الهُويَّة الدينيَّة والعَولمة

تثير ظاهرة العولمة هموماً وشجوناً وأسئلة.. فالجدل محتدم حول أهميتها وقيمتها، تغذيه مجابهات متنوعة تتخذ أحياناً الطابع العلمي أو الأيديولوجي وأحياناً الطابع العاطفي. في الواقع، تأسُر العولمة بقدر ما تخُيف، وتُنعش التفاؤل عند البعض بقدر ما تُرسِّخ التشاؤم عند غيرهم. فالمتفائلون يجدون فيها تحوُّلاً تاريخياً يصير فيه العالم بأسره قرية كوكبية، تزول فيها الحواجز بين تواصل البشر وتفاعلهم، فيتقارب أناس كانوا حتى الآن غرباء يفرِّق بينهم البعد أو الجهل.. أما المتشائمون فيرون في العولمة أولاً تهديداً، لا بل خطراً كبيراً أو غزواً جديداً، يفرض نمطاً أو نظاماً من طرف واحد (الغرب) خالقاً بذلك ثقافة جماهير منحطة الأذواق، وناشراً أسلوب حياة استهلاكي يعمُّ العالم بأسره.

وإنَّ استخدام هذه التسمية الجديدة نسبياً (Globalisation, Mondialisation) (منذ التسعينيات)، لا يمنع أن يكون ما تدلُّ عليه أقدم منها بكثير، إذ يمكن للباحث المتفحِّص للتاريخ أن يلمح عدداً من صفاتها في مجموعة من الظواهر التاريخية القديمة والحديثة. لكنَّ ما يميِّز العولمة الحاضرة، بالإضافة إلى جانبها التقني (العصر الرقمي)، فهو أنَّ الحضارة الغربية تبدو وكأنها بصدد فرض مجموعة من قيمها الأكيدة على سائر حضارات العالم: التقدُّم، التحرُّر، العقلانيَّة، الفرديَّة، وسائل الاتصال الجماهيريَّة، العلوم التقنيَّة.. ومن هنا تبدو العولمة الحاليَّة للكثيرين وكأنها عملية "تغريب" للعالم، ويجري لذلك الخلط بسهولة بينها وبين "الأمْرَكَة". فالغرب "معولم" داخلياً ونموذجه الأوضح أمريكا، لهذا السبب تحمل العولمة طابعاً أساسياً هو التعدديَّة.

تفترض الأطروحة الرئيسة للعولمة، في المقام الأول، أنَّ الشعوب والثقافات والأديان والمجتمعات والحضارات.. لن تتمكَّن بعد اليوم من تجنُّب أو تجاهل بعضها بعضاً. وبسبب طبيعة القرية الكونية لمجتمع المعلومات العالمي، لن يستطيع أي مجتمع، بكل قيمه وثقافته وحضارته أن يفلت من العولمة.. فمن يعجز عن التأقلم معها سينقرض كالديناصورات. إلاَّ أنَّ الثقافات تحوز قدرة هائلة على المقاومة، لا بل على التفاعل والتلاقح والدمج والإبداع والتوصُّل إلى نماذج جديدة، تتكون من خلالها هوُّيات ثقافيَّة ودينيَّة، قادرة على التواصل، دون أن تتخلَّى عن خصائصها المميِّزة.

ستجدون في الصفحات التالية مجموعة من المقالات أو المقاطع المختارة، التي يمكن لمطالعتها أن تضيء بعض جوانب الموضوع، وتُغني بالتالي تفكيرنا ومواقفنا الإيمانيَّة بتساؤلات وعناصر جديدة.

 

ما هي العولمة؟

من خطاب الأمين العام للأمم المتحدة أمام جامعة ييل (نيوهيفن، 2 تشرين الأول 2002)

.. وكثيرا ما يقال إن العولمة هي ما يميز عصرنا عن جميع العصور التي سبقته. فالعولمة كما يقال لنا تعطي تعريفا جديدا ليس فقط للأسلوب الذي نتعامل به مع العالم، وإنما أيضا للطريقة التي نتواصل بها مع بعضنا البعض. والمفهوم الشائع للعولمة هو أنها كلمة تصف التدفق المتزايد على الصعيد العالمي للسلع والخدمات ورأس المال والتكنولوجيا والمعلومات والأفكار والأيدي العاملة، الذي تدفعه سياسات تحررية وتغيرات تكنولوجية.

ولوهلة من الزمان، كان الواقع يؤيد هذا المنطق. بل إن هذا المنطق حقق من النجاح ما أدى في حالات كثيرة إلى إغفال الاختلافات الأساسية القائمة، على أساس الاعتقاد بأن المدّ المتزايد للنمو المادي سوف يبدد أهمية الاختلافات السياسية والمظالم الاجتماعية. بيد أنني وآخرين غيري أخذنا في السنوات القليلة الماضية نحث على إيلاء مزيد من الاعتبار لرد الفعل السياسي الذي يمكن أن يحدث إذا لم يجر الانتباه للعواقب الاجتماعية، فضلا عن العواقب الاقتصادية، المترتبة على العولمة.

وأود اليوم أن أطلعكم على بعض الأفكار المتعلقة بجانب آخر من جوانب العولمة لا يقل أهمية عما سبق ذكره، وهو إمكانية أن تصبح العولمة قوة حقيقية تدفع نحو الاندماج والاحتواء، وأن أطلعكم كذلك على الأخطار الحقيقية بالفعل التي يمكن أن تنشأ إذا تعذر أن تتحقق تلك الإمكانية.

وبمعنى آخر، علينا كما نقلق بشأن الفجوة القائمة بين من يملكون ومن لا يملكون أن نهتم بنفس الدرجة بالهوة التي تفصل بين من يضمهم عالم يأخذ بالعولمة ومن يعيشون خارج هذا العالم الذي لا توجد به حدود لا يمكن اختراقها، والذي تتبدى فيه الامتيازات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي يتمتع بها القليلون جلية بشكل مؤلم أمام الجموع التي ما زالت تتوق إلى الحرية وإلى التمتع بالفرص. فنحن باختصار يلزمنا أن نوجه طاقاتنا نحو تحقيق الآمال التي تعرب عنها الترجمة العربية التي قد تعوزها الرشاقة، وإن كانت ترجمة موحية، لكلمة "العولمة"، التي تعني حرفيا "احتواء العالم".

والعولمة بطبيعة الحال ليست مفهوما جديدا تماما. فمنذ بدايات التاريخ البشري المعروفة، والناس يمارسون التجارة، ويتنقلون، وينشئون المستعمرات ويهاجرون، ويغيرون في أثناء هذه العملية من الأماكن التي يأتون منها والأماكن التي يتجهون إليها على حد سواء.

ولكن وجه الاختلاف في عهدنا يتمثل في درجة هذا التداخل وفي السرعة التي يسير بها التغيير، وفي الفجوات الآخذة في الاتساع دون توقف والتي أوجدتها هذه العملية بين من هم داخل هذا العالم ومن هم خارجه.

وأود اليوم أن أشير إلى أن إحدى الطرق التي يمكن بها معالجة هذا الانقسام الجديد، بين المستفيدين من العولمة وبين من يعتبرونها مجرد مظهر آخر من مظاهر الجور في العالم، تتمثل في السعي نحو تحقيق عولمة تضم الجميع ولا يقتصر هدفها على فتح الأسواق، وإنما يشمل توسيع نطاق الفرص والتشجيع على التعاون. وأقصد بهذا ضرورة كفالة أن تلقى عولمة الاقتصادات والمجتمعات الدعم والمساندة من عملية ترمي إلى "إدماج عموم البشر في العولمة"، أي ضرورة وضع تعريف عام وأشمل لواجباتنا نحو إخواننا من الرجال والنساء في هذه القرية العالمية، وكفالة استفادتهم جميعا من العولمة، سواء اقتصاديا أو سياسيا أو اجتماعيا.

ومن ثم، فإن السؤال المطروح أمامنا لا يتعلق بما إذا كانت العولمة أمرا جيدا أم سيئا، وإنما بالكيفية التي يمكننا بها تعديل سياساتنا وأولوياتنا واختياراتنا الشخصية بحيث تمثل حقائق العهد الجديد. إذ لم يعد في إمكاننا في عالم يخلو من الأسوار أن نفكر ونتصرف وكأن الأمور المحلية هي وحدها التي لها أهمية، وكأننا لا ندين بالتضامن والولاء إلا لمن هم داخل مدينتنا أو دولتنا.

فذلك العالم يتطلب منا أن نهدم كذلك الأسوار القائمة داخل عقولنا، تلك الأسوار التي تفصلنا عن الآخرين، وتفصل الأغنياء عن الفقراء، والبيض عن السود، وتفصل بين المسيحيين والمسلمين واليهود، حتى يمكننا أن ندرك السبل اللانهائية التي يمكننا بها جميعا أن نستفيد من التعاون والتضامن فيما بيننا متخطين في ذلك حدود الجنسية أو العنصر أو مستوى التنمية الاقتصادية. فالتكافل، سواء في ميدان الجريمة أو الصحة أو البيئة أو مكافحة الإرهاب، لم يعد مفهوما نظريا، إنما تحول إلى واقع نعيشه في حياتنا.

