الكنيسة الكاثوليكية والإبداع الفكري

. ولكن ما يؤخذ على الكثير من الكتاب والصحفيين أن تتحول أقلامهم إلى سيوف مشهرة في وجه الكنيسة الكاثوليكية ولا تستحضر من ذاكرة تاريخ الكنيسة العريق سوى الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش في صورة متعمدة لإظهار الكنيسة في دائرة الرجعية والعقم. لذلك ومن منطلق رسالتنا في الإعلام الكنسي أردت أن أضع أمام القراء وثيقة هامة تبرز معتقد الكنيسة ورسالتها حيال الإبداع الفكري والفني هذه الوثيقة هي رسالة طيب الذكر البابا يوحنا بولس الثاني إلى أهل الفن والصادرة عن حاضرة الفاتيكان في الرابع من نيسان 1999 .
 
(1 ) – الفنان صورة الله المبدع :
إلى كل الذين يسعون بتفان مولع  وراء معاني جديدة للجمال كي يهبوها للعالم ، ما من أحد يستطيع أن يكون خيراً منكم أنتم الفنانين صناع الجمال ، بهذه الكلمات الرقيقة يستهل طيب الذكر رسالته الخالدة لأهل الفن معبراً عن رغبته في أن يسلك طريق الحوار بين الكنيسة والفنانين ومؤكداً بأن الحوار بين الكنيسة  والفن هو حوار لم ينقطع أبدا على مدى ألفي سنة عبر التاريخ ، حوار لا يتعلق بظروف تاريخية بل يضرب بجذوره في جوهر الاختبار الديني كما في جوهر الإبداع الفني  . وفي صورة لاهوتية بديعة يرد طيب الذكر الإبداع إلى مصدره الإلهي فيقول ، إن الفنان الإلهي تعالى ينقل برفق عطوف شرارة من حكمته العلية إلى الفنان البشري داعياً إياه إلى مشاطرته قدرته الإبداعية حيث أن الصفحة الأولى من الكتاب المقدس تكاد تصور الله وكأنه النموذج المثالي لكل إنسان مبدع
 
( 2 )- دعوة الفنان والخير العام :
وعن الدعوة الفريدة للمبدعين يقول الراحل الجليل ، إن من يشعر في قرارة نفسه بهذا النوع من الشرارة الإلهية التي هي الدعوة الفنية – دعوة الشاعر أو الكاتب أو الرسام أو النحات أو الموسيقي أو الممثل – يتملكه في الوقت عينه شعور الواجب وعدم التفريط في هذه الموهبة بل بتطويرها ووضعها في خدمة القريب والإنسانية جمعاء . ويستطرد قداسته قائلاً للفنانين موقعهم المميز في المشهد الثقافي الواسع لكل أمة وعندما ينقادون لإلهاماتهم بالذات لدى انجازهم أعمالاً قيمة فعلاً وجميلة فإنهم لا يثرون التراث الثقافي لكل أمة وللإنسانية كلها فحسب بل يؤدون خدمة اجتماعية كافية لفائدة الخير العام .
 
(3 ) – البعد اللاهوتي للفنون والآداب :
وفي تأصيل لاهوتي وإيماني لمعنى الفن يكتب البابا العظيم ، إن الشريعة في العهد القديم تحرم صراحة تمثيل الله اللامنظور والفائق الوصف بواسطة صورة منحوتة أو مسبوكة لأن الله يعلو فوق كل تمثل مادي . غير أن أبن الله بعينه قد جعل ذاته منظوراً في سر التجسد ، هذا التجلي الجوهري لـ ( الله – السر ) شكل تشجيعاً وتحدياً للمسيحيين في مجال الإبداع الفني نتج عنه ازدهار للجمال استمد قوته من سر التجسد الإلهي وبذلك أصبح الكتاب المقدس بمثابة قاموس شاسع وأطلس ايقونوغرافي نهل منه الفن والثقافة المسيحيان وشكل ذلك في تاريخ الثقافة فصلاً واسعاً في الإيمان والجمال .
 
