مقابلة مع المطران عصام جون درويش أسقف سيدني للروم الملكيين

المشكلة الكبرى لدى مسيحيي الشرق الأوسط ليست مادية أو مالية، هي مسألة تواصل بين الكنيسة والشعب

حاوره روبير شعيب

الفاتيكان، الاثنين 18 أكتوبر 2010 (Zenit.org).

الكنائس الشرقية، لتعددها وغنى ليتورجيتها، لاهوتها وتاريخها، وقد شهد القرن الماضي – نظرًا لاتساع ظاهرة الهجرة – نشأة كنائس شرقية مميزة ولها غنىً خاصًا تضيفه على إرث الكنيسة الجامعة. في هذه المقابلة الخاصة مع زينيت، يتطرق المطران عصام جون درويش، مخلّصيّ، أسقف أبرشيّة القدِّيس ميخائيل للروم الملكيّين في سيدني، إلى تاريخ كنيسته، إلى حياة مسيحييها وجهدهم للحفاظ على تقليدهم، إلى خبرة المسامحة، الحوار والانفتاح التي يعيشونها مع مؤمني الأديان الأخرى، وعن نظرة هذه الكنيسة إلى كنائس الشرق والدور الذي يمكنها أن تلعبه في دعمها.

* * *

الحديث عن كنيسة شرقية كاثوليكية في أقاصي الغرب لهو مفارقة، فهلا عرفتمونا باقتضاب على الخلفيات التاريخية لوجود كنيستهم الملكية الشرقية في استراليا ونيوزيلندا؟

الأسقف درويش: أنا أنتمي إلى الكنيسة الملكية الكاثوليكية، وهي من أولى الكنائس التي انطلقت من أنطاكيا، المكان الذي دعي فيه تلاميذ يسوع مسيحيين. الكنيسة الملكية قديمة، ولكنها تجددت في عام 1724 عندما عادت فاتحدت بروما بعد الانشقاق بين الكاثوليك والأرثوذكس في عام 1054.

كواقع كنسي، نحن في الوقت عينه شرقيين وغربيين: نحن شرقيون نفهم العالم الشرقي ونحمل تراث الآباء والكنيسة الشرقية. ولكن في الوقت عينه نحن كاثوليك، ونفهم تراث الكنيسة الكاثوليكية ونتشارك حس الغرب. الكنيسة الملكية هي جسر تستطيع كل الكنائس أن تلتقي من خلاله.

الكنيسة الشرقية الملكية موجودة حاليًا في مختلف بلاد الشرق الأوسط، لبنان، سوريا، الأردن، العراق وفي شمال إفريقيا، في مصر والسودان… وهي موجودة أيضًا في بلاد الانتشار، في الأميركيتين وفي أوقيانيا. بالحديث عن هذه الأخيرة، تكونت الجالية الملكية على مراحل مختلفة: مرحلة الهجرة الأولى بدأت نحو العام 1860، وقد تأسست الكنيسة الملكية الأولى في استراليا في عام 1891.  الهجرة الثانية صارت في الحرب العالمية الأولى. أما الثالثة بعد الحرب العالمية الثانية. وأخيرًا الهجرة الحديثة تمت في أثناء الحرب اللبنانية وبعدها.

 

صاحب السيادة، أنتم أسقف في استراليا ونيوزيلندا منذ عام 1996. ما الذي فعلتموه خلال هذه السنوات للمحافظة على هذه الهوية الشرقية في الاغتراب؟

الأسقف درويش: كمطران استراليا ونيوزيلندا أنا أعتني بنحو 50 ألف شخص منتشرين في كل أنحاء استراليا. ومنذ انتخابي أسقفًا لهذه الأبرشية الشاسعة، تمكنت بنعمة الرب أن أؤسس  كنائس في مختلف أنحاء استراليا، الأمر الذي سهل للمؤمنين الملكيين أن يرتادوا الكنائس التي تحتفل بالليتورجية بحسب طقسهم دون أن يتكبدوا أسفارًا طويلة. ففي الماضي، كان الكثير منهم يتركون طقسهم الأم بسبب صعوبة الوصول إلى الكنائس، ولذا كانوا يلتحقون بطقوس أخرى، وبشكل خاص بالطقس اللاتيني. أما الآن، ومع تأسيس العديد من الكنائس الملكية بات من السهل لهم أن يعيشوا حياتهم المسيحية بحسب طقسهم. فالعرب واللبنانيون المتواجدون في استراليا ما زالوا متعلقين بتقليدهم الثقافي والديني.

