على هامش تطبيق الإرشاد الرسولي

الإرشاد الرسولي: حبة تموت .. كي نأتي بثمار

المونسنيور بيوس قاشا

 

13 نوفمبر/تشرين ثاني 2012

في البدء :

في ظل الوضع القائم في عواصم وبلدان منطقة الشرق الأوسط، والتوتــر الذي يســود على

مسيـــــرة شعوبها، وأمام الاحتقان الطائفي والعشائري والمصلحي، والبشائر المعلنة لفتنـة طائفية حقيقية نتيجة إحتقان الفكر والجسد العربي على مدى عقود من الزمن، وأمام سؤال بقاء هذه الشعوب أو رحيلها،والخوف الذي يقلق مضاجع سلاطينها وملاّكيها ورؤسائها وبقاء كراسيهم، وفي ظل هذا الهاجس، في كشف الحقيقة والإعلان عن اتّهام الأبرياء وقتلهم وتدمير مسيرة إيمانهم كي تتربع الأنانية في النيات والحقد في الأفئدة والكراهية في الذهاب والإياب، وفي ظل الصوت الصارخ (متى 3:3)، في ساحة الحياة وكشف القناع المزيف عن الوجوه الشريرة ، والمدمِّرة لخليقة الإله، والبائعة لحقيقة البقاء، تجاه الذين لا يُسمَع لهم صوت، ومثل قصبة مرضوضة يُهانون ( متى7:11) ، الذين يعيشون تحت قيادة معلّمهم فقير الصليب وتحت كنف حمايته، والذين لا ينكسرون لأن فيه آمنوا، وبحبله اعتصموا، ولم يتركوه، وعلى رجائه اتكلّوا، وبحبه لم يتهاونوا.

 

الزائر الأبيض:

  في ظل هذه كلها، قام بابا الفاتيكان، رسول السلام والحوار، حامل الأمل والرجاء، الزائر الأبيض، الرجل الملاك، كليم الحب، البابا بندكتس السادس عشر بزيارة إلى لبنان الأرز والقديسين، حاملاً رسالة آباء السينودس وعنوانها "شركة وشهادة" عبر وثيقة الإرشاد الرسولي، وخلاصة النقاشات والدراسات والأطاريح والأقاويل والتأويل والاستنتاجات التي نوقشت ودُرست ومُحصت وفُحصت وأُعلنت من على المنابر وعلى مسامع الشعوب والأمم ومن مكاتب السينودس الخاص من أجل كنائس الشرق الأوسط الذي عُقد للفترة من 10-24 تشرين الأول من عام 2010، وكانت الخاتمة بتوقيعه في بازيليك مار بولس في حريصا في الرابع عشر من أيلول الماضي وتسليمه إلى جميع بطاركة وأساقفة الكنائس في السادس عشر من أيلول نفسه في قداس احتفالي طالباً إليهم أن يكونوا رسلاً ،ووكلاء أمناء، وأن يسلمّوا ما تسلّموا من البابا إلى مؤمنيهم ليصنعوا ذلك لذكره (لو19:22).

 

زيارة وحقيقة:

  نعم، كانت زيارة قداسة البابا بندكتس السادس عشر إلى لبنان _ الرسالة والوطن _ رجاء جديد _ زيارة معنوية، إيمانية، رسولية، مسكونية، حياتية، شهادية وشراكية، داعمة لتجذر المسيحية في المنطقة لأنّ لبنان قلب العالم العربي بمسلميه ومسيحييه، ولكي يؤكد وبكل شجاعة دون خوف أو تزييف للحقيقة، فالذين يريدون أن ينهوا رسالة المسيحيين في أوطانهم وحضارتهم وثقافتهم قد أرسلتهم شياطين الزمن ليفتشوا عن حق حواء في الألوهية ( تك1)، وعن حق آدم في أن يكون ( تك1)، فتراهم يحومون حول مَن لهم بيدهم مقاليد التزييف والكلمة، وفي ذلك يعلنون حقيقتهم المقنّعة ، من أجل غاياتهم، ويؤكدون بقاءهم، بقوة حقدهم ويخبرون بحبهم المزيَّف ، كي يمسكوا بمقاليد الولاية وسلطان الزمن وولاء الأمر في النهي عن كل منكَر، معتبرين أنفسهم أنهم يدافعون عن القاصرين، ويحملون حقيقة المظلومين، ويجعلون لهم أحباء من مال الظلم ظلماً، وينسون أنهم في ذلك يدفنون هبة الله، ويغيّرون شهادة الإرشاد، ويطمرون شركته، ويعلنون على الملأ تعازي الزمن في النكران والبهتان… إنها الدنيا برجالها… وما أدراك ما هذه الدنيا وما هؤلاء الرجال!.