ورغم أن الحديث عن العولمة على أساس القيم المشتركة قد يبدو غامضا إلى حد ما، فإن رؤية العالم التي تسعى هذه العولمة إلى تحقيقها رؤية واضحة ومحددة للغاية.

فهو عالم يحدد ملامحه التضامن والفهم، والتسامح إزاء الاختلاف، واحترام التنوع الثقافي، والإصرار على إعمال حقوق الإنسان الأساسية والعالمية، والإيمان بحق الناس في جميع أنحاء العالم في أن يكون لهم رأي في نوعية الحكم الذي يخضعون له. وهو عالم يسوده الإيمان بأن تنوع الثقافات الإنسانية أمر يتعين الاحتفاء به بدلا من خشيته.

وتستند هذه الرؤية إلى فهم أننا نتاج ثقافات ودوافع عديدة، وأن نقاط القوة لدينا تكمن في الجمع بين المألوف والأجنبي. ولا يعني هذا أنه ليس من حقنا أن نفخر بما يخصنا من عقيدة أو تراث، فهذا أمر يمكننا، بل ينبغي لنا، أن نفعله. بيد أن فكرة أن ما يخصنا يتعارض بالضرورة مع ما يخص الآخرين، هي فكرة خاطئة وخطيرة على حد سواء. فقد تمخضت عن عداوات وصراعات لا حد لها، دفعت برجال ونساء إلى ارتكاب أبشع الجرائم باسم قوة عليا.

ولا يلزم أن يكون الأمر كذلك. فالناس من مختلف الأديان والثقافات يعيشون جنبا إلى جنب في جميع أجزاء العالم تقريبا، وأغلبنا يحمل هويات متداخلة توحد بيننا وبين الفئات المختلفة عنا ذاتها. وفي مقدورنا أن نحب ما نمثله، دون أن نكره ما يمثله الآخرون، أو من ليسوا منا. ويمكننا أن ننعم بتقاليدنا، في نفس الوقت الذي نتعلم فيه من الآخرين، ونبدي فيه الاحترام لتعاليمهم.

 

نحن والعولمة: مواقف بعض المفكرين العرب

اهتم المشهد الثقافي والاجتماعي والسياسي العربي بشكل كبير بكل جوانب العولمة، وحظي هذا المشروع الكوني باهتمام منقطع النظير في جميع هذه الأوساط نتيجة الإحساس المبرر بمخاطره في ظل غياب واضح للمشروع الحضاري العربي ومقومات دخول الألفية الثالثة بشكل يضمن حجم وفاعلية التعاطي مع هذه التغييرات الجامحة.

عُقدت المئات من الندوات وحلقات النقاش والمحاضرات، وصدر العشرات من الكتب التي تناولت هذا الموضوع، ونقدم فيما يلي رصداً لأبرز المواقف التي اهتمت بالعولمة، بإبعادها الاقتصادية والسياسية والثقافية.

يفيد الباحث الاجتماعي الدكتور سيد ياسين، أنّ جوهر العولمة هو : أ ) انتشار المعلومات بحيث تصبح مشاعة بين الناس. ب) تذيب الحدود بين الدول مما يضرب فكرة السيادة الوطنية أو القومية. ج) زيادة معدلات التشابه بين الجماعات والمجتمعات، مما يؤدي إلى تفكك الدولة القومية وعجزها عن السيطرة على مقاليد الأمور.

أما الدكتور إسماعيل صبري عبدا لله فيؤكد على أنّ العولمة ستقود إلى عجز الدولة القومية عن السيطرة على مقاليد الأمور، ولا شك في تراجع الدولة في البلدان الصناعية المتقدمة وضعفها أمام الشركات متعددة الجنسيات والاتجاه الغالب لتخفيض الإنفاق العام ولا سيما في مجال الضمان الاجتماعي، وتصغير حجم الدولة وتسريح الآلاف من موظفيها، وأصبح رؤساء الدول والحكومات في زياراتهم الرسمية يحملون عقوداً تجارية خدمة للشركات الكوكبية (ربما مقابل مصلحة شخصية لرجل السياسة أو حزبه) وأصبح أكبر الساسة كمندوبي المبيعات Salesman .

فيما يرى الدكتور جلال أمين أنّ الشركات متعددة الجنسيات، في عصر العولمة، قد حلّت محل الدولة. كما حلت الدولة محل الإقطاعية تدريجياً منذ خمسة قرون، تحل اليوم الشركة متعددة الجنسية تدريجياً محل الدولة، والسبب في الحالين واحد : التقدم التكنولوجي وزيادة الإنتاجية والحاجة إلى أسواق أوسع، لم تعد حدود الدولة القومية هي حدود التسويق الجديدة، بل أصبح العالم كله مجال التسويق، سواء كان تسويقاً لسلع تامة الصنع، أو تسويقاً لمعلومات وأفكار، فقفزت الشركة المنتجة فوق أسوار الدولة، وأخذت هذه تفقد قيمتها الفعلية، بل أصبحت أكثر فأكثر أسواراً شكلية، سواء تمثلت في حواجز جمركية، أو حدود السلطة السياسية، أو حدود بث المعلومات والأفكار، أو حدود الولاء والخضوع… إنني ما كنت لأذرف الكثير من الدموع حزناً على انحسار سلطة الدولة لولا أنّ الذي يحل محل الدولة هو الشركات العملاقة متعددة الجنسيات.

فأي مؤشر هناك يدلني على إنّ الحرية التي أتمتع بها في ظل سطوة هذه الشركات أكبر وأوسع مما كنت أتمتع به في ظل سطوة الدولة؟ هل أنا بحاجة إلى أن أذكركم بما تفعله وسائل الإعلام الحديثة بحرية الرأي والتفكير، أو بما تفعله سطوة هذه الشركات بحرية المرأة ومكانتها؟ أو بمدى تحملها للاختلاف الحقيقي في الرأي؟

يتفق الدكتور محمد عابد الجابري مع الطرح القائل أن العولمة " تتضمّن معنى إلغاء حدود الدولة القومية في المجال الاقتصادي (المالي والتجاري) وترك الأمور تتحرك في هذا المجال عبر العالم وداخل فضاء يشمل الكرة الأرضية جميعها".

أما الأستاذ صادق جلال العظم فيعترض على كل محاولات تسطيح مصطلح العولمة، ووصفها بإمبراطورية الفوضى، أو بالمملكة، أو كونها عالم بلا دولة، بل هي رفع الدولة إلى تركيب أعلى، مما يعني التعديل في دورها ووظائفها الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، ويقول: "العولمة هي رسملة العالم على مستوى العمق، بعبارة أخرى، إن ظاهرة العولمة التي نعيشها الآن، هي طليعة نقل دائرة الإنتاج الرأسمالي -إلى هذا الحد أو ذاك- إلى الأطراف، بعد حصرها طوال هذه لمدة كلياً في مجتمعات المركز ودوله. بمعنى إعادة صياغة مجتمعات الاطراف وتشكيلها على الصورة الملائمة لعمليات التراكم المستحدثة في المركز ذاته. إنّ صعود مرحلة عالمية دائرة الإنتاج ونشرها هي ما نسميه اليوم بالعولمة. وهي حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ".

في حين يعترض الدكتور ماهر الشريف على فكرة أن العالم توحد فعلاً أو يشهد صيرورة توحيد، اقتصادياً وتجارياً وتكنولوجيا، كي يصبح في الإمكان الربط بين هذا التوحيد وتوحده على المستوى الثقافي ويعتبر أنّ السياسات الرأسمالية قد عمّقت الانقسام في العالم لا مثيل له. تركز المستشارة بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في القاهرة الدكتورة نجوى الفوّال، على البعد الثقافي لظاهرة العولمة، وترصد التغييرات الإيجابية المصاحبة لها في النقاط التالية :

أ) تجاوز الفرد للدائرة الضيقة للإعلام الوطني في ظل الثورة التكنولوجية. ب) اتساع مساحة الحرية أمام المتلقي، وتزايد قرة القنوات الفضائية غير الحكومية على مناقشة جميع القضايا بطرح الرأي والرأي الآخر، بحيث صارت تلك القنوات ساحات للممارسة الديمقراطية التي تفتقدها على مستوى الواقع أغلب دول الجنوب. ج) تنشيط الصناعات المختصة للاتصال المرئي، وفتح مجالات للعمل أمام العمالة المتخصصة وان كان التطور المتلاحق في تكنولوجيا الفضائيات قد ترك أثراً حول عملية إحلال العمالة المدربة والاستغناء عن سواها، بحيث أصبحت سوق العمل هنا أكثر تخصصاً. د) فتح ظهور شبكة الإنترنت وانتشارها عالمياً مجالات لا حدود لها للمعرفة واكتساب المعلومات لتسهيل الاتصال بين الأفراد ومن ثم بين الثقافات، ومع نهاية القرن العشرين تنامى باطراد الاتجاه نحو المزج بين هذه الشبكة وبين وسائل الاتصال الجماهيري، إلى حد يتنبأ فيه البعض بأن يُصبح الكمبيوتر الشخصي هو وسيلة الاتصال المجمعة لباقي الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية، وذلك في المستقبل القريب.

كذلك تورد المستشارة بالمركز القومي، الجوانب السلبية في الظاهرة، مثل نقل أساليب وقيم حياة جديدة ومختلفة، ومخاطر التشوه الثقافي، والمنافسة الحادة بين التقاليد والمستورد، في ظل الهوة الكبيرة في امتلاك تقنيات الاتصال واستخدامها بين الشمال والجنوب.

