عِيسو واحتياج الآن -1

 

للأب هاني باخوم كيرولس

 عِيسو، اخ و يعقوب، هو الابن البكر لإسحق. وكأي ابن بكر يحق له بالبكرية: أي البركة الموروثة من الآباء والأجداد. تلك البركة ليست فقط نصيباً أكبر من الخيرات المادية التي يرثها بعد وفاة الأب، بل وبحسب الكتاب المقدس، رسالة ومعنى للوجود؛ هَويّة وكيان يُمنح كعطية ومنه تنبع الخيرات. من خلال تحقيق هذه الهَويّة، وعيش هذا الكيان او الرسالة، يحصل الإنسان على السعادة.

كانت البِكرية لعِيسو لأنه الأكبر. عاد ذات يوم من الحقل متعباً، مرهقاً وجائعاً: هو بحاجة للراحة وتناول الطعام، وأخذ ما يعوضه عما أعطاه طوال اليوم من عمل وعطاء. أخوه يعرض عليه الطعام شرط ان يبيعه البكريِّة. إنه جائع ولكي يأكل، كي يُشبع هذا الإحتياج اللحظي، يقبل ان يبيعه إياها قائلاً: "هاءَنذا صائِرُ الى الموت، فما لي والبِكريِّة؟" (تك 25: 31).

قد يبدو هذا حدثاً سخيفاً؛ شخص جائع، مستعد ان يفعل أي شيء لكي يأكل. لكن ما يقوله عِيسو يُعبّر عن شيء أعمق بكثير؛ فالمشكلة ليست فقط كونه جائعاً ويريد ان يشبع، بل بماذا يؤمن. قول عِيسو "هاءَنذا صائِرُ الى الموت، فما لي والبِكريِّة؟" يوضح لماذا وافقَ على بيع بكريّته. هو يعتقد انه صائر الى الموت. وان كان الموت هو النهاية فلماذا يجب ان أتالم الآن من الجوع، وبماذا سيفدينني الاحتفاظ بالبكريّة؟ انا جائع الآن وما ينتظرني غداً هو الموت، الحل الوحيد اذاً هو ان أشبع الآن.

عِيسو ليس شريراً، ولا شَرّها يرغب في الأكل فقط. هو شخص يعتقد بأن الموت هو المصير الوحيد، وبعده لا شيء سواه. عِيسو لا يؤمن ان الله هو اله الأحياء، وان الموتى هم ايضاً احياء، لذا عندما يجوع لا يفكر الا ان يشبع. فالموت الذي لا مهرب منه اصبح  يحرك قراراته وافعاله: ان كنت سأموت فلماذا لا اشبع احتياجاتي الآن؟ لماذا؟ من اجل البكريّة؟ وما نفعها اذا احتفظت بها؟ لا شيء!  سأموت. ما معناها اذاً؟ هي شيء إضافي سيُنزع مني مع موتي. ما الفرق ان اكون البكر او الاخير بين الاخوة، اذا كانت النهاية هي الموت؟ كل شيء يتساوى. افضل ان اشبع الآن، ولا أتالم.

لا يقدم لنا الكتاب المقدس عِيسو لنحكم عليه، او نأخذه ببساطة عبرة لنا. هنا ما هو اعمق! الرب يوحي لنا: لماذا يجد الإنسان نفسه مجبراً على اتباع احتياجاته اللحظية؟ لماذا يخطىء؟ لماذا يترك كاهن او مكرس كهنوته من اجل علاقة ما؟  لم كل هذه العثرات التي نسمعها عن كثير من المكرسين؟ لماذا يترك رب العائلة اسرته من اجل خبرة اخرى او امراة اخرى؟ لماذا يهرب الانسان الى الكحول او المخدرات؟ لماذا يحاول ان يُشبع نفسه في لحظات الوحدة بأي من العواطف العابرة، او الاحاسيس الاصطناعية، لماذا؟ ألأنه شرير؟ ألأنه قليل التربية؟ لا! عِيسو يقول لنا: لا. بل لأنه فقد الايمان. استطاع الشيطان ان يزيل من فكره العميق وجود الحياة؛ الحياة الأبدية. وعندما تأتي التجربة لا يستطيع الانسان الا ان يسقط فيها. لماذا لا يدافع الإنسان عن دعوته؟ الأب عن اسرته؟ الخطاة عن كرامتهم كأبناء لله؟ لماذا لا يدافع الانسان عن بكريته؟ لأنه لا يرى امامه كمستقبل الا الموت واحتياج الحاضر. قد لا يفكر الإنسان بهذه الطريقة، الا ان هذا الاعتقاد يحركه، فيتبع ما يشعر به الآن. الخوف من الموت يجعله عبدا للحظة واحتياجاتها، فلا يرى من بعد دعوته، كرامته وبكريته.

هكذا نستطيع ان نفهم ما يقوله بولس الرسول: أن المسيح اتى كي "يحرر الذين ظلوا طوال حياتهم في العبودية مخافة من الموت" ( عب 2: 14). بسبب خوفه من الموت اصبح الإنسان عبدا، ومن مظاهر هذه العبودية: اشباع الاحتياج الآني. بولس الرسول، ولكي يسترجع مَن هم في العبودية يعلن المسيح! المسيح القائم، المنتصر على الموت، يعرض عليهم طريقاً للتوبة والرجوع الى الرب، فيه يختبرون هذه القيامة وهذا الانتصار على الموت.

شبح الموت وثقل احتياج اللحظة يُجبر عِيسو على بيع البكرية. ليس هذا فقط بل هناك سبب آخر يدفع به الى ذلك؟ … الى المرة القادمة.

أيام مباركة.