عيد العنصرة لعام 2012: عظة بندكتس السادس عشر

عيد العنصرة هو عيد الوحدة والتفاهم والمشاركة

 

 

روما، الثلاثاء 29 مايو 2012 (ZENIT.org).

اختيار وحدة العنصرة بدلاً من تشتت بابل: كانت هذه دعوة بندكتس السادس عشر التي وجهها في عظته بمناسبة عيد العنصرة في 27 مايو 2012 مشدّداً على أنّ: "عيد العنصرة هو عيد الوحدة والتفاهم والمشاركة".

ترأّس البابا القدّاس صباح نهار الأحد 27 مايو في كاثدرائيّة مار بطرس في روما بمشاركة الكرادلة والمؤمنين.

عظة بندكتس السادس عشر:

إخوتي وأخواتي الأعزّاء،

يسرّني أن أحتفل معكم بهذا القدّاس المجيد، بمشاركة جوقة أكاديميّة القديسة سيسيليا وأوركسترا الشباب – الذين أشكرهم – في وقار عيد العنصرة. هذاالسريشكّل معموديّة الكنيسة، فهو حدث منحها شكلها الأساسي وكان الدافع لمهمّتها. هذا "الشكل" وهذا "الدافع" هما دوماً صالحان حتى الآن ويتجددان تحديداً من خلال الطقوس الليتورجيّة. أودّ التوقّف في هذا الصباح عند جانب أساسي لسر عيد العنصرة الذي يشكّل أهميّة كبيرة لنا على الدوام. عيد العنصرة هو عيد الوحدة والتفاهم والمشاركة.

يمكننا القول أنّه في عالمنا، وعلى الرغم من تقاربنا من بعضنا البعض، ومع تطوّر وسائل التواصل التي تقرّب  المسافات، يتميّز التفاهم والتواصل عادةً بالسطحيّة والصعوبة: فهناك دائماً اختلالات كثيراً ما تؤدّي إلى خلافات؛ الحوار بين الأجيال متعب وتسود الخلاف أحياناً؛ ونشارك في أحداث يوميّة حيث يبدو الإنسان أكثر عدوانيّة وأكثر ريبة؛ تفهّم بعضهم البعض يبدو وكأنّه يتطلّب الكثير وبالتالي يفضّل الشخص البقاء "بمفرده" مهتمّاً بشؤونه الخاصّة. في هذا السياق، هل يمكننا حقاً إيجاد هذه الوحدة التي نحن بأمسّ الحاجة إليها وعيشها؟

إنّ نصّ العنصرة في أعمال الرسل، الذي استمعنا إليه في القراءة الأولي (راجع أعمال الرسل 2، 1-11( يعود في خلفيّته إلى إحدى النماذج الأساسيّة التي نجدها في بداية العهد القديم: القصّة القديمة لبناء برج بابل (راجع سفر التكوين 11، 1-9). ولكن ما هو بابل؟ إنّه وصف لمملكة حيث بذل الناس جهداً كبيراً معتقدين أنّه بإمكانهم التغلّب على إله بعيد ويكونوا أقوياء كفاية لبناء درب بمفردهم يقودهم حتى السماء لفتح الأبواب وأخذ مكان الله. ولكن في هذه الظروف، طرأ أمر غريب واستثنائي. بينما كان الرجال يعملون سوياً لبناء البرج، لاحظوا فجأة أنّهم كانوا يبنون بعكس بعضهم. مع أنّهم كانوا يحاولون التمثّل بالله، واجهوا خطر ألّا يكونوا حتى بشراً فقد فقدوا أهمّ عنصر في الطبيعة البشريّة: القدرة على الاتفاق والتفاهم والعمل سوياً.

هذا النص الكتابي يتضمّن حقيقة أبديّة؛ نشهدها في التاريخ وفي عالمنا اليوم أيضاً. مع تطوّر العلم والتقنيات، تمكّنا من السيطرة على قوات الطبيعة، والتلاعب بعناصرها وصنع مخلوقات حيّة لنكون على وشك المساس بجوهر الإنسان نفسه. في هذا السياق، تبدو الصلاة لله وكأنها شيء سخيف لأنّه بإمكاننا أن نصنع ونحقق ما نريده بأنفسنا. ولكننا لا نلحظ أنّنا نعيش من جديد قصّة بابل. صحيح أنّنا ضاعفنا احتمالات التواصل والحصول على المعلومات ونقلها، ولكن هل يمكننا القول أنّ قدرتنا على التفاهم قد زادت أو أنّنا بالعكس أصبحنا نتفاهم أقل؟ ألا يبدو أنّ شعور الريبة والشك والخوف المتبادل ينتشر بين الناس إلى حدّ يجعل منهم خطراً على بعضهم البعض؟ فلنعد إلى السؤال الرئيسي: هل بإمكاننا فعلاً  إيجاد الوحدة والتوافق؟ وكيف؟

نجد الجواب في الكتاب المقدّس: يمكن للوحدة أن تتحقّق فقط  من خلال نعمة روح الله، التي تمنحنا قلباً جديداً ولساناً جديداً وقدرة جديدة على التخاطب. هذا ما حصل في العنصرة. في هذا الصباح، بعد خمسين يوماً من عيد الفصح، عصف ريح قويّ في أورشليم ونزلت شعلة الروح القدس على التلامذة المجتمعين، نزلت على كلّ منهم وأشعلت فيهم الشعلة الإلهيّة، شعلة الحبّ القادرة على التغيير. زال الخوف وشعر قلبهم بقوّة جديدة وأطلقت ألسنتهم فبدأوا يتكلّمون بصراحة لدرجة أنّهم فهموا جميعهم بشارة يسوع المسيح الذي مات وقام من الموت. في عيد العنصرة، حيث كان الانقسام  والتباعد، ولدت الوحدة والتفاهم.

