العولمة والفكر اللاهوتي المسيحي

هل يحق اللجوء إلى هذه “الحيلة” المنهجية، أعني التحدث عن العولمة بوصفها معطى معروفاً من دون تحديدها كظاهرة؟ يزيّن لي أن الجواب يجب أن يكون الإيجاب لكون آراء الدارسين تتقاطع، رغم الصعوبات المشار إليها أعلاه، إلى حد أدنى بإزاء تحديد ماهية العولمة وأبرز مكوّناتها كظاهرة اقتصادية واجتماعية وثقافية فرضت ذاتها بعد انهيار المعسكر الشيوعيّ في أوروبا. يضاف إلى هذا أن العولمة ليست مفهوما مجرداً، بل واقعاً ملموساً بتنا نحيا في وسطه مختبرين إياه في شكل مستديم ومكوّنين عنه “فهماً” ما يرتكز على خبرتنا. انطلاقاً من هنا، تتجنب هذه المساهمة معارج تحديد العولمة تحديداً دقيقاً …. وتكتفي هذه السطور بالإشارة المسهبة نوعاً ما إلى نقاط ثلاث تندرج في إطار جدلية العولمة والفكر اللاهوتي، مع التشديد على أن اختيارها لا يلغي وجود سواها ولا يقلل من أهميته وعلى أن هذا الاختيار محكوم، بطبيعة الحال، بما يوليه الكاتب إياها من اهتمام بسبب حسه الفكري وثقافته. ولكن قبل الانتقال إلى النقاط الثلاث المشار إليها، أود أن أتوقف قليلاً عند ملاحظتين تقعان، إذا جاز التعبير، في خانة القبليات التي يفترضها بحث التحديات التي تطرحها ظاهرة العولمة على الفكر اللاهوتي.


 أولاً: يشير العارفون إلى أن ظاهرة العولمة التي نعيش اليوم فيها ليست الأولى من نوعها. فلقد سبقت عولمة عصرنا “عولمات” أخرى، بدءاً بالتوسع التجاري الفينيقيّ في أرجاء المتوسط مروراً بالإمبراطورية الرومانية والسيطرة العثمانية على كثير من بقاع المشرق والمغرب وصولاً إلى ظاهرة الاستعمار الأوروبي الحديث أجزاء واسعة من العالمين القديم والجديد. علاوة على ذلك، تضرب ظاهرة العولمة جذورها في الحقبة التي سبقتها، أي ما يعرف بالحداثة التي راحت معالمها ترتسم في أوروبا في أوائل القرن السادس عشر. ويذهب بعضهم إلى أن التبادل التجاري في ما يتجاوز أطر الدول القومية كان أكثف قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى منه في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ما يدل على أن الطابع الاقتصاديّ والتجاريّ الذي يطبع عولمة اليوم ليس ظاهرة حديثة كلياً، بل يتأصل في ظواهر تاريخية أقدم. هذا التأصل التاريخي لا ينفي، طبعاً، مظاهر الجدة التي تجعل من عولمة اليوم حقبة جديدة فعلا لا تتماهى وأياً من سابقاتها.


 والحق أن حتى القديم الكثير الذي قد تضمه العولمة إنما يتخذ اليوم بعداً جديداً، لأن الجدة والقدامة ليستا بنتي المضمون المجرَّد فحسب، بل هما أيضاً وليدتا النور الجديد الذي يسلّطه تغير السياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية. فبعض “التاريخي” أو “التقليدي” أو “المعروف” يتخذ “حضوراً” جديداً ويصبح مهما وملحّاً بفعل إعادة صوغ السياقات المذكورة وظهوره في تشكلات مختلفة بالنسبة إلى الماضي. هذا ينطبق أيضاً على التفكير اللاهوتي. فربّ مضمون لاهوتي تقليدي قد يغدو، بين يوم وآخر، غاية في “الجدة” بمجرد إعادة ظهوره وتموضعه في تشكيل مجتمعي أو ثقافي جديد. من هنا، فأن النقاط التي سأوردها قد لا تكون “جديدة” في الضرورة من حيث مضمونها. بيد أنها تكتسي، في رأيي، أهمية كبرى بفعل قيام سياق ثقافي ومجتمعي جديد ندعوه “العولمة”. ثانياً: لا ريب في أن السؤال عن موقع الفكر اللاهوتي من ظاهرة العولمة إنما هو أيضاً قائم في سياق مجتمعي – ثقافي لا يمكننا التغاضي عنه.


