مرحلة ما بعد سينودس الكنيسة في الشرق

 

الأب رفعـت بدر – روما – عن أبونا

"إنّ العنصرة هي الحدث الأصليّ ولكنها ديناميّة دائمة، وسينودس الأساقفة هو وقت مميّز يمكن فيه تجديد نعمة العنصرة في مسيرة الكنيسة، حتى تُعلَن البشرى السّارّة بصراحة فتَتلّقاها كلّ الشعوب". (البابا بندكتس، 10-10-2010)

  

لم يعد الحديث عن سينودس الكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط نظرياً أو شاعريّاً أو عاطفيّاً. بل هو الآن واقعي، حيث تجري أحداثه ولقاءاته واجتماعاته في إحدى قاعات الفاتيكان الضخمة (قاعة البابا بولس السادس) والمعدّة لتنظيم أكبر الاحتفالات والاجتماعات.

 

1) كيف نقيّم أول الاسبوعين الذي انتهى بالأمس؟

 

كان الأسبوع الأول حافلاً بالمداخلات التي توالى "آباء السينودس" على إلقائها في الاجتماعات اليوميّة المكثّفة، والتي حضر معظمها قداسة البابا وهو رئيس السينودس الأعلى ومضيفه والداعي إليه أصلاً. وغالبية المتحدّثين طبعاً هم البطاركة والأساقفة الكاثوليك المشاركين، بالإضافة إلى بعض الكهنة المرافقين والعلمانيين. هذا فضلاً عن بعض المدعوّين الرسميّين، وبخاصّة ممثلّين عن الأخوة المسلمين واليهود والكنائس الشقيقة، وبخاصّة الكنيسة الأرثوذكسيّة.

 

وبعد الانتهاء من أوّل أسبوع من أسبوعي المدّة القانونيّة المخصّصة عادة لأيّ سينودس، أصبح بمستطاع الجميع، مشاركين بشكل مباشر أو مراقبين أو أهل الإعلام والإهتمام أن يرسموا ملامح هذا السينودس ويقيّموا أعماله.

 

2) وبداية، ومن روما، أبعث بتحيّة إلى كلّ من يصلّي، من وطنه وكنيسته، من أجل نجاح السينودس، ولا أبالغ في القول إن قلت بأنّ هذا النشاط، أيّ الصلاة، من قريب أو من بعيد، هو شأن لا يقلّ أهميّة عن أعمال المشاركين في السينودس نفسه. فنحن بانتظار ما "يقوله الروح للكناس" في الشرق وفي هذا الوقت بالذات، والإصغاء لالهام الروح يحتاج إلى صمت وصلاة، لكي يعرف الشرق أن يميّز صوت الله تعالى بين أصوات عدّة تدعوه إلى خيارات عدّة كذلك. وكم يسرّ المشاركين هنا أن يشعروا بصلوات الأخوة والأخوات في كلّ مكان. وهذه الشركة في الصلاة هي أهم الروابط التي تتخطى المسافات الجغرافية لتتوحد قلبا وقالبا في مسيرة مشتركة. أشخاص كثر ومن كافة المواقع تمنّوا أن تكتب لهم المشاركة بهذا الحدث الكنسي التاريخي، فلم يتمكنّوا. لا يهم، المهم هو أن يؤمن مسيحيو الشرق بأنّ عنصرة جديدة بانتظارنا في الشرق، وقد بدأت رياحها تعصف بنا ، وأبوابنا مغلقة، فهلا ننهض –معاً- لنفتح لرياح الروح؟

 

3) والملاحظة الثانية هي في الانتقال من الفكرة إلى الواقع. وهي أنّه عندما يصبح الحلم واقعاً، يصطدم بلا شك، أحياناً، بواقعيّته، وبأنّه ليس صحناً طائراً قادماً إلينا من السماء أو من منطقة مجهولة. وهذا السينودس، وعندما كنّا في مراحله التحضيريّة، كان حلماً، وكنّا نتصوّره شأناً غريباً ومثيراً وعجيباً. وابتدأ فعلياً، بشكل واقعي جدّاً جعل منه أمراً عاديّاً، وأزاح عنه صفة الأسطوريّة والعجائبيّة. وبعد أن كنّا نتحدّث عنه كخطة فريدة من تاريخ هذا الشرق، نجده اليوم "وجوها" تاريخيّة وواقعيّة، وغالبية الآباء المشاركين هم من كبار السنّ، فنرى في وجوههم قلقاً وفي ذات الوقت تفاؤلاً في أن تحمل الأيام المقبلة بعضاً من الفرح للشرق. ومن هذه الوجوه الواقعيّة، تقرأ تاريخ كنائس وحتى بلدان، وهموم المسيحيين هناك، وليس بلد بخالٍ منها… ومنها كذلك ترسم ملامح المستقبل.

 

4) أمّا الأحاديث –الغزيرة- التي قيلت، على مدار الأسبوع الأوّل، فهي مناسبة أيضاً للتمييز والتفحص والتركيز. فهنالك من تكلّم، مع كامل الإحترام، لأنّه يريد أن يسجّل خطوة أمام "صاحب القداسة" وأمام مجمعه وكنيسته ودولته … الاّ أنّ "بعضاً" من الكلمات لم تخل من أسلوب خطابي اعتدنا عليه ولم يجلب جديداً كثيراً.

