ويكيليكس ومغارة بيت لحم

 

المطران بطرس المعلم

ويكيليكس، لا حديث هذه الأيام إلا عنها: في المحافل والمنتديات، في الصحف والإذاعات والتلفزيون والإنترنت. والحقيقة أني، قبل أن تتفجر، أخيرًا بمثل هذا الدويّ، لم أكن أعرف عنها شيئًا، بل لم أسمع باسمها. بحثتُ وتابعتُ الأخبار، وفهمتُ أن الكلمة، في غاية التبسيط، هي اسمٌ لموقعٍ إلكترونيّ من أضخم المواقع العالمية، إن لم يكن أضخمها، اختصاصُه المميز تخزينُ و"نشرُ تقاريرَ ووثائقَ سرّية، لا يمكن الحصول عليها من أيّ مصدرٍ آخر" (غوغل). أنشأ الموقعَ سنة 2006 مثقفون وتقنيون صينيون، منشقون عن الحزب الحاكم، انضمّ إليهم أكاديميون من دولٍ أخرى، أشهرهم جوليان أسّانج، الأستراليّ المولد والمديرُ الفعليّ للموقع.

 

بعد أقلّ من سنة على إنشائه، كان الموقع قد جمّع حوالي المليون وربع المليون من تلك التقارير والوثائق السرية، وراح يضاعف التجميع والتخزين، ومن حين إلى آخر يسرِّب بعض ما جمّع. وفي الأشهر الأخيرة تضاعف التهريب والتسريب. ففي تموز 2010 سُرِّبَت 76.900 وثيقة من يوميات حرب أفغانستان. وفي تشرين الأول سُرِّبَت 400.000 وثيقة عن حرب العراق. وفي تشرين الثاني الماضي 179.000 وثيقة دبلوماسية من خارجية الولايات المتحدة، وعدد من خارجياتِ دولٍ كبرى غيرِها، مما فجّر الوضعَ دوليًّا: فأوقِف جوليان أسّانج في بريطانيا، وطالبَت به السويد لمقاضاته في اتهاماتٍ مختلفة. أما الولايات المتحدة فتُصرّ على محاكمته في أراضيها، حيث يواجه حكمَ الإعدام، لإفشاء الموقع أسرارًا عسكرية غاية في الخطورة.

 

وما العلاقة بين الويكيليكس والمغارة؟ هي، بكل بساطة، مجرّد "شطحةٍ" فكرية.

 

كنا قد كتبنا في مقالنا السابق، عفويًّا وقبل أن تنفجر قضية الويكيليكس: "الدبلوماسية الحقة لا تعني الخداع والمخاتلة، وإعلانَ الشئ وإضمارَ عكسه، وإنما هي لغة الكلام الناعم الشفاف، المنطلق بالصدق من القلب قبل الشفاه، والذي يصل الى القلب قبل الأذن، فلا مفاوضات سلام ليس أساسها الصدق والثقة والحق والعدالة…" هل كنا نصِفُ حقيقةَ ما يجري فعلاً في دواوين الدبلوماسية؟ وها قد جاء مَن يفضحها، بل هي جاءت لتفضح نفسها بنفسها، من خلال التقارير والوثائق التي تقول الشئ وعكسه، وتصرّح بالأمر وتنفيه. يصوّرون واقع الأمور خلاف ما هي عليه، ويصوغون التقارير الكاذبة، وعلى أساسها يشنّون الحروب الطاحنة، فيزجّون في أتونها مئات آلاف الجنود، ويُغرقون ملايين البشر الأبرياء في بحار الدماء والدمار. ضحكوا على شعوبهم لكسب أصوات الانتخابات، وحين صاروا في الحكم راحوا يلعبون بمصائر تلك الشعوب ، وفق مصالحهم هم، تاركين ناخبيهم يتيهون في الأوهام التي حشَوا بها رؤوسهم، إلى أن جاءت أوراقهم ومستنداتهم نفسها تفضح الكذب والرئاء الذي طال ما تستروا عليه. هل في الأدب العالمي كله كلامٌ أقسى على الرئاء من كلام الإنجيل المقدس، يكرره مرارًا السيدُ المسيح نفسه، قمة اللطف والرحمة والحنان: "الويل لكم يا علماء الشريعة والفريسيون المراءون…" (متى 23: 1-36).

