د. جلال فاخوري- عن موقع ابونا
المسيحية جوهر الزمانية تجسدت حدثاً في الزمن. والنور في الزمانية اعمق واشمل من الحدث في الزمن، ونور الزمانية إحتوى الكون كله، وعظمة الحدث إستقرت حيث صخرة الإيمان في روما، فكانت عظمة الباباوية خدمة (من أراد منكم ان يكون كبيراً فليكن خادماً) "الإنجيل المقدس". والنور لا يطفئه مكيال وإلا كيف يرى العالم النور، والرسالة الباباوية في الزمن إمتدت لأكثر من 265 رسولاً دون سابقة زمنية من اي خليفة رسولية ان زهد بالموقع والشأن اللذين لا يضاهيهما موقع او شأن.
الرسالة الباباوية خدمة روحية تعالت على العقل البشري بروحيتها المقدسة التي تواضعت في كل رسول باباوي إلى حدود الزهد الذي استحوذ على حياة وعقل البابا بندكتوس السادس عشر وحين يتغلب الإنسان وينتصر على نفسه فإنه يهزم الزمن المادي بروحية سماوية وقداسة مبعوثة من لدن الله، فكل عطيه حسنة وكل موهبة صالحة هي من السماء من لدن الله.
إن السابقة التاريخية التي منحتها السماء للبابا بندكتوس في الزهد في الموقع والمنصب والتي لم تحدث في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية إلا نادراً حيث في سنة 1415 زهد البابا غريغوريوس بالمنصب وفي سنة 1296 إعتذر احد الباباوات عن تولي المنصب بحجة انه لم يكن مؤهلاً لذلك. اعود للقول ان هذه السابقة التاريخية في الكنيسة الكاثوليكية تؤشر بوضوح بالإضافة إلى الجرأة والشجاعة في الاعتزال إلى روح الله الفاعلة في الكنيسة وعلى عمق اتسامى للروح المقدسة في فعلها بالبشرية.
قد يقال ان البشرية اصيبت بالذهول جراء إستقالة البابا لكن نور المسيحية في العالم سوف تهدئ النفوس وتعيد الروح البشرية إلى ما يجب ان تكون عليه النفس البشرية. فالتواضع الذي ابدته استقالة البابا بندكتوس تشير إلى عمق المفهوم المسيحي الذي يذهب إلى ان الارادة الانسانية والعقل البشري هما من مكنونات ومكونات رب السماء الذي هو الطريق والحق والحياة.
اليوم وبإستقالة رسول المسيحية في الزمن تعود المسيحية إلى الزمانية السرمدية التي تفيد بعظمة الخالق وتواضعه ومحبة أبنائه. فالباباوية هي رسالة السماء إلى الارض وهي حبال الربط بين الارض والسماء وهي خدمة السماء في الارض. وحين يزهد البابا بمنصبه كأعظم منصب وصاحب شأن فإنه يهزم كل ماديات الارض ومناصبها فالبابا يعلم والكنيسة والعالم كله يعلم ان الكنيسة بناء إلهي يستحيل فناؤه ولهذا يغادر البابا بندكتوس موقعه مطمئناً على سلامة موقفه وسلامة موقف الكنيسة.
العقل البشري يرفض ما لا يوافق هواه ولكن ليعلم البشر ان لله حكمة غير مرتده. فالله يريد حيث البشر لايريد. فنور الله في كل زاوية في العالم ولن ينطفئ هذا النور, إن الشجاعة التي تحلى بها هذا البابا المحروس بالعناية الالاهية سوف تبقى مثلاُ يحتذى. فالتنحي بسبب العجز عن الاستمرار بأداء الرسالة نتيجة السن والمرض لن يمنح البشرية إلا توهجاً بالنور وإشتعالاً في العزيمة الرسولية فنور الله باق ما بقيت الحياة.
إن الشجاعة التي رافقت زهد البابا بندكتوس بالموقع هي احد عطايا الله الكثيرة والكبيرة التي تمنح البشرية عزما ًوروحاً إلهيا لدوام الخدمة. فلم تكن خدمة الباباوات في الكنيسة إلا شهادة حق لاله حق وتجسيداً للحقيقة التي تجسدت واقعاً وفكراً وروحاً وإيماناً ومحبة والتي هي غاية الحياة وجوهرها ومضمونها، التي تفرض علينا التساؤل الدائم: هل يبحث العالم عن الحقيقة؟ واين موقعها مما يجري في الحياة الواقعية المعاشة؟ هل من عالم يبحث عن الحقيقة؟ بل هل يريد الحقيقة؟.