عيد الميلاد وأسبوع الوئام بين الأديان

 

الأب حنا كلداني

عيد الميلاد، عيد مجيد، وفرحة عامة، ويوم عطلة وطنية. عيد الميلاد، وكل عيد، هو عودة وذكرى لحدث ديني تأسيسي قديم بقدم الدين، وهو انطلاق الى استحضار المشاعر والاحداث الاولى الدينية التأسيسية من خلال العبادات والشعائر والتقاليد. ومن ثم التوسع الى المفهوم الشامل للعيد، بانه حدث الهي انساني كوني يهم كل انسان وكل الانسان، وسعي للقاء الآخر، وان كان مختلفا. لان الله سبحانه تعالى في ارساء الاحداث الاولى التأسيسية للديانات، لم يشأ ان يظل العيد، الذي يؤرخ ويحتفل بحدث ديني تأسيسي، انطوائيا يخص ولا يعم، بل اراد ان يكون العيد مساحة لقاء، وفضاء تواصل بين أبناء البشر. وان كان العيد يخص فئة معينة في معناه الحصري، ولكنه في المعنى العام وفي الفهم الشامل يخص الانسانية جمعاء. ومن هذا المنطلق نعيد على جميع المسيحيين المحتفلين بالعيد، ولكن ننطلق لنتواصل ونفرح مع جميع أبناء الوطن الاردني الكبير، مسيحيين ومسلمين، وعلى رأسهم جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم.

 

ان جلالته يأخذنا في هذا التجاه الكوني لمعنى الأعياد في دعوته الى الاحتفال بأسبوع الوئام بين الاديان. فهذا الأسبوع هو خروج اهل الاديان، مسلمين ومسيحيين وغيرهم، من دائرة الفكر الديني الخاص بهم الى رحاب الانسانية. ولعل الاديان بحد ذاتها ليست بحاجة الى الوئام، لان مصدرها في البعد التجريدي هو الله، الذي هو الوئام الكامل بحد ذاته. بينما الحاجة الماسة هي الى الوئام بين اتباع الاديان، لأنهم ابتعدوا عن جوهر الاديان، فوقع الخصام بينهم. لنقدم اذا، ما هو في طيات الدين من حب الهي ومغفرة ومصالحة وتوبة لانفسنا ولكل البشر. في هذا السياق دعا جلالته في بروكسل يوم 16-12-2010 الى: "تفعيل حوار الاديان بهدف بناء جسور التواصل وازالة المفاهيم المغلوطة بين اتباع الديانات.. وأهمية العمل المشترك في هذا السياق لتعظيم قيم السلام والتسامح وقبول الاخر". ان "المفاهيم المغلوطة بين اتباع الديانات" تأتي من تلاقي وتداخل الحدث الروحي الالهي في القالب البشري التاريخي للحدث الديني، اما "التسامح وقبول الآخر"، فمصدره ونشأته تنبع من الحب الالهي المجرد الذي وصل البشرية في الماضي، ولا تزال عملية هضمه واستيعابه محدودة ونسبية في كل الاديان، لاننا بشر، ضعفاء ومحدودون، ولم نصل بعد الى قامة الحدث الديني العظيم.

 

ان المبادرات الكريمة والملكية التي نمت في الأرض الأردنية الطيبة، كرسالة عمان ومبادرة كلمة سواء وزيارة البابا بندكتس السادس عشر للأردن، واسبوع الوئام بين الاديان، تدعونا اليوم ونحن على مشارف الميلاد، ان نستقبل العيد معظمين الدروس والعبر، منطلقين في رؤية عميقة وروحانية لفهم واستيعاب رموز العيد، لنتجاوز حدود انسانيتنا الضعيفة الخاطئة الى رحاب الفكر السماوي للعيد، الذي يشمل فرحه كل الناس. واستنبط هذه الدعوة من مبادرة جلالة الملك، الذي يرى في الاديان وأتباعها امكانية بناء الوئام والسلام بين الشعوب وعليه اتامل في رموز العيد على الوجه التالي:

 

صلاة العيد: صلاة العيد هي لقاء مع الله ومع الانسان، صلاة العيد توبة واستغفار وفرح، ولا تتم هذه الصلاة الاب المشاركة الكاملة وتحول المؤمن من دور المشاهد المتفرج، الى دور الفاعل المشارك بالتوبة والمناولة، وهذه الممارسات الشعائرية المقدسة تحملنا على المصالحة مع ذاتنا والآخر، وقبول الآخر على اختلافه معنا. فان كان الله سبحانه تعالى قد قبلنا على علاتنا وضعفنا دخل في تاريخنا الانساني، الا نقبل الآخر ونجعل له في قلوبنا مساحة حب وفضاء اخاء ومودة؟.

