إنه يسبقكم إلى بيروت

  والكنيسة الشرق أوسطية في إنتظار الإرشاد الرسولي

          (مرقس 7:16)

 

المونسنيور بيوس قاشا

 

 

   بإذاعة نبأ زيارة قداسة البابا بندكتس السادس عشر إلى لبنان من الرابع عشر وحتى السادس عشر من أيلول القادم لتسليم كنيسة الشرق الأوسط بأساقفتها ومؤمنيها الإرشاد الرسولي لسينودس أساقفة الكنيسة الكاثوليكية الشرق أوسطية للفترة من 10-24 أكتوبر عام 2010، والذي حمل عنوان "الشراكة والشهادة"… هذا النبأ ملأ الفرح قلوبَنا، وابتهجت له عقولُنا، وأخذت شفاهُنا تُتَمْتِم كلمات الشكر والإمتنان لذلك الذي أراد أنْ يسبق الجميع الى بيروت في  لبنان كما قيل لنا:"إنه يسبقكم إلى بيروت" (متى 7:28).

   ومع الإرشاد الرسولي مرة أخرى، تُطرَح أسئلة، بل من الواجب طرحها، أنْ كيف سيكون إستعدادنا لكي نُدرك رسالة الحدث الآتي (لو 15:2) والذي قيل لنا عنه (لو 15:2)؟، وما هي المقوّمات الإيمانية التي هيأناها وسنتهيأ لها لنكون أوفياء لوثيقة السينودس ولصوت الكنيسة عبر قداسة البابا بندكتس السادس عشر الذي سيلتقي أساقفتنا الأجلاء؟، وماذا سيحملونه إلى كنائسهم ومؤمنيهم بعد عودتهم من بيروت حيث سيقال حينها أنهم كانوا هنا؟… فبيروت اليوم لهم روما الخالدة، التي إحتضنتهم وأرسلتهم قائلة:"أذهبوا وعلّموهم بكل ما أوصيتكم به" (متى 20:28)… وهاهي اليوم من بيروت تُجمع ثمار الشجرة السينودسية التي زرعوها… إنها ثمرة الإرشاد الرسولي… فهل سيعودوا كما عادوا إلينا في السابق؟، وهل سيبقى السينودس كتاباً على رفوف التاريخ وعنواناً في جدول الفهرسة، أم رسالة حيّة نحياها دون خوف؟.

   سنقول بدءاً _ ومهما كانت مسيرة الزمن متعبة ومسيرة الكنيسة مؤلمة _ أن السينودس كان وسيكون وسيبقى… إنه هو هو بالأمس، ويحيا اليوم فينا، وينطلق كل يوم من أجل غدٍ إيماني إستشهادي… إنه عَنصرة حلّت علينا (أع 3:2)… فالقيامة كانت في روما، والعَنصرة اليوم حلّت على بيروت وروّادها وبأوفر (لو13:9)… وعلى أساقفتنا ألسنة مليئة بأنوار قدسية لكي تنير دروب الذين شعوبهم تقاسي صعوبة الحياة، ومأسوية المستقبل، وضياع العنوان، وفقدان الهوية. وأصبحوا جثة إجتمع حولها نسور السياسة المتعبة، ومصالح الإعلانات الباطلة، كما حملت إلينا الدنيا سِمات الأنانية والكبرياء وتدمير الآخر… فكل ما نراه يقودنا إلى القلق على المصير ومن الآتي، وأيُّ مصير آتٍ إلينا!… إننا نخافه قبل أنْ يصلنا، فحتى الحديث عنه أصبح عنواناً حاملاً يافطة "ممنوع الحديث"… وإلا سترحل… بل ستُطرَد!.

   أمام هذه التحديات، إمتلأتُ رجاءً كوني مؤمناً أنَّ الرجاء لا يُخيب حقيقتي، وهي أنّ صوت قداسة البابا بندكتس السادس عشر، الرجل الأمين على وثيقة العهد، وأمامه ترتعش كنيسة الشرق مهلِّلة بحدث القيامة مهما خيّم الظلام وسادت الهزيمة… فاحملوا حقائبكم وارحلوا _ وإنْ كنتم قد عدتم في السابق كما أردتم _ فليكن اليوم رحيلكم إلى بيروت وترحالكم فيها أن تعودوا حاملين عَنصرة المواهب وخيرات السماء… إنها وافرة لا تخافوا، فلن تنضب مهما وزّعتم… إنه مجاناً أُعطي لنا… فالسينودس كنز من السماء وفيه نكنز معكم لتعطوا ونعطي كلنا مجاناً.

– نعم، الإرشاد الرسولي حقيقة إيمانية إلى قلوب المؤمنين، ينقلها أساقفتنا الأجلاء ببركاتهم الرسولية ليعيدوا إلينا وإليهم وإلى كنيستنا حيويتها ومشرقيتها وسموّ رسالتها وشهادتها… إنطلقوا… فقالوا لهم:"إنه قام" (لو 6:24)، سترونه (مر 7:16)… فكما رأيتموه (متى 7:28) في روما، فهاهو ذا يسبقكم إلى بيروت هناك ترونه (مر7:16)… إنها جليل الأمم… إنها طريق عمّاوس… إنها بحيرة طبرية… إنها عليّة المحبة… إنها الإنطلاقة أنْ "أذهبوا" (متى 19:28).

