو من فوق فتنظر الى سائر البشر نظرتك الى نفسك ما امكنك ذلك، وان تعطى دونـما انتظار أن يبادلك ولو شخص واحد العطاء من اي نوع سواء ماديّ أو
أدبـيّ أو حتى معنـويّ.
ليس فى الأخوة إختيـار ولهذا لا تخلو الأخوة من الألـم. والخلاصـة أن ما قيل فى وصف الـمحبـة لا ينفصل ولا ينتقص فى شيئ عـمّا يجب أن يقال عن الأخـوة.
“لـم تتلقوا روح العبوديـة لتعودوا الى الخوف، بل روح تبـّن بـه ننادى أبـّا يا أبت. وهذا الروح نفسه يشهد مع أرواحنـا بأننـا أبناء الله…فإذا كنـا أبناء الله فنحن ورثـه الله وشركاء فى الـميراث، لأننـا إذا شاركنـاه فـى آلامه نشاركـه فـى مجده أيضاً” )رومية 1:8-11(.
————————-

رسالـة خاصـة
“أمـا تعلـمون؟. أولـم تَسـمعـوا؟.أمـا بلغـكم من البـدء؟.
أما فهمتم أسس الأرض؟
إنـه جالس على كـرة الأرض وسـكانـهـا كالـجراد.
يـَبسِط السـموات كالنسيج ويـمـدّهـا كـخيـمة للسُكـنى.
يجعـل الزعـماء كلا شيئ، ويصـيّـر قضـاة الأرض كـخواءِ.
يكادون لا يُغرَسون ولا يُزَرعـون ولا يتأصـل فى الأرض جذرهـم حتى يهُبّ عليهم فيـيـبـسوا وترفعـهم الزوبـعـة كالقش.
فـبمن تشبهـونـنى فأساويـه يقول القدوس”(اشعيا21:40-35)
إرفعوا عيونكم الى العلاء وانظروا مـَن الذى خلق هـذه؟
الذى يُخرج قواتهـا بعدد ويدعوهـا جميعهـا بأسـمائهـا لعظـمة قدرتـه وشدة قوتـه فلا ينقص أحـدُُ منهـا. فـلِم تقول يا يعقوب وتتكلم يا إسرائيـل: “طريقي تخفـى على الرب وحقّي يفوت إلهـي؟
أمـا علـمت أو سمعتَ أنّ الربَّ إلـه سرمـدي خالق أقاصي الأرض لا يتعب ولا يُعيي ولا يُسـبر فهـمه. يؤتـى التعب قوة ولفاقد القدرة يُكثـر الحوْل. الفتيان يتعبون ويُعيون والشبان يعثرون عِثاراً، أمـا الراجون الرب فيتجددون قوةً يرتفعون بأجنحة كالنسور.. يعْدونَ ولا يُعيـونَ يسيرون ولا يتعبـون (اشعيا 21:40-31).
الحجر ثقيل، من يرفعـه أو حتى يُزحزحـه؟
من يستطيع؟..أرنـي قوتك، أنت تحاول وهذا وذاك والحجر لـم يتحرك أو حتى يهتز لأنـه يفوق طاقـة الفرد ولكنـه لا يفوقكم مـُجتـمعيـن.
تجيئـون الى الحجر أفراداً، فيتعثـر الفرد ويتعب ويئـن ثـم يتركـه ويـمضي، والحجر الثقيل هذا لن يسُهل حـمله إلاّ بيد الجـماعـة فيصيـر كالقش.
لـماذا انصرفتـم عن هذه البديهـية؟
أمـا تعلـمون؟…أو لـم تسمعوا؟…أمـا بلغكم من البدء انكم واحـد؟
أكرر على مسامع قلوبكم وأذهانكم هذا النـداء:
أتـموا فرحـي بأن تكونوا على رأي واحد وقلب واحد وفكر واحد ومحبـة واحدة.
بهذه الوحدة فقط يستطيع الأخوة تحقيق غايتهـم وتحريك الحجر الذى يحول دون فرح إنتصار القيامـة والذى يُعطى الـُمعيي قدرةً يُجدد قوتكم ووحدتـكم+
————————-
لقــــاء
– يـارب..يـا سيد مـاذا ينقصني؟…مـاذا يعوزنـي؟
مـا هـى الخطوة التاليـة التى عليّ أن أخطـوهـا؟
وإلـى أي مقصدِِ أو غايـة تريدنـي أن أذهب؟
+ تسألنـي..فأجيبك:
ينقصك أن تتـحد بـي، أكثـر من أن يكون هـمّك مجرد جمع معلومـات عنـيّ، أو إبداء الإعجاب بقدرتـي كى لا يتحول بالتدريج ميراثكم الحـيّ إلى مجرد تراث جامـد. فالوحدة الكاملـة لا تعرف الإنفصام ولا الإنقسام ولا التحايـل ولا التسـوييـف ولا التجـميل.
يعوزك أن تأكل جسدي وتشرب دمـي، بدلاً من الإكتفاء بالـمشاهدة تارة عن قرب وأخرى عن بعد.
وخطوتـك التاليـة التى عليك أن تخطوهـا هـى أن تحـملني فى قلبك وفى فكرك كل يوم وأيـنما كنت، بدلاً من الإفتخـار بأنك تحـمل إسمي أو تنتـسب إلـيّ.