 

لقد بحثت في مجمل الكلمات، على كلمات نبويّة تستشرف مستقبلاً يشقّ دربه بين تحديّات اليوم، في الرجاء الذي يفعم صفحات "وثيقة العمل الأساسيّة" التي وضعت الخطوط العريضة لنقاشات الآباء حالياً، إلاّ أنّ القليل ممّا قيل يحمل نفَساً نبويّاً وزرعاً للرجاء، وباقي الكلمات كانت تمنيّات وعرضاً لمشاكل وجزئيّات كان من الممكن ألا تدخل بتفاصيلها الضيّقة في حدث كبير كهذا.

 

5) كم هو بالغ الأهمية أن نرى الكنائس الشرق اوسطية كلها مجتمعة حول خليفة بطرس، تتدارس أوضاعها وتصلي من أجل مستقبل أفضل وأحوال أفضل مما هي عليه الآن. وكل كنيسة تبقى باحثة عن تقديم خدمة عالية في المجتمع. وهذا بالطبع حسن، بل حسن جداً، إنّما هنالك خطوة أولى قبل الشهادة في المجتمع، وهذا ما ركّز عليه قداسته في عظة الافتتاح المهيب، لقد قالها بكل وضوح: "أيها المجتمعون، ويا مسيحيي الشرق العزيز: لا شهادة بدون شركة". كلمات قليلة اختصرت الكثير من المسافات. والى الأخوة والآباء القادمين لكي تكون الكنيسة حاضرة بكل قواها في المجتمع، فاجأهم بندكتس السادس عشر، وبشكل مباشر قال: "ليس بالإمكان تقديم شهادة حسنة، ما لم تعمّر الشركة قلوبكم"! فكل كنيسة، دن استثناء، تبحث عن سبل إظهار إيمانها و"قوتها" من خلال التزامها في مجتمعها وقضاياه العادلة: وهي أصلاً جزء منه، لكنها ستكون عاجزة عن أداء هذه الشهادة، ما لم تعش أولاً حياة الشركة. بين مختلف الكنائس طبعاً، ولكن وأوّلاً، وبالضرورة، عيش الشركة داخل الكنيسة نفسها، وقد عدّدها البابا في العظة، حين قال مخاطبا ممثلي كنائس الشرق بكامل تراتبيّتها: "هنالك وحدة أولية مطلوبة من البطريرك والاساقفة والكهنة والرهبان والعلمانيين. وفي ظني إذا عادت كل كنيسة وكل مجموعة مشاركة وكلّ فرد في هذا الحدث التاريخي الذي يتخطى لحظات انعقاده واحتفالياته، ليصل إلى درجة التطبيق العملي لتوصياته، أجل، إذا عادوا جميعا بهذه القناعة، أن الشركة هي أولاً، من أجل شهادة أبلغ في المجتمع، فهذا بحدّ ذاته نجاح كبير للسينودس.

 

6) ماذا بعد؟ هل مبكر أن نفكر بمرحلة ما بعد السينودس؟

 

كلا، فالأسبوع المقبل هو مرحلة ما "بعد" السينودس، وليس الامر ببعيد، علينا التفكير معاً في كيفية ايصال هذه الرسالة الى المؤمنين في كافة مناطق الابرشيات التي شاركت. لنصلّ إذاً في هذا الأسبوع أيضاً، فقد انتهت في الاسبوع الاول الكلمات والخطابات … ماذا سيقول السينودس في هذا الأسبوع؟ وما هي النواحي التي سيتم التركيز عليها؟ أيّة رسالة سيوّجهها آباء السينودس إلى العالم العربي وإلى العالم أجمع، إلى مسيحييهم، كما إلى شركائهم المسلمين؟…

 

وقبل ذلك علينا أن نسأل ونفكر معاً حول السبل الرعوية والمدرسية -وطبعاً الإعلاميّة- التي علينا اتّباعها من أجل إيصال رسالة السينودس إلى مؤمنينا الكرام، وإلى مواطنينا الأعزاء … لا نريد للسينودس أن تكون أوراقه في مهبّ الريح، ولا نريد التوقّف عند ما ركّز عليه آباء كثر في هذا السينودس، وهو أن عقد السينودس بحدّ ذاته، هو نجاح… هذا جيّد، ولكن علينا أن ننطلق، وبشكل فوري للحديث والتفكير، وقبل ذلك للصلاة، من أجل مرحلة ما بعد السينودس؟ هل نحن مستعدّون؟

 

الصلاة … الصلاة

 

7) لعلّنا لم ننس الكلمة السحريّة التي رافقت سينودس أبرشية القدس قبل عقد من الزمان وأكثر، أي كلمة "معاً". واليوم تعود ذاتها في سينودس الكنيسة في الشرق بكلمة سحريّة، هي من أخواتها، أي الشركة… هوذا برنامج عمل لمسيحيّي الشرق … ولمدّة غير محدودة… 

 

         والشركة أوّلاً، ومن ثمّ الشهادة…