– الإرشاد الرسولي ينادينا من على السطوح أن نكون "قلباً واحداً ونفساً واحدة" (أع 32:4)… أليس هذا مأرب ومبتغى!… أليس هذا رسالة سمحاء!… أليس هذا طعم المذاق الروحي في المحبة المُحبّة!… إنها بلا حدود… ولنا الأمل أن يجعل الإرشاد منا أساقفة بلا حدود، كهنة بلا حدود، مؤمنين بلا حدود، فحدود الكنيسة تتواجد حيث نحن في المسيح وبالمسيح وللمسيح… في الصليب وبالصليب ومع الصليب.

– الإرشاد الرسولي محطة إيمانية سينودسية… شجرة مثمرة وحقل عمل لا تحدّه جغرافيّة الزمن وتاريخ الأجيال من أجل المختارين القليلين الذين هم لله، فيه يذوبون حباً… فلا عيون تراهم، ولا آذان تسمع بأعمالهم، بل قلوب تحيا فيهم، وعيون ترافقهم، وأيادٍ تداويهم، وألسنة تُنشد لهم.

– الإرشاد الرسولي دعوة لحمل أرجلنا إلى أبعد من مسيرتنا، وحمل نيرنا من دون القيرواني، ووسم كهنوتنا علامة جباهنا في شراكة القلب والنفس… وطوبى لمن يدرك معناه، ويعقب فحواه، ويرسم خطاه.

– الإرشاد الرسولي حضور مسيحي من أجل كنيسة الشرق، كي يكون الدور ريادياً وليس إتّكالياً، شجاعاً وليس خائفاً، يوزّع فلس أرامله وليس كنزاً من أجل السوس والعثّ والسارق… دورٌ يعلن هويته بصفاء النيّة وراحة الضمير في عيش الإيمان عبر كلمة الله، وليس دورٌ يمزق هويته أو يبتلعها بسبب جلبابه… دورٌ يحمل شهادة الآباء في مسيرة الأجداد من أجل الأحفاد، وليس دورٌ يتيه عبر عولمة الأحفاد في حمل حقائب الضياع ورسائل الأحقاد وكتابات المعاهدات.

– الإرشاد الرسولي إدراك لحقيقة الدعوة التي بها دُعينا ثم وُسمنا، إنها حسّ وجودنا ووجودكم يا أساقفتنا الأجلاء، ووجود مجتمعاتكم في أوطانهم ضمن أغلبية مختلفة عنا في الرسالة والإيمان والحياة، في العقيدة والحقيقة والبشارة. إن ذلك رسالة سامية في مخطط الله وفي الأرض التي من أجلها خُلقنا لنكون فيها رسالةً وحباً وصليباً وما ذلك إلا مشيئة الله، وإنْ كان مستطاع فلتعبر هذه الكأس (متى 39:26)  ، ولكن لا مشيئتي بل مشيئتك (متى39:26).

– الإرشاد الرسولي يؤكد حقيقةً لا يمكن إنكارها مهما طال الزمن، ومهما اختلفت الثقافات، ومهما شوّه التاريخ صيته وسمعته بإعادة كتابته. فالأيام شاهدة، والماضي القريب مراقب، والبعيد كاتب. وكل هذا يؤكد أن المسيحيين كانوا ولا زالوا هم مواطنون أصلاء، نعم، بل أصليين، وغياب صوتهم يعني ضياع الأوطان وافتقار الأزمان وحصار المجتمعات الشرق أوسطية وخسارة لتعددية المحبة التي ميّزت هذه البلدان وأعطتها أسماءها دون غش ولا رياء ودون حقد أو غباء.

– الإرشاد الرسولي رسالة سلام إلى مجتمعات ترابنا التي عانت ولا زالت حتى الساعة تئنّ، وبصورة بلا تعليق ولا تطبيق، ومفاهيم عجيبة، وصراعات سياسية طاحنة، وزلازل تعايشية مميتة، ومسارات زمنية مقيتة، والتي أثّرت سلباً على حياتنا وبقائنا كوننا نرى أنفسنا في وضع هشّ وحالة غير مستقرة… فالسلام هبة من السماء، فماذا لو هيأنا أفكارنا لقبوله بل لتنصيبه على كراسي الحقيقة بدل أنانياتنا وأحقادنا ومصالحنا والتي استولت _ دون وجه حق _ على مصطبات الطرق السالكة وكراسي الحقيقة المسلوبة بضميرها وإيمانها؟، كون الذي لا يحترم خليقته تعالى لا يحترم الخالق باريها، ومَن يخون الضمير والحقيقة ينكر رسالة المعلّم الإلهي ، ولا يمكن للنكران أن يبقى في مسيرة الخفايا ، فاحقيقة تثبان مهما بعد المكان وطال الزمان وتأصلت الكراسي فالحقيقة في المسيح رسالة ودعوة ،  تُمنح ليس بحسابات زمنية ، بل بنعم الهية  … إنها حقيقة محبة ورسالة سلام وعدل ..