وإذ لا أهـتم بقليل أو بكثيـر أن تـمتدحني، فليكن مقصدك وغايتك هـى أن يـمتدحني الآخرون، لا بل ويعرفوننـي من خلالك.
– ولكننـى يا سيدي أخاف. نعـم أصارحك بأننـى أصبحت أخاف جداً. لا أخاف منك، ولا من النـعـمة الـمجّانيـة التى وهبتهـا لنـا، فأنـا أشكرك عليهـا وعلى دعوتك وإجابتك ورغبتك أن نتـحد ونصيـر أنت وأنـا واحـد، ولكننـي أخاف من نفسي. أخاف من سقطاتـي الـمتكررة. أخاف بعد أن أتحد بك أن أهينـك ثانيـة. وبعد أن تبذر فـيّ بذور الحب، أدوسهـا بقدمـي، وأقع مرة أخرى تحت وطـأة الـمرض، وعبوديـة الجسد وسلطان الـمال ودوامـة الإكتئـاب وإنقسام النفس. سبب الخوف إننـي يا سيدي سرعان ما أرتد إلـى الوراء بأسرع من البرق!
+ الآن أنـا أسأل وعلى جوابك يتوقف كـمال وحدتنـا: كـما سبق وإخترتكم،هل تختارنـي إختياراً تفضيليـاً؟. بـمعنـى هل تفضلنـي بحب وتختارنـي فوق كل مـا لذ ّ من الأشياء، وفوق كل من تحب من الأشخاص؟
ان أجبتنـي (بنعـم) إذن لا تخف لأنـى أنـا هو الذى يكلـمك..رؤوف..رحيـم..طويل الآنـاة..كثيـر الرحـمة.
لا على الدوام أخاصـم ولا للأبـد أحقـد
لا على حسب خطاياكم عاملتـكم ولا على حسب آثامكم كافأتكم
بـل كبُعد الـمشرق عن الـمغرب أبعدتُ عنكم معاصيكم
لأنـه كـما يرأف الأب ببنـيه أرأف بكم. فأنـا عالـم بجبلتكـم وذاكر انكم تراب.
فلا تخف لأنـه لا خوف فـى الـمحبـة بل الـمحبـة تنفـى عنهـا الخوف، لأن الخوف يعنـي العقاب ومن يخفْ لـم يكن كاملاً فـى الـمحبـة.
فلا تخف وإلتصـق بـي كـما أنت فإننـي أحببـتك قبل أن تحبنـي.
“تكفيـك نعـمتي”.
– شكراً لك ياربي.
———————
يارب سراج لرجليّ كلامك ونورً لسبيلي
باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناتـه
الذى يغفـر كل آثامك الذى يشفى جميع أمراضك ويفدي من الحفرة حياتك وبالرحـمة يكللك.
باركـي يا نفسي الرب، لا أخاف شراً لأنك أنت معـي.
أشكرك..أشكرك..أشكرك يـا قدوس..يا حنون..يا رؤوف.
ابق معنـا دائـماً فى قلوبنـا، فى بيوتنـا..فى عائلاتنـا، فى عيالنـا، فى كل أوقاتنـا.
أنت مليكنـا..أنت البدايـة والنهايـة..الألف واليـاء.
وكلامك لا يزول معنـا فى ضعفنـا وقوتنـا. معنـا فى شقائنـا ووقت نصرتنـا.
أنت معنـى وجودنـا وسر حياتنـا ورباطنـا. آميـن.
____________________
أذكـر من أيـن سقطت ..وتـُب
إعـتدتـم أن تسـمعـوا العِظات..
إعـتدتـم أن تقرأوا ما هو مكتوب..
إعـتدتـم أن تستقبلوا كل ما هو جديـد..
إعـتدتـم أن تشـّرعـوا..
إعـتدتـم أن تـخـطـطـوا..
نـويـتم وعـزمـتم ودمعت أعيـنكم…كل هـذا حسـنُ.
ولكن كل هذه التعبيـرات لا تُطفـئ ظـمـأ الروح فيكم
فالقداسة ليست إلاّ عـمل ولـن تعـملوا إلاّ إذا تحررتـم.
طريقكم غيـر مـمهدة وليست مفروشة بالورد، وزادكم فى هذه الطريق هو أن تعـملوا بـما سمعتـموه وقرأتـموه وإستقبلتـموه وشرعـتم وخططتـم لـه وعزمـتم عليـه.
أصدروا أوامركم للقافلـة أن تتحرك وأن تبدأ الـمسير.
العهد بينكم وبين السـماء ليس فقط بالتأمـل والسمع والقراءة والنيـّة.
التأمـل هو الـمنهج الذى تنتهجونـه ليُعينكم على العـمل.
فليس كل ما يقول يارب..يارب…..
وطالـما حدّثتكم عن العـمل أحدّثكم مرة أخرى عن العراقيـل، وأقول لكم يا أحبائـي وأحبـاء السـماء، النعـمة ليست مـُحتجبـة عنكم، وليست ببعيدة ولكن الحاجز بينكم وبينهـا هو من صنعكم أنتـم، ولهذا بدأت حديثـي معكم بهذه العبـارة “أذكر من أيـن سقطت وتُب”.