 

الحضور المسيحي:

  من المؤكد أن الحضور المسيحي في بلاد الأعراب يشكل تعبيراً واضحاً عن حقيقة الإنجيل المعاش عبر السلام والحوار، وما هذا إلا التزام الكنيسة من أجل قبول الآخر. فأهمية المسيحية ووجود المسيحيين في الشرق ودورهم ، كتب عنه الكثيرون، وذاعت أنباؤه عبر قنوات وإذاعات سمعية وبصرية وحتى الكترونية لا تُحصى ولا تُعد ، شهادة لإحقاق الحق وإنصاف الضعيف والبريء في مسيرة الحياة، ومعلنين أن على المسيحيين أن لا تحبط عزيمتهم ولا تكلّ إرادتهم إذا ما صادفتهم عواتي الزمن، وقد أظهر ذلك جلياً قداسة البابا بندكتس السادس عشر حينما خاطب شريحة من الشباب في بكركي في الخامس عشر من أيلول الماضي "أعرف الصعوبات التي تعترضكم في حياتكم اليومية بسبب غياب الاستقرار والأمن… وفي عالم دائم الحركة تجدون أنفسكم أمام تحديات كثيرة وعسيرة… ورغم كل ذلك عليكم أن تكونوا كصنّاع لمستقبلكم ومستقبل بلادكم، وقوموا بدوركم في المجتمع وفي الكنيسة…".

 

في أوطان العرب:

  نعم، إن قداسة البابا أدرك جيداً _ومعه الكنيسة ورجالاتها_ بأن المسيحيين يتعرضون إلى مستقبل وجودهم في هذه أوطان العرب، مما حدا به أن يجعل من الإرشاد الرسولي عاملاً على تثبيتهم في عيشهم، وتشجيعهم على الاندماج في مجتمعاتهم، ليكونوا في عيش مشترك جامع في لبنان والعراق ومصر وسوريا وفي كل أنحاء الشرق الأوسط بكامله… فهذه المواقف وغيرها لا تزال الصوت ، والضمير المسيحي الحقيقي الصادق والنقي ، الذي لا يحمل إلا صفات الحبة التي ماتت حباً كي تكون شاهدة لحقيقة الحياة وليس للأطماع الفاسدة في المنطقة ونهب خيراتها وتحقيق مصالحها الأنانية والذاتية.

 

حبة الحنطة :

  نعم، إن حقيقة الحياة ما هي إلا الرسالة التي يدعونا إليها المسيح الحي _ جاء إلى الأرض كحبة الحنطة التي تسقط على الأرض من أجل أن تعطي ثمراً _ ومن خلال مسيرة الكلمة في أن نكون صغاراً كحبة الحنطة ونموت من أجل أن تأتي بثمار (يو24:12). فالمسيح قبل موته أوصانا بحبّ الأعداء، وكم بالأحرى وعالم اليوم أشدّ احتياجاً إلى ثمرة جيدة تحمل شهادة وشراكة في مسيرة الإيمان. لقد ماتت حبة الحنطة منذ ألفي عام ولكن ثمارها ما زالت حية فينا وبنا حتى اليوم… إنها الحقيقة في جوهرها والحقيقة في إعلانها، ومن المؤكد أن الحقيقة لا يمكن أن نتهرب منها إذا ما أردنا أن نكون فعلاً لله، في الحياة والألم ثم القيامة، كي نحمل ثماراً إلى جائعي مسيرة الإيمان وعطاشى طريق السماء… وهذا كان مسلك القديسين والأبرار والشهداء الذين لا يجب فقط أن نفتخر بهم _ وإنْ كان واجباً إيمانياً _ ولكن يجب أن نتشبه بهم إذا ما دعتنا السماء إلى سلك هذه الطريق.

 

الموت – قيامة :

  إن حقيقتنا والإرشاد ما هي إلا الموت "إنْ لم تقع حبة الحنطة وتمت"… حقيقتنا هي أرض صالحة تقبل الإرشاد حنطة كي تموت فتأتي بثمار، وبدون الموت لا يمكن للإرشاد أن يأتي بثمار، وما الثمار إلا عطاء القيامة… ففي الإرشاد _ حبة الحنطة _ فيه كُتبت الحياة (يو 4:1) ورُسمت القيامة… نعم، خارجها (خارج الحبة) قشرة ولكن لابدّ لهذه القشرة أن تموت عند دفنها في أعماق الأرض، وعليها تهب أنواع عطايا الطبيعة ومآسيها من مرارة وبرودة وثلوج وأمطار وجليد، وعبر كل هذه الآلام والمآسي وعوامل الزمن القاسية والتصحر الدنيوي تنبت الحبة لتعطي يوماً سنبلة، فتحمل ثماراً إلى باريها وباذرها وزارعها، ومن ثم إلى غرباء وأولياء وأقرباء وسائلي الطرق وأصحاب السياجات ليلحّ عليهم فيدخلوا إلى العرس (لو23:14) ، فيكونوا في حضرة الإرشاد.