ولا نخف إنه معكم ومعنا حتى انقضاء الدهر… نعم، هذا ما ننتظره وأكيداً أنتم لنا واعدون… ألستم أمناء؟… ألم تصطبغوا بحب رعاياكم ومؤمني شرقيتكم الذين تمزقهم المصالح والأنانيات والأحقاد؟… ألستم أنتم رجال الحقيقة في إعلان البراءة، وهي أن المسيحي رجل العلياء ؟.

– الإرشاد الرسولي رسالة ثبات في أرض الأجداد… إنه مخطط الله، هكذا يراني وهكذا دعاني وهكذا يريدني أن أكون شاهداً لحقيقة الخلاص وشهيداً من أجل محبة الله "وهل من حب أعظم من هذا" (يو12:15)، ففي ذلك يحمل الشجاعة من أجل البقاء، والبقاء أجمل تأمّل وأنقى حديث مع رب السماء.

– الإرشاد الرسولي وثيقة حبٍّ وتقدير إلى الأخوة المسلمين كونهم عبّاد لله الواحد، وهذا تعليم سامٍ من المجمع الفاتيكاني الثاني عبر كنيسة المسيح التي تحمل صوت الحوار إلى كل إنسان. إنه السبيل إلى مقاسمة العيش وقبول الآخر عبر وطنٍ واحد، ولغة محبة، وثقافة حياة، كون ذلك مفتاح النجاح في فتح باب الإيمان وحريته، وفي قول الحقيقة في وجه الأقوياء الذين يقترفون الظلم ويمارسون العنف ويقبلون مَن يشاؤون كي لا تفسد مصالحهم ولا تُهان مناصبهم أو تُكسر كراسيهم… إنهم جواب على الظلم بالعنف… إنها حقيقة مخجلة. فضعف الأقوياء والضعفاء على حدٍّ سواء، قاد منطقتنا وديارنا وربما معابدنا إلى فشل متكرر وتخلّف أكيد عن ركب المسيرة الإيمانية الإرشادية الرسولية في جانب، وعن ركب الدول والأوطان الأخرى في جانبٍ آخر.

– الإرشاد الرسولي وثيقة رجاء تضع خاتمة سطورها بأن كل رجائها ما هو إلا في العناية الإلهية قائلاً:"لا تخف أيها القطيع الصغير" (لو 32:12).

– نعم، الإرشاد الرسولي سيبقى فقراتُ تحدٍّ برجاءٍ لا يخيب، وأملٍ لا يقيت لواقع مرير وسريع للعطب. إنه عنصر أكيد لحضورنا المسيحي ولرسالتنا الإيمانية ولشهادتنا الحياتية في أوطاننا وبلداننا… في مجتمعاتنا وحاراتنا… في بيوتنا وكنائسنا… إنه يحمل إلى غيرنا حباً بلا حدود، ودعوة وحقيقة بلا تزييف، وعلى هؤلاء الغير أن يدركوا أن معهم نقاسم حب أوطاننا وبلداننا، وأننا من طينة ترابنا وجِبلتنا، ولا يجوز إزالتنا أو تهجيرنا… كما لا يحقّ لأي مسيحي أن أقولها (عذراً وعذراً) أن يتخاذل أمام حقيقة السينودس… إنه نيرٌ في أعناقنا لنكون أمناء لمعلّمنا، وأوفياء لدماء شهدائنا من سيدة النجاة وكنيسة القديسين وإلى ضحايا أبرياء .. نعم، لتبقَ دماء الأبرياء شهادة لمسيرة الرجاء، فالإرشاد الرسولي رجاء… نعم، لنا رجاء… فهو بالأمس واليوم وإلى الأبد (عبر 18:6).

يا أساقفتنا الأجلاء… في المسيح يسوع لا تخيّبوا مسيرة الزمن مهما صعبت الحياة، وثقل صليبها… وما أجملكِ يا بيروت وأنتِ جليل الأمم، نَغَم السماء من أجل البقاء، وتحت جلباب إرشادكِ الذي كلّل وجودكِ أحتمي… فاسلمي يا بيروت… ولتَسْلَم أيادي قداسة البابا بندكتس السادس عشر المالك سعيداً، حاملاً الإرشاد… ولتَسْلَم أيادي آبائنا الأساقفة الأجلاء… وأملنا أن تبقى الهامات مرتفعة ومعلِنة أنَّ الخلاص آتٍ، فلا مكان للخوف، ولا مجال لليأس… واسْلَمي يا كنيسة الشرق الأوسط إلى الأبد… آمين نعم وآمين .