كَفنُ المَسيح

مع السيندونولوغِيَّين كاتالدو وهامبورجيه
التَّاريخ والعِلم يَقِفان "عاجزَين" أمامَه وسِرُّه الصُّورةُ المُكَوَّنَة عليه

 

عندما كشف النّحات خوان مانويل مينارّو في شباط 2012 عن تمثاله لجسد المسيح، كان استوحى كل تفاصيله من الخطوط التوجيهية للطب الشرعي الحديث، الموضوعة حول رجل "كفن تورينو" المعروف بـ"كفن المسيح". في كاتدرائية "لا إنكارناسيون" في مالاغا- اسبانيا (1)، وقف زوار مذهولين امام وجه وجسد كوتهما آثار جلد وصلب عنيفين، مأخوذين برهبة المصلوب، في وقت لا يزال كفنه يشكل جذبًا لمؤرخين وعلماء، لم يحسموا بعد اسئلة كثيرة في شأنه… والجدل أبعد من ان ينتهي قريبا.
على صعيد التاريخ، "لا اكتشافات تضاف الى المعروف سابقًا"، بل مجرد "دراسات معمقة لها". وما يقصده "السيندونولوغ" الفرنسي سيباستيان كاتالدو، الباحث في علوم النسيج والتاريخ والآثار، بهذه الدراسات، هو ما توصّل إليه العلماء في تأكيد القول أنّ ما كان معروفًا بـ"صورة إديسّا" الذائعة الصيت في القرون الأولى، والتي تمثّل وجه المسيح، هو بالفعل "كفن المسيح"، وذلك بالاستناد إلى وثيقتين أساسيتين هما: عظة غريغوريوس، المتقدم بين شمامسة القسطنطينية، في استقبال "صورة إديسّا" (944)، ومخطوط براي (1190) المحفوظ في المكتبة الوطنيّة في بودابست.
في شأن الاولى، لا يزال هناك "لبس"، يلفت كاتالدو. ومؤدى ذلك هو "ان الأب أندريه ماري دوبارل الدومينيكاني استنتج من درسها ان "صورة إديسّا" الوافدة إلى القسطنطينيّة "لم تكن صورة وجه المسيح فحسب، إنما كانت أكبر من ذلك- لأنّ غريغوريوس رأى فيها جرح الحربة في الجنب الأيمن"- مما يعزّز فرص التطابق ما بين "الصورة" والكفن. غير ان ثمة من قال أن تفسير دوبارل ليس دقيقا كفاية، معطيًا تفسيرًا مختلفًا لما رآه غريغوريوس، الامر الذي أعاد اللبس إلى محتوى العظة". أمّا الوثيقة الثانية، "فلا لبس فيها"، وتعزّز وجود الكفن، أقلّه من العام 1190. وقبل هذا التاريخ، يبقى كل ما يتعلق به "مجرد إجتهادات"، على قوله، لغياب اي وثائق موثقة.
هناك أيضًا مسألة "السنوات الضائعة" ما بين العامين 1204، تاريخ اختفاء الكفن من القسطنطينيّة، و1355، تاريخ ظهوره مجددًا في مدينة ليريه الفرنسيّة(2). يقول كاتالدو ان "النظرية السابقة القائلة بان "فرسان الهيكل" هم الذين أخذوا الكفن الى مقر لهم في انكلترا مثيرة للجدل، لان المؤرخين لا يتوافقون على ترجمة بعض الكلمات الواردة في أدبيات الفرسان والتي اكتشفت قبل نحو عامين". غير ان النظريّة الجديدة القائلة بأنّ "القائد الصليبي أوتون دو لاروش هو الذي استولى على الكفن في القسطنطينيّة وأخذه إلى مقرّه في أثينا، هي الأكثر احتمالاً لأنها ترتكز على وثائق موثقة تنال اجماع المؤرخين".
يقوم عمل كاتالدو على وضع خلاصات عما يتوصل اليه المؤرخون والباحثون في الكفن. "اجمعها كي تكون لنا نظرة شاملة عن الموضوع". وانطلاقا من عمله هذا، يمكنه الاستنتاج أنّ "الكفن يعود تاريخه إلى العام 1190 على أقلّ تقدير". اما حسم صدقيته، فمسألة معلّقة في رأيه. "الكفن لا يمكن ان يرجع الى القرون الوسطى. نعلم انه ليس تلوينا، وان عليه دم، ويحمل صورة رجل مصلوب. صحيح ان كل شيء يميل الى تأكيد صدقيته، لكن التاريخ يعجز عن ارجاعه الى القرن الاول، والعلم عاجز ايضا عن تحديد تاريخه. لا تزال هناك اسئلة من دون اجوبة. والسؤال عن صدقيته مفتوح. لا يمكن القول انها محسومة، كما انه لا يمكن القول انها ليست كذلك".