كما وقمت بتفعيل دور العلمانيين من خلال إشراكهم بشكل فاعل ومسؤول في حياة الأبرشية والرعايا. المؤمنون الملكيون اليوم قريبون جدًا من الكنيسة. وليتورجيتنا الخاصة تتلى بالعربية وبالإنكليزية تجاوبًا مع حاجات القادمين حديثًا، والذين ما زالوا يتقنون العربية، والجالية القديمة التي لم تعد تجيد لغة الضاد.

 

في مجتمع علماني، مثل المجتمع الاسترالي، هل يمكننا أن نقول أن المؤمنين من أصل شرق أوسطي يحافظون على ذلك الحس الديني والنظرة الروحية اللذين يميّزان الشرق، أم أنهم ينجرفون بتيار العلمنة وعدم الاكتراث الديني؟

الأسقف درويش: نختبر عادة أن الأشخاص الذين هاجروا لأسباب صعبة ابتعدوا عن الكنيسة لبعض الوقت، ولكن بعد فترة عادوا إلى حضن الكنيسة لشعورهم بأنها تستطيع أن تعاونهم في تربية أولادهم تربية سوية، وأن تؤازرهم في تقوية قيمهم. فالكنيسة هي فرصة للّقاء ولعيش الصداقات بين المؤمنين، وليست فقط موضع الخبرة الدينية. هي أيضًا موضع الخبرة العائلية والاجتماعية.

علمًا أنه في بلاد الانتشار لا نجد مؤمنين من بلد واحد، ومن حس واحد. فكنائسنا يرتادها مؤمنون من مختلف البلاد العربية. وهذا الأمر تطلّب منا جهدًا لكي تكون الكنيسة عامل توحيد، ولكي نعرف كيف نتجاوب ونؤجج الحس الديني والروحي في كل من هؤلاء المؤمنين.

 

عنوان جمعية الأساقفة لأجل الشرق الأوسط – "شركة وشهادة" – غني بالمسؤولية ، وقد اعتبر البابا بندكتس السادس عشر السينودس، في معرض تقديمه لوثيقة العمل كمناسبة مؤاتية "لتسليط الضوء على قيمة الحضور والشهادة المسيحيين في بلدان الكتاب المقدس، ليس فقط بالنسبة للجماعة المسيحية على الصعيد العالمي، بل أيضاً لجيرانكم ومواطنيكم". رغم أنكم لا تقيمون جغرافيًا في بلدان الكتاب المقدس إلا أنكم تمدون جذوركم الروح والتراثية في تلك الأراضي، هل هناك وعي مسيحي لدور الشهادة التي يجب أن يقدمها المسيحيون نحو مواطنيهم غير المسيحيين؟

الأسقف درويش: لقد عملت لمدة 15 سنة على تنمية وتثقيف العلمانيين. فأن مقتنع أنه إذا أردنا دعوات كهنوتية تخدم هذه البلاد، لا بد أن يكون أصل المدعويين من هذه الأرض. وعملت مع المثقفين، الذين رفعوا من مستوى التفكير والثقافة والروحانية في الكنيسة. هذا الأمر ساعد رعايانا وأعطاها جوًا روحيًا رفيعًا.

من خلال استلام العلمانيين مسؤوليات فعالة في الأبرشية أعتقد أنهم وعوا أكثر دورهم في حقل الشهادة. فهم يشعرون بأنهم ملزمين – بفضل إلزام داخلي – أن يتعلقوا بليتورجيتهم، وأن يشهدوا بتماسك لإيمانهم.

هلا تحدثت بتفصيل أكثر عن دور العلمانيين الذي أشرت إليه؟

الأسقف درويش: كنت أشجع الكهنة والمكرسين على التركيز على العمل مع العلمانيين. ففي عام 2009، مثلاً، أقمنا مجمعًا أبرشيًا شارك فيه 130 علمانيًا من كل الكنائس والهدف الأساسي كان مساعدتهم لكي يكتشفوا عمليًا وبشكل ملموس دورهم في الكنيسة: هم شهود للمسيح تمامًا كما يجب أن يشهد له الكهنة؛ ولهم دورهم الكبير كمعاونين للكهنة في إدارة الرعايا من الناحية الرسولية؛ وكذلك لهم دور رائد في الإدارة المالية. عمل الكاهن هو عمل روحي، ورعوي، ولذا يجب أن تكون له شراكة مع العلمانيين. هذه الشراكة بين الكاهن والعلمانيين هي التي تبني الكنيسة.

كثيرون يقولون أن الكنيسة لها جناحان: العلمانيون من ناحية والكهنة والمكرسون من ناحية أخرى. أما أنا فأقول نحن جميعًا مكرسون، ولذا أقسم الكنيسة إلى قسمين: من ناحية الأشخاص الذين يحبون الله فعلاً، ومن الناحية الأخرى الأشخاص البعيدون عن الله. نحن مدعوون لكي نحمل قضية الله، قضية الحب بين الناس.