ليوجـه كل واحد منكم هذا السؤال الى نفسه، تـُرى ما الحاجـز الذى يقف بيني وبين النعـمة وهو من صنع يدي؟
ولـمجرد ما تحطمون حواجزكم وتخلون ذواتكم وتفرغون آنيتكم من كل ما هـو أرضي يا أبناء السـماء تصبحون أحراراً، تلاصقون النعـمة..تمتلئون بالروح..تعملون عمل النعـمة بكل يسر فتصيرون أدوات طيـّعة نافعـة وعاملة فى يد الحـب.
لا تضطرب قلوبكم ولا تجزع.. فقط آمـنوا
فـمن يؤمن يستطيع أن يعـمل الأعـمال التى يعملهـا الإبـن بل يعـمل أعظم منهـا.
فالإيـمان إن لـم يقترن بالأعـمال ميت.
والخلاصة هـى أن تشهد أعمالكم على إيـمانكم
فلـِمَ الوقوف هكذا مكتوفـي الأيدي؟
أو الجلوس فـى أماكنكم؟
هوذا الآن وقت مقبول…هوذا اليوم يوم الخلاص.
حـوّلوا نياتكم الطيبـة الى أعـمال..
ترجـموا خططكم ومشاريعكم الى واقع حب تعيشون فيـه ولـه دونـما تسويف.
ليجاهد كل تلميذ فيكم جهاد معـلّمـه..
ليعـمل كل مختـار منكم عـمل من إختاره ومـسحه..
أثـمروا ثمراً يليق بقداستكم وتوبتكم وسرّكم، ولا تشطروا حياتكم شطريـن.
حاربـوا هذا الإنفصام فيكم، فـما تقولونـه فى صلواتكم لا بد أن تعيشوه فى أيامكم ليصبح كل واحد منكم واحـداً.
لا تنظروا الى كلماتـي نظرة عابرة أو تكتفوا بـمجرد الإنبهـار بهـا إنبهار الفراشات بالنور، بل إفحصوهـا وإحفظوهـا وعيشوهـا
فأنـتم من فوق مدعـوون لا للتأمل فقط بـل للعـمل
——————

“لا تقتـل”
” قد سمعتم أنه قيل للأولين لا تقتُل فإنّ من قَتل يستوجب الدينونة. أما أنا فأقول لكم إنّ كلّ من غضِب على أخيه يستوجب الدينونة. ومن قال لأخيه رَاقا يستوجب حكم الـمحفل. ومن قال يا أحمق يستوجب نار جهنم”(متى21:5-22)
تتألف هذه الوصـيّة من كلمتان “لا تقتل”، انها لصغيرة فى حجمها وقليلة بعدد حروفها ولكن واسعة فى معانيها، ويمكننا ان نلاحظ بشأنها عدة أمور:
1. قيمة الحيـاة
الحياة فرصة الإنسان الوحيدة، ولا يوجد فى العالم شيئ أثـمن بقدر كالحياة، والإنسان مستعد أن يفديها بكل ما يملك مثل الشهرة والمال والصحة وغير ذلك ممن يمكن للإنسان ان يعطيـه فداء عن نفسه، لأن الحياة إن ذهبت فلن تعود، وان سلبت الحياة فقد ضاع معها كل شيئ ولذلك كان عقاب سلب الحياة أكبـر عقاب “فالقاتل يُقتل”.
ونحن المسيحيون نعرف تماما ان الحياة فرصـة ثمينة يعطيها لنا الله لنتـمم خلاصنا على الأرض لنصل الى سعادة السماء الأبديـة،ولذلك كانت قيمة الحياة عظيمة جداً.
2. القـتل
لقد كان القتل يوم القيت هذه الوصية فى دائرة محدودة وبطريقة واحدة ولغايات معينـة، أما اليوم فقد اتسعت دائرة القتل وانحطت غاياتـه وكثرت وسائله. ماذا نقول فى قتلى الإهمال فى عصر السرعة هذا؟. وماذا نقول فى سائقي العربات والسيارات والقطارات وغيرها والذين يدوسون بكل إهمال فيسحقون ويسلبون الحيـاة؟
ماذا نقول فى الحروب؟، عجيبة هى هذه الحكومات التى تقوم وتقعد لأن رجلاً تربص لأخر وقتله فيتم القبض عليه وتحيطه بحرّاس وتحاكمه وتخرجه من عداد الأحرار، بينما هى تشتغل ليلاً ونهاراً علنا وبدون إستحياء بل بكل فخر فى تجهيز معدات قتل الملايين وتعطى الزعماء الذين قتلوا الرتب والنياشين كأنهم أتوا أعظم أعمال البطولـة. كم من الذين ماتوا بسبب الحروب وكم من الذين تشوهوا؟؟؟
آه ما أحوج العالـم أن يسمع مرة أخرى “لا تقتـل”.
3. هل تحرّم الوصيـة الخامسـة (تثنية الإشتراع17:5) كل قتل؟
ماذا نقول فى القتل الناشئ عن الدفاع عن النفس؟
ماذا نقول فى القتل لإنقاذ الغيـر؟
ما الرأي فى القتل تنفيذا للأحكام؟
ماذا نرى فى قتل الإنتحار إذا كان فى سبيل الـمحافظة على الشرف، أو إذا كان لخدمـة أمـة؟
4. يسوع والوصيـة الخامسـة
حوّل اليهود شريعة الله الى تمثال جامد بلا حياة وتمسكوا بالحرفيـة وأغفلوا الروح، أما يسوع فنظر الى الناموس بصفتـه مبادئ حيـّة نابعـة من قلب الله الحيّ.ولذلك كان للناموسي الـتمسك الشديد بالقواعد القديمة ولكن السيد المسيح تحدث اليهم ونظر الى عدة أمور أخرى أهمها – جرثومـة القتل وعلاج خطية القتل.