 لذا، فإن الفكر اللاهوتي الذي نعنيه لا يمكن أن يكون إلا ذاك المتشكل في سياق المشرق العربيّ الذي ننتمي إليه. أن يأتي الفكر اللاهوتي دوماً ابن سياقه فهذا معطى معرفي لا يرقى إليه الشك. والفكر اللاهوتي المشرقيّ لا يسعه أن يطل على الفكر اللاهوتي بعامة ما لم يتأصل أولاً في تربته المشرقية ويعي هذا التأصل. ولكن، قبل أن نسأل أين نحن في الشرق من العولمة، لا بد من السؤال: أين نحن في المشرق من الفكر اللاهوتي؟ هل ثمة “فكر” لاهوتي مشرقيّ، أم أننا حيال تمتمات تطمح لتصير فكراً، وما هو المعيار الذي نقيس بموجبه وجود فكر لاهوتي؟ قد يُسعفنا هنا التمييز بين مفهوم ضيق ومفهوم واسع للفكر اللاهوتي، من دون أن يعكس هذا التمييز بالضرورة رأي الكاتب. فإذا اعتبرنا، بالمعنى الضيق، أن الفكر اللاهوتي يقوم في مساهمات لاهوتية مبدعة تأتي من هنا وهناك ويتشكل بها، فإن هذا الفكر موجود فعلا.


 غير أن ما يصنع الفكر اللاهوتي، بالمعنى الواسع، ليس مجرد وجود الإسهامات القيمة، بل أيضاً حركية حوار وقبول خلاق يبدو أنها تبقى في غالبية الأحيان ناقصة أو معدومة بسبب ما بدأ يعتور كنائس المشرق من ذهن مؤسساتي واهتمام بالمظهر. حتى في الشأن التفكيري، على حساب الدسم الفعليّ. يضاف إلى هذا أن وجود فكر لاهوتي بات اليوم يشترط وجود مشروع لاهوتي من ضمن الثقافة المشرقية تشترك الكنائس جميعاً في تبنّيه ويكون في حجم سقوط مشروع الحداثة في الشرق. في هذا الصدد، يعتبر الصحافي والروائي اللبناني الياس خوري أن الحرب اللبنانية كانت أنبأت بانهيار مشروع الحداثة العربية. ولا شك في أن الخيبات السياسية التي يمنى بها العالم العربي في فلسطين والعراق وغيرهما ليست غريبة عن سقوط هذا المشروع.


 لا يمكن اللاهوتيين أن يظلوا معزولين عن كل هذا، أعني عن خيبات الناس اجتماعية كانت أم فكرية أم سياسية. نحن في زمن العولمة، وراءنا مشروع مجهض لم يتحقق وأمامنا فوضى عولمية لسنا بعد مهيئين لها. الملاحظات الآتية، إذا، تتوخى أن تصبح مساهمة بسيطة في صوغ مشروع لاهوتي مشرقي مسكوني الطابع يتلقف الظواهر العولمية ويتصدى لها تمحيصاً وتحليلا ونقداً دالا على كيفية التعامل معها في معترك الواقعين الكنسي والعام. هذا، طبعاً، إذا توافر لدينا الاقتناع بضرورة مشروع كهذا وجدواه.


الذات والآخر


 لعل واحداً من المعالم الأساسية التي تميز علمنة اليوم نسبة مرتفعة من التأحيد uniformisation في العيش والسلوك تجعل العولمة في أذهاننا تترادف أحياناً مع أنماط معينة من المأكل والمشرب والملبس والذوق الفني. ويترافق هذا التأحيد مع إحساس متنام بوحدة العالم الذي نعيش فيه لكوننا نستطيع تسقط أخباره في سرعة تكاد توحي شيئاً من الحضور في أكثر من مكان في آن. ولئن كنا، في غير مجال، لا نزال قاصرين عن سلوك يترجم المواطنية العالمية فعلاً، إلا انه لا يسعنا أن ننكر أن بعض الكتل المجتمعية، كالمجموعة الأوروبية مثلا، قطعت شوطاً كبيراً في تجاوز النطاق القوميّ الضيق عبر إلغاء الحدود وتوحيد النقد. من البديهي، بإزاء هذا الواقع، أن تتسبب العولمة برد فعل يقول ذاته تمسكاً بالمناطقيّ وتشبثاً به خوفاً من أن يبتلع العولمي الخاص.


