الإســــقــاط النفسي وحــياتــــنــا

الإخت سامية صموئيل

من راهبات القلب المقدس

 

الإسقاط هو أحدي الحيل الدفاعية ( ميكانيزمات الدفاع ) التي يلجأ اليها الإنسان، والحيل الدفاعية هي عبارة عن أنواع من السلوك يقوم بها الفرد بطريقة لاشعورية لتخفيف حدة التوتر النفسي المؤلم وحالات الضيق التي تنشأ عن أزمته النفسية، إنها اجراءات لا توافقية أي إنها لا تستهدف حل المشكلة بل الخلاص من القلق أو تجنبه.

 

وتكون الحيل الدفاعية في الغالب لاشعورية. فالشخص الذي يقوم بها لا يكون مدركا للدوافع الحقيقية لها، كما لا يكون مدركاً للأغراض التي تهدف اليها. وقد ينكر الشخص قيامه بهذه الحيل الدفاعية إذا حاولت أن توجه نظره إلى حقيقة سلوكه. ومن أمثلة الحيل الدفاعية التي يلجأ اليها الشخص: الكبت، القمع، التعويض، التبرير، الأسقاط……………….. الخ.

 

مفهوم الإسقاط

إن الاسقاط هو مرضٌ نفسي: يطرح فيه المريض خصائص ورغبات وعيوب وأخطاء وصفات معيبة عن ذاته ويلقيها على الآخر، وما يلقيه على الآخر هي أمور يجهلها أو يرفض تواجدها فيه.  وبطريقة آخرى هو يسقط ما في نفسه من سلبيات وعيوب ونقائص على الآخرين ليظن إنه بذلك أستطاع إقناع الناس بأنه لا يعاني من أية مشكلة.

 

   ويقول عالم النفس " سيجموند فرويد " مؤسس التحليل النفسي: يشير الإسقاط اولاً إلى حيلة لا شعورية من حيل دفاع " الأنا " بمقتضاها ينسب الشخص إلى غيره ميولاً وافكاراً مستمدة من خبرته الذاتية يرفض الاعتراف بها لما تسببه من الم وما تثيره من مشاعر الذنب، فالإسقاط بهذه المثابة وسيلة للكبت اي أسلوب لإستبعاد العناصر النفسية المؤلمة عن حيز الشعور.

   ويقول علماء النفس ان الافراد الذين يستخدمون الإسقاط هم اشخاص على درجة من السرعة في ملاحظة وتجسيم السمات الشخصية التي يرغبونها في الاخرين ولايعترفون بوجودها في انفسهم، ويظن الكثير من الناس ان هذه الاستراتيجية أو "الحيلة الدفاعية" تقلل من القلق الناتج من مواجهة سمات شخصية مهددة، وتظهر هنا مرة أخرى آلية القمع أو الكبت.

  لماذا اللجوء إلى الإسقاط ؟

   ذكرنا: إن الإسقاط طبقا لمفاهيم التحليل النفسي هو حيلة دفاعيه يلجأ إليها الفرد(الفاشل) بإلصاق ما في داخله من سلوك أو صفات أو رغبات أو مشاعر أو دوافع أو اتجاهات أو أفكار إلى غيره من الناس. لماذا؟

 

   لأن هذه الحيلة تريح الشخص المريض نفسياً وتخفف عنه وطأة شعور الإحساس (بالنقص والدونية )، فهو عندما ينظر لنفسه ويجدها أقل شأنا من الآخرين وكذلك شعوره بأنه دون المستوى، هنا يضطر أن يبحث عن الإسقاط على الآخرين وعندها يتولد له شعور الإحساس بأنه أفضل منهم. وكذلك يعتقد بأنه نقى شوائب ذاته وأزال الصدا المتراكم عليه وبعد ذلك يبدأ بتصديق ذاته وأفكاره. وهو هنا يترجم الموقف وفق أهوائه ورغباته لما تبرره له أحاسيسه الداخلية بعيداً عن حقيقة أرض الواقع وهي إحدى الصور التعويضية الفاشلة والنابعة من الشعور( بعيب ما) ورغبة منه في خلعها ليتخلص منها يقوم بإسقاطها على الآخرين حتى لا يتضاعف إحساسه بالفشل مع تيقن ثبوت وجوده في داخل نفسه.