كان اليهود يحاسبون على عمل القتل، اما السيد المسيح فعاد الى سببه أي الغضب فقال: “ان كل من يغضب على أخيه باطلاً فهو قاتل”، لأن الغضب هو الخطوة الأولـى أو على الأقل من الخطوات الأولـى للقـتل، بل انه تسبق خطوة الغضب خطوة اخرى هى خطوة إحتقار الشخصية، “فمن قال لأخيه راقا” أي يا غبي ومن قال “يا أحمق” فهو قاتل حقاً. المسيح يعلمنا هنا ان للآخرين شخصية لا يجوز إحتقارها وإحترام الشخصية أساس عدم الغضب وأيضاً أساس عدم القتل.
ولقد عالج السيد المسيح خطية القتل أكمل علاج فقال أولاً على وجوب تقديم العلاج لذلك على نفس العبادة فأمر أن يتوجه الـمرء أولاً للصلح مع أخيه ولو كان قربانه على الـمذبح” فإذا قدّمت قُربانك إلى الـمذبح وذكرت هناك أنّ لأخيك عليك شيئاً فدَع قربانك هناك أمام الـمذبح وامض أولاً فصالح أخاك وحينئذ ائت وقدِّم قربانك”(متى23:5-24)،ان الصلح مع الأخ أول العبادة.
وطلب ايضاً العمل على مراضاة الخِصم قبل الوصول للـمحاكمة”بادر الى موافقة خصمك ما دمت معه فى الطريق لئلا يُسلمك الخصم الى القاضي ويُسلمك القاضي الى الشرطي فتُلقى فى السجن. الحق أقول لك انك لا تخرج من هناك حتى تُفي آخر فلس”(متى25:5-26).
ان الله يعلمنـا أن نتائج ترك الخصومـة تثمـر وتنتشر فروعهـا. فأحرص يا أخي أن تحب أخاك من كل القلب وبهذا تكون “ثابتاً فى النور وليس فيك عثار”(1يوحنا10:2).
—————
“فى سورة غضب حجبت وجهي عنك لحظة وبرأفـة أبدية أرحمك قال فاديك الرب”(اشعيا8:54)
أسباب الغضب:
أ. الخطـايـا:
1. البُغضـة-“من قال انى أحب الله وهو يبغض أخاه فهو كاذب”(1يوحنا20:4)
2. النجاسـة – “انتم هياكل الروح القدس وروح الله ساكن فيكم” ، والذى يفسد هيكل الله يفسده الله.
3. عبادة الأصنام-“انا الرب إلهك لا يكن لك آلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك منحوتاً ولا صورة شيئ ممّا فى السماء من فوق ولا ممّا فى الأرض من أسفل ولا ممـّا فى المياه من تحت الأرض”(الخروج3:20-4). والأصنام هى المال وشهوة الجسد وتعظم المعيشة وشهوة العين.
ب. إهمال الوصايـا
لقد وضع الله قوانين وشرائع وإهمالهـا يؤدى الى أن يحجب الرب وجهه ولهذا قال:”أنظروا. اني تَال عليكم اليوم بركة ولعنة. البركة إن سمعتم لوصايا الرب إلهكم..واللعنة إن لم تسمعوا لوصايا الرب”(تثنية الإشتراع26:11-28).
مراحم اللـه الدائمة
ان الله بمراحمه الواسعة يعطى الإنسان الفرصة تلو الفرصـة لكى يتوب ويرجع الى الله لهذا قال:”محبة أبديـة أحببتك من أجل ذلك أدمت لك الرحمة”.
ان الله مراحمـه دائـمة فهو القائل:”ها أنا معكم كل الأيام”، لهذا يجب ان لا تيأس من مراحمه بل تقدم إليـه فى سر الـمصالحة لتنال الـمغفرة وتعود لحضن الآب السماوي.
————–

“من له أذنان سامعتان فليسمع”(متى9:13)
فى الفصول الأولى من انجيل القديس متى البشير نعثر على أمثلة مقتضبة قصيرة منثورة هنا وهنالك كنجوم قليلة متناثرة فى كبد السماء فى ليلة مقمرة. ولكننا فى هذا الإصحاح وما يليه نراه متكاملاً فى غالب الأوقات بأمثال.
فنحن الآن أمام السيد المسيح فى بداية السنة الثانية لخدمته الجهارية وهو يستخدم فى تعاليمه نوعاً جديداً من الوسائل. ويمكننا أن نلاحظ من خلال مثل الزارع مثلاً بساطة المسيح وفلسفته وحكمته.
أما بساطته: فلأنـه كان يستخدم فى التعبير عن أفكاره تلك الأشياء البسيطة التى تتناولها وتتداولها طبقة الفقراء والعامـة.