فلننظر في الإنجيل اليوم، حيث قال يسوع: "عندما سيأتي، هو، روح الحقيقة، سيقودكم إلى الحقيقة الكاملة" (يوحنا 16، 13). يتحدّث هنا يسوع عن الروح القدس ويشرح لنا ماهيّة الكنيسة وكيفيّة عيشها لتكون على طبيعتها ولتكون مكاناً للوحدة والمشاركة في الحقيقة. يقول لنا أنّ التصرّف على أساس كوننا مسيحيين يعني ألّا ننغلق على "ذاتنا" إنّما أن ننفتح على الغير. هذا يعني أن نستقبل الكنيسة بكاملها فينا، وحتى أن نتركها تستقبلنا في داخلها. إضافة إلى ذلك، عندما أتكلّم وأفكّر وأتصرّف على أساس كوني مسيحياً، لا أقوم بذلك وأنا منغلق على "نفسي" إنّما أقوم بذلك دائماً في الإجمال وابتداءً من الإجمال: وبالتالي يستطيع الروح القدس، روح الوحدة والحقيقة، أن يكمل عمله في قلوب الناس ونفوسهم، لحثّهم على التلاقي والاستقبال المتبادل.

عندما نتصّرف على هذا النحو، يرينا الروح الحقيقة كاملة، وهي يسوع، ويوجّهنا لنتعمّق فيها ونفهمها: لا نكبر في المعرفة ونحن منغلقين على "أنفسنا"، ولكن نكبر فقط عندما نصبح قادرين على الاستماع والمشاركة، من خلال "نحن" في الكنيسة مع شعور داخلي بالخشوع. الأسباب التي تجعل من بابل بابل ومن العنصرة العنصرة أصبحت أكثر وضوحاً. أينما أراد الناس أن يأخذوا مكان الله، وجدوا أنفسهم يقفون ضد بعضهم البعض وأينما أراد الناس العكس، يضعون أنفسهم في حقيقة الرب، وينفتحون على أفعال روحه الذي يدعمهم ويوحّدهم.

يتطرّق الرسول في القراءة الثانية إلى موضوع التعارض بين بابل والعنصرة قائلاً: "فلتعيشوا تحت تصرّف روح الله؛ وبالتالي فلن تخضعوا إلى الحاجات الجسدية الأنانية" (غلاطية 5،16)  يوضّح لنا القدّيس بولس أنّ حياتنا الشخصيّة تتميّز بصراع داخلي وانقسام بين الحاجات الجسديّة والحاجات الروحيّة؛ ولا يمكننا أن نلحق بها جميعها. في الواقع، لا يمكننا أن نكون في الوقت نفسه أنانيين وكرماء، وأن نلحق بالميول للسيطرة على الآخرين والوصول إلى الفرح في العطاء غير المشروط. علينا أن نختار دائماً أيّ ميول نريد ولا يمكننا أن نقوم بذلك فعلياً إلّا من خلال مساعدة روح المسيح.

يعدّد القديس بولس أعمال الجسد، إنّها خطايا الأنانيّة والعنف، مثل العداوة والتنافر والغيرة والخلافات؛ إنّها أفكار وأفعال تمنعنا من العيش بطريقة إنسانية ومسيحيّة في المحبّة. إنّها درب يقودنا إلى خسارة الحياة. بالعكس، يقودنا الروح القدس نحو آفاق الله، لنتمكّن من عيش بذرة الحياة الإلهيّة الموجودة فينا على هذه الأرض. ويقول القديس بولس في الواقع: "إنّ ثمر الروح هو المحبّة والفرح والسلام" (غلاطية 5، 22) تجدر الإشارة إلى أنّ الرسول يستخدم الجمع للتحدّث عن أعمال الجسد التي تتسبّب بالتشتت في الإنسان، ولكنّه يستعمل المفرد لتحديد عمل الروح، فيتحدّث عن "الثمرة"، مثل تشتت بابل تحديداً الذي يتعارض مع وحدة العنصرة.

أصدقائي الأعزّاء، يجدر بنا العيش بحسب روح الوحدة والحقيقة، ولذلك علينا الصلاة لينيرنا الروح ويقودنا لنتغلّب على سحر اللحاق بحقائقنا ولنستقبل حقيقة المسيح المنقولة من خلال الكنيسة. إنّ نصّ لوقا عن العنصرة يعلمنا أنّ يسوع قبل صعوده إلى السماء، طلب من الرسل البقاء معاً للتحضّر لاستقبال نعمة الروح القدس. فاجتمعوا في الصلاة مع مريم في العليّة، منتظرين الحدث الموعود (راجع أعمال الرسل 1، 14). تصلّي الكنيسة اليوم كما فعلت عند نشأتها واستقبالها مع مريم:"فلتقبل أيّها الروح القدس وتملأ قلوب تلاميذك وتشعل فيهم نعمة حبّك!" آمين.

* * *

نقلته إلى العربية ريتا قرقماز – وكالة زينيت العالمية
جميع الحقوق محفوظة لدار النشر الفاتيكانية