كلمة البابا في قداس تبريك الزيوت

 

حاضرة الفاتيكان، الجمعة 22 أبريل 2011 (Zenit.org)

ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها بندكتس السادس عشر صباح يوم أمس الخميس في قداس تبريك الزيوت.

***

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء!

تتمحور ليتورجية هذا الصباح حول تبريك الزيوت المقدسة وزيت مسحة الموعوظين وزيت مسحة المرضى والميرون للأسرار الواهبة للروح القدس: التثبيت والسيامة الكهنوتية والسيامة الأسقفية. في الأسرار يلمسنا الرب من خلال عناصر الخليقة. الوحدة بين الخليقة والفداء تظهر للعيان. الأسرار هي تعبير عن تجسيد إيماننا الذي ينطوي على الجسد والنفس، أي الإنسان بكامله. الرب ترك الأسرار علامة حضوره. والزيت هو علامة الروح القدس وهو في الوقت عينه يقودنا الى المسيح: كلمة "مسح" تعني "الممسوح".

إن بشرية يسوع، وبواسطة وحدة الابن مع الآب، تدخل في الشركة مع الروح القدس، وهي بذلك ممسوحة بطريقة فريدة ويحييها الروح القدس. ما حدث مع الملوك والكهنة في العهد القديم حدث بطريقة رمزية في المسح بالزيت، الذي من خلاله ترقوا الى خدمتهم، يحدث في المسيح بكل واقعه: الروح القدس يخترق بشريته، هو الذي يفتح بشريتنا على عطية الروح القدس.

كلما اتحدنا بالمسيح، كلما غمرنا روحه، الروح القدس. نحن ندعى "مسيحيين": "ممسوحين" – اشخاص ينتمون للمسيح، ولهذا يشاركون في مسحه، يلمسهم روحه. لا أريد فقط أن اُدعى مسيحياً بل أريد أن أكون مسيحياُ – قال القديس اغناطيوس الانطاكي. فلتذكرنا هذه الزيوت المقدسة التي تتبارك الآن بجوهر كلمة "مسيحي" ونسأل الرب أن لا ندعى مسيحيين وحسب بل أن نكون مسيحيين بالفعل.

في ليتورجية اليوم يتم تبريك ثلاثة زيوت. وفي هذه الثلاثية تعبير عن ثلاثة أبعاد اساسية في الوجود المسيحي، سنتأمل بها الآن. نبدأ بزيت الموعوظين الذي يشير الى الطريقة الأولى التي من خلالها يدخل الإنسان في علاقة مع المسيح ومع روحه – لمسة داخلية يجذب الرب من خلالها الاشخاص إليه. من خلال هذه المسحة الأولى، التي تحصل قبل المعمودية، يتوجه نظرنا نحو الأشخاص الذين يبدأون مسيرة نحو المسيح – الأشخاص الذين يبحثون عن الإيمان، عن الله.

زيت الموعوظين يقول لنا: ليس البشر فقط يبحثون عن الله. الله نفسه يبحث عنا. بصيرورته بشراً، وبغوره في عمق الوجود البشري حتى ظلمة الموت، يُظهر لنا كم أن الله يحب الانسان خليقته. بدافع المحبة، الله يسير نحونا. في نشيد "يوم الغضب" نصلي: "في بحثك عني جلست تعباً…. فلن يذهب هذا العناء سداً"! الله يبحث عني.  هل أريد معرفته؟ هل أريد أن يعرفني وأن يجدني؟ الله يحب البشر. إنه يواجه قلق قلبنا وقلق تساؤلنا وبحثنا بقلق قلبه الذي يجعله يقوم بعمل خلاصنا.

