قدّاس العشاء الأخير: عظة بندكتس السادس عشر

 

خميس الأسرار لا يدور حول سرّ القربان فقط

 

 

روما، الجمعة 6 مارس 2012 (ZENIT.org)

ننشر في ما يلي العظة التي تلاها قداسة البابا بندكتس السادس عشر لدى ترؤسه الاحتفال بالقداس الإلهي بمناسبة تذكار عشاء الرب في بازيليك القديس يوحنا في اللاتران مساء الخميس 5 أبريل 2012.

* * *
إخوتي وأخواتي الأعزّاء
لا يتمحور خميس الأسرار حول تأسيس سرّ القربان فحسب هذا السرّ الذي تشعّ عظمته لتطال الجميع وتجذبهم إليه. فليلة جبل الزيتون المظلمة التي خرج فيها يسوع وتلاميذه هي أيضًا جزءٌ من خميس الأسرار؛ كما يشمل خميس الأسرار وحدة يسوع وضعفه حين كان يصلّي ليلةَ تسليمه إلى الموت ويشمل خيانة يهوذا واعتقال يسوع ونكران بطرس واتّهام المسيح أمام مجلس اليهود وعظماء الكنيس وبيلاطس. فلنحاول الآن أن نفهم المعنى العميق لكلّ هذه الأحداث ففيها يكمن خلاصنا.
يخرج يسوع في الليل. والليل يدلّ على نقصٍ في التواصل فيه لا يرى الواحد اللآخر، هذا ما يرمز إلى اللّافهم وإلى تعتيم الحقيقة. والليل فسحةٌ يتطوّر فيها الشرّ المختبئ نهارًا. أمّا يسوع فهو النور والحقّ والتواصل والنقاء والطيبة. وهو دخل في الليل.
إذًا كتحليلٍ أخير، يرمز الليل إلى الموت وخسارة تامّة للتواصل وللحياة. وقد دخل يسوع في الليل لينتصرَ عليه ويهيّئ ليوم جديد لله في تاريخ البشريّة.
وقد غنّى يسوع مع تلاميذه مزامير تحرير إسرائيل وخلاصه التي تمثّل ذكرى الفصح الأوّل في مصر ليلة التحرير. والآن يذهب كما اعتاد أن يفعل ليصلّي وحده وليتكلّم كابنٍ مع أبيه. ولكن عن غير عادةٍ أرادَ هذه المرّة أن يرافقه التلاميذ الثلاثة : بطرس ويعقوب ويوحنّا هم من عاشوا التجلّي- ظهور مجد الله المضيء بصورةِ بشريّة – فقد رأوه في الوسط بين الشريعة والأنبياء أي بين موسى وإيليّا.
وقد سمع التلاميذ كيف كان الله يتحدّث إلى النبيّين عن " خروجه" في أورشليم. خروج يسوع في أورشليم- كلامٌ عجيب!
كان خروج بني إسرائيل من مصر حدث هروب وتحرير لشعب الله. ما هو الطابع الذي قد يُعطى إلى خروج يسوع والذي فيه تتمّ نهائيًّا الدراما التاريخيّة؟ أصبح التلامذة شهودًا للجزء الأوّل من الخروج- شهودًا للذلّ الأقصى الذي شكّل الخطوة الأساسيّة نحو الحريّة والحياة الجديدة الذي يهدف إليهما الخروج. وكان يسوع يبحث عن هؤلاء الرسل كي يساندوه في تلك الأوقات الإنسانيّة وهم سرعان ما ناموا. ولكنّهم سمعوا القليل من صلاة يسوع وراقبوا تصرّفاته وحفظوها في روحهم ونقلوها إلى الكثير من المسيحيّين. دعا يسوع الله "أبّا" وهذا ما يعني "أبتي". وهذا التعبير العاطفيّ لا يستخدمه إلّا الأطفال وهذه الكلمة لم نجرؤ يومًا على استخدامها للتكلّم مع الله. فالتعبير هذا هو للابن، ابن الآب، الذي هو على صلةٍ مع الله وفي أعمقِ وحدةٍ معه.
وإن تساءلنا يومًا عن العنصر الذي يميّزُ صورة يسوع في الأناجيل فهي ليست إلّا: علاقته مع الله. هو دائمًا على اتّصال مع الله.
أن يكون الإبن مع الآب، فهذا يشكّل جوهر شخصيته. فبالمسيح عرفنا الله حقا. " إن الله ما رآه أحد قط" يقول يوحنا الإنجيلي "الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه" (يو 1: 18). فنحن الآن نعرف الله كما هو في الحقيقة. هو آب، ودود مطلق الطيّبة نستطيع أن نسلّمه من دون أن نخاف. مرقس البشير، الّذي حفظ ذكريات القديس بولس، يخبرنا عن تعبير "أبّا" التي نادى به يسوع أباه، ويضيف يسوع "يا أبتي، إنك على كل شيء قدير" (مر 14: 36). هو الصّالح والقدير والكليّ القدرة. القدرة هي الصلاح والصلاح هو القدرة. فتعلّمنا إذًا صلاة يسوع على جبل الزيتون أن نثق بهذا الشّكل.
قبل الإنتقال للتأمل في مضمون طلب يسوع، يجدر بنا التنبه لما ينقله إلينا الإنجيليون عن تصرف يسوع خلال صلاته. يذكر متى ومرقس أن يسوع "ارتمى على الأرض" (مت 26: 39 و مر 14: 35) متخذًا بذلك وضعيّة الخضوع التام، وقد تم الحفاظ على هذه الوضعية في رتبة الجمعة العظيمة عند الطقس الروماني. لوقا، بالمقابل، ينقل لنا صورة يسوع الذي يصلي جاثيا على ركبتيه. وفي أعمال الرسل، يشير لوقا إلى طريقة القديسين في الركوع أثناء الصلاة : اسطفانوس خلال رجمه، بطرس خلال إحياء أحد الأموات وبولس في طريقه إلى الإستشهاد. كما يخبرنا لوقا أيضا قصة قصيرة عن السجود أثناء الصلاة في الكنيسة الناشئة. بسجودهم، يدخل المسيحيون في صلاة يسوع على جبل الزيتون. أمام الأخطار والألم والشر، يظهرون بسجودهم منتصبين أمام العالم، لكنهم في الواقع جاثون على ركبهم أمام الآب لأنهم أبناؤه. أمام مجد الله، نركع نحن المسيحيون على ركبتينا ونعترف بألوهيته، نعبّر في الوقت عينه عن ثقتنا بانتصاره النهائي.
يصارع يسوع الآب ويصارع نفسه ويحارب لأجلنا. وهو يختبر الكآبة أمام سلطة الموت. وهذا هو بكل بساطة الإضطراب الطبيعي الذي يصيب الإنسان وكل كائن حي في حضرة الموت. لكننا في يسوع نجد شيئا أكبر وأبعد. يرسل يسوع نظره في ظلمة الشر ويرى موجة الرياء والظلم والفساد تستعد للقائه في الكأس التي يتوجب عليه أن يشربها. هذا هو اضطراب المسيح، اضطراب كلي الطهر والقداسة في مواجهة فيضان الشر الذي يجتاح العالم، والذي سيجتاحه هو أيضا. في خضم هذه المعركة، ينظر يسوع إلي ويراني ويصلي لأجلي. وهكذا تتحوّل الكآبة القاتلة في هذه اللحظة إلى عنصر أساسي في عملية الفداء. لذلك تصف الرسالة إلى العبرانيين صراع يسوع على جبل الزيتون بالحدث الكهنوتي. في الصلاة هذه، المطبوعة بالقلق والحزن القاهرين، يتخذ يسوع صفة الكاهن: يأخذ على عاتقه خطايا البشرية، خطايانا كلنا، ويأخذنا إلى جوار الآب.

