عظة الأحد الأول من مسرى: عصيان وغفران

بقلم / الأب بولس جرس- راعى كاتدرائية العذراء بمدينة نصر

تقديم:عل لكرمي؟

إعداد ناجي كامل – مراسل الموقع بالقاهرة

تقديم:

إذا استعرضنا تاريخ البشرية في علاقتها مع الله، ستجد سلسلة طويلة من الضياع وعدم الأمانة والتمرد والعصيان من جهة الإنسان يقابلها من الجهة الأخرى صبر وطول أناه وحب وصداقة وبحث واسترجاع ورحمة وتحنن من قبل الله: هكذا أحب الله الإنسان حتى خلق الكون لأجله، ووضع كل الخلائق تحت قدميه حيوانات الأرض واسماك البحار وطيور السماء،كل الخليقة… وخلق له الجنة والفردوس مكانا يفيض بكل ما تشتهيه نفس ويحلم به قلب بشر، واسكنه هناك سيدا وسلطانا وصار يتمشى معه ويحاوره ويتحدث معه في محبة وصداقة وحين شعر بأنه لا يحسن إن يكون الرجل وحده، خلق له المرآة معينه نظيره…لم تكن طلبات الرب عسيرة ولم يكن فيها أي تعسف،انه يريد برهانا للمحبة وإعلان للطاعة والاعتراف بربوبيته من ألاف الأشجار والثمار حرم ثمرة واحدة فهل هذا تعنت؟ لكن قلب الإنسان، المرآة بالأخص، صار يحوم ويرفرف ويهفو في الصحو والمنام حول هذه الثمرة المحرمة وخيل لها الشيطان أنهما يوم يأكلا من تلك الشجرة سيصيران آلهة مثل الله….!

سقط الإنسان في الخطية، خان العهد وكسر الميثاق فاغضب الرب وطرده من الفردوس ودخل حكم الموت إلى العالم وقتل قائين أخاه هابيل… لكن الله في غضبه ترأف بخليقته الضعيفة الهشة، ولم ينقطع عن الحوار عن بعد لان الإنسان فقد القدرة على الاتصال المباشر بسبب الخطية… زادت الخطية فعاقب الله الإنسان بالطوفان وندم الرب لأنه صنع هكذا بالإنسان،لكنه سرعان ما كاد يترأف ويرحم ويسامح وصنع مع إبراهيم عهدا وباركه ليصير شعبا وخان بنوه العهد فغضب لكنه عاد ليرحم وسمع صوت صراخ شعبه ونزل ليخلصهم فأرسل موسى ليقودهم إلى الحرية والاستقرار ولم يتوقف الشعب عن التذمر والتمرد فأراد أن يبيدهم في غضبه لكنه سرعان ما ترأف وتحنن وتراجع عن غضبه… هكذا تاريخ الإنسان تاريخ عصيان وغفران وهذا هو ما تحدثنا عنه قراءات هذا الأحد المبارك تعالوا نتأمل كلماتها العذبة المفيدة.

+ القراءة الأولى: البولس من رسالته الأولى لأهل كورنثوس 9/1-12

الآم بولس النفسية وجراح قلبه الكسير تعبر عن القضية المحورية لهذا الأحد،لقد قدم كل خير وضحى بكل شئ وزرع الإيمان ورد الكثيرين عن طريق المعصية وهداهم إلى معرفة الرب،فاغتسلوا من خطاياهم وتطهروا وإذ بهم عوضا من أن يشكروه،تنكروا له ونسوا جميله وكل ما صنع لأجلهم، لذا ينتحب:

· ألست أنا حرا، ألست أنا رسولا،آلم أر يسوع المسيح ربنا:

لديه كل ما يثبت انه حر: فهو الرجل الحر بحق، انه مواطن روماني من سادة العالم في ذلك الزمان تخضع له الرقاب وتزل أمامه الشعوب.

انه رسول: وأي رسول فمن تعب مثله ومن جاهد مثله ومن حمل الإنجيل مثله إلى الأمم ودافع عنهم سواه انه أعظم رسول.

آلم أر يسوع: حقا لقد لاقاه وعرفه باسمه وغير حياته وحول اتجاه بوصلته 180 درجة فصار من مضطهد الكنيسة مبشر، وصار من يقتل المسيحيين صونا لهم.

 · ألستم انتم عملي في الرب: لقد كان هو من حمل الرسالة إليهم وتعب في تبشيرهم فهو خاتم رسالته.

· آما لنا سلطان؟ له سلطان أن يأكل من خيرهم ويشبه نفسه بثور يدرس الحبوب وله الحق أن يأكل منها.