   ليس عيبا أن يكون الشخص قد فشل في بعض أعماله لأنه ربما العمل الذي كلف به كان اكبر من قدراته ولكن العيب هو أن يسقط فشله على غيره ويحاول الإساءة لهم للبحث عن أرضاء من حوله ولعله يستطيع أن يغطي إخفاقاته ! فإذا كانت هذه العيوب تضره هو فقط دون سواه فالأمر هين ! ولكن المشكلة أن ينقل ما يعانيه من ظروف نفسيه او بما يسمى ( حالة الاضطراب النفسي إلى داخل المجتمع لأنه يبحث عن من يشاركه عقدته.

   والإسقاط النفسي يعتبر سهل المعالجة في مراحله الأولى وذلك من المصاب نفسه، فهو يستطيع أن يتجاوزه بسلام إن كانت الظروف المحيطة به تساعده وان كان لديه قناعه داخليه بان فرض الاحترام وكسب الآخرين يأتي من ما يقدمه من عمل وما يحمله من فكر ومنطق لا من امتهان محاولة الإنقاص والإسقاط على الآخرين ! وعليه أن يتجنب الأشخاص السلبيين الذين يحاولون جذبه للأسفل. ولكن إذا وصل المصاب بهذا المرض إلى مراحل متقدمه فإنه يحتاج إلى علاج وذلك عن طريق تدخل الطب النفسي.

  وهناك الكثير من الأمثلة للأسقاط النفسي نذكر منها:  

1-              الطفل الجبان دائما ما تراه يتكلم عن جبن زملائه، كل هذا ليحاول إسقاط حالته على الآخرين، فهو يحذر بشكل واضح من سلوكيات يقع فيها هو نفسه.

2-              الموظف الذي يحمل مشاعر عدوانية نحو رئيسه قد يسقط هذه المشاعر عليه ويتصور أن رئيسه يكيد له ويتربص به لكى يؤذيه ومن ثم يبادر بالهجوم والاعتداء عليه، وهكذا تدفع هذه الحيلة هؤلاء الناس إلى نسبة ما في أنفسهم إلى الآخرين والتعامل معهم على هذا الأساس، ومن ثم يقومون بأرتكاب جرائم فعلية.

3-              الرجل الذي يخون زوجته، كثيراً ما يتهم زوجته بالخيانة، ويشك فيها كثيراً.

4-               الزوجة الخائنة التي دأبت على كبت ميولها إلى اقتراف الزنا، تصبح على درجة مبالغ فيها من الغيرة بحيث تتهم زوجها بالخيانة ويمكن ان تحدث اوهام الاضطهاد من خلال الشعور بالذنب الذي يحمل الشخص على تخيل الآخرين وكأنهم يتكلمون عنه ويلقون بالاتهامات عليه.

5-               في المرض العقلي "الذهان" يسقط المريض رغباته ومخاوفه على العالم الخارجي، حيث يعتقد المريض ان زوجته تريد قتله لكي تسيطر على ثروته وأرثه، ويعتقد أيضاً ان جميع الناس ضده ويريدون أن ينالوا منه، وهي مشاعر إسقاطية لا أساس لها في الواقع.

   إن الشخص الذي يعاني من هذا المرض النفسي، يسقط ما فيه من عيوب على الأخرين. ويسقط مافي داخله الآخرين. إنّه يرى أموراً غير موجودة، ويتوقع حوادث لم تحدث، يعطي أحكاماً مسبقة على أشخاص هم في الواقع ليسوا كذلك… والشخص الذي يظن السوء ويتهم الآخرين أيا كان نوع الاتهام، فهو يسقط ما بداخله من خبرات من خلال اتهاماته هذه. فالحرامي يظن إن كل الناس حرامية، والكاذب يظن أن كل الناس كذابين… وهكذا.

 

   وفي العهد الجديد نجد مثلاَ واضحاً للإسقاط في حوار بطرس مع يسوع، عندما أعلن يسوع عن الآمه وموته. ( مر 8: 31- 33 )، نجد بطرس ينفرد به ويعاتبه على هذا الكلام. ولكن يوبخ يسوع بطرس " أبتعد عني يا شيطان،

 

لم يقبل بطرس هذا الإعلان عن يسوع، إنه يريد أن يرى فيه الملك الآتي، المخلص، الذي سيخلصهم من حكم الرومان، ويعيد مملكة داود. كيف يحدث هذا، إن ذلك مخيب للآمال والتوقعات.

 

   وفي نفس السياق أيضاً نجد يوحنا ويعقوب أخاه، يطلبان من يسوع أن يجلس أحدهما على يمينه والآخر على يساره في مملكته. فلم يدرك بطرس والتلاميذ حقيقة يسوع بعد، رغم كلِّ هذه الفترة التي قضوها معه، فأسقطوا عليه الصورة التي يتخيلونها عن الله. يرونه كمسيح قوي، مخلص إسرائيل. البطل الذي سيحررهم من الرومان. هذا ما كانوا يرونه في يسوع. لكن يسوع لم يكن كذلك أبداً. بل وضح لهم بأن مملكته ليس من هذا العالم.

