سلاح الحوار أم حوار السلاح

بغداد، 20 فبراير 2007 (zenit.org). –

عن موقع الواحة – ننشر في ما يلي مقالاً للمونسنيور بيوس قاشا راعي كنيسة مار يوسف للسريان الكاثوليك، في حيّ المنصور، في بغداد، يتحدث فيه عن الحوار بكل أصعدته.

المقدمـــة

إنّ عالمَنا عالمٌ مطبوعٌ بتهديداتِ العنفِ والإرهاب، وزمنَنا تسودُه إماراتُ الموتِ والضياع، وكَثُرَتْ همومُنا ومشاكلُنا وأصبحت خطيرة على مسيرة حياتنا، لذا فهي تلتمسُ منّا إلتفاتةً وتصميماً.

فالإنسانية لا زالت بأسرِها تحت صدمة أحداث الحادي عشر من أيلول، كما إنّ الكثير من أبناء الشرق يتألّمون من جرّاء آفات الحروب والنزاعات التي تُرخي بثقلِها على الحياة الخاصّة، الفردية والعامّة، ويَعتبرون وجودهم في هذا الشرق المقدّس قضيّة حياة أو موت. ومع هذا هناك رجالٌ ونساءٌ يصارعون كلَّ شكل من أشكال العنف من أجل الحفاظ على ما بقي من القِيَم التي كُتِبَ لها الموت بسبب ازدياد الحقد والكراهية في قلوب البشر، وأصبحت الدعوة إلى الحوار الطريق الوحيدة والفضلى من أجل العيش بمحبة وسلام.

نحــو درب الحــوار

وفي هذا الشرق، المسيحيّون والإسلام توأمان لا ينفصلان في مجتمعاتِنا، وأيّ مساسٍ بأحدهما يضرّ الآخر ويشوّه وجهَه وحقيقة إيمانه. فهم يتبادلون الإحترام، ومن هنا يكونون أوّل المدعوّين إلى تقديم إسهامٍ خاص من أجل إيجاد حلّ لهذا الوضع الخطير، وللعديد من المشاكل المعقَّدة والنِزاعات الأقليمية والأتنيّة، وفي هذا تكون مصداقيّة الأديان على المحكّ، كما يقول رئيس المجلس البابوي للحوار بين الأديان، الكاردينال ?ول بوبار [في رسالته بمناسبة ختام شهر رمضان، 20 تشرين الأول 2006]:

"ويبقى الكثيرون يتساءلون عن جدوى الأديان، وعن مدى إنسجامنا مع ذواتِنا كرجال ونساء يسجدون لله ففي ذلك رسالة من أجل العمل سويّة، إذ أنّ العالم اليوم بحاجة إلى مسيحيين ومسلمين يتبادلون الإحترام والتقدير، كما يؤدّون شهادة المحبة والعمل معاً لمجد الله وخير جميع البشر".والعمل معاً يعني المُضي قُدُماً في درب الحوار الذي دَعَت إليه الكنيسة عِبْرَ أحبارها القديسين، وبالخصوص الإلتفاتات الإنسانية والكنسية التي بدأها نبي الرجاء البابا يوحنا بولس الثاني طِوال فترة حبريّته تجاه جميع الأديان غير المسيحية، وبالخصوص مؤمني الديانة الإسلامية.

حـــوار الحقيقــة

وفي زمنِنا هذا، يُناشد قداسة البابا بندكتس السادس عشر المسيحيين والإسلام إلى مواصلة طريق الحوار الذي بدأه سَلَفه، السابق ذكره، إنطلاقاً من كونِنا أولاداً لله الواحد، الخالق الأسمى، وحاملي رسالة تستمدّ قوّتَها وبنوّتَها وروحَها، كوننا أولاداً لإبراهيم، أبي الآباء.