وأما فلسفته:فلأن أمثاله تحوى نوراً لمن يريد أن يرى وتنطوى على غموض يزيد الظلام سواداً على من يريد أن يضع على عينيه غشاوة. فالسيد المسيح له المجد عظيم فيما يعلن وعظيم أيضاً فيما يخفي-انه بإعلانـه يضيف نوراً إلى نور، وبإخفائه يحرّض الباحثين على النور لإيجـاده. إذاً كانت أمثاله فاصلة بين الذين يتبعونه بإخلاص فتربّي فيهم ملكة الإستقراء والإستنتاج، وبين الذين يتبعونـه لأغراض نفسانية فتعلن فيهم هذه الغايات كعامود السحاب الذى رافق بني اسرائيل اربعين سنة فإنه كان يضيئ على شعب الله تعالى وكان مظلماً على أعدائـه. فهذا المثل الذى يسرده لنا الإنجيل هو إلباس الحقائق الروحية المعنوية لباساً مادياً لغوياً ليبعدها عن العيون الماديـة الجسديـة ويخفيها فتقترب من العيون الروحية لتراها. هذه صورة ضئيلة لتجسد السيد المسيح لأن ناسوته أعلن لاهوتـه لكثيرين فآمنوا بـه، وأخفاه عن غيرهم فاصطدموا به وتعثروا.
وأمـا حكمتـه: فلأنـه كان يستعمل أمثالاً لتعاليم روحية لا لإشباع شوق أدبي ولا لإطفاء اللهيب، فقد كانت أمثاله خالية من التعبيرات الخيالية، فهى أمثال فيّاضة بروح الوقار خالية من السخريـة والهذل.
نطق الفادي بهذا المثل مثل الزارع على شاطئ البحيرة واتخذ من قارب الصيد منبراً ومنه تحدث الى الجماهير المجتمعة على الشاطئ.
من هذا المثل نرى نوعاً واحداً من البذار زرع فى أرض منوّعـة فأنتج نتيجة تتفق مع نوع الأرض التى زرع فيها. وهذه البذار تمثل لنا أربعة أنواع من الناس الذين يسمعون كلمة الله الواحدة فتكون النتيجة متفقة مع حالة القلب الذى تقع عليه الكلمة.
وعليـه يمكن تقسيم موضوعنا اليوم كالآتـى:
1. أنواع السامعين للكلمة 2. أسباب عدم سماع الكلمة
3.الوسيلة لسماع الكلمة
1. أنواع السامعين للكلـمة:
الأرض الأولـى: هى الطريق المعروفة فى بلدنا “بالـمدقّ” وهذه لا صلة اتصال بينها وبين البذار التى زرعت عليها، وهى تمثل القلب الجامد الذى يحصّن نفسه بعدم المبالاة أو البلاهة أو البلادة ضد كلمة الله، فقد قال الحكيم:”ذو القلب المنحرف يزدرى”(امثال8:12). فهذا القلب لا يأخذ من الكلمة ولا يعطى ولهذا فلقد قال الرب على شعب اسرائيل:”أما آل اسرائيل فيأبون أن يسمعوا لأنهم يأبون أن يسمعوا لي لأن آل اسرائيل بأسرهم صلاب الجباه وقساة القلوب”(حزقيال7:3). ففى مثل هذا القلب الجامد لا تجد الكلمة لها منفذاً تشق منه غلاف القلب فتظل عارية حتى يأتى ابليس وينزع ما قد زرع، بذلك تظل كلمة الإنجيل منفصلة عن السامعين الذين لم يفهموها ولم يحبوها. وقد يفيدنا أن نذكر ان هذه الأرض التى صارت طريقاً كانت أصلاً أرضاً صالحة ولكن مرور الحيوانات عليها ذهاباً وإياباً جعلها طريقاً، وقد تكون هذه حالة القلب الذى استولت عليه الحيوانية أي الشهوات فأغلقتـه وحجرتـه.
ألا يعلم هؤلاء القساة القلوب عاقبة هذه القساوة وهذا الجمود؟
اسمعوا ما قاله الرسول:”انك بقساوتك وقلبك الغير التائب تدّخر لنفسك غضباً ليوم الغضب وإعتلان دينونة الله العادلـة الذى سيكافئ كل أحد بحسب أعماله”(رومية6:2). إذاً يجب ان نعمل بقول الرسول القائل:”اليوم إذا سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم كما حدث عند الإسخاط يوم الإمتحان فى البريـّة”(عبرانيين8:3).