الإسقاط هو رؤية ماتريد رؤيته. واذا حدث وكان الآخر ليس حسب توقعاتك تصاب بخيبة الأمل. ومثالاً لذلك تلميذي عماوس ( لوقا 24/ 13 – 35). يذكر الإنجيلي إنهما كانا عائدان إلى قريتهما عماوس، وقد صدمهما موت يسوع. فابتعدا عن جماعة أورشليم، حزينين، حائرين، كانا يأملان عملاً معيناً يؤديه يسوع، وهو تحرير شعبه من حكم الرومان. كانا يعتبرانه قائد ثوري سياسي. ولكنه مات ففقدا الرجاء، وأُصيبا بالإحباط واليأس والفراغ "كنا نرجو" كنا قد وضعنا آمالنا فيه، لكن كل شئ قد أنتهي.

  

لقد كان يسوع مختلف عن ظنهما، هما اللذان كانا ينتظرا منه شيئا مختلفا، شيئا لم يكن في فكر يسوع، فالإسقاط يمنعنا من أن نتعرف على الآخر، يمنعنا من أن نحترم الآخر، أن نحبه وفقاً لما هو عليه. لأننا في هذه الحالة نحبه ليس كما هو في (في الواقع) إنّما لما نريد أن يكون، قائدا، صديقا، حبيبا….

 

 فحين نلتقي بشخص، نسقط عليه أفكارنا ورغباتنا، وعندما نكتشف أنّه ليس كما نريده، ليس كما توقعنا، نصاب بخيبة أمل كبيرة، كما حدث مع تلميذي عماوس،  "كنا نرجو" ومن ثم نشتكي قائلين لقد خاب أملنا فيك. كنا فاكرينك حاجة تاني، لا لم يخب أملنا، نحن كنّا متوهمين وكنا نتوهم أنّه صاحب ملكات نحلم بها. ولكن في الحقيقة لم يكن يملكها من الأصل.

 

 مثلا لذلك: في فترة الخطوبة يرى كل شخص أفضل ما في الآخر من صفات، ترى فيه فارس أحلامها، ويرى فيها الزوجة المثالية التي ستحقق له السعادة، والمفاجأة تكون بعد الزواج، حين يكتشف كل منهما الآخر، ويصاب بخيبة الأمل والإحباط، فنسمع عبارات مثل: لقد كانت إنسانة مختلفة، أو كان شخصاً مثالياً، لقد أنقلب رأساً على عقب….. الخ. في الواقع لم يكن شخصاً مختلفاً أو مثالياً، لكن المشكلة كان كل طرف يرى الآخر بشكل مختلف، وليس كما هو في الواقع وكان يتصور أشياء وصفات ورغبات لم تكن موجودة بالفعل في الطرف الآخر. والنتيجة الكثير من المشاكل الزوجية.

 

   أن ما يلزمنا هو النظرة الواقعية والقدرة على رؤية الأشياء، الأشخاص كما هم في الواقع، وليس كما نريدهم أن يكونوا. فقط من يحب، فقط من يقبل ذاته كما هي، فقط من يتحرر من عقدة الشعور بالنقص، ويقبل أخطائه ويعترف بضعفه، هو الذي يستطيع أن يتخلى عن الاسقاط، فيرى الآخرين بطريقة واقعية، يري الوجه الحقيقي للأشياء، للأشخاص، ولله، وبدلا من القاء عيوبع ونقائصه على الآخرين، يعمل جاهدا علي تخطيها وتحويلها إلى طاقة ايجابية بناءة. وبذلك يحمل الرجاء لمن حوله، هذا الرجاء الذي أعطاه المسيح القائم لتلميذي عماوس ونحن اليوم.

 

    والسؤال الآن عزيزي القارئ: أي نوع من الناس أنت؟ أي نوع من المشاكل تسقطها على الآخرين؟ ما هي الأشياء التي لا تقبلها في شخصك ؟ إن أجبت على هذه التساؤلات ربما تساعدك على اكتشاف ذاتك، وتصحيح أفكارك واعترافك أن المشكلة كائنة بداخلك وليس في الآخرين، فالإعتراف بالمشكلة هو بداية خطوات العلاج. ليبارك الرب حياتنا وينير أذهاننا حتي نكون واعين لما يحدث في داخلنا.. لنقدم له كل مشاكلنا ورغباتنا ليقدسها ويحررنا من إمراضنا.