 والحق أن هذا التمسك له ما يبرره. فإلى كون التماهي بالهوية المحلية واحدة من الديناميات الاساسية التي تنظم سلوك الإنسان وترسم له قنوات التحرك، يحفظ لنا التاريخ أن لعولمات الماضي سجلاً حافلاً في تدمير الثقافات المحلية وطمس ذاكرتها. التوتر بين العولمي والخاص هو، في التحليل الأخير، التوتر بين الذات والآخر. ومن واجب الفكر اللاهوتي التذكير بأن هذا التوتر لا يمكن إلغاؤه، بل يجب الإبقاء عليه وتوجيهه بحيث لا يتحول إلى طاقة يتولد منها الصراع في مفهومه السلبي. بكلمات أخرى، وظيفة الفكر اللاهوتي أن يظهر أن الجمع بين التعدد الثقافي والانتماء إلى إنسانية واحدة تستلهم قيماً مشتركة أو تسعى إليها متحاورة في تأويلها ليس مستحيلاً، بل هو ممكن وضروريّ. ووظيفة الفكر اللاهوتي، متعاوناً مع العلوم الإنسانية الأخرى، أن يفكك الحاجز التقليدي الذي نميل في العادة إلى إقامته بين الذات والآخر مبيناً كيف أن الذات تتشكل بالآخر على نحو مستديم وكيف أن صورة الآخر كثيراً ما تكون انعكاساً لأهواء الذات وأفكارها المسبقة.


 هل هذه المهمة منوطة بالفكر اللاهوتي وحده؟ كلا بالتأكيد. ومن الصعب إقناع الإنسان الذي تشكله العولمة وتطبعه بأن للفكر اللاهوتي في هذا المجال امتيازاً عن العلوم الأخرى التي تُعنى بالإنسان. غير أن الفكر اللاهوتي المسيحي مؤهل، في اعتقادي، للاضطلاع بهذا الدور أو للمساهمة فيه إذا استلهم مصادره، ولاسيما عقيدتي التجسد والكنيسة. في ما يلي، محاولة لتوضيح ذلك. الكلام على التجسد في التراث المسيحي لا يختزله ما ورد في بدء إنجيل يوحنا أن “الكلمة صار جسداً” (يو ،1 14). فالفكر المسيحي اللاحق، وخصوصاً بين القرنين الرابع والثامن الميلاديين، ألفى ذاته مضطراً إلى التفكير ملياً في علاقة الإنساني بالإلهي في شخص يسوع المسيح الواحد. وتتفق الكنائس، تلك المعتنقة صيغة مجمع خلقيدونية (451)، أي العائلات الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستنتية، وتلك المتحفظة بإزاءه، أي العائلة الأرثوذكسية الشرقية من سريان وأقباط وأرمن، على أن وصف علاقة الإلهي بالإنساني لدى الناصري يتم، في الدرجة الأولى، عبر استخدام تعابير “تنزيهيّة” سلبية الطابع مثلبلا انفصال”، “بلا امتزاج”، بلا “تشوّش“.


 هذا الاستخدام يعكس، بلا ريب، رغبة في الامتناع عن دخول حيز التنظير الايجابي في كيفية تلاقي الله بالإنسان المحقق في يسوع لكونه، في آخر المطاف، سراً من أسرار الله. ما يهمنا هنا هو أن هذه المقاربة تدل على أن التجسد، كما يؤمن به المسيحيون، هو نموذج جمع بين قطبين، هما الإلهي والإنساني، مختلفين جذرياً على المستوى الأنطولوجي. بيد أن هذا الاختلاف لا يمنع اجتماعهما في توتر خلاق قد يتحول صراعاً حقيقياً كما في معاناة يسوع على جبل الزيتون قبل موته. بيد أننا هنا أمام صراع إيجابي، بمعنى أنه لا يفضي إلى تمزق كيان المسيح المؤلف من حقيقتين إلهية وإنسانية، بل إلى اختيار الإنساني بملء إرادته أن يطيع الإلهي: “لتكن مشيئتك، لا مشيئتي” (مر ،14 36).