والتطبيق على الواقع يبين لنا ان هذا النوع الأول من الناس هم الذين لا يحضرون حيث يكون الإنذار بكلام الله مخافة أن يسمعوا خطاباً عن شر عواقبهم وسوء منقلبهم فتنزعج أفكارهم وتسلب راحتهم من وخز ضمائرهم فهم أشبه بمن يبغي أن ينام طويلاً فيغلق نوافذ المنزل لئلا يشرف عليه نور فيتنبه من لذة رقاده، فمثل هؤلاء ليسوا من خراف المسيح لأن خرافه تسمع صوتـه. ويماثلون ايضاً نوعاً من السمك لا يقدر احد أن يصطاده لأنه يستمر فى أعمق اللجج حيث لا يتمكن الصيادون من طرح الشباك وهكذا يبتعد هؤلاء عن صيادي النفوس غائصين فى لجة شرورهم وظلام جهلهم. فلو حرضوا على الحضور لإستماع العظات لأجابوا قائلين:”نحن فى غنى عن استماعه لأننا ممن تفقهوا فى العلوم ومطالعة الكتب فلا حاجة لنا بذلك ومالنا ومشقة السفر وحصر الفكر فى الكنيسة”. فاننا نجيب هؤلاء: ان الله يريد أن يدخل الحياة من الباب الذى منه دخل الموت، فكما ان الموت دخل من أذن مصغية الى واعظ غاش (هو الشيطان بفم الحيّة) هكذا وجب ان ندخل الحياة من أذن مصغية الى واعظ صادق، ولنا فى ذلك مثال داود النبي الذى لم يندم على خطيئته الى ان سمع ناثان النبي يؤنبه عليها بمثل وهنا قال داود:”قد خطئت للرب”(2ملوك:12)، على الرغم من سمو علمه ومعرفته بشر الخطيئة وسوء عواقبها الى أن أتاه هذا النبي الصغير ونبّه أفكاره بحكمة. فما أكثر الذين تصلبت قلوبهم وجمدت أرضهم عن سماع كلمة الله وما أقل من يحملهم الى سماعها، فمنهم من سقط كداود وليس له ناثان، ومنهم من اختلس كرم نابوت كآخاب وليس له ايليا، ومنهم كثيرات كهيروديا وليس لهن يوحنا المعمدان لزجرهن، ومنهم كثيرات متكبرات نظير أودكسيا وليس فم الذهب لكبحهن، وما أكثر طالبي الإنتقام مثل تاودويوس الكبير وما من امبروسيوس يتصدى لتعنيفهم. وما أكثر الراقدين فى زورق تمردهم وعصيانهم وليس لهم مدبر سفينة ينبههم. وما أكثر الذين يبذرون اموالهم وزمانهم وصيتهم بالسُكر واللعب المحرّم وليس من يقلب موائد ملاعبهم ولا من يكسر أقداح مسكراتهم.
أين أنت يا أيوب، كرّر عليهم “ان الذين يفنون بالتنعم أيامهم بسرعة الى الهاوية يهبطون”.
أين أنت يا رسول الأمم، كرّر عليهم القول: “ان الزناة والسارقين والسكيرين والشاتمين لا يدخلون ملكوت الله بل نصيبهم يكون فى بحيرة
النار والكبريت!
الأرض الثانيـة: ارض صخريـة غير منحرثة إلاّ فى سطحها-اتصل غلافها السطحي بالبذار فأخذت منها واعطت حتى نبتت بسرعة نادرة سببتها حرارة الشمس من فوق وحرارة الطيقة المتحجرة من اسفل، وفى طريق نموها لم تجد من الأرض الصخرية لا خصباً ولا مرونة ولا غذاء فجفت ولفحتها الشمس فذبلت وانزوت وفى أكفانها طويت, وهى تمثل السامعين السطحيين وما أكثرهم أيام النهضات الروحية وأوقات الإنفعالات. هؤلاء هم الذين يقبلون الكلمة بعواطفهم ويفرحون حالاً بقبولها ناسين مرارة التوبـة التى تستلزمها وقوة العزيمة التى تنميها، فيغتر بفرحهم قلب الواعظ لكن لعدم وجود عمق فى الإرادة ولإنعدام الخصب فى قلوبهم يرتدون بنفس هذه السرعة، فاليقظة التى تنبت فى يوم وليلة لهي شبيهة بخروعة يونان فانها نبت ليلة كانت ونبت ليلة هلكت(يونان6:4).
فهذا النوع من الناس ينكسر امام اية عاصفة ويذوبون امام نار الضيق ويهربون من وجه الإضطهاد. وهنا نرى ان الشمس التى كانت السبب فى سرعة النمو كانت هى عينها سبب الذبول، فالشمس التى تنمي النبتة الـمتأصلة وتقويها هى بعينها التى تحرق النبتة السطحية وتلاشيها. فيجب علينا إذاً أن لا نكون متقلبين مع كل ريح كما قال الرسول بولس:”أن لا نكون فيما بعد أطفالاً متقلبين مائلين مع كل ريح تعليم بخداع الناس”(افسس14:4).
والتطبيق على الواقع يبين لنا ان هذا النوع الثاني من الناس هم الذين يسمعون كلام الله ولا يقبلونه لأنهم يريدون ان يسمعوا اشياء جديدة مسبوكة بأحسن اساليب الفصاحة غير مطروقة ولا مسموعة، ولا يريدون ان يسمعوا لواعظ يوبخهم على آثامهم فيقولون كا كان يقوله اليهود لأنبيائهم:”كلمونا كلاما ملِقاً على حسب هوانا”(اشعيا10:30). دعوا عنكم الوعيد والتهديد والتوبيخ على الرذائل لأن هذا يصدنا عن المجيئ الى استماع كلام الله منكم-كلمونا بما يعزي نفوسنا وتطمئن به خواطرنا-خاطبونا عن صلاح الله وغزارة مراحمه-لا تذكروا لنا الدينونة ولا جهنم- لا تبكتونا على حب الغنى والملاهي-لا تصدونا عن السُكر ولعب القمار-لا تتهدونا بما يذخر من الغضب للدنسين…الخ. فلو كان مثل هؤلاء المتعنتين أيام داود الملك وسمعوا ناثان يتهدده بإنزال العقاب لكانوا هيّجوا داود على ناثان ليقتله أو يزجره ليسكت، وقد فاتهم ان الأمراض الشديدة لا تشفي بحلو الأدويـة بل يلزم لها أدوية مرّة فعّالة.