والامر هو كذلك، ايضاً، بالنسبة الى "السيندونولوغ" الفرنسي الآخر، الرفيق في التحليل والبحث العلمي، الطبيب تيبو هامبورجيه(3). يفنّد فحص الكربون 14، الذي تمّ العام 1988 على عينة من الكفن، لتحديد تاريخ النسيج، وتعليقات الاختصاصيين عليه. فمن جهة، كانت نتيجة الفحص الذي أجرته 3 مختبرات عالمية ان الكفن صنع بين 1260 و1390. ومن جهة أخرى، اعلن الباحث الأميركي راي روجرز دراسة معاكسة تماما العام 2005، تقول ان عمر النسيج الاساسي للكفن يراوح بين 1300 و3000 سنة.
بنفسه، عاين هامبورجيه بواسطة المجهر عينة صغيرة من العيّنة التي تمّ اقتطاعها لإجراء فحص الكربون 14 عليها. "نظرت، وكان من الصعب جدا تمييز مكوناتها. وامضيت ساعات وساعات اشغل رأسي، قبل ان آخذ ملقطا واسحب من العينة خيطا رفيعا جدا من النسيج بسماكة شعرة صغيرة، وبطول لا يزيد عن سنتيمتر واحد، لاكتشف وجود نحو 10 الى 20% من الياف القطن في هذا الخيط، المفترض أن يكون من الكتّان الصافي". وبهذه المعاينة، تمكن هامبورجيه من تأكيد ما توصّل إليه روجرز بأنّ "المكونات الكيميائية للعينة المقتطعة من الكفن لإجراء فحص الكربون 14 عليها، والتي اظهرت أنّ الكفن صنع ما بين 1260 و1390، تختلف عن المكونات الكيميائية لنسيج الكفن. وهذا يعني ان هذه العينة لا تمثل بقية الكفن، وبالتالي فان فحص الكربون 14 عليها لم يحدد تاريخه الحقيقي، وبالتالي وجب إعادة الفحص".
ثلاثة "مستجدات" مثيرة تستوقف هامبورجيه لتدعم ما توصّل إليه: أولاً تلميح المدير الجديد لمختبر فحص الكربون 14 في جامعة اوكسفورد الدكتور كريستوفر رامسي- وكان هذا المختبر من المختبرات الثلاثة التي شاركت في فحص الكربون 14 العام 1988- "الى امكان وقوع خطأ، في حال لم تكن العينة المقتطعة لديها صفة تمثيليّة، متمنيا اعادة النظر فيه". ثانيًا تعليق العلماء على قول الباحث تيموثي جول، من جامعة أريزونا، الذي كان شارك شخصياً في فحص الكربون 14 العام 1988، بان لا لزوم لإعادة فحص الكربون 14، فالنتيجة نهائيّة. أما العلماء فقالوا انّ الفوارق الاحصائية الشاسعة ما بين المختبرات الثلاثة تشكّل الدافع الأساسي لاعادة اجراء الفحص(4). ثالثًا محاولة الإيطالي لويجي غارلاسكيللي صنع كفن مماثل لكفن تورينو "من دون ان يفلح في تنفيذ بعض التفاصيل المهمة الخاصة بالكفن".
واذ يشكل كل هذا عناصر ايجابية لمصلحة كفن تورينو، فان هامبورجيه يرى ان "الكفن قد يكون اصليا، في حال لم يثبت اي شيء في مسألة صدقيته او عدمها". ميله الى "صدقيته" لا يخفيه، خصوصا اذا اخذنا في الاعتبار "مجموعة البراهين حوله"، لاسيما "ميزة الصورة الظاهرة على الكفن في شكل سلبي (négative)، وميزة المعلومات الثلاثيّة البعد فيها". ويتدارك: "من المستحيل ان يكون فنان من العصور الوسطى قام بهذا الامر". تلك الصورة تحديدا وطريقة تكوّنها هي التي لا تزال تحيّر الجميع. وفيها "يكمن اللغز كلّه".

(1) يُعرَض التمثال ضمن معرض في الكاتدرائية عن "كفن المسيح" ويستمر حتى 1 حزيران 2012.
(2) و(4) www.kafanalmassih.org
(3)- زار هامبورجيه وكاتالدو لبنان في شباط 2012 بدعوة من "جماعة يسوع". والقيا محاضرة عن "كفن المسيح" في جامعة القديس يوسف. وهما مؤلفا كتاب مشترك عن الكفن بعنوان: "
Le Linceul de Turin- Les dernières découvertes qui pourraient tout changer" -2008.

  • هالة حمصي – النهار
  • 2012-04-04