الأديان والإنسان.. إشكالية وسائل الاتصالات الاجتماعية الحديثة

القاهرة – إميل أمين

عن جريدة الشرق الأوسط

 

إلى أين تمضي وسائل الاتصال الاجتماعية الحديثة بإنسان القرن الحادي والعشرين وأين تتقاطع حدودها، ويتماس حضورها مع مبادئ الأديان والأخلاقيات والآداب العامة، لا سيما وقد لعبت في العقدين الأخيرين دورا بالغ الأهمية والخطورة في الوقت ذاته، لجهة توجهات البشر شرقا وغربا؟ وعلامة الاستفهام المتقدمة باتت ترتسم شرقا وغربا وحول الكرة الأرضية مؤخرا، بعدما بدا أن بإمكان وسائل الإعلام الحديثة التي قربت المسافات وسهلت الاتصالات الاجتماعية، وأسقطت الحدود الجغرافية بين البشر، أن تصنع «شتاء وصيفا»، على الرغم من أنها ليست من القوى الطبيعية العمياء التي لا تخضع للإرادة البشرية.

 

في هذا الإطار صدرت في 24 يناير الماضي، رسالة من حاضرة الفاتيكان لليوم الـ46 لوسائل الاتصالات الاجتماعية، أشار فيها البابا بندكتوس السادس عشر، إلى أن قسما كبيرا من حركة الاتصالات الحالية، تواجهه أسئلة تبحث عن أجوبة، كما أن محركات البحث وشبكات التواصل الاجتماعي، تشكل نقطة الانطلاق للكثيرين، ممن يبحثون عن نصائح مقترحات، معلومات وأجوبة.

 

ومع الدور الذي لعبته وسائل الاتصال الاجتماعية على نحو خاص العام الماضي، والأعوام القليلة السابقة، وما قاد إلى ثورات الربيع العربي، فقد أظهر عالم الاتصالات المتنوع والمعقد اهتمام الكثيرين في الأسئلة المتعلقة بالوجود البشري، والتفاعل مع مقدرات الحياة من سياسة واقتصاد ثقافة واجتماع أديان وبشر، وبات الأمر يدعو إلى فتح حوار عميق، لا سيما حول قراءتين، الأولى تتعلق بأخلاقيات عالم ما يعرف بالـCybernetique  أي فضاء علم السيبرنيات، أو تبادل المعلومات عبر الأثير من خلال الإنترنت، والآخر بآداب وأخلاقيات وسائل الإعلام والاتصال الحديث بوجه عام.

 

والشاهد أن الكاتب أو الباحث المحقق والمتخصص في شأن ما يجري في حاضرة الفاتيكان، يلحظ اهتماما بنوع خاص ومنذ بداية الألفية الجديدة بهذه القضايا، كما أن «المجلس الحبري لوسائل الإعلام والاتصال الاجتماعية» في قلب الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، كان بالفعل قد أصدر عدة رسائل مهمة في هذا الشأن ومبكرا جدا عن الربيع العربي، الأمر الذي عكس رؤية استشرافية متقدمة لأهمية وخطورة الأمر في آن واحد من قبل.

 

والمدخل الآني في الرسالة الأخيرة يلفت إلى أنه بات من الضروري التنبه لتنوع المواقع الإلكترونية، والبرامج والشبكات الاجتماعية التي بإمكانها مساعدة إنسان اليوم لعيش أوقات التفكير وطرح التساؤلات الأصيلة وإيجاد الأوقات للصمت والصلاة لا سيما أن فيهما يجد المرء ذاته ويعود إلى أصله. وهي دعوة في كل الأحوال بعيدة كل البعد عن محاولة تحقير الإنسان وحضارة في عالم المادية المغرقة في الحسيات والإباحية المدمرة للهوية البشرية كذلك تباعد كثيرا عن منظومة عبادة الإنترنت بوصفه إله العصر الواجب التصوف في محرابه وقضاء الأوقات بالساعات الطويلة أمامه في إبحار من غير طائل.

 