إنّ العلاقات مع المسلمين قد تنامت في السنوات الأربعين المنصرمة، وأصبح من الضرورة أنْ يكون الحِوار الحلّ السلمي والأكيد للتفاهم والتعايش على جميع الأصعدة فالحوار يعني غربلةَ كلّ شيء لإنتخاب ما هو أفضل، وفيه تكمن أمور إيجابية نحافظ عليها، وأمور سلبية علينا التخلّي عنها. وفي هذا، يقول البابا بندكتس السادس عشر في خطابه إلى ممثلي الجماعات الإسلامية [كولون _ ألمانيا، 20 آب 2005]:"… نُصبح قادرين على إقامةِ حوارٍ حقيقي بين الحضارات والأديان" . وإيماناً منه بحقيقة حمل سلاح الحوار، فقد أَعْرَبَ قداستُه منذ تسنّمِه رئاسة الكنيسة الجامعة، عن رضاه على تقدّم الحوار بين المسلمين والمسيحيين على الصعيد المحلّي أو العالمي، فقد قال:"أُعربُ عن رِضايَ على تقدّم الحوار". كما أكّد:"أنّ الكنيسة تريد متابعة بناء جسور الصداقة بهدف نشدان الخير الحقيقي لكلِّ إنسان". فجهود التلاقي والحوار هما مساهمة قيّمة في بناء السلام، لأنّه قد غدا لِزاماً على المسلمين والمسيحيين الإنخراط في حوار نابع من العقل النيّر، حوار صادق وأصيل، حوار مبنيّ على الفكر، حوار مبنيّ على محبة الله ومحبة القريب، حوار مبنيّ على احترام كرامة وحرية كل شخص، لأن الإنسان _ حسب إيماننا المسيحي _ خُلِقَ على صورة الله ومثاله، حوار يرتكز على الحقيقة وتُحرّكه الرغبة الصادقة في التعرّف على بعضنا البعض، في التعرّف على الفوارق والقبول بها عِبْرَ الغفران والمسامحة، وفي هذا الحوار تكمن الحقيقة الأكيدة في تعزيز علاقات الودّ بين الجانبين إنطلاقاً من الرغبة المشترَكة في العيش، والدفاع عن حرية الإيمان والإلتزام ببناء حضارة المحبة، لأنّ المحبة هي أسمى وأنبل العلاقات بين الكائنات البشرية، والعمل من أجل تحقيق السلام والسعادة كوننا ننتمي إلى عائلة المؤمنين بالإله الواحد.

الحــوار هويــة التعايش

إذن، فالحوار وتعزيزه هو طريقنا الأكيدة في العيش الأخوي، ومن أجل العمل حسب مشيئة الله الذي خَلَقَ البشرية لتكون عائلة واحدة وهذا ما أكّده المطران مايكل فيتسجيرالد، رئيس المجلس البابوي للحوار بين الأديان في 27 أيلول 2005، وبمناسبة الذكرى الأربعين على تصديق إعلان المَجْمَع الفاتيكاني الثاني "في عصرنا"، حيث قال:"إنّ الكنيسة تنظر باحترام لجميع الأشخاص، وتُقَدِّر وَمَضَات الحقيقة الكامنة في تقاليد الأديان الغير المسيحية الأخرى"، كما قال:"إنّ الحوار مع باقي الأديان الأخرى لا يعني التخلّي عن هويتِنا المسيحية والكاثوليكية لتسهيل علاقاتنا مع الآخرين، وإنّ الإختلافات بين الأديان تدفع الكنيسة لإكتشاف أكبر لِعَظَمَةِ إيمانها، وبنوعٍ خاص سرّ تجسد المسيح، ابن الله، على أرضِ شقائنا، وَرَسْم للجميع طريق الخلاص .فالحوار مع الأديان الأخرى لا يدمّر هذه الحقيقة الإيمانية، إنما يدفعها إلى الواجهة، لأنّ إعلان كلمة الإنجيل هو حوار مع العالم، ومن حقّ كلّ واحد البحث عن الحقيقة ولكن حسب ضميره الشخصي والمسؤول".