· له الحق أن تتبعه امرأة كسائر الرسل.

· له الحق أن ينال من ثمار الكرم الذي زرعه وغرسه واعتز به.

· له الحق أن يشرب لبن القطيع الذي ادخله إلى حظيرة المسيح.

· لكننا لم نستعمل هذا السلطان بل نحتمل كل شئ لئلا تعوق بشارة المسيح، هذا هو موقف الرسول فبرغم أن له الحق والسلطان أن ينال من ثمار تعبه إلا انه تنازل دوما عن كل شئ وكان يعمل بيده ليكب قوت يومه واحتمل كل مشقة في سبيل البشارة والخلاص. آلا يذكرنا هذا بقلب الله الذي أعطى كل شئ وصنع كل خير ووفر كل وسيلة للخلاص والفرح والنمو والازدهار إلا أن الإنسان تنكر دوما لخالقه..!

 

القراءة الثانية: 1 بطرس 3: 8-15

يحثّ القديس العظيم مار بطرس هامة الرسل وراعي الرعاة، أبناء الكنيسة في كل مكان في العالم على الوحدة في الفكر والمشاركة في نفس المصير حتى ولو كان هذا المصير مؤلماًَ ويتطلب منهم فضيلة مسيحية خالصة وهي التواضع…

· غير مجازين عن شر بشر: فإذا كان مطلوبا من المسيحي ألا يجازي الشر بالشر بل أن يعامل بالخير من يعامله بالشر عملا بوصية الرب يسوع نفسه في الإنجيل؛ فكم بالأحرى يصبح على المؤمن بالمسيح أن يجازي من يعامله من الناس بالخير ؛ وكم عليه أن يكون دائم الشكر والعرفان والحمد لله صانع الحياة وواهب الخيرات الذي غمرنا بنعمه وإحساناته، الذي يشرق شمسه على الأشرار والأبرار. وهذا هو نفس موضوع القراءات الخمس

· من أراد أن يحب الحياة وأن يرى أياما صالحة: وهنا تتطابق إرادة الله مع إرادة الإنسان وتتوافقا للخير والبنيان: فيصير المسيحي مباركا من الرب ومباركا للرب لا تعرف شفتاه طريق اللعنة ولا المكر وهو كأبيه السماوي صانع للخير كاره للشر طالبا للسلام ويسعى إليه وينشده بكل جوارحه كاره للشر والأذى والحرب والمكر والخداع لا يخاف الاضطهاد ما دام هو غيور على عمل الخير والبر وهو يقدس الرب في قلبه وحياته.

القراءة الثالثة: أعمال 19: 23-31:

يعاني الرسل من الاضطهاد في سبيل البشارة والرسالة وهم لا يبالون بذلك بل يتقدمون في شجاعة وبسالة ليواجهوا المخاطر والصعاب. فها نحن نرى رئيس نقابة الصناعة يقود حملة شخصية على بولس الرسول ورفاقه متهما إياهم بعكس ما يمكن أن يوصفوا به فبدلا من القول أنهم قد ردوا الكثيرين إلى الله وهدوهم إلى طريق التوبة والخلاص نسمعه يقول

· بولس هذا قد أزاغ جمعا كبيراً: يجازي الخير بالشر ويعكس الحقائق فليس بولس من أزاغ بل هم وآلهتهم المصنوعة بالأيدي من أزاغوا الناس وأضلوهم عن عبادة الله الحق

· فهجموا بنفس واحدة واختطفوا غايوس واررسترخس رفيقي بولس في السفر: يريدون قتل هؤلاء المبشرين بالخيرات عوضا عن إكرامهم وتقديسهم

· وإذ كان بولس يريد أن يخرج إليهم لم يدعه التلاميذ: شجاعة الرسول ليست في تحمله مشاق الرسالة فحسب بل أيضا في مواجهة المخاطر، وبولس لم يهرب من الخطر بل أراد أن يواجهه ويتحداه لكن التلاميذ منعوه خوفا على حياته من الجمع الهائج.

وهكذا نرى نفس الموضوع مجازاة الخير بالشر وعدم فهم مخطط الله للخلاص بل على العكس محاربته والهجوم عليه.