 

إرشاد وثمار :

  نحن أيضاً أُعطي لنا إرشاد، وصارت الرئاسة في عيشه، والحقيقة في الإيمان بقطراته. فعنه تنبأت الكنيسة بشخص نائب المسيح وأساقفة الكنيسة الشرق أوسطية الأجلاء، ومن المؤكد أن الإرشاد تغلّفه قشرة اسمها مسيرة الحياة والزمن، مليئة بهموم القلق، والخوف من البقاء بسبب برودة الصلاة، وحب الذات، وخطيئة الاضطراب،وادراج مصالح الأنا والكراهية وكل ذلك ، من صنع ، أفكاري ومصالحي وتوقعاتي وغاياتي وربما كبريائي ، بل من المؤكد… هذه كلها تُبعدني عن إعطاء المكانة الحقيقية لمسيرة الإرشاد في نفوس المؤمنين… وما يجب أن يكون هو أن تكون القشرة أواني خزفية من خلالها يجب أن يمرّ الإرشاد في النفوس كونها الكنز (متى 20:6) ،لكي تكون سهلة ليخرج الوليد الإيماني إلى طريق الوجود في قلوب وأفكار المؤمنين، وذلك عبر دفنها في تراب الزمن علامة للحب الأسمى… وما هذا الوليد إلا كلمة المسيح في ضمّ رؤساء الكنائس… إنه يسوع بالذات لأن لهم حق الربط والحل (متى 19:16 ). فإذا الإرشاد لا يموت فينا لا يمكن أن توجد هناك ثمار، إنها ثمار القيامة ، إنها ثمار الحياة، وبقاؤنا في الحياة دون موتنا في الإرشاد سنبقى أحياء الدنيا، وما ذلك إلا أن الرب لا يحيا فينا بل نحن نحيا في العالم دون أن يملأ النور أعماق إيماننا. فكل واحد فينا فيه نور يسوع لذا (إنه كنز في أواني خزفية)… فموت المسيح يعلمنا أن الحياة لا تكمن إلا في عطاء الذات فداءً عن الأحبة، ويقوم ليأتِ بثمار، وهذه الثمار هي نحن الآن. لذا علينا نحن أيضاً أن يموت الإرشاد فينا ونقوم فيه لنأتي بثمار وتدوم هذه الثمار… نعم، هذا لا يمكن أن يكون إلا بموتنا عن أنانيتنا ومحبتنا لذواتنا التي تصل في أغلب الأحيان إلى الأنانية والكبرياء الذي هو أصل كل خطيئة.

  الخاتمة

سنبقى نسأل سؤالاً مفاده: ما الذي جعل يسوع يحمل ثمراً كثيراً ، بل وافراً؟، يعطي معنى لحياتنا ولألمنا ولمماتنا. فحياتنا بلا يسوع لا معنى لها، ولا نحتاج إلى أحلام العيش وآمال البقاء، بل رجاء الثبات في الإيمان… هكذا نحن إذا كنا نريد أن نأتي بثمر، فليس هناك مائة طريق، إنه طريق واحد يدعونا إليه ربنا يسوع هو طريق عطاء الذات عطاءً كاملاً، عطاءً حتى الموت، نموت معه لكي نحيا معه حياة أبدية.

فلنتوكل على الله رغم قسوة الظروف وتعاسة الليالي وكآبة الأيام، فالفرج قريب والمنقذ قادم، والله يسهّل الأمور وييسّرها بعد أن تسعى أنت بها وتجتهد وتعمل بعد أن تتوكل على الله وعازماً بذراعه القوية. فكل واحد منا إنجيل مفتوح للآخرين، وصفحة إرشاد من أجل الإيمان بقيامة الرب، فنكون بذلك شهادة للقائمين، فنموت والإرشاد حباً بهم من أجل أن يحيا الآخرون. فإذا لا ندفن الإرشاد في مسيرة إيماننا، لا يمكن أن نأتي بثمار، وسيبقى وحده، والوحدة في حد ذاتها هي نوع من الموت، والذي عاش وحيداً فقد ذاق الموت… إنه عصر الشهداء، وفي ذلك لا يدعونا المسيح إلى الموت حباً في الموت بل كي نأتي بثمار لأن عالم اليوم بحاجة الى الأيمان الصادق ، كي يرى ثماراً ، وليست أية ثمار ، بل ثمار الخلاص، ولكي نعطي ثماراً لابدّ لنا أولاً أن نكون شجرة صالحة، فالشجرة تُعرف من ثمارها، والإرشاد يُعرف من حامليه ومؤمنيه ومبشريه… وأنظار الشرق الأوسط بعالمه المتعدد كلها تتجه نحو خلاص وقيامة.وما الشركة والشهادة إلا عنوان واحد في الخلاص والقيامة ، وما اجمله من عنوان ، فلنجعل من الأرشاد حبة تموت فينا ، كي نحيا للمسيح الرب ، كما مات المسيح من أجلنا كي نحيا له ، نعم ما أغناه من إيمان .إنها ثمار وافرة من حبة تموت حباً بنا ..نعم وآمين