أنا لست أفضل من أيوب. هذا البار ابتُلي بكل المآسي بعدما تمتّع بكل الخيرات. لم يفهم لماذا حل به ما حل، وهو المثابر على العبادة وعمل الخير. حاول اصدقاؤه “الدفاع عن الله” بان اخذوا “ينقّبون” ذاكرته وماضيه وماضي اجداده، لعلهم يقعوا في هذا التنقيب على تصرف مشين او خطيئة يكفّر ايوب عنها. ووصل احدهم الى “اختراع” سبب وهو ان ايوب قد يكفّر عن خطيئة سيقوم بها في ما بعد، او ربما قد ينوي القيام بها وهذا ما جعل ايوب يغضب ويثور ويحلف ان لا شيء من هذا صحيح. ومع ذلك كان يردد: الرب اعطى والرب اخذ فليكن اسم الرب مباركا… واقام “دعوى على الله!” إمراته كانت تهزأ منه وتدعوه الى الكفر والشتم، لان الله لم يكن عادلا معه، فزجرها ايوب ونعتها بالبلهاء، الى ان تدخل الله نفسه بالحوار مع ايوب وطرح عليه بعض الاسئلة عن كيفية خلق العالم، والنفس، والحياة، والموت والفكر، والبحار، والسماوات والحيوانات… اي انه وضعه امام “كمية” من الاسرار لم يفهم ايوب منها شيئا على الاطلاق، ومع ذلك، لم “يقم قيامته على الله”. وهنا اجابه الخالق: الألم، يا صديقي، سر ايضا، يشبه سائر الاسرار التي لم تفهمها. فكما قبلت كل ما يحوطك ويسكنك من اسرار من دون تذمّر، بل باداء الشكر والتسبيح والاكرام، عليك ان تقبل سرالالم “بالروحانية” عينها. فانا، يقول الرب، اضع بين يديك علبة ملؤها اسرار لا يفهمها عقلك بل يرضى بها قلبك، فلا تستطيع ان ترمي جانبا “السر” الذي يزعجك ويؤلمك ويجعلك محتارا، فالعلبة كلها هدية مني كي تفهمني كما اريد لا كما يحلو لك. ولن اشرح لك سر الالم، كما لن اشرح لك سر الخلق.
فقال ايوب: سيدي، تكلمت من دون حكمة. حتى الآن سمعت بك اذناي اما الآن فقد لمستك يداي ورأتك عيناي.
في الواقع العيون التي بكت ترى بوضوح اجلى كل ما حولها. فما هو المطلوب مني اليوم؟
أن اكون سامرياً صالحاً لجريح أريحا؟ فالسامري ذلك لم يسأل عن لون ودين ولغة وعمر الجريح.
اعطى مما عنده وما له: الزيت والخمر، الوقت، الحنان، النظرة، اللسان اللطيف، اليدين المسعفتين… اخاف من ان اكون فريسيا، اطلق العنان للخطابات الطنانة لادانة الغير، عوضا عن ان اشمّر عن ساعدي واحنو على اخي المصاب جسديا وروحيا ونفسيا كأنه “أنا” او كما كنت اود ان يُنظر اليّ فيما لو كنت مكانه.
الله لا يعمل شيئا وحده، يستطيع عمله مع غيره. هذا هو قراره بعد ان خلق الكون بكلمة منه. اما بعد خلقه الانسان فقرر “سبحانه وتواضع” ان يضع حدا لقدرته، فقال للانسان: وضعت فيك قدرة الهية تستطيع ان تعاونني في اكمال خلق العالم. وفي امكانك الرفض. اذا رفضت قد اخجل، ولكن لن اتراجع عن قراري. افضل ان “اخسر” من ان تكون مجبرا على عمل لا تريده. وآمل منك يا انسان ان تكون على مستوى ثقتي بك.
ومن الناس من رفض هذا المنطق. البعض وضع الله على الرف وجعلوا انفسهم المرجع الأول والأخير.
أما نحن .. فإننا على المحبة فُطرنا، وعلى التآخي والتعاضد والألفة نشأنا وتربينا.
فالمطلوب من كل فرد منا ان يقدم لكل مهجر، لكل تائه، لكل مريض، بالإضافة إلى ما تقدمه الكنيسة.. والجمعيات الخيرية والمؤسسات الدولية، بسمة منعشة، إصغاء صبورا، يدا تمسح الدموع، كلمة تبني الرجاء وحضورا مضيئا.
اردد كلمة قالها القديس منصور دي بول لاحدى راهباته: “معالجة مجروح خير من الانخطاف بالروح“.
نقلاً (بتصرّف) عن “النهار”، 2 آب 2006