مسيحيو الشرق الأوسط بين المواطنة والطائفية

ترجمة: مدني قصري لصحيفة "الغد" الأردنية

 

ثمة قلق كبير لدى المسيحيين في بعض بلدان الشرق الأوسط، ولدى مَن يهتمّون بأمرهم في أوروبا، بالنظر إلى وضعيتهم الحالية. هذا القلق تُغذيه، من ناحية، المعطيات الديموغرافية المخيفة، ومن ناحية أخرى ما يُعلن باستمرار من شن هجمات عنيفة ضدّهم وضد كنائسهم. ويبدو "الربيع العربي" في هذا السياق وأنه يمثل مرحلة جديدة من التهديد والخوف، مع شبح نشوب الحرب الأهلية الطائفية، أو وصول الإسلاميين إلى الحكم.

 

إلا أن هذا الخوف لا يؤدي إطلاقا إلى البصيرة وبُعد النظر، ولا يساعد بأي حال على مواجهة الوضعية الحالية، أو المستقبلية. فالصورة التي يحملها مسيحيو الشرق الأوسط عن أنفسهم، بصفتهم ضحايا منذ الأزل، صورة يُقاسمهم إياها بوجه عام المسيحيون الغربيون الذين يهتمون بأمرهم. إلا أن هذه الرؤية كثيرا ما تقف عائقا أمام الفهم الحقيقي لوضعهم الحقيقي، وأمام الإمكانات التي يمكن للفهم العاقل أن يوفرها لهم لمواجهة التحديات الحالية.

 

اليوم يصرّ المسيحيون ويستمسكون أكثر من أي وقت مضى، بأصولهم وبلغتهم حتى يحافظوا على هُويتهم الطائفية. ففي مصر التي يجب أن يكون المواطن فيها مسلما في الحياة اليومية حتى يثبت مواطنته الكاملة، يترسخ تأكيدُ الهُوية القبطية أكثر فأكثر من خلال المطالبة بالانتماء إلى الإرث الفرعوني، وإلى حد إنكار الانتماء العربي أحيانا، وهو ما يدفع المسيحيين إلى الانغلاق داخل "غيتو" الأقلية.

 

وفي العراق، يذهب تقسيم البلد إلى كيانات قائمة على أساس الهُويات الطائفية ببعض المسيحيين إلى تعريف أنفسهم كأشخاص منحدرين من الآشوريين القدماء ويتحدثون الآرامية. وهكذا، فإن مُساءلة التاريخ تبدو متواصلة في سياق خطابات التعبئة الطائفية من أجل إثبات الانتماء الإقليمي، وتأكيد استمراريةٍ من دون قطيعة، ومنح الشعور بالانسجام لنفوس المجموعات المهددة بالذوبان إما عبر الهجرة، أو عبر الثقافة المُعولمة. وعلى هذا النحو، يُستثمر التاريخ في صناعة الإثنية، وبلورة الوطن الأصلي، بواسطة الانتماء الديني. لكنّ توظيف الماضي بهذه الكيفية لن يجدي نفعا، لا في تهدئة الخواطر فيما يتصل بذكريات إبادات وإعدامات الماضي، ولا في مواجهة الأحداث الجارية ببصيرة وبُعد نظر.

 

يجب أن يُحسب هذا الطريق الفكري المسدود، في جزئه الأكبر، على الأنظمة الاستبدادية التي تحتل السلطة في بلاد الشرق الأوسط منذ ستين عاما. ذلك أن المستبدين في هذه البلدان، بمنعهم تفتّح الحوار العام بين الناس، وبحظرهم لكل أشكال التعبير الفردي، وكل شكل من أشكال المبادرة الجمعوية، دفعوا الناس نحو الانغلاق في داخل التزمت الديني، ولم يسمحوا بظهور أي سلطة أخرى غير سلطة رجال الدين. وحتى الكنائس نفسها تأسست في غالب الأحيان وفقا للنموذج الاستبدادي الكهنوتي، حيث أصبح رئيس الكنيسة أحيانا نوعا من "الرئيس" لطائفته، ليمارس سلطته وفقا للكيفيات الأبوية والسلطوية القريبة من الكيفيات التي يتبناها رئيس الدولة المستبد.

 

هكذا كان المسيحيون دوما، مثل المسلمين، ضحايا لانطفاء الحياة الفكرية، التي خنقتها السلطة الدكتاتورية، وهجرة النخب المثقفة. فالحرية الأكاديمية لا وجود لها في الشرق الأوسط، وكانت العلوم الاجتماعية أوّل ضحية لهذا الاختناق. ويبدو التاريخ نفسه كخادم طيع للاهوت، أو للإيديولوجية القومية المهيمنة. وأما الأنثروبولوجيا التي كانت توصف في العادة بأنها "نهج استعماري" فقد أُقصيت دوما من المناهج الدراسية. وإلى جانب العلم "الغربي" الذي يُعد كعميل للإمبريالية، فُرض على الناس عِلمٌ "وطني" ما انفك، بحكم غياب التحاور مع البحث، يتقلص إلى إنتاجات بطيئة تندرج في الإيديولوجيات الرسمية، والدولة، والطائفية.

 

صحيح أن البحث الأكاديمي لم يصنع من المسيحيين الشرقيين، على مدى زمن طويل، موضوعا قابلا للدراسة إلا ما تعلق منه بفترات ما قبل الإسلام. لكن الأمور اليوم تغيرت، وبدأ بحثٌ جديد مُركّز عليهم يفرض نفسه. ويوفر هذا البحث أدوات لإعادة التفكير في علاقة المسيحيين بالماضي، وفي علاقاتهم مع المجتمع ذي الأغلبية المسلمة الذي يحيط بهم، وآثار العولمة الحالية عليهم.

 

ولا شك أن هذه الأبحاث قد تساعد على الخروج من تصوّر المسيحيين على أنهم أقليات مضطهدة ومنطوية على هُويات طائفية، قائمة على أسس مشكوك فيها، ومرتبطة بالاستقرار السياسي الذي يمنحهم إياه "الحُماة" الدكتاتوريون. وخير لهؤلاء، أمام التحولات الحالية المُنذرة بالخطر، أن يفكروا أكثر بصفتهم مواطنين، صانعين لمصيرهم، ومشاركين في تأسيس بنية دستورية جديدة في بلادهم، على أساس التعددية الديمقراطية، والحرية الفردية.

 

* مدير المعهد الفرنسي للدراسات الإسلامية ومجتمعات العالم الإسلامي.

* نشر هذا المقال تحت عنوان:

Chrétiens du Proche-Orient, entre citoyenneté et communauté

 

 

madani.guesseri@alghad.jo