ومذكِّراً بالفترات التي كان العرب هم القوة المحركة وراء عملية "كوكبة" للعالم، على المستويين التجاري والثقافي على الأقل، يطرح الدكتور سعيد -في مقال له بالأهرام_ سؤالا هاماً :

" هل الانكماش على الذات، والاكتفاء برفض "الكوكبة" أو "العولمة" قد حمى العرب ومكنهم من الحصول على الأمان؟ ناهيك عن "التقدم" . ويجيب بالنفي على السؤال معتبراً " أننا لم نحصل على كل هذا لأننا أخذنا في تجنب العالم والتكنولوجيا، ورفضنا العقل وأخذنا نتعقب عقولنا العظيمة فنعمل فيها الذبح والسجن والنفي، وارتبط رفض كل موجة من موجات "العولمة" بموقف بدا دفاعياً وانتهى بالانكماش الحضاري والمادي لمجتمعاتنا العربية والإسلامية، وبالخضوع في نهاية المطاف للاستعمار… العولمة ستكون بكل تأكيد تهديداً داهماً لأمن العرب وتقدمهم، إذا ما حررنا العقل من المخاوف واستجبنا للتحدي". وتكون هذه الاستجابة للتحدي-حسب رأيه- بالعمل العربي المشترك على جميع المستويات وفي جميع المجالات، والانفتاح على الآخر بكل ثقة وديناميكية وتحرر من الانكماش، وإنجاز مهمات التحديث في جميع المجالات، واحترام الحريات الأساسية للإنسان، وإنجاز التحولات الديمقراطية، وصياغة سياسة علمية وتكنولوجية فعالة، والإصلاح السياسي والدستوري… أي مشروع حضاري عربي شامل ومتكامل.

 

تفاعل الحضارات في عصر العولمة

هاشم صالح

على عكس ما يزعم هنتنغتون والتيار الانعزالي الأميركي، فإن مستقبل البشرية ليس للصدام الحضاري وإنما للتفاعل والحوار والاستفادة المتبادلة. لا ريب في انه ستحصل بعض الصدامات العنيفة والاختلاجات الهائجة قبل أن تقبل الحضارات الأخرى بالمكتسبات الأساسية للحداثة الكونية. وأولى هذه المكتسبات دولة الحق والقانون، ثم حرية المعتقد والضمير، ثم القبول بالتعددية الفكرية والروحية والسياسية، ثم الديمقراطية وحقوق الإنسان. هذا من دون أن نتحدث بالطبع عن الحقوق الاقتصادية والحفاظ على كرامة كل شخص بشري من خلال تأمين عمل له، أن الحضارات الكبرى كالحضارة الصينية أو الهندية أو العربية الإسلامية، لن تقبل بسهولة بقيم الحداثة الأوروبية، ليس لأنها ضد كل ما يجيء من ناحية الغرب بشكل مسبق، وإنما لان ذلك يمثل عملية صعبة لا تتم بين عشية وضحاها. فهذه الحضارات المذكورة ذات تراثات عريقة ولا يمكن أن تسلم نفسها بسهولة كما تفعل بعض الأمم الأخرى ذات التراثات الأقل انتشارا أو أهمية. ونحن نعتقد انه سيحصل في السنوات المقبلة تفاوض بين التراثات الكبرى المذكورة سابقا والحضارة الأوروبية أو الغربية. وعن هذا التفاوض الصعب والدقيق سوف يتبلور الوجه المقبل للحداثة العربية الإسلامية أو الحداثة الهندية أو الحداثة الصينية أو حتى الحداثة اليابانية والروسية السلافية. فهاتان الأخيرتان معنيتان بالموضوع وان بدرجات متفاوتة.

ولذلك فإني اختلف هنا مع موقف بعض المثقفين الأوروبيين والأمريكان الذين يزعمون بأن العالم الإسلامي مضاد بجوهره للحداثة وانه لا فائدة من الحوار معه.. بل ويقولون أيضا بان كل الحضارات الأخرى تقبل بالحداثة ما عدا حضارة العرب والإسلام فهي تستعصي عليها. هذا الكلام متسرع وظالم في رأيي. ينبغي العلم بأن الحداثة لم تُقْبل حتى في الغرب ذاته الا بعد صراعات مريرة استمرت على مدار اربعة قرون. فاذا كانت الحداثة التي هي وليدة التاريخ الاوروبي ذاته قد اصطدمت بكل هذه المقاومات العنيفة من طرف القوى التقليدية والاصولية المسيحية، فما بالك اذن بموقف التراثات الاخرى التي اقحمت عليها اقحاما من الخارج؟ وبالتالي فليأخذنا الرئيس جورج دبليو بوش بحلمه قليلا وليعذرنا اذا كنا عاجزين عن حل هذه المشكلة الرهيبة في سنوات معدودات. ويا ليته يساعدنا على حلها عن طريق ايجاد حل عادل للمأساة الفلسطينية بدلا من دعم العدوان الاسرائيلي او التغطية على حماقات شارون وجرائمه. فهو يعلم حق العلم، او ينبغي ان يعلم، اننا لن نستطيع حل مشكلتنا مع قوى الانغلاق الماضوية التي يشكو منها إلا اذا حُلِّت القضية الفلسطينية بشيء من العدل، ولا اقول كل العدل، فهذا مستحيل في الأمد المنظور. الحضارة الصينية لا تعاني من مشكلة «فلسطينية» مع الغرب، وكذلك الحضارة الهندية او اليابانية او اي منطقة اخرى من مناطق العالم. وحدهم العرب اجبروا على تجرع السم الزعاف غصبا عنهم! ثم يطالبون بعد ذلك بأن يقبلوا بقيم الحضارة الغربية بأسرع وقت ممكن.. انهم يحشروننا في الزاوية حشرا حتى ليصبح وضعنا كما قال الشاعر:ألقاه في اليم مكتوفا وقال له اياك اياك ان تبتل بالماء..

إني لا أحسد المثقف العربي ـ ولا المسؤول العربي ـ على وضعه الآن. فالغرب الذي يمثل قمة التقدم والعقلانية يطالبه باتخاذ موقف لا عقلاني تماما!.. لم تنضج العقلانية في أية حضارة ولم تزدهر مثلما نضجت وازدهرت في الحضارة الأوروبية المعاصرة. ومع ذلك فإن المثقف الأوروبي أو المسؤول الأميركي يطالبنا بان نخرج من جلودنا، بان نتنكر لأكثر قناعاتنا عمقا ورسوخا، بل ويطالبنا بان ننكر الحقيقة في ما يخص قصة فلسطين وهي واضحة وضوح الشمس.. باختصار فانه يطالبنا بالانتحار المعنوي الأخلاقي الذي هو اشد خطورة من الانتحار الجسدي. ومع ذلك فعلينا أن نستمر، علينا أن نتفاعل مع هذه الحضارة التي أصبحت بحجم العالم. ولكن كيف؟ عن طريق التمييز بين الغث والسمين فيها. فليس كل ما جاءت به صحيحا أو منزلا من السماء! وينبغي التفريق بين جوهر هذه الحضارة، وتطرفاتها وانحرافاتها وشططها.. باختصار فإننا بحاجة إلى عملية فرز واسعة. ولكن قبل عملية الفرز ينبغي أن نعرف كيف تشكلت وما هي إنجازاتها ومتى انحرفت عن الخط الصحيح وأين.. هذا يعني إننا بحاجة إلى غربلة مائتي سنة على الأقل من عمر الحضارة الغربية. ولكنني اعتقد إننا عاجزون عن القيام بذلك في الوقت الراهن. لا اعرف مثقفا عربيا واحدا قادرا على محاكمة الحضارة الغربية من وجهة نظر عقلانية أو منطقية في اللحظة الراهنة للأمور والسبب واضح فنحن لا نمتلك أي مركز عربي للبحوث على المستوى القومي يكون على غرار المركز القومي الفرنسي للبحوث العلمية. أن وجود مثل هذا المركز أمر ضروري لكي نتعرف على المراحل المتدرجة لتشكل الحضارة الغربية وذلك قبل أن نحكم عليها سلبا أو إيجابا. ينبغي أن تعرف الشيء جيدا قبل أن تحكم عليه. وعملية المعرفة أو التعرف ليست سهلة إلى الدرجة التي نتصورها. ويدرك ذلك كل من أتيح له أن يغوص في بحر الفكر الأوروبي منذ عصر النهضة وحتى اليوم. إننا ندعو بكل قوة إلى تشكيل «مركز عربي للدراسات الغربية» على غرار ما تفعله الأمم الأخرى كالهند أو الصين أو اليابان.. الخ فنحن اقرب إلى الغرب جغرافيا، بل وحتى تراثيا وثقافيا، من هذه الأمم. وكان الأحرى بنا أن نشكل معرفة إجمالية ودقيقة عن حضارته التي تشغل العالم كله اليوم. لقد فشلت السياسة، فلنحاول أن نجرب الحل الثقافي أو الفكري! أقول ذلك وأنا متأكد من أن التحرير الفكري سوف يسبق حتما التحرير السياسي. فعلى إنقاص الأيديولوجيات السياسية العربية بيمينها ويسارها ينبغي أن ينهض فكر عربي جديد فعلا. وهذا الفكر لما ير النور بعد. ولكننا مستعدون لان نضحي من اجله بخالص المهج ونور العيون.