القراءة الرابعة: مزمور 79: 15

· يا رب القوات: إلهنا ليس إلها ضعيفا بل على العكس هو إله قوي ورب كل القوات،

· أرجع وتطلع من السماء: يطالبه بالعودة للنظر من سماء قدسه أي أن يكون دائم الصلة بأبنائه البشر،

· أنظر وتعهد هذه الكرمة: يشبه المرنم شعب الله بالكرمة التي غرسها الرب بنفسه لنفسه،

· أصلحها وثبتها: تحتاج الكروم عادة لمتابعة دورية في كل موسم من الغرس إلى الري إلى الإعلاء إلى نشر الأفرع وإسنادها، إلى الحماية من الطيور، إلى العناية بالمحصول، إلى تنظيف الأرض من الأعشاب، إلى إبادة الحشرات إلى جني المحصول وتحويله إلى خمر… إنها الشغل الشاغل ومصدر الفرح والفخر لصاحبها.

القراءة الخامسة: إنجيل لوقا: 20:9-19

طالما شبه الرب في الناموس والأنبياء شعبه بالقطيع أو الكرمة المحببة إلى قلبه، وكثيرا ما تقدم الأنبياء بالصلاة والشفاعة من أجل هذا القطيع أو الكرم الذي كثيرا ما يعاني من إهمال وسوء استغلال رعاته وكراميه الذين أقامهم الله أمناء فبدلا من أن يجمعوا بدوا، وعوضا عن أن يوحدوا شتتوا، وبدلا من أن يرعوا ويعتنوا أهملوا وعذبوا وقتلوا، بل وصل بهم الحال أحيانا إلى أن يدمروا ويحرقوا… فهل يسكت صاحب القطيع وهل يصبر رب الكرم على الدوام أم أن إجراءات ضرورية ستتخذ لإنقاذ الموقف وإعادة الأوضاع إلى ما يجب أن تكون عليه. هذا هو الموضوع اللاهوتي للمثل وهذا هو مغزاه:" أن الله أحب العالم حتى بذل ابنه الوحيد ليخلصه، وأنه لن يسكت بعد اليوم عمن يسئ إلى كرمه وغنم مرعاه بل سيبيدهم ويشتتهم" ولقد ففهم الكتبة والفريسون المغزى وعرفوا أنهم المعنيون ب" الفعلة القتلة" وبدلا من أن يتوبوا ويستفيقوا قالوا " حاشا" لن يتم هذا أبدا ولن نسمح به وعوضاً عن الرجوع إلى الحق تمادوا في الغي فنفذوا حرفيا تفاصيل المثل إذ طلبوا أن يلقوا أيديهم عليه في تلك الساعة نفسها لكنهم أجلوا ذلك خوفا من الشعب.

Ø إنسانا غرس كرم: إنه الله الذي يتنازل فيشبه نفسه بخليقته فهو محب الإنسان ويتكلم هنا " أبن الإنسان" والإنسانية هي كرمه المحبوب والشغل الشاغل ومصدر الفرح والفخر لصاحبها، إلا أنها تحولت بفعل فاعل إلى عكس ذلك فهي مصدر هم وغم وألم وظلم وجراح تسمع فيها أصوات صراخ الأبرياء وشكوى المساكين من ظلم مسخريهم والذين يستغلونهم.

· غاب زمانا طويلا: إشارة إلى صبر الله وطول أناته ولطفه وتحننه فهو لا يستعجل بل يتمهل طويلا.

· في الأوان: هناك أوان ووقت محدد وموسم للحصاد يعرفه الرب ويحدده هو يأتي في الزمان والمكان.

· أرسل عبيدا إلى الفعلة: الله يريد ثمرة ما غرس فينا من نعم وعطايا مجانية ولعل مثل الوزنات خير دليل على ذلك فليس معنى صبر الله وطول أناته وإمهاله انه لن يطالب بحقه

· ليعطوه من ثمر الكرم: لا يبدو رب الكرم جشعا يريد كل الثمر بل يعطي الكرامين على ما يبدو فرصة التمتع بثمر تعبهم إنه يريد بعضا من الثمر كدليل على العرفان بأنه رب الكرم والاعتراف سيادته وسلطانه والخضوع لإرادته ومشيئته…

· أما الفعلة فضربوه وأرسلوه فارغا: هناك تحد وتعد تحد لصاحب الكرم وكأن ليس له الحق في أن يطالب بثمار الكرم فالكرم ليس كرمه، وهناك تعد على أخيهم العبد المسكين الذي حمل إليهم رسالة صاحب الكرم، فماذا سيفعل السيد أمام هذا التعدي وذلك التحدي؟

· فعاد وأرسل آخر… وثالثا فجرحوه وأخرجوه…: يبدو أن الطريق مسدود فهم لا يعتبرون ولا يعترفون بسلطانه لكنه لا ييأس ولا يحتد غضبه بل يتزايد في الصبر والحنان فيقرر أن يرسل ابنه وهو يمثل حضوره الشخصي لأنه الوريث والمالك متمنيا أن يكون في ذلك الحضور عبرة وموعظة تجعلهم يرتدون عن طريقهم الشرير حيث لا يريد السيد أن يؤذيهم فقد صنع الكرم خصيصا لأجلهم وهو يريدهم "شركاء لا أجراء".