في الختام، يجدر بنا أيضًا التنبّه إلى مضمون صلاة يسوع على جبل الزيتون. يقول يسوع: " أبا، يا أبت، إنك على كل شيء قدير، فاصرف عني هذه الكأس. ولكن لا ما أنا أشاء، بل ما أنت تشاء" (مر14: 36). تتراجع في هذه اللحظة إرادة يسوع-الإنسان الطبيعية في مواجهة الكأس العظيمة. لكنّه، لأنه الإبن، يضع هذه الإرادة البشرية في مشيئة الآب: لا أنا، بل أنت. يتحوّل هنا تصرّف آدم، خطيئة الإنسان الأصلية، فيصير سلوك المسيح مخلّصا للإنسان. موقف آدم كان هذا: لا ما تريده أنت يا الله، فأنا أريد أن أكون إلها. هذا الكبرياء هو جوهر الخطيئة. نخالنا أحرارا ومحققون لذاتنا فقط حين نتبع إرادتنا الخاصة، ويظهر الله كعدو لحريّتنا. فنسعى نحن للتحرر منه، وفي تفكيرنا أننا بذلك نستعيد حريتنا الضائعة. هذا التمرد الجوهري الذي يعبر التاريخ هو الكذبة العميقة التي تشوه حياتنا. حين يتمرد الإنسان على الله، فهو يتنكر لحقيقته الخاصة وبالتالي يفقد حريته، ويصبح مكبّلا بذاته. نحن نتحرر فقط حين نتّحد بحقيقتنا، حين نتّحد بالله. وبالتالي نصبح فعلا "كالله"، لا بالتمرّد عليه ولا بالتخلص منه ولا بنكرانه. في صراعه على جبل الزيتون، يحلّ يسوع مشكلة التّعارض بين الحرية والطاعة، ويفتح الطريق نحو الحرية. لنطلب إلى الله أن يدخلنا في هذه ال "نعم" إلى مشيئة الله فيجعلنا بذلك أحرارا حقا.
آمين
* * *
نقلته إلى العربية بياتريس طعمة – وكالة زينيت العالمية
جميع الحقوق محفوظة لدار النشر الفاتيكانية