الأرض الثالثـة: ارض زراعية غير مفلّحة لأنها كانت ممتلئة بالأشواك التى ربما كانت قد قطعت مؤقتاً فعادت ونمت مع البذار. فالكلمة المنزرعـة فى هذه الأرض تمتزج بها فتنبت وتنمو، لكن الأشواك تخنقها لأن الشر أقوى وأسرع فعلاً من الخير. فهى تمثل أناساً لهم إمكانيات عظمى تتأصل الكلمة فى قلوبهم لكن القلب ليس كله مخصصاً لها لأنه قلب مجزأ. ألم تكن مرتا مهتمة بأمور كثيرة ولكن السيد المسيح قال لها:”مرثا مرثا انك مهتمة بأمور كثيرة ولكن الحاجة الى واحد”(لوقا41:10-42). وما هو هذا الواحد إلاّ التعبد للـه تعالى وسماع كلمته، فلقد إختارت مريم النصيب الصالح الذى لان ينزع منها، فإن نصيب مرثا قد نزع منها لأن خدمتها تموت بموتها ولكن نصيب مريم روحي خالد. نعم كانت مرثا مخلصة فى قصدها ولكن مريم بلغت مرتبة أفضل لأنها طبعن نصيبها بطابع الخلود. فإن القلب الـمجزأ مشغول بالأشواك فتختنق البذار من هموم الحياة وهذه مصيبة الفقراء ومن غنى الحياة وهذه تجربة الأغنياء، ومن لذات الحياة وهذه تجربـة الجسدانيين الـمتنعمين، فلا تقوى أن تنتج ثمراً وإن أنتجت فهى لا تنضج.
والتطبيق على الواقع فى هذا النوع الثالث من الناس هم الذين يقبلون كلام الله برغبة ولكن لا يثمر فيهم لأنهم لا يتأملون بما قد سمعوه، فالطعام لا يفيد وإن كان جيداً ما لم يمضغ حسناً، والخردل إذا سحق كان من أشد الأدويـة تأثيراً ولكن إذا ابتلع بدون سحق لا يؤثر فى المعدة، هكذا
كلمة الله لا تفيد السامع ما لم يسحقها بالتأمل وتعميق الفكرة.
الأرض الرابعـة: أرض جيدة تمثل أناساً لهم قلوب مستقيمة وغايات نبيلة يمتازون عن النوع الأول فى انهم يمزجون الكلمة بقلوبهم ويحفظونها. ويمتازون عن النوع الثانى فى ان قلبهم جيد عميق، ويفضلون عن النوع الثالث فى طهارة قلوبهم وصلاحيتها لقبول كلمة الله وبالصبر يثمرون مئة ضعف كما أثمرت زراعة اسحق (تكوين12:26)، ففى هذه الأرض صلاح وقوة وصبر وثمر صالح.
2. ما هى أسباب عدم سماع كلمة الله؟
أ- الكبـريـاء:وأمثالها آدم فى الفردوس الأرضي – باني برج بابل-فرعون ملك مصر-جليات الجبـار.
ب- محبة الـمال: وامثالها بلعام-جيحزي تلميذ اليشع-عاخان بن كرمي.
ج- الشهوة الدنسة: وامثالها شمشون ودليلة-داود مع بتشابع-أمنون مع
تامار.
د- الحسد: وامثاله قايين مع هابيل-أخوة يوسف-حسد هيرودس للمسيح.

3. الوسيلة لسماع كلمة الله
إذا أردنا أن نسمع كلمة الله وأن نتبع المسيح يجب مراعاة الشروط الآتيـة:
أ- أن نلبي دعوتـه
عندما يرن صوته فى آذاننا ذلك الصوت المعلن عن إتباعنا له فلا نتأخر ولا نتباطئ ولا نستعفى ولا نعتذر ولا نتمثل بالذى قال:”اشتريت خمس أزواج بقر وأريد أن أمتحنها”، أو الذى قال:”انى تزوجت بإمرأة وصرت الآن رب بيت”، او الذى قال:”انى اشتريت حقلاً واريد أن أنظره”. فياله من عار شديد واحد قد فضّل المواشي وآخر الحقل وآخر الـمرأة عن الله مع انه الـمُعطي لكل هذه البركات. لنتمثل بلاوي العشّار الذى لما سمع صوت المسيح ينادي قائلاً له اتبعني قام وترك كل شيئ وتبع المسيح ولما قال لزكّا العشّار “أسرع” فأسرع ونزل، فعندما نسمع صوت الله وكلمته القدوسة يجب ان تكون تلبيتنا لدعوة المسيح وإتباعنا إيـاه خالياً من كل غرض جسدي. ظن بعض العائشين بحسب الجسد انهم إذا تبعوا يسوع يحصلوا على خيرات زمنية أو مراكز عالمية، وفعلاً جاء شاب ليسوع وقال له:”يا سيد أريد أن أتبعك أينما تمضي”- هذا طلب شريف فى ظاهره ولكن المطّلع على خفايا القلوب وما تكنه الضمائر والذى كل شيئ مكشوف وعريان أمامه قال له:”للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكاراً أما إبن الإنسان ليس له أين يسند رأسه”_ وفى هذا القول كشف النقاب عن غرض عالمي كان يقصده ذلك الشاب. والجموع الذين أكلوا من معجزة الخمس خبزات صاروا يبحثون عن السيد المسيح ولما وجدوه رقصوا طرباً وقالوا له:”متى صرت هنا”، نحن تعبنا قطعنا المسافات البعيدة لأننا لم نطق البعد عنك فقال لهم: انتم تبحثون وتفتشون عني ليس لأنكم رأيتم آيات بل لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم. إذاً يجب ان يكون غرضنا فى سماع كلمة الله وإتباعنا للمسيح يسوع هو خلاص نفوسنا.