كل المفكرين يتحدثون عن ظاهرة العولمة الحاصلة حاليا. ولكن العولمة لا تعني فقط سريان السلع والبضائع بين مناطق العالم كله، وإنما تعني أيضا سريان الأفكار وبالتالي فهناك عولمة ثقافية مثلما هناك عولمة اقتصادية، فالاحتكاك بين التراثات الثقافية المختلفة سوف يتزايد في السنوات المقبلة بسبب تكنولوجيا المعلوماتية وتطور أجهزة الاتصال التي تخترق العالم كله من أقصاه إلى أقصاه. وعندئذ سوف يكتشف الناس بعضهم بعضاً بشكل افضل وسوف يعرفون انهم ينتمون إلى لغات وثقافات واديان مختلفة! وإذا ما أرادوا إن يعيشوا بسلام فان عليهم أن يتخلوا عن وهم امتلاك الحقيقة المطلقة ويقبلوا ببعضهم بعضاً كما هم. وبالتالي فالعولمة تشكل طفرة كبرى ـ بل وجديدة كليا ـ في تاريخ البشرية. ولكن هل يعني ذلك انه لا توجد أرضية مشتركة ـ أو قيم مشتركة ـ تلتقي عليها جميع الأجناس البشرية؟ وإذا كانت اللغات والتراثات الدينية تفرق بينهم، ألا يوحد بينهم العلم والتكنولوجيا والتراث الفلسفي العقلاني؟ هكذا نلاحظ انه ابتدأت تتشكل في عصر العولمة فلسفة جديدة لكل البشرية. وهذه الفلسفة القائمة على العلم والعقل سوف تجبر كل التراثات الخصوصية على التفاوض معها لكي يحصل الوئام بين البشر بدلا من الصدام الحضاري المدمر والتراث الذي لا يستطيع أن يجدد نفسه أو ينفض الغبار عن ذاته لكي يتماشى مع هذه الحركة الشاملة للبشرية سوف يتعرض للتشهير والتهميش والنبذ. كل تراث يرفض التفاوض مع افضل ما أعطته الحداثة العالمية على مدار القرون الثلاثة أو الأربعة الماضية سوف يدفع الثمن باهظا عاجلا أو آجلا.. لقد اثبت تراثنا العربي الإسلامي في الماضي انه قادر على هضم الثقافات والحضارات الأجنبية عندما استوعب فلسفة اليونان وعلمهم، بل وأضاف إليها. فلماذا لا يثبت ذلك حاليا أو مستقبلا عن طريق هضم الفتوحات العظمى للحداثة الأوروبية؟

 

عن ظاهرة العولمة في التاريخ

يوسف مروة

يحسب الكثيرون أن مصطلح العولمة (Globalization) جديد في عالم الأعلام والقاموس الثقافي، فيما حقائق التاريخ تثبت أن المصطلح قديم لا يقل عمره عن ثلاثة آلاف سنة وان مفهوم العولمة التاريخي القديم لا يختلف كثيرا عن المفهوم الحديث. ذلك إن المفهوم العام القديم والحديث للعولمة هو نشر وتعميم ثقافة أمة معينة، بما تحمله من علوم وآداب وفنون وإنتاج صناعي وسلع استهلاك عن طريق السلم أو الحرب في شتى بقاع العالم.

1 – الملاحظ أن تاريخ الإنسانية حمل مفهوم العولمة منذ بداية الألفية الأولى قبل الميلاد. ففي ذلك الزمن تفينق العالم وتمصر. حيث قام تحالف تجاري عسكري ثقافي بين تجار وبحارة ممالك المدن الفينيقية وملوك مصر الفراعنة. وأدى هذا التحالف إلى سيطرة الفينيقيين والفراعنة على مناجم النحاس في كافة أنحاء العالم واحتكار تجارة المعادن خلال مدة لا تقل عن ستة قرون. فكانت العولمة الأولى في التاريخ وهي عولمة ثنائية. وكانت مدينة صور (955 – 335 ق.م.) في لبنان ومدينة قرطاجة (820 – 220 ق.م) في تونس، عاصمتا الثقافة العالمية في ذلك الحين. وكان ذلك التحالف يمثل القوة العالمية التي أفرزها العصر البرونزي حيث بدأت الآلة المعدنية البدائية تحل محل الأدوات الحجرية. وكانت وسائل هذه القوة النحاس والبرونز والحديد والزجاج والمنسوجات والصباغ الأرجواني وبناء السفن الشراعية ذات المجاديف. وكانت الأسلحة المستعملة الهراوات والحراب والرماح القصيرة. واصبح النقد الفينيقي "الشيكل" الصوري هو أساس كل المعاملات التجارية، كما أصبحت اللغة الفينيقية هي اللغة السائدة في المراسلات التجارية العالمية.

2- في بداية الألفية الأولى بعد الميلاد "تأغرق" العالم و"ترومن" في ظل تفاعل القيم والتعاليم المسيحية بحيث تحالفت الثقافة اليونانية مع القوة العسكرية الرومانية البيزنطية. فسيطرت الثقافة الهيلينية على امتداد مساحة النفوذ الروماني البيزنطي. وطبعت ذلك الزمن بطابعها الخاص، فكانت العولمة الثانية في التاريخ، التي استمرت على مدى خمسة قرون. وكانت العاصمة الثقافية لتلك العولمة مدينة الإسكندرية (200 ق.م – 300م) في مصر. وكانت القوة العالمية التي افرزها عصر تطور المواصلات البرية والبحرية وتنوع وتطور استخدام الادوات المعدنية المتعددة الأجزاء في حصار المدن والدفاع عنها في آن واحد. وكان وسائل هذه القوة تتمثل بالجيش (المشاة والخيالة) والأسطول المؤلف من سفن القادس (Galleys) المجهزة بأبراج الهجوم المتحركة، وكانت الأسلحة المستعملة الرماح والأقواس النشابة والدروع والسيوف القصيرة والمقلاع والمنجنيق الخ.. أضف إلى ذلك اتساع شبكة طرق التجارة البرية مثل طريق الحرير وطرق الملاحة في المتوسط والأسود والأحمر وشمال الأطلسي. واصبح النقد الروماني الأس والديناريوس (عشر آسات) هو أساس المعاملات التجارية في العالم، كما أصبحت اللغة اليونانية لغة العالم والفن والأدب واللغة اللاتينية لغة السياسة والتجارة العالمية.

3 – في بداية الألفية الثانية "تعرَّب" العالم، ونشأت تحت مظلة التعريب تعددية ثقافية عالمية رائدة تفاعلت مع القيم والتعاليم المسيحية والاسلامية معا. فحملت الثقافة العربية الاسلامية بجناحيها جوهر وعصارة الثقافات السابقة من سريانية وبابلية ومصرية ويونانية وفارسية وهندية فسيطرت تلك الثقافة الجديدة على ما عداها أصبحت اللغة العربية لغة العالم المتحضر بكامله حتى أن البابا سلفستر الثاني، انتخبه الكرادلة عام 999م لأنه كان الوحيد بين المرشحين يتقن العربية. فكانت العولمة الثالثة في التاريخ التي استمرت لمدة خمسة قرون. وكانت العاصمة الثقافية لتلك العولمة مدينة بغداد (786 – 1286م) في المشرق، ومدينة قرطبة (736 – 1236 م) في الغرب. وكانت القوة العالمية التي افرزها ذلك العصر تتمثل باتساع رقعة التجارة العالمية بقاع لم تكن معروفة من قبل شملت كافة مناطق العالم القديم بما في ذلك الكثير من جزر المحيط الأطلسي والبحر الكاريبي وجزر جنوب شرق آسيا. وأصبح طريق الحرير بين المحيط الهادئ والبحر المتوسط شريان التجارة العالمية الأكبر، وكانت شبكة القوافل التجارية البرية من أوسع الشبكات العالمية التي تربط بين المراكز التجارية في آسيا وأفريقيا وأوروبا، وكان الأسطول التجاري العربي من اكبر الأساطيل عددا وعدة. واحتكر التجار العرب تجارة التوابل والافاوية والطيوب، وكانت هذه الإضافة من أهم السلع التجارية المربحة. واصبح الدينار العربي أساس كل المعاملات التجارية في العالم. وكانت القوة العالمية التي افرزها تطور وسائل الدفاع من قلاع وحصون وأبراج وتطوير أسلحة الدفاع من سيوف طويلة ورماح وحراب وأقواس نشابة طويلة إضافة إلى المقلاع والمنجنيق وبرج الهجوم المتحرك على ظهر سفن القادس الخفيفة، المجهزة بالقذائف النارية.