 أما الكنيسة في مفهومها اللاهوتي فهي نموذج توازن بين الواحد والكثرة، بين الشخص المعمّد أياً كان والجماعة التي تتألف الكنيسة المحلية منها. هذا المفهوم يستند في شكل أساسي إلى تعليم الرسول بولس عن الكنيسة بوصفها جسد المسيح المؤلف من أعضاء عدة لكل واحد منهم مكانته وفرادته ووظيفته بحيث لا يمكن أحداً أن يقوم مكانه. واللافت أن بولس يشدد عبر استعماله هذه الصورة على أن علاقة الواحد بالكثرة والكثيرة بالواحد ذات طابع ايجابي، بمعنى أنها تكاملية لا تنافسية، لكون المواهب الممنوحة للأعضاء في معموديتهم تساهم في بنيان الجماعة بوصفها جسداً واحداً، والكيان الكنسيّ المتعدد يتجاوز الفرد من دون أن يذيبه في بوتقة المجموع. هذا يتقاطع وتعريف الكنيسة لدى مكسيموس المعترف، أحد ألمع آباء الكنيسة الشرقية، إذ هي في منظوره توحد المختلفين في الشكل والجنس والعرق واللغة والعادات والعمر والرأي بفضل الولادة الجديدة المعطاة في المعمودية، وذلك من دون أن تلغي الاختلافات. هذا الكلام لا يعني، طبعاً، أن الممارسة المسيحية عبر التاريخ كانت دوماً تجسدية وكنسية في المعنى المذكور آنفاً.


 فالثابت أن المسيحية كثيراً ما سقطت في تغليب الإلهي على البشري أو البشري على الإلهي أو وقعت ضحية التشديد على الجماعة على حساب الشخص الواحد أو العكس. والحق أن من واجب الفكر اللاهوتي أن يسأل المسيحية في التاريخ والحاضر عن مدى إخلاصها لهذه الرؤية الأولى التي تجعل من التجسّد والكنيسة نموذجي توازن بين مختلفات وتمجّ كل استقطاب للواحد على حساب الآخر. انطلاقاً من هنا، فإن في مقدور الفكر اللاهوتي أن يستنبط من جذوره التجسدية والكنسية نماذج تخاطب العولمة مُظهرة كم أن جدلية الذات والآخر، إذا ما فُهمت ومورست على أنها وحدة في التعدّد والاختلاف، قادرة على أن تكون مثمرة في سبيل تحقيق عالم علمويّ أكثر إنسانية.


التقليد والحداثة


 لئن كان الطابع الاقتصادي أو التقني مسيطراً على عولمة اليوم، إلاّ أنه من غير المسموح إنكار بعدها الثقافي. والحق أن هذا البعد لا يمكن اختزاله بهيمنة اللغة الانكليزية أو بانتشار الطريقة الأميركية في العيش والمأكل والمشرب. فما يسبّبه تسرّب العناصر العولمية إلى المجتمعات التقليدية من ردات فعل انطلاقاً مما تحمله هذه المجتمعات من إرث ثقافي، لا يقل أهمية عن “مضمون” العناصر المتسربة. ولعل إحدى أبرز الإشكاليات التي تطرحها العولمة في وجهها الثقافي هي السؤال عن العلاقة بين الحديث والتقليدي، وتالياً مشكلة إعادة قراءة التراث وكيفية هذه القراءة. ونلمح في هذا الصدد موقفين أقصيين يندرج بينهما عدد من ردود الفعل يقترب كل منها من أحد الموقفين بمقدار ابتعاده عن الآخر: الموقف الأول هو ذاك الذي ينكمش متمسكاً بالتراث إلى حد المغالاة والتشبّث حتى بما هو سطحي لكون هذا السطحي يصبح، بامتياز، رمز الثقافة المعرّضة للتهديد من العناصر العولمية.


 وإذا أقبل أصحاب هذا الموقف على منتج العولمة فإنما هم يقبلون على اتخاذ بعض وسائلها التقنية بغية نشر مضمون متشدّد سالفيّ. ولعل شيئاً من هذا قصده عبدالله ابرهيم بقوله إن العولمة تنتج في المجتمعات التي هضمت الحداثة معرفة جديدة، أما في المجتمعات التقليدية فهي تنتج ثقافة تقليدية بطرائق جديدة. الموقف الثاني هو الذي يرفض التقليدي والتراثي رفضاً مطلقاً باسم السلع الجديدة التي تروّجها العولمة، متجاهلاً أن تأثير المعطى التراثي، ولاسيما في جانبه الذي يتجاوز الوعي، أعمق بأشواط مما يمكن تهميشه أو إلغاؤه بمجرد قرار فردي أو جماعي. كيف السبيل إلى حل هذه المعضلة؟ مهمة الفكر اللاهوتي أن يطرح نهجاً جديداً في التعامل مع التراث; نهجاً يخرجنا من الانفصام القائم في اتخاذنا الوسائل التقنية العولمية وولائنا، في الوقت عينه، لبنىً سلطوية تقليدية ذات طابع ميثيّ (نسبة إلى ميثه myth)، إن في المجتمع أو الأخلاق أو الدين، تنتمي إلى ما قبل عقل الحداثة، هذه الحداثة التي انبثقت العولمة منها. هذا يعني أنه لا يسعنا فصل العولمة عن العقل الحديث الذي أنتجها وأن أي تعامل جدّي معها مدعو إلى الإقبال على هذا العقل في كل طاقاته وأبعاده. طبعاً، مقاربة كهذه لا تستتبع بالضرورة إضفاء صفة الإطلاق والعصمة على هذا العقل، بل الاستفادة من طاقات التجدّد الايجابية التي يختزنها بوصفه قادراً على فضح الأخطاء، كل الأخطاء، حتى تلك التي يقع فيها هو ذاته. ولكن هذه المقاربة تفترض بالضرورة عدم رسم حدود مسبقة لهذا العقل، وكأن هناك نطاقات لا يُسمح له بولوجها أو بوضعها تحت مجهر التمحيص والمساءلة.