ب- يجب ان نسمع صوت الله وكلمته وأن نتبعه لا لمدة معينة بل للنهايـة. فعندما نعزم عل إتباعه وسماع صوته تعالى يجب أن نعمل حساب النفقة حتى لا نعود للوراء بعد أن نكون قد قطعنا مرحلة كبيرة من الطريق لأن كثيرين رجعوا عند منتصف الطريق، وآخرين عند قرب وصولهم الى الميناء، وآخرين بعد وصولهم مثال ذلك الشاب الغني الذى حفظ الوصايا وكان على قاب قوسين من السماء ولكن فتحت امامه هوة عميقة ارجعته عن فكرته الصائبة فحرم من الغرض الأسمى. فكما ان السيد المسيح سار معنا حتى الموت “إذ وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب”، فيجب علينا نحن البشر أن نسمع كلمته الى النهاية ونتبعه قائلين مع بولس الرسول:”من يفصلنا عن محبة الله لا موت ولا جوع ولا عري ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة ولا عمق ولا علو ولا أي خليقة أخرى تقدر ان تفصلنا عن محبة الله التى فى المسيح يسوع”(رومية35:8-39).
ت- اذا أردنا أن نسمع صوته وكلمته القدوسة يجب ان نترك كل شيئ يوجد فى العالم لنتبع يسوع. أشياء كثيرة تمنع الإنسان من سماع صوت يسوع واتباعه وقد لخصها الرسول فى ثلاثة أمور:”شهوة الجسد وشهوة العين وتعظم المعيشة الأمور التى من العالم والعالم وشهوته يزولان”(1يوحنا16:2-17). والتلاميذ صمموا على اتباعهم للمسيح وقالوا:”ها نحن قد تركنا كل شيئ وتبعناك”، وموسى النبي “أبى أن يدعى ابن لأبنة فرعون مفضلا بالأحرى أن يذل مع شعب الله على التمتع الوقتي بالخطية معتبراً عار المسيح بأنه غنى أعظم من كنوز مصر”، والسامرية تركت جرّتها، وبولس الرسول قال:”حسبت كل الأشياء خسارة لكى أربح المسيح يسوع”. والآن ما هى نوع أرض قلبك؟ وكيف تتقبل كلمة الله؟. ما هى أشواكك؟ وما هى إهتماماتك الأرضية؟
ابحث وفتش وتعال ليسوع وتقبل دعوتـه وتأمل بها واطلب منه مساعدتك لكى تفهمها وتتقبلها وتعمل بها حتى تصل للسعادة الأبديـة.
أجيبــي نــدائــي
أيـا أم قد أثقلتني الرزايــا فحنـّي لضعفي وقودي خطـايـا
أمـا أنتِ لإبنتكِ أعطف أمِ تُداوين روحي بـمرِّ البلايــا
أمـا أنتِ لإبنتكِ أكرم أمِِ عليّ تُفيضيـن أسـمى العطـايـا
—————-
فهل نحو غيرك أرفع صوتـي وهل لسواكِ تُسعد يــدايــا
سئـمتُ من الأرضِ أوفَر سأمِ أيـا لوعتي طالَ فيها دَوايـا
فنفسي تـهوى عيانك دومـاً وهل أستطيع بلوغَ هـوايــا
——————
سئمتُ قيادة جِسمِِ حَـرون يَميل بكل القوى للدَنـايـا
سئمتُ الصلاة بقلبِ ذليـل تلَمّس عون مليكِ البـرايـا
سئمتُ مناداة مولـى كريم وقد خِفْتُ منه إحتقارَ ندايــا
——————-
سئمتُ احتمالاً لوقر فروضي وفرط كروبي ووقع الرزايـا
سئمتُ السرور بدار إغترابِ وهل من سرور يُزيل أسايـا
أروم من الله بحر هنـاءِ يبردُ فلاً امضى حَشايـا
——————–
وأفراحُ ذى الأرض نزْرُ قِطـار فكيف ارجّي بهن رِوايـا
أيا ألطف الأمهات ارحميني اليكِ هتفتُ بـمرّ شجـايـا
فكم من أُساة أتـوا لعلاجي فأعجزهم فهمُ سرّ ضنـايـا
————–
فاسعى اليكِ بوادي الدمـوع كأني قد نِلتُ فيـه مُنـايـا
وأغزو بعونك جيش نفوسِ تُقاد لحبكِ شـبه السبايـا
أتوق لـمرآكِ يا أم روحي ولم أخشَ فى التوق هولَ الـمنايـا
——————
أيـا أمنا أنتِ كلُ رجائي ايا أمنا أنتِ كلُ غنـايــا
وأنتِ طبيبي وأنتِ دوائـي وفى ظُـلَم العيشِ أنتِ هُدايــا
فقودي الى عرش مجدك ذُلـّي لأدرك يا ربتي مُبتغايـا
———————
القرار – ايا أمنا انتِ رجائي ايا أمنا انتِ كل غنايا
اجيبي ندائـي يا فرحـي وهـواي
—————-