إن لفي نظرتكم أصداء لـ "مدينة الله" الأغسطينية التي تتحدث عن حبين يبنيان مدينتين، حب الله وحب الذات. كمسيحيين، تعلمنا من الرب أن وصية حب الله ترتبط بشكل وثيق بحب القريب، حب الآخر. من هذا المنطلق وجه الكاردينال روجر مايكل ماهوني، رئيس أساقفة لوس أنجلوس، انتقادًا لبعض مواقف الشرقيين التي لا تتماشى مع روح الإنجيل في علاقتهم مع المسلمين واليهود واعتبر أن "التحدّي الأكبر" الذي يجب أن يعيشوه هو أن يكونوا "شهوداً للإنجيل من خلال مسامحتهم لأعدائهم الذين قد يكونوا لسبب أو لآخر سببا أساسيا في هجرتهم". كيف تُعاش هذه الخبرة في أبرشيتكم؟

الأسقف درويش: أحيانًا كثيرة ترك المسيحيون الشرق إثر خبرات أليمة، وحملوا إلى بلاد الانتشار خبرة الحروب، والاضطهاد، والغضب. الكنيسة في بلاد الانتشار مدعوة لكي تساعد مؤمنيها على عيش المسامحة والغفران وذلك من خلال تطهير الذاكرة، بحسب ما دعا إليه يوحنا بولس الثاني في الإرشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان". وأعتقد أن عمل الكنيسة في هذا المجال سهل ومُسهّل لأن الإنسان الشرقي إنسان طيب يميل إلى المسامحة.

أود أن أذكر أيضًا مبادرة عملية عامة قمنا بها: بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 تنادينا مسيحيين ومسلمين وأسسنا فريق عمل لمواجهة موجة التعصب التي تخوفنا أن تنتج عن أحداث نيويورك وأسسنا "هيئة الصداقة الإسلامية المسيحية". يزخر جدول أعمال الهيئة باللقاءات والمحاضرات والزيارات، وقد أسهمت نشاطاتنا في خلق تيار من التعاون بين المسيحيين والمسلمين. وكمطرانية أخذنا مبادرة فريدة إذ دعونا إلى إفطار خلال شهر رمضان، وإلى تناول الغذاء معًا في عيد الميلاد. فبدأنا حوار الحياة المبني على تبادل روح العائلة. بفضل لقاءاتنا وحوارنا، استرجعنا خبرات كنا نعيشها سابقًا في بلادنا الأم. ففي قرانا اللبنانية عشنا لعصور طويلة في أخوّة وسلم بين المسيحيين والمسلمين.

لقد ساعدت مبادرتنا هذه حتى الحكومة الاسترالية في حل بعض المشاكل التي نتجت عن سوء فهم الغرب للإسلام. فهذه الحركة كانت أولى بين سلسلة من المؤسسات التي تهتم بالحوار، بما في ذلك "لجنة الحوار مع كل الأديان" التي أسسها مجلس أساقفة استراليا. ولي الفخر أن أكون من الأعضاء. وقد صارت الخبرة مثل كرة ثلج ولّدت خبرات أخرى وتنامت.

المسافة تقدم فسحة للتمعن، التفكير، ولرؤية أكثر شمولية وموضوعية. ربما أنتم الشرقيون الذين يقيمون على أبعد مسافة من الشرق الأوسط. كيف ترون مسيحييه، وبما تنصحوهم؟

الأسقف درويش: أود أن أعترف أولاً أني، كأسقف شرقي، تعلمت الكثير من شعب استراليا ومن الكنيسة اللاتينية في استراليا. تعلمت الالتزام بكنيستي أكثر، وساعدني اللقاء بالكنيسة الغربية أن اكتشف غنى وفرادة تراث كنيستي. تعلمت طريقة العمل المبرمج والانفتاح، لأن الكنيسة الكاثوليكية اللاتينية حضنتنا بشكل رائع. وكنيستنا صارت جاهزة في استراليا اليوم لكي تقدم عونها للكنيسة الاسترالية.