 

الإنسان له الحق في الكلام الصادق: "ليكن كلامكم: النَعَم نعَم ، واللا لا، وخلاف ذلك فهو من الشرير" (متى 5: 37). فالمعركة إذن هي بين الخير والشر، بين مَن وحده قال: "أنا الحق" (يوحنا 14: 6) وأنا "جئتُ إلى العالم حتى أشهد للحق" (18: 37)، وبين "إبليس الكذّاب وأبي الكذب" (8: 44). وعلى مدى أجيال وقرون كانت آراءٌ وفلسفاتٌ ومذاهبُ وأيديولوجيات حاولت تبرير الكذب تحت ألف ذريعة وذريعة، وكلها امتهان لكرامة الإنسان وحقه في المعرفة الصادقة الحقة. بل كانت هناك ميثولوجيات وأصنام و"أديانٌ" تخلق "آلهتها" أوثانًا على صورتها ومثالها، وقوّلوا الله ما لم يقله، كذبًا وافتراء. ولكن حُبّ العِلم والمعرفة الصادقة الحقة طبعٌ وفِطرة في الإنسان. أليس لهذا جعله الخالق "حيوانَا ناطقًا" أي ذا عقل ومنطق، وهل غذاءُ العقل إلا الحقُّ والحقيقة؟.

 

في سعيه المُحقّ الطويل لبلوغ العِلم والمعرفة والحقيقة، كثيرا ما ضلّ الإنسان طريقه، فزاغ وغوى، فكان الله يبعث لإرشاده وهدايته الأنبياءَ والمرسَلين. ولكن، "لمّا بلغ ملءُ الزمان، أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة" (غلاطية 4: 4). أجل، "إن الله، بعد أن كلّم الآباء قديما بالأنبياء مرّاتٍ كثيرة، وبشتّى الطرق، كلمنا نحن، في هذه الأيام الأخيرة، بالابن الذي جعله وارثًا لكل شئ" (عبرانيين 1: 1-2). فهذا الآتي مولودًا من امرأة، في مغارة بيت لحم، هذا هو الذي نعيّد الأسبوعَ القادم لذكرى ميلاده، كما كان الأنبياء قد أخبروا عنه، مئاتِ السنين قبل ميلاده: "وأنتِ يا بيت لحم أفراثة، لستِ الصغرى في مدن يهوذا، لأنه منك يخرج لي سيّد…" (ميخا 5: 2 :القرن 8 ق.م.). – "الربّ نفسه يؤتيكم هذه الآية: ها إنّ العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عِمّانوئيل" أشعيا 7: 14 :القرن 8 ق.م.). هذه العذراء مريم، هي عينها التي اصطفاها الله وطهّرها، واصطفاها على نساء العالمينن (آل عمران 42)، والتي جعلها وابنها آية للعالمين (الأنبياء 91).

 

يقول آباء الكنيسة إنّ الإنسان (آدم) أراد أنْ يصير إلهًا فسقط، فأراد الله أن يصير إنسانًا فرفعه إليه. فإلى هذا الطفل المولود في مغارة بيت لحم، الملفوف بالقمط، والمُضجَع في مذود، إليه ترنو عيوننا، لا إلى أساطين السياسة وألاعيب الدبلوماسية في ملفات الويكيليكس. إنه، في وداعته وبراءته وبساطته، يعلّمنا منذ اليوم، ومِن على قشّ مذوده، أن "النَعَم نَعَم واللا لا" هي محورُ خلاصِِ وسعادة البشر، الذين بِشّرهم الملاك: "المجد لله في العُلى، وعلى الأرض السلام، وللناس "الفرحُ العظيم" والمسرّة" (لوقا 2: 6-14).

عن موقع ابونا