4 – وبدأ نظام العولمة الرابع عام 1814 بعد الحروب النابوليونية في أوروبة وبعد مؤتمر فيينا، حيث برزت بريطانيا كقوة عالمية رئيسية، أمسكت بزمام السياسة الدولية في القرن التاسع عشر. وانفردت في الساحة الدولية كرائدة وقائدة للثورة الصناعية الأولى وتحكمت بالتالي في شروط التجارة العالمية، حيث اصبح الجنيه الإسترليني هو أساس كل المعاملات التجارية وسيطر الأسطول البريطاني على منافذ البحار ومسالكها ومضائقها. واصبح بالتالي رمزا لمرونة حركة القوة العسكرية في أي مكان في العالم. وعرف نظام العولمة البريطاني باسم عصر السلام البريطاني Pax Britannica. وكان هذا النظام هو القوة الغالبة التي أفرزتها الثورة الصناعية الأولى في إطار عصر الرأسمالية النامية وكانت وسائله الفحم والحديد البخار والسكة الحديد واسلحته المدفع والدبابة والبارجة. وامتد هذا النظام على مدى 142 سنة (1814- 1956). وكانت لندن عاصمة هذه العولمة أصبحت اللغة الإنكليزية لغة العالم المتمدن أصبحت الثقافة الانكلوسكسونية ثقافة عالمية.

5 – بعد معركة السويس عام 1956 جرى الإعلان الرسمي عن سقوط نظام العولمة البريطاني، وحلت الولايات المتحدة الأميركية بصورة آلية مكانه. حيث أصبحت الوريث الطبيعي للعولمة البريطاني وقائدة الثورة التقنية الأولى، وصارت هي المتحكمة في شرايين التجارة العالمية، وسيطرت الأساطيل الحربية والتجارية الاميركية على بحار ومحيطات العالم بأسره. واصبح الدولار الأميركي هو أساس كل المعاملات التجارية أصبحت بيد الرئيس الأميركي مقاليد النظام العالمي الجديد الذي اصبح يعرف باسم عصر السلام الأميركيPox Americana. ويمكن القول أيضا أن النظام الأميركي هو القوة الغالبة التي أفرزتها الثورة التقنية الجديدة في إطار عصر الرأسمالية المتقدمة ووسائله هي النفط والكهرباء والمفاعل النووي والإلكترونيات ومصانع السيارات والطائرات وأسلحته هي حاملات الطائرات والسفن الفضائية والصواريخ العابرة للقارات والرؤوس النووية. ونشاهد في بداية الألفية الثالثة أمركة العالم وانتشار الثقافة الانكلو أميركية في مشارق الأرض ومغاربها بلا حدود. أصبحت اللغة الإنكليزية (المتأمركة) لغة العولمة الخامسة بلا منازع. وصارت نيويورك عاصمة نظام العولمة الجديد في التاريخ الإنساني. وهذه هي المرة الأولى في التاريخ الثقافي تنتقل فيها العاصمة الثقافية العالمية من العالم القديم الى العالم الجديد.

 

الإعلان العالمي للتنوع الثقافي

حوار الثقافات ضمان للسلام وأداة أساسية لأنسنة العولمة

إن المؤتمر العام، حرصا منه على الأعمال الكامل لحقوق الإنسان والحريات الأساسية المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي غيره من الوثائق الدولية المعترف بها عالميا، واذ يضع في اعتباره العهدين الدوليين لعام 1966 اللذين يتعلق احدهما بالحقوق المدنية والسياسية بينما يتعلق الآخر بالحقوق الاقتصادية والإجتماعية والثقافية.

(…) يؤكد أن احترام تنوع الثقافات، والتسامح، والحوار، والتعاون، في جو من الثقة والتفاهم، هي خير ضمان لتحقيق السلام والأمن الدوليين، ويتطلع الى مزيد من التضامن القائم على الاعتراف بالتنوع الثقافي وعلى وعي وحدة الجنس البشري وتنمية المبادلات بين الثقافات، ويرى ان عملية العولمة التي يسهلها التطور السريع لتكنولوجيات الإعلام والاتصال الجديدة، وان كانت تشكل خطرا على التنوع الثقافي، فهي تهيئ الظروف الملائمة لإقامة حوار متجدد بين الثقافات والحضارات،

وإدراكا منه للمهمة المحددة التي عهدت إلى الاونيسكو في إطار منظومة الأمم المتحدة، والمتمثلة في صوت التنوع المثمر للثقافات وتعزيزه، يعلن المبادئ الآتية ويعتمد الإعلان الحالي:

أ- الهوية والتنوع والتعدد

المادة 1- التنوع الثقافي بوصفه تراثا مشتركا للإنسانية: تتخذ الثقافة أشكالا متنوعة عبر المكان والزمان. ويتجلى هذا التنوع في أصالة الهويات المميزة للمجموعات والمجتمعات التي تتألف منها الإنسانية وتعددها. والتنوع الثقافي، بوصفه مصدرا للتبادل والتجديد والإبداع، هو ضروري للجنس البشري ضرورة التنوع البيولوجي بالنسبة إلى الكائنات الحية. وبهذا المعنى يكون التنوع الثقافي هو التراث المشترك للإنسانية، وينبغي الاعتراف به والتأكيد عليه لصالح الأجيال الحالية والأجيال القادمة.

المادة 2- من التنوع الثقافي إلى التعددية الثقافية: لا بد في مجتمعاتنا التي تتزايد تنوعا يوما بعد يوم، من ضمان التفاعل المنسجم والرغبة في العيش معا بين أفراد ومجموعات ذوي هويات ثقافية متعددة ومتنوعة ودينامية. فالسياسات التي تشجع على دمج كل المواطنين ومشاركتهم تضمن التماسك الاجتماعي وحيوية المجتمع المدني والسلام. وبهذا المعنى تكون التعددية الثقافية هي الرد السياسي على واقع التنوع الثقافي. كما أن التعددية الثقافية التي لا يمكن فصلها عن الإطار الديموقراطي، مؤاتية للتبادل الثقافي ولازدهار القدرات الإبداعية التي تغذي الحياة السياسية.

المادة 3- التنوع الثقافي بوصفه عاملا محركا للتنمية: إن التنوع الثقافي وسع نطاق الخيارات المتاحة لكل فردا. فهو أحد مصادر التنمية، لا بمعنى النمو الاقتصادي فحسب، وإنما من حيث هي أيضا وسيلة لبلوغ حياة فكرية وعاطفية وأخلاقية وروحية مرضية.

 

ب- التنوع الثقافي وحقوق الإنسان

المادة 4- حقوق الإنسان بوصفها ضماناً للتنوع الثقافي:

إن الدفاع عن التنوع الثقافي واجب أخلاقي لا ينفصل عن احترام كرامة الاشخاص، فهو يفترض التزام احترام حقوق الإنسان والحريات الاساسية، وخاصة حقوق الاشخاص المنتمين الى اقليات والمنتمين الى جماعات السكان الاصليين، ولا يجوز لاحد ان يستند الى التنوع الثقافي لكي ينتهك حقوق الإنسان التي يضمنها القانون الدولي، أو لكي يحدّ من نطاقها.

المادة 5 – الحقوق الثقافية بوصفها إطارا ملائما للتنوع الثقافي: الحقوق الثقافية جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان، وحقوق الإنسان عالمية ومتلازمة ومتكافلة. ويقتضي ازدهار التنوع المبدع التحقيق الكامل للحقوق الثقافية كما حددت في المادة 27 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي المادتين 13 و15 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبناء على ذلك ينبغي إن يتمتع كل شخص بالقدرة على التعبير عن نفسه وإبداع أعماله ونشرها باللغة التي يختارها، وخاصة بلغته الأصلية. ولكل شخص الحق في تعليم وتدريب جيدين يحترمان هويته الثقافية. وينبغي أن يتمتع كل شخص بالقدرة على المشاركة في الحياة الثقافية التي يختارها وان يمارس تقاليده الثقافية الخاصة، في الحدود التي يفرضها احترام حقوق الإنسان والحريات الاساسية.

المادة 6 – نحو تنوع ثقافي متاح للجميع:

إلى جانب كفالة التداول الحر للأفكار بالكلمة والصورة، ينبغي الحرص على تمكين كل الثقافات من التعبير عن نفسها والتعريف بنفسها. ذلك إن حرية التعبير، وتعددية وسائل الإعلام، والتعددية اللغوية، والمساواة في فرص الوصول إلى أشكال التعبير الفني والمعارف العلمية والتكنولوجية، بما في ذلك المعارف في صورتها الرقمية، وإتاحة الفرصة لجميع الثقافات في أن تكون حاضرة في وسائل التعبير والنشر، هي كلها ضمانات للتنوع الثقافي.

ج – التنوع الثقافي والإبداع

المادة 7 – التراث الثقافي بوصفه مصدرا للإبداع: أن كل إبداع ينهل من منابع التقاليد الثقافية، ولكنه يزدهر بالاتصال مع الآخرين. ولذلك لا بد من صون التراث بمختلف أشكاله وأحيائه ونقله إلى الأجيال المقابلة كشاهد على تجارب الإنسان وطموحاته، وذلك لتغذية الإبداع بكل تنوعه واقامه حوار حقيقي بين الثقافات.

المادة 8 – السلع والخدمات الثقافية بوصفها متميزة عن غيرها من السلع والخدمات: في مواجهة التحولات الاقتصادية والتكنولوجية الحالية، التي تفتح آفاقا فسيحة للإبداع والتجديد، ينبغي ايلاء عناية خاصة لتنوع المنتجات الابداعية والمراعاة العادلة لحقوق المؤلفين والفنانين وكذلك لخصوصية السلع والخدمات الثقافية التي لا ينبغي اعتبارها، وهي الحاملة للهوية والقيم والدلالة، سلعا أو ممتلكات استهلاكية مثل غيرها.