الحوار طريق السلام

نعم، لقد كان البابا واضحاً وصريحاً في زيارته لتركيا [وعِبْرَ خطاباته العديدة في أنقرة وأفسس وأسطنبول للفترة من 29/11-1/12/2006]، إذ حَمَلَ شجاعةً إيمانية، ومحبةً إنسانية، وسماحاً أخوياً، وصراحةً زمنية، ليُعلن أنّ على المسيحيين والمسلمين مواصلة طريق الحوار عِبْرَ ثقةٍ وإصغاءٍ متبادَلَيْن من أجل التعاون في سبيل رفع معاناة العالم معاً خدمةً للإنسانية في بناء مستقبل تنعم به البشرية بأمنٍ وعدلٍ وسلامٍ وازدهار. ففي الحوار وتبادل الآراء بالحُسنى تزول الفوارق وتتلاشى الأحقاد، ويرى كلّ إنسان في الآخر تتميماً له وليس نقيضاً. فالحوار وحده يعبّر عن احترام الآخرين، ويحفظ المصالح المشتركة دون الحاجة للجوء إلى العنف. وهو وحده يجعلنا أن نتخطّى كافة التوترات بروح تفاهم ومثمر من أجل بناء وإقامة علاقات حقيقية وصادقة، كما يحثّ الجميع إلى سبيل الصفح والغفران والمصالحة، وتُتَوِّجُهُنَّ المحبة . ودون هذه الصفات الأساسية في ركيزة الحياة، لا يمكن بناء السلام الحقيقي الذي تنشده شعوب الأرض قاطبة.

الحــوار سبيل الحيــاة

فالحوار لا يمكن أنْ يكونَ خياراً إضافياً، يقول البابا بندكتس السادس عشر، بل هو ضرورة حيويّة يتوقّف عليها مستقبلنا. إذن، الحوار ليس دائماً سهلاً وخالياً من الصِعاب، فسوء التفاهم والأحكام المسبَقَة قد يشكّلان عائقاً في وجه هذا الحوار، وقد تُقابَل اليد الممتَدّة بمودّة وصداقة إلى الشخص الآخر بالرفض. لذا، فبناء الحوار يتطلّب صبراً لا حدود له، ومثابرةً يومية حياتية، وإلى هذا فالمسيحيون والمسلمون مدعوّون جميعاً للمُضي قُدُماً مهما اشتدت الصِعاب، ومهما عَلَت الأصوات، في بناء حوار حقيقي مبنيّ على الحقيقة، ومتّخذاً من الحقيقة الرغبة في معرفة أفضل للآخر، وفي احترام خيارات كل إنسان وخاصة المتعلّقة منها بالقِيَم الأساسية وبالقناعات الدينية الشخصية، وحتى يبزغ الفجر الذي فيه تقضي الرغبة في السلام، إذ يقول البابا بندكتس السادس عشر في رسالته الراعوية الأولى "الله محبة" [التي صدرت في 25 كانون الأول 2005، وهي الرسالة الأولى لقداسته بعد تتويجه حبراً أعظم للكنيسة الجامعة]:"لا يستطيع الإنسان أنْ يدّعي محبة الله بشكل مجرَّد دون أن يُظهر ذلك بالقول والعمل، محبة عظيمة للإنسان الذي يتعامل معه". وقد جاء في القرآن الكريم:"ولكن الله حبَّبَ إليكم الإيمان، وزيّنه في قلوبِكم، وكرَّهَ إليكم الكفرَ والفسقَ والعصيان، أولئك هم الراشدون" (الجمرات 7)، وآية أخرى:"لا يؤمن أحدكم ما يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

الحــوار رسالــة سماويــة

إنّ الإنسان سريع العطب، وعليه أنْ يفتح مجالاً لله اللامحدود ليتكلّم من خلاله عِبْرَ هبة الحياة. فالحياة، يقول بندكتس السادس عشر، لاسيّما الحياة البشرية هي مُلْكٌ لله وحده، ولذا فكلّ مَن يتعدّى على حياة الإنسان فكأنه يتعدّى على الله نفسه. وعندما يفقد الإنسان معنى الله، فهو يجنح إلى فقدان معنى الإنسان أيضاً وكرامته وحياته. حياة الإنسان هِبَةٌ من عند الله وهي عطيّته وصورته، والله هو إذن وحده سيد الحياة، ولا يسوغ للإنسان أن يتصرّف بها، فعلينا أن نحب ما يحبّه الله ويرضاه ونبتعد عمّا لا يحبّه.