هذا الحديث للبابا الحالي يدعونا لتذكر ما قاله من قبل البابا يوحنا بولس الثاني منذ فترة من أن «وسائل الإعلام وحدها لا تفعل شيئا، إن هي إلا أدوات تستعمل كما يريد لها الأشخاص أن تستعمل». وإذ نفكر في وسائل الإعلام علينا أن نواجه بنزاهة هذا السؤال الجوهري الذي يطرحه التقدم التكنولوجي وهو: «هل سيكون الإنسان أحسن حالا، أي أكثر نضوجا روحيا وأكثر وعيا لكرامته الإنسانية، وأكثر مسؤولية وانفتاحا على الآخرين، وبخاصة على من هم أكثر حرمانا واستضعافا؟ هل سيكون أكثر استعدادا للعطاء وتقديم العون إلى الآخرين؟ حكما أن وسائل الإعلام مدعوة إلى خدمة الكرامة الإنسانية، وذلك عبر مساعدة الأشخاص على العيش الكريم والعمل كأشخاص يعيشون ضمن جماعة، كما أن وسائل الإعلام تقوم بتشجيع البشر رجالا ونساء كي يعوا كرامتهم وينفذوا إلى أفكار الآخرين ومشاعرهم، ويربوا في أنفسهم الحس بالمسؤولية المتبادلة، كما ينمو في الحرية الشخصية وفي احترام رؤية الآخرين، وفي الطاقة على الحوار.. هل من أمثلة حية يمكن التدليل بها على ما للإعلام ووسائل اتصاله الحديثة من أهمية وتقاطع مع أركان الحياة اليومية؟

ليكن عالم السياسة وبحرها الهائج المضطرب مؤخرا مثالنا الأول، وهذا ما نجده بشرح مستفاض في رسالة صادرة كذلك عن المجلس الحبري عشية الألفية الجديدة، وفيه أن وسائل الإعلام تخدم المجتمع بما تقدم من تسهيلات للمواطنين في مشاركتهم المتنورة بالمعلومات في العملية السياسية، وتقرب وسائل الإعلام الأشخاص بعضهم إلى بعض تحقيقا لأهداف وغايات مشتركة، وتساعدهم بالتالي في إنشاء جماعات سياسية حقيقية ودعمها.. هل من مقاربة مع الواقع؟

 

حكما الفارق شاسع بين رؤية ذات مضمون ومحتوى أخلاقي أول الأمر وآخره، وأخرى تذهب إلى جعل تلك الوسائل أداة للفرقة وتعزيز الخلافات وإطلاق الشائعات وتعميق الكراهيات وإثارة القلاقل والثورات لخدمة أهداف تتسم بالأنانية المفرطة والرغبة المتدنية في الهيمنة والسطو والسيادة، إلى آخر منظومات العولمة المتوحشة في جانبها ووجهها السلبي.

 

والمقطوع به أن الإنترنت يعد حتى الساعة أحد أشد الوجوه تأثيرا في عالم الاتصالات وأسرعها انتشارا، بما لا تقارن به وسائل الاتصال الأولية من تلغراف وتليفون وراديو وتلفزيون، فقد ألغى تدريجيا الحواجز التي كان الزمان والمكان قد وضعها في سبيل الاتصال، وبات تأثيره عظيما على الأفراد والدول وجماعة الأمم.

 

على أن انتشار الإنترنت يطرح أيضا عددا من المشكلات الأخلاقية المتصلة بمواضيع كحماية الحياة الشخصية، والأمن وسرية المعلومات، وحقوق الكاتب، وقانون الملكية الفردية، والإنتاجات الخلاعية، والمناظر التي تحمل على البغض ونشر الشائعات، والطعن بحجة المعلومات وغير ذلك الأمر الذي يتطلب إلقاء نظرة أعمق على هذا المجال – الثورة.

 

باختصار غير مخل هناك تضاد رهيب بالفعل في كينونة وصيرورة عالم الإنترنت، وبخاصة في العقد الجديد، وما يمكن أن يحمله من صدامات دولية، ذلك أن تفجر تكنولوجيا المعلوماتية ضاعف إمكانات الاتصال لدي بعض الأفراد والجماعات المحظوظة، وأضحى باستطاعة الإنترنت خدمة الأشخاص في استعمالهم المسؤول لحريتهم وديمقراطيتهم، وتوسيع سلسلة الاختيارات المتوفرة في الكثير من مجالات الحياة وزيادة الإمكانات التربوية، والثقافية والقضاء على الخلافات وتشجيع الإنماء البشري على أكثر من صعيد. هذا الدفق الحر من الصور والكلمات على الصعيد العالمي، راح يغير ليس فقط العلاقات السياسية والاقتصادية بين الشعوب، بل أيضا مفهوم حقيقة العالم بما لهذه الظاهرة من إمكانات لم نفكر بها سابقا.

 

كما أن الحوار الثقافي الذي أصبح ممكنا بواسطة الإنترنت وغيره من وسائل الاتصال الاجتماعي، إذا ما تأسس على قيم مشتركة متجذرة في طبيعة الإنسان بوسعه أن يصبح «وسيلة مميزة لبنيان حضارة المحبة».. هل هذا كل شيء؟ بالطبع لا، ذلك أن إمكانات الإنترنت تستطيع أن تؤدي إلى اتصال رائع وتستطيع أيضا أن تؤدي إلى ازدياد الأنانية والتغرب، وكما أنه باستطاعة الإنترنت توحيد البشر إلا أنه بمقدرته أيضا تقسيمهم كأفراد أو كجماعات تفرقهم الشكوك المتبادلة، على صعيد الأيدولوجيا والسياسات والثروات والعرق والشعوبية والدين.