· فقال رب الكرم ماذا أصنع، أرسل إليهم ابني لعلهم يرونه فيخجلون: هذه هي أقصى درجات الحب والحنان الطيبة والصبر والعطف والرأفة ما لا يستطيعه غير الله الذي هكذا أحب العالم حتى انه بذل ابنه الوحيد فداء عنه" نحن لا نستطيع أن نعيش هذا المفهوم الرائع والعميق ومازال الكثيرون في العالم لا يستطيعوا أن يدركوا لماذا يرسل الله ابنه كان حري به أن يرسل جيوشه، لماذا يتجسد المسيح ويموت وكيف يصمت الله؟؟؟ لا جواب إلا أنها محبة الله وعنايته الفائقة الطبيعة!!!!.

· فلما رآه الفعلة تآمروا فيما بينهم قائلين هذا هو الوارث فتعالوا نقتله ليصير الميراث لنا: ما هذه البشاعة وما هذا الطمع وما ذلك السوء في الفكر والعمل وما هذا الشر المسيطر في إصرار مميت على قلوب هؤلاء؟ لقد ائتمنهم الرب على أثمن ما لديه فخانوا الأمانة.

· لقد سلمهم كرما غاليا مغروسا بحب وعناية ( الفردوس- أرض الميعاد)، فخالفوا الوصية…

· لقد أعطاهم الحرية والثقة الكاملة ووعدهم بالأجر والثواب، فتمردوا….

· لقد أرسل إليهم الرسل، فضربوهم وأهانوهم…

· لقد أحبهم حتى أنه أرسل ابنه الوحيد ليخاطب قلوبهم فيخجلوا من أنفسهم، لكنهم رفضوا الحوار

· لقد أراد أن يكون في ابنه الخلاص لهم من كل المآزق لتي وضعوا أنفسهم فيه، فتمردوا وتآمروا

· لقد أراد لهم الحياة ففرضوا عليه الموت…

· فماذا يمكن أن يصنع بعد كل هذا ليستقيموا ويعودوا عن غيهم وضلالهم ماذا يمكن أن يفعل الله ليهديهم لقد صنع الخير فقوبل بالشر وقدم كل جميل فقوبل بالنكران وصبر أمد طويل فقوبل بالتمرد والعصيان وأرسل ابنه للهداية، فقوبل بالتآمر والخداع؟ كلا لقد نفذ صبره لقد قرر أن يأتي بنفسه فيبيد أولئك القتلة فعلة الإثم ويسلم الكرم لفعلة آخرين يكونون أكثر طاعة وإيمانا وخضوعا وخشوعا ومحبة…

Ø حاشا: لقد فهم اليهود والفريسيون المثل جيدا أنه يتكلم عن المستقبل والمصير، أن العهد سينزع منهم وأن البركة ستعبر عنهم وأنهم لن ينالوا الميراث الموعود بسبب ما ارتكبوه من إهانات ومعاص وما جنته أيدهم من جرائم وتعديات، فعوضا عن أن يتوبوا ويرجعوا عن خطاياهم وهم يرون الابن المتجسد ويسمعونه يكلمهم ويحثهم على التوبة، "توبوا فقد اقترب ملكوت الله"… لكنهم تصرفوا كالفعلة القتلة تماما، أرادوا أن يقبضوا على يسوع ويقتلوه ولكنهم توقفوا لا عن تقوى وخشوع ولا عن ندم وتوبة بل خوفا من الجموع التي ستشكل خميرة الشعب الجديد بينما سُينزع الكرم منهم ويلقون خارجاً. إن لم يتوبوا ويرجعوا.

هكذا الإنسان الذي كلله الله بالإيمان وأنعم عليه بمعرفة المسيح والاتحاد به في أسراره المقدسة، ووهبه كل ما يجعله يثمر للخلاص، إن لم يتب ويرجع، وإن لم يقدم الثمر في حينه ويثمر ثمارا صالحة تليق بالتوبة ينذره الرب بأن الفأس قد وضعت على أصل الشجرة فكل شجرة لا تثمر ثمرا صالحا تقطع وتلقى في النار.