 (4 ) – قراءات تاريخية :
وفي تحليل تاريخي ومكاشفة صادقة حول علاقة الكنيسة التاريخية بالفن سطر سعيد الذكر بأن الفن المسيحي بدأ عمله في الخفاء في ترابط وثيق مع حاجة المؤمنين آنذاك إلى استنباط دلالات تعبر عن أسرار الإيمان انطلاقاً من الأسفار المقدسة ، وفي الوقت عينه أثمرت الفنون والآداب شفيرة رمزية استطاع المؤمنون من خلالها أن يتعرفوا بعضاً إلى بعض ويبتوا هوياتهم المتبادلة لاسيما في أزمنة الاضطهاد الصعبة . وأستطرد البابا ، خلال القرون الوسطى شهد العالم تطوراً كبيراً للفن المسيحي . في الشرق تابع فن الأيقونة ازدهاره من منطلق اقتناع مفاده أن الأيقونة سر طقسي تستحضر من خلال نقوشها سر التجسد بوجه أو بأخر من وجوهه . وفي الغرب انطلق المبدعون من وجهات نظر شديدة التنوع وفقاً للقناعات الراسخة الموجود في البيئة الثقافية لعصرهم وتعكس الصروح الدينية الكبيرة في الكاتدرائيات والأديرة قوة فن العمارة الرومانيسكي وبساطته .
وعن عصر النهضة ذكر البابا ، إن المناخ الثقافي الطيب الذي نبت منه الازدهار الفني في عصر النهضة كان له أيضاً تأثير معبر على الطريقة التي تناول بها فنانو هذه المرحلة ومفكريها الموضوعات الدينية التي تبرز من خلال الأشكال التجسيمية والمقطوعات الموسيقية معنى السر الذي يجعل من الكنيسة جماعة جامعة حقيقية وأم حنون ورفيقة درب لكل إنسان يسعى في طلب الله .
 
( 5 ) – حوار الكنيسة والثقافة :
يؤكد رأس الكنيسة المنظور أهمية الحوار بين الكنيسة والثقافة قائلاً ، لقد أرسى المجمع الفاتيكاني الثاني أسس العلاقات المتجددة بين الكنيسة والثقافة ، إنها علاقات تحكمها الصداقة والانفتاح والحوار . في الدستور الرعائي ( فرح ورجاء ) شدد الآباء المجمعيون على الأهمية الكبيرة للآداب والفنون في حياة الإنسان فهي تجتهد في فهم الطابع الخاص للإنسان وقضاياه في محاولات جادة لمعرفة الشخص لذاته والسير بها نحو الكمال . ويؤكد البابا إن الكنيسة في حاجة إلى الفن من اجل نشر البشارة التي عهد السيد المسيح بها إلى كنيسته وإن عليها أن تجعل عالم الروح اللا منظور محسوساً قدر المستطاع ، لذا وجب عليها أن تعبر بصياغات ذات معنى عما هو فائق الوصف . إن الكنيسة في حاجة إلى من هم قادرين على انجاز هذا على الصعيدين الأدبي والتشكيلي مستخدمين لذلك الإمكانيات اللا متناهية للصور وقيمتها الرمزية والكنيسة ترجع في ذلك إلى السيد المسيح ذاته الذي استعان في كرازته إلى حد بعيد بالصور والمثال وذلك في تناغم كامل مع اختياره بأن يصبح هو ذاته بالتجسد أيقونة الله اللامنظور .  وعلى الجانب الأخر يؤكد الأب الأقدس أن الفن كذلك في حاجة إلى الكنيسة حيث أن الفنان والمبدع هو ذاته في بحث دائم عن المعنى العميق للأشياء فكيف له إذن أن يبتعد عن النبع الإلهامي الكبير الذي يقدمه الدين بقيمه وتعاليمه .
 
(6 )- نداء إلى الفنانين :
و يختتم الراحل العظيم يوحنا بولس الثاني رسالته بنداء حار إلى الفنانين قائلاً ، أتوجه إليكم يا فناني العالم أجمع لأؤكد لكم تقديري ولأساهم في إعادة تطوير تعاون أجدى بين الفن والكنيسة . إنني أدعوكم إلى اكتشاف عمق البعد الروحي والديني الذي كان على الدوام  ميزة الفن في أسمى تعابيره وإنني من هذا المنظور أتوجه بالنداء إليكم يا فناني الكلمة المكتوبة والمنطوقة والمسرح والموسيقى والفنون التشكيلية وبندائي أخصكم انتم أيها الفنانون المسيحيون وأود أن أذكركم بأن الحلف القائم بين الإنجيل والفن يستتبع الدعوة إلى التوغل في سر الله المتجسد وفي الوقت عينه التأمل في سر الإنسان.  وإن الإنسانية على  مدى الأزمنة تنتظر بشوق أعمالكم الفنية والإبداعية التي تنير مسيرتها .
 
ناجح سمعـان