فالحوار، مهما كان طويلاً أو قصيراً، صعباً أو سهلاً، فهو رسالة سماوية رسمها الله لنا من أجل العيش بالمحبّة والمسامحة والغفران، وهناك أمثلة كثيرة في كتبِنا المقدسة حيث الحوار هو الركيزة بين ربّ السماء وابن الأرض. وفي الأديان يتّخذ الحوار أهمية بالغة، إذ يُسهم إسهاماً فعّالاً في إبعاد شبح الحروب والنزاعات الدينية والإجتماعية التي تُدْمي قلب البشرية، لأن اسم الله الواحد يجب أن يشكّل للجميع اسم سلامٍ ومحبة، وهذان الهدفان من الصعب تحقيقهما إذا لا تُهيّأ أرضية حقيقية لقبول الآخر، وإيماناً أكيداً بأنّ السلام لا يعطيه العالم بل هو عطيّة الرب، ما علينا نحن إلاّ أنْ نفتحَ قلوبَنا لإستلام هذه الهِبَة الإلهية الثمينة، وهذا يتطلّب منا ثَلم أسنّة الرماح، وكسر كبرياء السلاح، والإبتعاد عن أعمال العنف والدمار، من أجل تعزيز وتمتين وصقل سلاح الحوار في إبعاد السياسة عن سموّ رسالة السماء، لتكون رسالة الإعتراف بحضور الآخر وحقوقه في المحبة والغفران، لأنهما أساسان جوهريان لبناء السلام عبر فتح قلوبنا للآخرين، والسير معهم في الطريق التي أعدّها الله لنا، كما يدعو إلى ذلك بولس رسول الأمم.

الخاتمــة: سلاح الحوار هو سلاح الحياة

نعم، إنّ الحوار هو خدمة المحبة، وهذه المحبة تدفعنا دوماً إلى حماية حياة القريب، لاسيّما الضعيف. علينا أنْ نعملَ على تنميتِها، فنجعل من احترام الحياة البشرية بلا قيدٍ ولا شرط، ركيزة مجتمعٍ متحابٍّ : فما يُطلَب منّا أنْ نُعامِلَ بالمحبة والإكرام كلّ إنسان من أجل بناء حضارة جديدة، حضارة الحياة. وكفانا تدميرَ الحوار الأخوي الذي فيه نحارب سلاحَ الحوار ونطرده من دروبِنا، ونَنْقَضُّ عليه لنفترسَه، وندمّر معالِمَه ومعانيه، ونقضي على حاملي راياتِه، ومبشّري اسمِه، بل علينا أنْ يكون حوارُنا حوارَ المحبة، لأن الله محبة . فلنحمل سلاح الحوار، إنه سلاح الحياة . ولنكسر حوار السلاح، إنه دمار الحياة. وأختم بما قال البابا يوحنا بولس الثاني في زيارته إلى تركيا [في 29 نوفمبر 1979]، إذ قال لجماعة أنقرة الكاثوليكية:"أتساءل، أَلَم يَحِن الوقت، وخاصة اليوم وقد دخل المسيحيون والمسلمون في مرحلة جديدة من التاريخ، لتعزيز الروابط الروحية التي تربطنا كيما نسعى سوية لحماية المبادئ الأخلاقية، مبادئ السلام والحرية؟" نَعَم، إنّ دعوتَنا في الحقيقة تكمن في حوارٍ مشترك، حوار المحبة. فنحن وكلاء لرسالة السماء، وعلى الوكلاء أنْ يكونوا أُمَناء في حمل سلاح الحب.