لا يمكن للقلق تجاه الله والخروج اليه لمعرفته بطريقة أفضل، لمحبته بطريقة أفضل، أن ينطفىء فينا. وبهذا المعنى فلا بد لنا أن نبقى دائماً موعوظين. "ابحثوا دائماً عن وجهه"، يقول المزمور (105: 4). وفي هذا الصدد علق القديس أغسطينوس: "الله كبير لدرجة أنه يتخطى بطريقة لامتناهية كل معرفتنا وكل كياننا. معرفة الله لا تتوقف أبداً. حتى الأزل يمكننا وبفرح متنام، ان نستمر في البحث عنه وفي معرفته ومحبته أكثر فأكثر. "لن يهدأ قلبنا حتى يرتاح فيك" قال أغسطينوس في بداية اعترافاته. نعم، الإنسان قلق، لأن كل ما هو زمني هو قليل جداً. ولكن هل نحن فعلاً قلقون تجاهه؟ ألم نستسلم لغيابه ونحاول أن نكتفي بذواتنا؟ لا نسمحن لهكذا تنازل في كياننا البشري! فلنبق دائماً في مسيرة نحوه، في الحنين إليه، في المعرفة والمحبة الدائمتي التجدد!

هناك ايضاً زيت مسحة المرضى. نحن أمام قوافل الأشخاص المرضى: الجياع والعطشى، ضحايا العنف في جميع القارات، المرضى بكل أوجاعهم وآمالهم ويأسهم، المضطهدين والمسحوقين وذوي القلوب المحطمة. عن أول إرسال ليسوع لرسله يخبرنا القديس لوقا: "أرسلهم ليبشروا بملكوت السموات وليشفوا المرضى" (9: 2). الشفاء هو مهمة اولية أوكلها يسوع للكنيسة، على مثاله هو الذي عبر شوارع القرى شافياً المرضى. بالطبع، الدور الرئيس للكنيسة هو إعلان ملكوت الله، ولكن لا بد لهذه البشارة عينها أن تكون بذاتها مسيرة خلاص: "…يضمد جراح القلوب المنكسرة" نسمع في القراءة الأولى من النبي إشعيا (61:1). لا بد لبشارة ملكوت الله، صلاح الله اللامحدود، أن يبعث فينا قبل كل شيء/ شفاء قلب البشر الجريح. الإنسان بجوهره هو كائن في علاقة، وإذا كانت العلاقة الأساسية – أي العلاقة مع الله – متزعزعة، فكل الباقي يتزعزع.

إن كانت علاقتنا مع الله مشوشة، إن كان التوجه الأساسي لكياننا خاطئاً، لا نستطيع أيضاً أن نشفى بالنفس والجسد. لذلك، فإن الشفاء الأول والأساسي يحدث في اللقاء مع المسيح الذي يصالحنا مع الله ويشفي قلبنا الجريح. وإنما إضافة إلى هذه المهمة الرئيسية، يشكل الشفاء الفعلي من المرض والمعاناة جزءاً أيضاً من الرسالة الجوهرية للكنيسة. فالزيت لمسحة المرضى هو التعبير الأسراري المرئي عن هذه الرسالة. منذ البداية، نمت الدعوة إلى الشفاء في الكنيسة، والمحبة الودودة تجاه المعذبين جسدياً أو روحياً. إنها فرصة لتقديم الشكر مجدداً إلى الإخوة والأخوات الذين في العالم أجمع يحملون إلى البشر محبة شافية، بغض النظر عن مركزهم أو عقيدتهم الدينية. ابتداءً من إليزابيث دو تورينغ، منصور دو بول، لويز دو مارييّاك، كميلا ليلي، حتى الأم تريزا – وهذه ما هي إلا بعض الأسماء – تخترق العالم سلسلة منيرة من الأشخاص ومنبثقة من محبة يسوع للمتألمين والمرضى. لذلك، نشكر الآن الرب. لذلك، نشكر جميع الذين بموجب إيمانهم ومحبتهم يلازمون المتألمين مقدمين إليهم بالتالي شهادة عن صلاح الله. إن زيت مسحة المرضى هو رمز لزيت صلاح القلب الذي يقدمه هؤلاء الأشخاص – بجدارتهم المهنية – إلى المتألمين. إنهم يظهرونه من دون التحدث عن المسيح.