 

وباسترجاع العقد المنصرم من القرن الحادي والعشرين يصدم المرء حال تأكده من استعمال الإنترنت كوسيلة عدوانية، وشبه سلاح حربي بل إن الخطر الآتي من «إرهاب سيبرنتي» قد يكون بالفعل من سخرية الأقدار الحزينة، ذلك أنه عوضا عن أن يكون الإنترنت عالما لوحدة البشر وتسهيلا لتكاملهم معا، أصبح أداة لتفريقهم في حرب عالمية فضائية جديدة. والحديث عن عالم الإنترنت وهمومه يستتبعه حديث متصل عن الصراعات الفكرية البشرية وحرب من نوع آخر، حرب ثقافية مدمرة لكل ما يدعى حوارا بين حضارات أو ثقافات.

 

فتقنية الاتصالات الحديثة والإنترنت على رأسها، ولكونها وسيلة لعملية العولمة، فهي تنقل وتساهم في نشر مجموعة من القيم الثقافية بما يخص العلاقات الاجتماعية والعائلية والدين والوضع البشري، التي بجدتها وسحرها تحمل على إعادة النظر في الثقافات التقليدية أو على تذويبها.

 

وإذا كان الحوار بين الثقافات ضروريا أصلا اليوم نظرا لتأثير التقنية الجديدة للاتصال على حياة الأفراد والشعوب، إلا أن هذه العملية يجب أن تتم في اتجاهين، فالثقافات بحاجة ماسة إلى أن تتعلم الواحدة من الأخرى، وأن فرض الرؤية العالمية وقيم الثقافة على أخرى ببساطة لا يؤدي إلى الحوار بل إلى الاستعمار الثقافي.

 

والهيمنة الثقافية مشكلة جد خطيرة عندما تهيمن ثقافة تحمل قيما فاسدة تعارض خير الأفراد والجماعات الحقيقي، وفي واقع اليوم فإن الإنترنت وغيرها من وسائل الاتصال الاجتماعي، تنقل رسالة وقيم الثقافات المغرقة في المادية والعلمانية، إلى أشخاص ومجتمعات ليست في الغالب جاهزة لتقويمها ومجابهتها، ومن هنا تنشأ مشكلات عميقة، لا سيما على صعيد تربية النشء والأسرة والتعليم والتهذيب ورؤية الآخر، على أن ميزة الإنترنت الأممية وتجاوزه الحدود ودوره في العولمة، تتطلب المساهمة العالمية لوضع قوانين وآليات عمل غايتها تشجيع الخير العام الدولي وصيانته.

 

وتبقى في كل الأحوال فضيلة التعاضد هي المعيار لخدمة الإنترنت في سبيل الخير العام فالخير العام هو الجوهر للقضية الأخلاقية، والتي يمثلها التساؤل الرئيسي «هل تستعمل وسائل الإعلام عامة، والإنترنت خاصة لعمل الخير أم لعمل الشر؟» بوسع الإنترنت أن يقدم مساعدة جد ثمينة للحياة البشرية، وبوسعه أن يشجع الازدهار والسلام والتطور الفكري والجمالي والتفاهم المتبادل بين الشعوب والأمم على الصعيد العالمي، كما بوسعه أيضا أن يكون أداة جهنمية من أدوات الحرب الإلكترونية المدمرة للجنس البشري.

 

والحق أنه إذا كانت الهيئات الأممية كمنظمة الأمم المتحدة تبذل جهدا واضحا في طريق وضع تشريعات لهذا الفضاء المعلوماتي المثير، إلا أن دور المؤسسات والمنابر الدينية حول العالم يجب أن يكون سباقا، انطلاقا من جوهر الأديان وهو كرامة الإنسان وكونه خليفة مؤتمنا على مقدرات الأرض وحاضرها ومستقبلها.

 

إن خدمة الشخص البشري وبناء الجماعة البشرية القائمة على التضامن والعدالة والمحبة وقول الحقيقة بشان الحياة البشرية وممارستها أمام الله كل هذه كانت وستبقى في صميم الأخلاق والآداب في عالم وسائل الإعلام الجماهيرية. كما أن انتظار الأرض الجديدة والعالم الآخر بدلا من أن يضعف فينا الاهتمام باستثمار هذه الأرض يجب على العكس أن يوقظه، فيكبر جسد العائلة البشرية الجديدة، ويقدم منذ الآن الخطوط العريضة للدهر الآتي.