 

مغارة العيد: مغارة العيد تذكرنا ببساطة الحدث الميلادي الاول، وهذه المغارة تقودنا الى ما جاء في انجيل مار يوحنا: "صار بشرا وسكن بيننا". فالميلاد، وكل الاعياد، عبارة عن اقتراب الله من الانسان، أفلا نقترب نحن من الله سبحانه تعالى بالعبادات؟ ونقترب من الانسان بالقبول والانفتاح.

 

شجرة العيد: هي رمز الحياة واحترام الحياة وحب الحياة، فلا يمكن ان يجمع المؤمن حب الحياة، وترمز اليه الشجرة، مع الكراهية والعنف والميل للانتقام والاحكام المسبقة والانعزالية. تفقد شجرة العيد معناها، اذا لم احترم الحياة وكل حياة، حتى الحياة النباتية في الطبيعة، ومن هذا المنطلق ان تقطع شجرة حرجية عن جانب طريق او من بستان جارك لتنصبها في بيتك تدخلك في دائرة الحرام والتعدي على الخير والنفع العام.

 

بابا نويل العيد: على تعدد الروايات من اصل هذه العادة، فهناك توافق تاريخي على ان نشوء هذه الممارسة كان بغاية تقديم الهدية والمساعدة للفقراء والمعوزين في الخفاء على حد قول الانجيل: "أما أنت فاذا تصدقت فلا تدع شمالك تعلم ما تفعل يمينك، لتكون صدقتك في الخفية، وابوك الذي يرى في الخفية يجازيك". وأصل بابا نويل يقبع الخفية، اذ يتنكر المرء في زي القديس نقولاوس لتقديم الحسنة الى الفقراء. وان غدا بابا نويل اليوم هو مقدم الهدايا لاطفال، فهو دعوة الى الحسنة وعمل الخير واشراك الفقير والمعوز في أعيادنا. فلا بأس ان يظل بابا نويل يقوم بدوره المحبب للاطفال، ولكن على ان يمارس الكبار والبالغون فكرة بابا نويل، وهي تقديم الحسنة والقيام بالخير ومساعدة المحتاجين. فلا يقبل ان يقتصر بابا نويل على الصورة الخارجية الطفولية ويفرغ من معناه الخيري الغيري الحقيقي. فلاطفال لعبتهم في العيد وهي بابا نويل، اما الكبار فلهم قضيتهم الانسانية الخيرية، ولا يجوز ان يقفوا في تفكيرهم عند ألعاب الاطفال.

 

حلوى العيد: يحب الناس المذاق الحلو لانه اقرب الى فطرتهم الطيبة، وحتى تعوض حلاوة المذاق عن مرارة العيش، وقسوة الانسان تجاه الانسان. فلعل حلوى العيد تدفعنا الى تقديم أجمل ما عندنا واحلى منا لدينا للخير الذي هو موضع حبنا واكرامنا، على حد ما اوصانا الانجيل المقدس: "افعلوا للناس ما اردتم ان يفعله الناس لكم".

 

برد العيد: هذا العام، ترافقه شمس ساطعة وقلة في الأمطار والثلوج، على خلاف ذاكرة الميلاد التقليدية، بأنه زمن الشتاء العميم والخير الوفير والثلج الناصع. فيجب في الميلاد ان نقف امام ذاتنا موقف المحاسبة والمسؤولية. اذا يعلمنا خبراء وعلماء المناخ ان ارتفاع حرارة الارض والغلاف الجوي وقلة الامطار، وذوبان الثلوج في القطب الشمالي والجنوبي وارتفاع مستوى البحار من فعل الانسان الذي استغل الطبيعة بالتصنيع الجائر وبث غاز ثاني اكسيد الكربون، دون الالتفات الى احترام امنا الارض خليقة الله، التي ارادها مسكنا طيبا للانسانية. فعيد الميلاد يحفزنا الى مصالحة الانسان مع الطبيعة والى المحافظة على بيئة سليمة نظيفة.