المادة 9 – السياسات الثقافية بوصفها حافزا على الإبداع: إلى جانب ضمان التداول الحر للأفكار والمصنفات، ينبغي أن تكفل السياسات الثقافية تهيئة الظروف المؤاتية لإنتاج سلع وخدمات ثقافية متنوعة، ونشرها وذلك عن طريق صناعات ثقافية تملك الوسائل اللازمة لإثبات ذاتها على الصعيدين المحلي والعالمي. ويرجع لكل دولة، مع احترام التزاماتها الدولية، أن تحدد سياساتها الثقافية بأفضل الوسائل التي تراها، سواء بالدعم التنفيذي أو بالأطر التنظيمية الملائمة.

 

د – التنوع الثقافي والتضامن الدولي

المادة 10- تعزيز القدرات على الإبداع والنشر على المستوى الدولي: إزاء اوجه الاختلال التي يتسم بها في الوقت الحاضر تدفق الممتلكات الثقافية وتبادلها على الصعيد العالمي، ينبغي تعزيز التعاون والتضامن الدوليين لكي يتاح لجميع البلدان، وخاصة البلدان النامية والبلدان التي تمر بمرحلة إنتقالية، إقامة صناعات ثقافية قادرة على البقاء والمنافسة على المستويين الوطني والدولي.

المادة 11 – إقامة شراكات بين القطاع العام والقطاع الخاص والمجتمع المدني: لا يمكن قوى السوق وحدها أن تكفل صون التنوع الثقافي الضامن للتنمية البشرية المستديمة وتعزيزه ويجدر في هذا الاطار التأكيد من جديد على الدور الاساسي الذي تؤديه السياسات العامة، بمشاركة القطاع الخاص والمجتمع المدني.

 

من التعدد إلى التنوع

جابر عصفور

كان للمتغيرات العالمية التي اقترنت بما حدث حول سنة 1989 نتائج ذات وجهين: سلبي وإيجابي. أما النتائج الإيجابية فتقترن بما فتحته من أفق جديد, أسهم في الصياغة المتكاملة لمفهوم (التنوع الخلاق) الذي أصبح علامة على نزعة جديدة, منبثقة من داخل اليونيسكو. وكانت هذه النزعة – في جانب منها – ردَ فعل إيجابياً في موازاة الكتابات المعادية للهيمنة والتبعية, ودعماً لها في مواجهة عمليات التوحيد القسري التي أخذ يفرضها عالم جديد لم يعد فيه سوى قطب واحد, ولم يعد يوازيه في أحادية قطبه سوى صعود (العولمة) التي انطوت على نزعة توحيد قسرية موازية. وهي نزعة سعت إلى إخفاء براثنها وتغطية مطامعها تحت شعارات برَّاقة عن قيم حضارية جديدة, قيم واعدة بقرية كونية لا نهاية لتقدمها الذي يفيض على الإنسانية كلها. وكان من الطبيعي أن تجد دول العالم (المتضررة من العولمة, والمعارضة لنزعتها الوحشية, والمدركة لفجرها الزائف) في نزعة (التنوع الخلاق) ما تستعين به في الدفاع عن اختلافها الحضاري وخصوصيتها الثقافية, تلك الخصوصية التي لا يزال ينفر من الحديث عنها أو التذكير بها دعاة العولمة المستعدون للتضحية بالتاريخ الحضاري الخاص لشعوبهم على مذبح عمليات التوحيد القسري الملازمة لإيديولوجيا العولمة.

 

وقد كان مفهوم (التنوع الخلاق) – ولا يزال – واحداً من أهم المفاهيم الفاعلة في الكشف عن زيف دعاوى النزعات الكونية التي تحلم بعالم واحد لا يعرف الخلاف أو الاختلاف, عالم ينبني على الصيغ الثقافية للدول المهيمنة بما يؤكد هيمنتها ويبقى غيرها في حال من التبعية التي تظل قائمة, مهما تخفت وراء أقنعة براقة زائفة. وترجع قوة المفهوم إلى عدم تحيزه وانغلاقه, وإلى طابعه التركيبي الذي يصل بين العام والخاص, المحلي والعالمي, القومي والإنساني. وذلك في وضع من التفاعل الإيجابي الذي لا يقمع الخاص أو المحلي أو القومي لصالح العام أو العالمي أو الإنساني, مؤكداً الخصوصيات الثقافية بما لا يعني الانغلاق أو الاستعلاء العرقيين, ملحاً على أصالة الهوية بمعناها المفتوح الذي لا يعرف الثبات المطلق أو الجمود المتصل.

ولذلك كان مفهوم (التنوع الخلاق) أساساً لنزعة لا تزال نقيضا لنزعتين متعارضتين, لكن تعارضهما لا ينفي ما يجمع بينهما من وجه شبه. النزعة الأولى هي نزعة الأصولية المنغلقة على نفسها, المعتدة بنقاء أصلها الموهوم, وتميزها المطلق, الرافضة للتاريخ في حرصها على إلغاء حركته الصاعدة, الكارهة للإنسان لما ينطوي عليه من ضعف لا يعصم منه إلا أولو الأمر, المتشبثة بكراهية الآخر المختلف, أو على الأقل الاسترابة فيه, حماية لنفسها من مخاطر التعرض لتأثيرات هذا الآخر, أو مواجهة تحدياته التي تضع أصولها الراسخة موضع المساءلة. وأياً كان الاسم الذي تتخذه هذه النزعة, في تجلياتها المختلفة وممارساتها المتنوعة, سياسية أو اجتماعية أو دينية أو فكرية أو اقتصادية, فإنها تظل نزعة معادية لنزعة التنوع ومعاداتها لأى نزعة تنفتح بها على ثغراتها, أو تدفعها إلى مراجعة مبادئها, أو تغويها بالحضور الحر المتكافئ لبني الإنسان. وأتصور أن أصولية هذه النزعة تجعلها معادية بالقدر نفسه لأي أصولية مغايرة أو مناقضة, فاليقين الذي ينبني عليه الوعي الأصولي يناقض اليقين نفسه في أي وعي أصولي مغاير, وذلك بما يؤكد صدام الأصوليات المحتوم في دائرة الاختلاف التي لا تعرف الحوار بل الإقصاء. وأياً كان الشعار المرفوع في أحوال هذا الصدام فإنه ينبني على المكونات نفسها, وعلى الآليات القمعية ذاتها.

أما النزعة المضادة التي تواجهها نزعة التنوع الخلاّق فهي نزعة (العالمية) التي تتحدث عن وحدة العالم كله, لكن من خلال مركز مهيمن, هو الأعلى بالقياس إلى بقية الأطراف الأدنى بالضرورة. وقد تتخذ هذه النزعة مسميات أخرى, فتغدو نزعة (إنسانية) منحازة إلى أصلها التوليدي, بحسب مصالحه الاقتصادية وأطماعه السياسية, أو تغدو نزعة (كونية) تخايل الأعين بلوامع تقنياتها المذهلة, لكن بما يبقى على مبدأ التبعية ذاته. وقد اكتسبت هذه النزعة, أخيراً, مسمى (العولمة) ووجدت فيها أحدث تجلياتها التي تغوي التابع بإلغاء حضوره الخلاّق أو ميراثه الأصيل أو خصوصيته الإيجابية, وذلك لكي يفنى التابع في المتبوع, متحولاً إلى صورة أخرى من صوره, أو استجابة مشروطة بأصلها الذي أصبح واحداً في تجلياته الكوكبية.

وأتصور, من هذا المنظور, تحديداً, أن الكثيرين الذين تحمسوا لنزعة (التنوع الخلاق) كانوا يستجيبون إلى ما تنطوي عليه هذه النزعة الواعدة من موازنة بين الخصوصية الحضارية والثقافية لكل أمة والقيم المشتركة التي تجمع كل الأمم في منظومة إنسانية واحدة. ولذلك كان من الطبيعي أن يكتسب (حوار الحضارات) معنى جديداً مع هذه النزعة الواعدة, ويتأكد حضوره بصفته وسيلة فاعلة للتفاهم والتعاون والتفاعل بين الحضارات والثقافات, لا بالمنطق القسري الذي يفرض الأقوى على الأضعف, أو يذيب الأضعف في دائرة الأقوى بعد استيعابه, وإنما بالمنطق الذي يقوم على التكافؤ بين الأطراف المتحاورة ثقافياً وحضارياً, وعلى التسليم بحق كل منها في الوجود والنماء, ومن ثم التسليم بقدرة كل منها على الإضافة التي تغني غيرها في دائرة التفاعل, بعيداً من أشكال الاحتكار أو الهيمنة أو التمييز, وتجسيداً للقيم الإنسانية المشتركة التي تغتني بالتعاون.

وليس من المصادفة أن تتأصل نزعة التعددية الثقافية, في أوروبا وأميركا, على نحو موازٍ لصعود نزعة (التنوع الخلاق) وتواصل تقدمها في مواجهة النزعات المضادة التي اقترنت بالمركزية الأوروبية – الأميركية في تجلياتها المختلفة, جنباً إلى جنب ما تتضمنه العولمة من نزعة توحيد قرينة الهيمنة. ومن اللافت للانتباه أن نزعة المركزية الأوروبية وجدت نقيضها في أقطارها هي, في الوقت نفسه الذي أخذ وعي العالم الثالث ينتبه إلى حضوره التاريخي المستقل, وذلك في سياق من المتغيرات الجذرية التي شملت العالم كله, سياسياً واقتصادياً وديموغرافياً وثقافياً, على نحو لم يكن له مثيل من قبل. وكما أدّت هذه المتغيرات إلى تحول وضع العالم الثالث نفسه, وانتقاله من التبعية إلى الاستقلال, داخل علاقات القوة العالمية الجديدة, انتهت بالعالم الأول إلى أوضاع مغايرة, سياسياً واقتصادياً وديموغرافياً وثقافياً.

