إنــســـــان بــيــــن الــنـــاس

إعداد الأخت سامية صموئيل

من راهبات القلب المقدس – ديسمبر 2012

          الميلاد هو الله آتيًا لملاقاة الإنسان، عند البشر. الميلاد هو الله الصعب المنال، يصبح إنسانا ليصافح أيدي البشر ويخاطبهم ويحبهم ويموت من اجلهم: " ان الله ما رآه احد قط، الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه" (يوحنا 1/ 18)، " والكلمة صار بشرًا فسكن بيننا فرأينا مجده" ( يوحنا 1/14). 

لقد كانت كل خطوة في مسيرة البشرية قبل الميلاد تحمل مناجاة لـ " يوم الرب " المنتَظَر، ونرى ذلك  في إعلان حزقيال  عن الراعي الذي سيأتي ليرعى الخراف، والذي يمثِّل داود الجديد: « وأُقيم عليها راعياً واحداً، فيرعاها عبدي داود. هو يرعاها، وهو يكون لها راعياً » (حز 34: 23)، أما إشعياء النبي فيُعلن صراحةً: «لأنه يولَد لنا ولد ونُعطَى ابناً، وتكون الرياسة على كتِفِه، ويُدعى اسمه: عجيباً مشيراً، إلهاً قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام… » (إش 9: 6؛ 35: 10) .

       فالأنبياء لم يتوقفوا، عن إعلان " مجيء الرب" ، ووعودهم وإعلاناتهم كانت تقوِّي إيمان الشعب وتحثُّه على انتظار المخلِّص الذي هو مجد إسرائيل. ولقد أصبحت إعلاناتهم – التي كانت قبلاً مُبهمة العنوان – تحمل الآن اسم " يسوع المسيح " . فالرب يسوع، إذن، هو " الاستجابة الإلهية الملموسة لحنين الإنسان إلى الله وحنين الله الى الانسان " . وهذا الحنين هو الذي كان يدفع الإنسان في كل زمان ومكان إلى التقرُّب من"غير المُدرَك " ، لذا نسمع إشعياء النبي يقول لله: «  ليتك تشق السموات وتنزل. » (إش 64: 1).

ولقد تحققت كل آمال الإنسان بنزول "  يسوع المسيح "  إلينا بل وفينا. لقد نزل ليبحث عنا ويضمَّنا إليه. وهذا لم يحدث مرةً واحدة في ليلة الميلاد، وإنما يحدث في كل وقت، لأن الزمن عند الله هو "اليوم"  و"الآن". فالله يتمم وعده في خليقته، لأنه يحبها حبًّا لا يُنطق به.

حب الله اللانهائي لخليقته

      في المسيح يسوع كشف الله لي وجهه الإلهي، ولكن بطريقة شخصية، كما لو كنتُ وحدي في هذا العالم. فهو يدعوني على اسمه كابنٍ له، والشركة التي بيني وبينه هي شركة كاملة، فليس فيَّ شيء لا يعرفه الله، أو كما يقول القديس أوغسطينوس : "الله أقرب إليَّ من نفسي"! فهو هناك في أعماقي ، هو بالنسبة لي كل الحياة، وحياتي ليست إلاَّ حياة شركة معه؛ لذا فهو السبب، وهو الهدف من وجودي. أما ميلاد الرب يسوع في بيت لحم، فكان بغرض كشف أسرار هويتي الداخلية. فالمذود هو الآن قلبي، والمسيح يستريح فيه، أي في داخل كياني، مثل بذرة يجب أن تنمو وتنمو حتى تصل بي إلى أن " نكون مثله " (1يو 3: 2). لذلك فإنني لن أستطيع أن أعيش بطريقة صحيحة إلاَّ عندما أعيش من الداخل حيث هو موجود، وعندما أجد شبهي في المسيح الذي فيَّ. وسيصبح العالم بالنسبة لي " عالم شركة ". فالمسيح في الحقيقة قد نزل إلى العالم كله، لذلك فالخليقة كلها هي بالنسبة للإنسان مائدة كبيرة أعدَّها الله لكي يجتمع عليها معه.

نَسَب المسيح

     عندما ينظر الإنسان إلى الأشياء نظرة سطحية فإنه حتماً يقع في خطأ عدم الإدراك الصحيح، ويقطع على نفسه الفائدة الكامنة خلف ظواهر الأشياء. وعلى ذلك، فالتجسُّد الإلهي ليس مجرد حادثة، إنما هو عمل فدائي، هو ميلاد جديد لكل الخليقة. لقد نزل المسيح المخلِّص بميلاده إلى عمق كثافة الجسد، لكي يولَد فيَّ وأُولَد أنا أيضاً فيه. وهو لم يتوقف أبداً عن النزول إلينا؛ إذ لم يترك أحداً، أيـًّا كان، إلاَّ وجاء لكي يولَد فيه. والقديس غريغوريوس اللاهوتي يوضِّح أن المسيح لا يوقِفه أي شيء عن أن يدخل في قلوبنا ليُطهِّرها من كل شهوة، أو جوع، أو عطش، أو ضيق، أو حزن، أو عبودية… إلخ.

     إذن، فكل معاناتنا وأوجاعنا، وحتى رائحة الخطية الكريهة، كل هذا لا يعوق مجيء المسيح وولادته في داخل القلب؛ ذلك لأن التاريخ المقدس يسرد لنا سلسلة نَسَب المسيح بما فيها من قَتَلَة وزناة وخطاة من كل صنف!! لذلك فلا يوجد مانع – أيـًّا كان – يمكنه أن يمنع ميلاد المسيح بداخل قلبي. فالمسيح لم يأتِ إلاَّ ليخترق ما فيَّ من ظلمة، وليضع مصباح نوره الإلهي فوق منارة ليلي المظلمة فليس ثـَمَّة مشكلة إلاَّ في عدم قبولي لعمله، لأنه هو « يُضيء على الجالسين في الظلمة وظلال الموت » (لو 1: 79)،  لذلك: «فكل مَن يتبعه  لا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة.» (يو 8: 12 ).

     فالمسيح قد وُلِد بيننا، ورسم لنا بميلاده طريقاً جديداً لممارسة الحياة، وهو أن "الحياة هي المسيح" (في 1: 21). لذلك فلنركِّز نظرنا على المسيح ونحتضنه ونجعله يعيش فينا. «كل شيء به كان… فيه كانت الحياة.» (يو 1: 3- 4). هذا هو الإنسان الذي عاش بين الناس، إنه كلمة الله المتجسد يسوع المسيح، تأنس من أجل البشرية، من اجلي ومن أجلك، ليرانا ويخاطبنا ويقيم علاقات صداقة معنا ويخلصنا.   فلنبعد عنَّا، إذن، صغر النفس القاتل الذي يحجبنا عن المسيح ويمنعه من أن يولَد فيّنا. ولنأخذ لأنفسنا حياةً وروحاً  جديدة ورجاءً حيًّا من سلسلة أنساب المسيح التي احتوت على خطاة من كل صنف. لنصلي بعضنا لاجل بعض .