 المطلوب إذاً، في التحليل الأخير، نهج يمكّننا من التعامل الخلاّق مع التراث من دون أن نصير عبيداً له. والطبيعي أن هذا يستتبع قراءات جديدة تستلهم هذا التراث وتتعلّم منه من دون أن تضفي على مضامينه وتعابيره، مسبقاً، صفة الإطلاق والقداسة، بل أن تتعامل معها بروحية النقد والإخلاص لروح الله الذي يجدّد الكنيسة والمجتمع.


أنسنة العولمة


 الملاحظات التي سبقت تفترض أن العولمة باتت ظاهرة لا يمكن تفاديها، وهذا ما لا يستطيع أحد التشكيك فيه. بيد أنها ليست، من جهة أخرى، ظاهرة شيطانية بالضرورة ينبغي الحكم عليها، بل هي تختزن، على حدّ سواء، إمكان تدمير الإنسان وطاقة الرفع من شأنه. المطلوب، إذاً، أن يجاهد الفكر اللاهوتي في سبيل أن تأتي ثقافة العولمة إنسانية أو أن تتأنسن، إذا لم تصبح بعد كذلك. ثقافة العولمة قد تنتهي إلى صيرورتها ثقافة كاذبة، لأن كل ثقافة كاذبة ما لم تكن في خدمة الإنسان، أي في خدمة صون حريته والمحافظة على كرامته والدفاع عنه حيال كل ما يهدّد كينونته الإنسانية. سبيل الفكر اللاهوتي أن يتحدى سذاجة العولمة في كل مرة تسوّغ لها نفسها أن تجعل من البشر، أجنّة كانوا أم أطفالاً أم بالغين، سلعة اقتصادية أو رقماً في حساب مالي أو مادة للقنابل الكيميائية. ووظيفة الفكر اللاهوتي أن يتصدى لعولمة تبارك الطغيان والتسلّط ودكّ البشر أفواجاً في غياهب السجون.


 وواجب الفكر اللاهوتي أن يفضح عولمة تدمّر الأرض، خليقة الله الجميلة، باسم التقدم والتحديث وغلبة الرأسمال ومنطق السوق. ويزيّن لي أن أمام اللاهوت المشرقي بعد أشواطاً يقطعها في هذا المضمار. قد يقول قائل: هذا كاتب يريد أن يلبس اللاهوت لباس قيم الغرب وشرعة حقوق الإنسان التي استنبطها. إن رأياً كهذا يتعامى عن أن الغرب اليوم هو أيضاً على محك اختبار صدقيته في ما يختص بهذه الشرعة. بيد أن الكلمات والتصنيفات في ذاتها ليست مهمة، بل ما نرمي إليه من ورائها. لقد كان الإله المتجسد، إذا جاز التعبير، أعظم مدافع عن “حقوق” الإنسان لكونه تبنّى الوجود الإنساني ككل غير مفرط بذرّة منه، بل حامياً كل طاقة إنسانية وموجهاً إياها في سبيل الشركة مع الله. لا مجال إذاً للمفاضلة بين الإلهي والإنساني أو لتهميش الإنساني وقمعه تحت شعار المحافظة على حقوق الله أو الأمة أو الدولة. فسرّ التجسد لا يترك أي مجال لذلك.


 بلى، في مقدور الفكر اللاهوتي أن ينتقد ويفضح ويتحدى ويصحّح، إذا آمن حاملوه جدياً بأن الإله الذي يعبدونه سيد التاريخ والمستقبل وأن له، بوصفه ضابطاً للكل ومن دون المسّ بحرية الإنسان، الكلمة الأخيرة في تحديد مسار الأزمنة، معولمة كانت أم لا.


                                    نقلاً عن “النهار”- 29/6/2003 (بتصرّف)