وكان من نتيجة ذلك دخول العالم الثالث إلى دائرة الضوء العالمي في الأفق الإبداعي على نحو لم يحدث من قبل, فغزت أسماء أبنائه من الكتَّاب البارزين العواصم الثقافية الكبرى, وأخذ العالم كله يقرأ كتابات أمثال غابرييل غارثيا ماركيز الروائي الكولومبي (حصل على جائزة نوبل سنة 1982) وكتابات وول سوينكا الشاعر والمؤلف المسرحي النيجيري (حصل على جائزة نوبل سنة 1986) ونجيب محفوظ الروائي المصري (حصل على الجائزة سنة 1988) ونادين غورديمر الروائية من جنوب أفريقيا (حصلت على الجائزة 1991) وديريــــك ولكوت من جزر الكاريبي (سنة 1992) وكـينزابورو الياباني الأصل (سنة 1994) وجاو شينجيان الصيني الأصل (سنة 2000) ونايبول الهندي الأصل من جزر الترينداد في العام الماضي. وأضيف إلى هؤلاء غيرهم من أبناء العالم الثالث الذين لم يحصلوا على جوائز نوبل بعد, ولكن الذين حصلوا على غيرها من الجوائز المهمة, مثل جائزة (بوكر) البريطانية, والذين أصبحت أعمالهم ذائعة بين قراء أوروبا والولايات المتحدة.

ويوازي التحولات التي تغير بها وضع العالم الثالث, في المشهد الأدبي العالمي, التحولات المقابلة التي أحدثت تغييراً لافتاً في علاقات الإنتاج الثقافي داخل العالم الأول نفسه, وذلك على نحو دفع طليعة هذا العالم إلى التخلّي عن مركزيته الثقافية من ناحية, واطراح المنظور المركزي نفسه في سياساته الثقافية الداخلية من ناحية ثانية. ولا شك أن هذا التحول الأخير يقترن بالتغيرات الديموغرافية اللافتة في أقطار هذا العالم, في موازاة التغيرات المصاحبة اجتماعياً وثقافياً, وهي تغيرات استبدلت بهيمنة الثقافة المركزية الواحدة الأفق المفتوح لنزعة التعددية الثقافية, وسعت إلى أن تستبدل بمبدأ التعصب العرقي والجنسي مبدأ التباين الخلاق الذي لا يمايز بين ثقافة وأخرى على أساس من دين أو عرق أو جنس.

وأتصور أن نزعة التعددية الثقافية هي الوجه الأول لنزعة التنوع الخلاّق على مستوى الممارسة, أو هي – على وجه التحديد – الخطوة الأولى التي قادت إلى الخطوة الأكثر اتساعاً في مدى فهم التنوع الإنساني وصياغة علاقاته الواعدة. وقد كانت نزعة التعددية الثقافية, ولا تزال, هي النزعة المقابلة, داخل الفضاء الأوروبي – الأميركي, لنزعة المركزية الثقافية التي انطلقت منها الهيمنة الأوروبية في المجال الثقافي بشكل أو آخر. وهي نزعة تحررية, حوارية, فرضها تعدد المجموعات العرقية التي انتزعت حقها الطبيعي في الوجود والتعبير الثقافي المغاير. ولذلك تقوم هذه النزعة على أساس من الاعتراف بالمكانة المتساوية لكل ثقافات المجموعات العرقية المختلفة التي يتكون منها المجتمع. وذلك وضع ترتَّب عليه أمران. أولا: إعادة التفكير في الفرضيات السائدة عن وحدة الثقافة, على نحو لم تعد معه وحدة الثقافة البريطانية, مثلاً, مقصورة على مجموعة من دون غيرها, بل مفتوحة على كل المجموعات التي تسهم في صنعها. وليس ذلك من قبيل الإدماج الذي يعترف بهيمنة ثقافة سائدة متسلطة, أو على سبيل اعتراف ثقافة استعلائية بأبناء الثقافات الأخرى التي تمنحهم شرف الانتساب إليها, وإنما على سبيل التباين الخلاق لوحدة التنوع التي لا تعرف معنى الهيمنة.

وقد لزم عن هذا الوضع الجديد الأمر الثاني, ويتمثل في إعادة التفكير في الفرضيات السائدة عن الثقافة على نحو لم يعد من المقبول معه إبقاء علاقات القوة غير المتكافئة بين ثقافات المجموعات العرقية المختلفة, وضرورة تحويل هذه العلاقات إلى علاقات متكافئة, هي علاقات التباين الخلاّق التي تؤكد القيمة نفسها لكل الثقافات. ويبدو أن استبدال مصطلح (التنوع الثقافي) بمصطلح (التعددية الثقافية) قصد به تأكيد هذا المعنى في الثمانينات والتسعينات, ذلك لأن مفهوم (التنوع الثقافي) أكثر جذرية من حيث إنه لا يربط الثقافة بأصل عرقي أو جنسي بالضرورة, ومن ثم يتجنب إمكانات مزالق الانغلاق الذاتي التي قد تتضمنها بعض صياغات التعددية الثقافية.

 

أسئلة الهوية ورهانات الفكر في زمن العولمة

علي حرب

1- هويتي الوطنية والثقافية لا يحسدني عليها الآخرون في العالم المعاصر. إذ هي تولّد العجز والفقر أكثر مما تصنع القوة والثراء. لقد صنع العرب المعجزات في ما مضى بابتكاراتهم وإنجازاتهم التي جعلتهم يتصدرون واجهة العمل الحضاري لقرون طوال. ولكن هذا ما يعجزون عن تحقيقه في الزمن الحديث الذي هو زمن الغرب خاصة، وزمن اليابان إلى حد كبير.

وبسبب هذا العجز من جهة، وبسبب نرجسيتنا الثقافية التي تحملنا على المكابرة والمعاندة والأستذة على الغرب، نرانا لا نحسن سوى حصد المفاجآت أو تلقي الصدمات الحضارية: من صدمة الحداثة غربا إلى صدمة المعجزة اليابانية شرقا، ومن صدمة ماليزيا في التنمية إلى صدمة إيران في التحول نحو الديموقراطية، فضلا عن صدمة العولمة والتقنية على ما تنبئنا خطابات المثقفين والدعاة حول نذر العولمة وشرورها ومافياتها، وسوى ذلك من مفردات الرجم واللعن.

2- من هنا لا أعتبر أن مهمتي هي صون هويتي عن المتغيرات والمستجدات. بالعكس المهمة الآن هي أن أُخضع هويتي الثقافية للنقد والفحص لكي أفهم وقائع ضعفي وعجزي، بقدر ما أُخضع هويتي البشرية للتشريح والتفكيك لكي أفهم وقائع بربريتي ووحشيتي.

إذن الممكن الآن، وفي ضوء ما يحدث من التحولات، أن أمارس علاقتي بهويتي بصورة نقدية جديدة ومغايرة، تتيح لي اجتراح إمكانات للفكر والعمل، أخرج بها من مأزقي الحضاري والوجودي لكي أساهم في تشكيل مساحتي الخاصة على خريطة المعنى ومسرح القوة، بالطبع عبر المساهمة في إنتاج الثروة والقيمة أو المعنى والمعرفة أو الأداة والمعلومة.

3- لا أعتقد أن أحداً سوف يقدر على سلخي عن ذاكرتي أو عن خصوصيتي وانتماءاتي، على ما يجري التهويل والتهويم من جانب دعاة الخصوصيات الفاشلين في حمايتها والدفاع عنها. فتواريخ المرء وتراثاته هي من وقائع حياته ومعطيات وجوده التي قادته إلى أن يكون على ما هو عليه في حاضره. وهي تنتظر من يقوم بصرفها إلى عملة حضارية راهنة وقابلة للتداول، أو تحويلها إلى إنجازات معرفية وعلمية أو آثار أدبية وفنية أو نظم سياسية ونماذج تنموية.

4- العرب هم ثمرة الغرب الذي اخترقهم بحضارته ونظمه، بفلسفاته وقيمه، بأدواته وسلعه. هذا ما حصل منذ قرنين من الزمن. وهذا ما يزال يحصل على أرض الوقائع والمعايشات. لنعترف بذلك حتى لا نمارس وجودنا على سبيل الزيف الذي يجعلنا نلتف على الحقيقة لكي ننكر إنجاز الغرب وفضائله. ومن يفعل ذلك فلا يصنع حقيقة ولا يحرز سبقا أو تقدما.