ثالثاً، هناك ختاماً أثمن الزيوت الكنسية، الميرون الذي هو عبارة عن مزيج من زيت الزيتون والعطور النباتية. إنه زيت المسح الكهنوتي والمسح الملوكي، المسحين المرتبطين بتقاليد المسح العظيمة في العهد القديم. في الكنيسة، يستخدم هذا الزيت بخاصة للمسح خلال التثبيت والسيامات المقدسة. إن ليتورجيا اليوم تَقرن بهذا الزيت وعود النبي أشعيا: "تدعون كهنة الرب وتسمون خدمة إلهنا" (61، 6). بهذه الكلمات، يكرر النبي كلمة التكليف والوعد التي كان الله قد وجهها لإسرائيل في سيناء: "وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة" (خر 19، 6).

في العالم الواسع وللعالم الواسع الذي بمعظمه لم يكن يعرف الله، كان ينبغي على إسرائيل أن يكون هيكلاً لله للجميع. كان ينبغي عليه أن يمارس خدمته الكهنوتية من أجل العالم. كان ينبغي عليه أن يرشد العالم نحو الله ويفتحه عليه. والقديس بطرس، في تعليمه العمادي العظيم، طبق امتياز ومهمة إسرائيل على جماعة المعمدين كلها قائلاً: "أما أنتم فنسلٌ مختار وكهنوت ملوكي وأمة مقدسة وشعب اقتناه الله لإعلان فضائله، وهو الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب. وما كنتم شعباً من قبل، وأما اليوم فأنتم شعب الله" (1 بط 2، 9). العماد والتثبيت يشكلان الدخول في شعب الله الذي يشمل العالم أجمع؛ إن مسح العماد والتثبيت هو مسح يدخل إلى هذه الخدمة الكهنوتية لصالح البشرية. والمسيحيون هم شعب كهنوتي للعالم. وينبغي على المسيحيين أن يظهروا للعالم الله الحي ويشهدوا له ويرشدوا إليه. عندما نتحدث عن مهمتنا المشتركة، كمعمدين، ينبغي علينا ألا نشعر بالكبرياء لهذا السبب. إنها مسألة تسرنا وتقلقنا في آن معاً: هل نحن فعلاً هيكل الله في العالم وللعالم؟ هل أننا نمهد للبشر الطريق إلى الله أو أننا بالأحرى نحجبه؟ أما أصبحنا نحن – شعب الله – بجزء كبير شعب الجحود والابتعاد عن الله؟

أليس من الصحيح أن بلدان الغرب، البلدان الأساسية للمسيحية، منهكة من إيمانها، وأنها بسبب انزعاجها من تاريخها وثقافتها، لم تعد تريد معرفة الإيمان بيسوع المسيح؟ من الصائب أن نهتف لله الآن: لا تسمح بألا نصبح شعباً! اجعلنا نعرفك مجدداً! ففي الحقيقة أنك مسحتنا بمحبتك، ووضعت روحك القدوس علينا. اجعل قوة روحك فعالة فينا من جديد لكي نشهد بفرح لرسالتك!

على الرغم من كل الخزي الذي نختبره بسبب زلاتنا، ينبغي علينا ألا ننسى أن هناك اليوم أيضاً مثل إيمان نيرة؛ أن هناك اليوم أيضاً أشخاصاً يمنحون الرجاء للعالم بإيمانهم ومحبتهم. عندما سيطوب البابا يوحنا بولس الثاني في الأول من مايو المقبل، سوف نفكر فيه بملء الامتنان كشاهد عظيم لله وليسوع المسيح في زماننا، كرجل ممتلئ من الروح القدس. معه، نفكر بالأعداد الغفيرة التي طوبها وقدسها والتي تعطينا اليقين بأن وعد الله وتكليفه لا يضيعان اليوم في الفراغ.    

ختاماً، أتوجه إليكم أيها الإخوة الأحباء في الخدمة الكهنوتية. خميس الأسرار هو بشكل استثنائي يومنا. في العشاء الأخير، أسس الرب كهنوت العهد الجديد. فصلى إلى الآب "قدسهم في الحق" (يو 17، 17) – من أجل رسل وكهنة جميع الأزمنة. بامتنان كبير لدعوتنا وبتواضع بسبب تقصيرنا، فلنجدد الآن قبولنا لدعوة الرب: أجل، أريد الاتحاد بشدة مع الرب يسوع – منكراً ذاتي… بدفع من محبة المسيح. آمين.