 

وئام العيد: لقد دعا جلالة الملك الى اسبوع الوئام بين الاديان، فقال جلالته في 16-12-2010 في بروكسل: "وقد قمنا بذلك من خلال اطلاق اسبوع الوئام العالمي بين الاديان والذي سيتم احياؤه في الاسبوع الاول من شهر شباط من كل عام. ويمثل هذا الاسبوع مناسبة تطوعية، يبادر الناس من خلالها للتعبير عن تعاليم دينهم حول التسامح واحترام الاخر والسلام". وما دعوة جلالة الملك هذه، الا عودة الى اكتشاف الاحداث التأسيسية للاديان، التي تشير اليها الاعياد. هذه الاحداث التي تتصف بالبساطة والتقشف والزهد، وتكشف للانسانية سرا من اسرار الله في ابواب رحمته وحبه لبني آدم. ولكن الانسان في كنف الاديان مع مرور الايام والازمان، ابتعد عن جوهر الاحداث التأسيسية (أي الاعياد) وارتبط بما بنا لاحقا حول الحدث التاسيسي من نظم ومؤسسات واطر بشرية سياسية واجتماعية وطائفية. وكلما اقترب المؤمن، من أي دين، من الحدث التأسيسي الاول (العيد) أدرك ان الدين عند الله واحد، ولكن صوره جاءت متعددة بما يناسب الظروف التاريخية المتلاحقة لتطور البشرية. فالوئام بين الاديان من صلب تعاليمها ورسالتها، وخصوصا عندما يتأمل المرء الاديان في أبعادها التاسيسية الاولى، أي الاعياد. وخلاف ذلك فمن تفاعل الحدث الالهي مع الواقع البشري، ومن صنع الانسان والتاريخ والمؤسسات ومصالح الجماعات والطوائف المتعددة. أما الطائفة والعقلية الطائفية، فما هي الا الصورة الضعيفة المشوهة عن الدين. فدعوة جلالته تعود بنا وتجذبنا الى اقامة العيد في معناه الاول الكوني البسيط غير المركب وغير المعقد، كون الله صاحب العيد، ورب كل الاعياد التوحيدية، بسيط غير مركب في ذاته، وجوهره هو التوحيد والأزلية.

 

وتعظيماً واستحساناً لمبادرة جلالته، اقول، ان اهل البيت، أي نحن الاردنيين أولى بمبادرته. فأدعو الى يكون الميلاد مقدمة لاسبوع الوئام بين الاديان، وقس على ذلك كل اعيادنا المسيحية والاسلامية، الاضحى والفطر. ولا شك اننا في الاردن لدينا عادات وتقاليد حميدة في ممارسة واحياء اعيادنا، فعلينا ان نبني على الارث الطيب من التواصل والمودة بين ابناء الشعب الواحد، الذي ورثناه عن ابنائنا واجدادنا، وننقل هذا الاث الى شبابنا واجيالنا الصاعدة، من خلال مبادرات جديدة خلاقة يسهم الاعلام المرئي والمسموع والمكتوب في الترويج لها، وربطها بمبادرة جلالته. كما ان لمنظمات المجتمع المدني والمنتديات الثقافية والشبابية دور كبير في تفعيل المبادرة الملكية السامية، وتحويلها الى ممارسات وطريقة عيش وتعامل بين ابناء الوطن الواحد، ليظل الاردن، كما كان دوما، نموذجا للمحبة والاخاء.

 

واخيراً، اتقدم باسم مجلس رؤساء الكنائس في الاردن بأجمل التهاني والتمنيات الطيبة لجميع المسيحيين في الاردن وفي العالم ولكل أبناء الاسرة الاردنية الواحدة بمناسبة عيد الميلاد، ليغدو الميلاد مبادرة خير وسلام ووئام بين الناس. وان نعيش كل يوم وكل اسبوع في وئام وحب مع الله وذاتنا والجار القريب والبعيد. فان الميلاد، وكل عيد، يهدم جدار العداوة ان وجدت بين الناس، ويبني جسور التواصل والوئام والمحبة، وكل عام وأنتم بخير.

 

أمين عام مجلس رؤساء الكنائس في الأردن.

عن أبونا