انطلاقًا من هذه الخبرة، أستطيع أن أقول كلمة للكنائس الشرقية. وأنطلق من السينودس السابق الذي كان ذا اهتمام خاص للشرق، أعني السينودس لأجل لبنان الذي دعا إليه البابا يوحنا بولس الثاني والذي ونتج عنه الإرشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان" (1997). أعود مرارًا وتكرارًا لهذا النص الغني، وألاحظ أنه الكنيسة في لبنان والشرق – للأسف –  لم تطبق بشكل واسع هذا الإرشاد الرسولي. هناك تلكؤ في تحقيق التجدد الروحي الذي يدعو إليه السينودس. وكنيستنا الشرقية متأخرة جدًا في إشراك العلمانيين في حياة الكنيسة. وهي لا تقوم إلا بالقليل في تنشيط وتفعيل الحركات الرسولية. العمل الاجتماعي في شرقنا هو حقل نشيط وفاعل  ولكنه ما زال يحتاج إلى تحسين. أتمنى أن يكون لسينودس اليوم آليات فعالة وعملية لتطبيق مقرراته وتوصياته. أتمنى من شعبنا ومؤمنينا أن يساعدونا على تطبيق ما تعلمناه من هذا السينودس. أتمنى من شعبنا في الشرق أن يكون حامل البشرى والأمل والرجاء لإخوتنا المسلمين. وقد قلت في مداخلتي في السينودس نهار الجمعة 15 أكتوبر الجاري: "نحن نفكر كثيرًا كيف نحافظ على الأرض، بيوتنا وممتلكاتنا. هذا مهم، ولكن الأهم أن يكون لنا إيمان بالرب. لماذا؟ لأن من عنده الإيمان يعرف كيف يحافظ على الأرض".

لقد علق أحد الصحفيين على مداخلات السينودس بالقول: "أغرب ما أثاره سينودس الشرق المنعقد حالياً في الفاتيكان هو ذلك التفجع على مصير مسيحيي لبنان تحديداً الذين بات وجودهم يقاس بالغالبية المفقودة والمهمة المفتقدة". ما هو تعليقكم على هذه القراءة؟

الأسقف درويش: شخصيًا لم أشعر أن هناك تفجع أو تحسر للوجود المسيحي. ربما أثير بعض المرات، ولكن معظم المداخلات كانت تشيد بالعلاقات المسيحية الإسلامية. ربما تحدث أسقفان عن التطرف في الديانات ولكنهم لم يعمموا ذلك على ديانة ما. معظمنا طرحنا موضوع الإيمان عند المسيحيين. والكثيرون تحدثوا عن إيجابيات وجودنا في العالم العربي. نحن حاملو رسالة، ومن الأهمية بمكان أن نقدمها للعالم العربي: رسالة محبة، تسامح وسلام. يسوع يعلمنا أننا مثل الخميرة في العجين. رغم أنها جزء صغير، إلا أنها تخمّر كل العجين. ونحن ملح الأرض، رسالتنا أن نعطي للحياة وللمجتمع طعمه ومعناه.

غالبًا ما ترتفع أصوات المسيحيين كلٌ في واديه. ويتحدث كل مسؤول روحي مسيحي عن طائفته. أعتقد أنه يجب أن نوحد صوتنا ومطالبنا. ولهذا، في معرض مداخلتي في الجمعية السينودسية تحدثت عن دورنا كمسيحيين في الشرق الذي يُبنى أولاً على توحدنا في ما بيننا – على "الشركة" كما يدعو عنوان السينودس – ودعوت إلى مبادرة عملية تتمثل بإقامة مجلس مسيحي واحد يطالب بحقوق جميع المسيحيين. ويقيم الحوار على الأصعدة الثقافية، الروحية والدينية.

 كيف يمكن لمسيحييّ الشرق في بلاد الإنتشار أن يساعدوا مسيحيّي الشرق الأوسط؟

الأسقف درويش: أعتقد أن المساعدة الأولى التي نستطيع أن نقدمها هي الشركة في المواهب والخبرات الروحية. فأنا شخصيًا، منذ 15 عامًا لإقامتي في استراليا أشارك سنويًا في سينودس الكنيسة الملكية في الشرق وأقدم كل سنة مداخلة وموضوع جديد أطرحه أمام البطريرك والأساقفة الروم الملكيين.

ماديًا، المغتربون الموجودون في استراليا يدعمون أهلهم في لبنان. يصعب أن نتخيل بقاء الكثير من العائلات في لبنان لولا المساعدات التي يرسلها أهلهم من الخارج. ولكني شخصيًا، أعتقد أن مشكلة المسيحيين في الشرق ليست مالية أو مادية. المسألة الحقيقية تقوم على ضرورة اهتمام الكنيسة بشعبنا، وذلك من خلال خدمتنا لعائلاتنا. يجب على الكنيسة أن تتعلم كيف تكون خادمة لعائلاتنا على مثال يسوع المسيح. المادة تأتي إذا كان لنا كرجال دين تواصل مع أولادنا، تواصل في روح مسيحية صادقة.