5- بهذا المعنى، لا وجود لهوية صافية على ما يُبسّط مفهوم الهوية حماية الخصوصيات. فخطاب الهوية النقية الخالية من اثر الغير هو حديث خرافة بقدر ما هو خداع للذات. فالغرب وجهنا الآخر، أي ما كناه إبان عصر الازدهار حيث أقمنا إمبراطورية للجواري وإمبريالية للأموال. وهو الآن ما قد نكونه مستقبلا أو ما نتمنى أن نكونه ولا نستطيع إلى ذلك خلقا، بسبب مقولاتنا العقيمة حول ذواتنا أو حول الغير والعالم، أو بسبب ثنائياتنا الخانقة حول التراث والحداثة أو الخصوصية والعالمية أو الشرق والغرب. من هنا، ليست مهمتي الانخراط في الحملة على الغزو الثقافي أو على العالمية في الأدب والفكر، ولا على العولمة وشبكاتها وأسواقها، بل ممارسة خصوصيتي بصورة مثمرة وغنية، فعالة وراهنة، بحيث أعمل على فك الطوق ومغادرة الهامش بإنتاج فكرة أو صيغة أو أداة أو معلومة أو سلعة تخرق الحدود ويحتاج إليها الآخرون خارج المساحة العربية. هذه هي المهمة الأصلية: التعامل مع الخصوصية على سبيل الجدة والفرادة والأصالة.

6- هويتي الوطنية والقومية أو الدينية والثقافية ليست أحادية المعنى والأصل أو الاسم، وإنما هي عالم مركب تتشابك فيه وتتداخل أو تتفاعل عناصر مختلفة وروافد متعددة وطبقات متراكمة. بهذا المعنى، كل هوية يجري تفكيكها تتكشف عن تعدد الانتماءات وتداخل التراثات. وليست مهمتي أن أتشبّث بانتمائي أو أن أبحث عن جذري أو أن أتماهى مع أصولي، وسوى ذلك من المساعي المستحيلة، بل أن أتقن فن العيش والتواصل مع المختلف في الداخل أو مع الآخر في الخارج، بفكر تركيبي يتيح لي فهم الواقع بكل تعقيداته وتشابكاته وتلاوينه، أو بلغة وسطية تتيح بلورة قيم تبادلية، أو بمنطق تحويلي يتيح لي أن أتغير عما أنا عليه بقدر ما أسهم في تغيير الآخر، وذلك بفتح خط للتواصل أو تشكيل بيئة للحوار والتفاهم أو افتتاح سوق للتبادل والتداول.

7- لا وجود لمجتمع متجانس خالٍ من الاختلاف والتباين. هذه حال الاجتماع في العالم العربي، قديما وحديثا، بل هذا شأن الاجتماع بين البشر: إنه ينبني على الفرق والجمع بقدر ما يولد التفاوت والتراتب أو التفاضل. ولذا، ليست المهمة عندي أن أقفز فوق واقع الاختلاف، لكي أنادي بوحدة طوباوية مثالية ما ورائية، أنتجت المزيد من الفرقة كما علمتنا التجارب وشهدت المشاريع الوحدوية والتوحيدية. وإنما المهمة أن أعمل على إدارة اختلافي مع غيري بصورة عقلانية وان أسوس هويتي بصورة تواصلية. هذا هو التحدي لنا نحن العرب، وخصوصا العاملين في ميادين الثقافة والمعرفة: أن أُخرج علاقتي بغيري مخرجا تداوليا، حتى لا يتحول الآخر إلى لغم ينتظر ساعة الانفجار. بهذا المعنى، إن الخطر النابع من الداخل على الخصوصية، ليس أقل من الخطر الآتي من الخارج. وإلا فكيف نفهم الاختلافات الوحشية والنزاعات الدموية التي تشهدها بعض المجتمعات العربية والإسلامية؟

8- لكل مجتمع ثوابته من الأسماء والأحداث أو من الأزمنة والأمكنة. ولكن العلاقة بالثوابت ليست ثابتة بل هي متغيرة. من هنا استحالة التطابق مع الأصول. ووجه الاستحالة أنه من غير الممكن لأحد أن يقبض على حقيقة الواقع أو أن يمتلك معنى نص أو حدث. فنحن نُنتج المعنى فيما ندّعي دركه، ونخلق الحقائق فيما ندّعي البحث عنها، ونضاعف النص شرحا وتفسيرا أو تأويلا وتفكيكا فيما ندّعي التطابق معه.

بهذا المعنى، ليس الأصل سوى ثمرة فروعه التي تقيم مع ثوابتها علاقات حية ومتغيرة، متجددة ومتطورة. من غير ذلك، تمارَس العلاقة مع الأصول والثوابت بالقفز فوق الواقع ونفي الاختلاف الذي هو الأصل والأساس، بقدر ما تؤول إلى استئصال الآخر معرفيا أو ثقافيا أو جسديا كما هو شأن الدينية والعلمانية، القومية والاشتراكية. ولذا لا ننخدعن بالخطابات. فالأصولية هي نكران الأصل بقدر ما هي تقويض الأصالة والفرادة، أي ما ينطوي عليه من التعدد والتنوع أو من الغنى والتجدد.

9- من هنا، الحاجة إلى إعادة النظر في ثنائية الذات والغير، فليست المسألة عندي هي الحافظة على هويتي، بل كيف أتعاطى معها: هناك طريقتان:

الأولى: أصولية مركزية، أحادية وتبسيطية، متعالية وما ورائية، جامدة وثابتة، مغلقة وحصرية. ومآل هذه الطريقة في التعامل مع الهوية أو الفكرة أو الشعار، أيّ كان، هو تحويل هوية المرء إما إلى معسكر عقائدي يتجسد إرهابا وعنفا، أو هلاكا وخرابا. والأمثلة صارخة وفاضحة كما شهدت التجارب: ففي روسيا اقتضى مشروع الإصلاح الزراعي دفاعا عن مصالح الفلاحين قتل أربعة ملايين فلاح. وفي أفغانستان دُمرت مدارس علمية مزدهرة على أيدي الذين تعلموا فيها وتخرجوا منها. وفي اليمن عشرة آلاف قتيل في أسبوع واحد، ثمرة الصراع بين الفصائل والأجنحة من أجل تطبيق الاشتراكية. وتلك هي ثمرة ديكتاتورية المقولة وأحادية المعنى وإرهاب الأصل.

هناك طريقة أخرى للتعامل مع الهوية أو المعتقد هي طريقة مفتوحة ومرنة، نقدية وتساؤلية، حية ومتحركة، مركبة وتعددية، وسطية وتداولية. هذه الطريقة تفتح الإمكانات لصناعة الذات والمشاركة في تشكيل المشهد العالمي، عبر خلق الوقائع وإنتاج الحقائق، في مجال من مجالات العمل. فكيف ونحن ندخل اليوم في عصر جديد من عصور الكائن، يتغير معه مشهد العالم ويتغير نظام الأشياء، مع ثورة الاتصالات وانفجار المعلومات، بقدر ما ينبثق فاعل بشري جديد من أسمائه وصفاته: الإنسان العددي، المواطن البَيْني، العامل المعرفي، الوسيط وليس الوصي على الحقوق والحريات. فبعد إخفاق مشاريع التحرير، الممكن هو تحرر الدعاة عن أوهامهم عن الحرية، بقدر ما هو تحرر الناس من وصايتهم على القيم العامة.

10- ليست العولمة، التي هي مدار النقاش والاختلاف، جنة إلا في الأوهام، إذ لا فردوس على هذه الأرض. ولكنها ليست كارثة إلا عند ذوي العقول القاصرة، ممن يلقون سلاحهم الفكري بقدر ما يتصرفون كالمذعورين إزاء ما يجري ويحدث من التقلبات والتحولات. ربما كان الفرنسيون معذورين في هجومهم على العولمة التي تترافق مع تراجعهم إزاء الولايات المتحدة الأميركية، ولكن العرب لم يكونوا في جنة الفردوس قبل عصر العولمة، ولم يكونوا في مقدمة الركب الحضاري ثم تراجعوا إلى الوراء. فلماذا الخوف إذاً؟!

فالأَولى أن يتعاملوا مع العولمة كفرصة معرفية أولاً، لكي يفهموا مجريات الأمور ويحيطوا علما بالتحولات والمستجدات، وكفرصة وجودية ثانيا لأن الممكن هو أن يتغيروا عما هم عليه، بعقليتهم وتصوراتهم وقيمهم، لكي يتمكنوا من تغيير المعادلة الوجودية، بالخلق والإنتاج، بالإبداع والابتكار. فالمنتِج يغير الواقع بقدر ما يخلق ويبتكر. هذا شأن الشاعر الذي يبدع قصيدة، أو السياسي الذي يجترح أساليب فعالة في معالجة المشكلات، أو رجل الأعمال الذي يفتح مجالات للاستثمار، أو العالم الذي يضع نظرية لتشخيص الواقع، أو الفيلسوف الذي يعمل على تجديد المفاهيم وتغذيتها بمعان وأبعاد جديدة. أيهما اكثر مصداقية وفائدة؛ الذي يرفع شعار الحرية المستهلَك أم الذي يجدد مفهوم الحرية؟ الذي يدافع عن خصوصيته الثقافية ضد الغزو دفاعا فاشلا أم الذي يتعامل مع هويته بصورة منتجة وخارقة، بابتكاره فكرة تترك أثرها وتخلق مجالها التداولي على ساحة الفكر العالمي؟ بسؤال أصرح: من أكثر فاعلية وفائدة؛ الذي يخشى الغزو الثقافي أم الذي يحقق إنجازاً يحتاج إليه الآخرون أو ينتج شيئا يجري انتشاره وتداوله أو استهلاكه؟

11- لا أتعاطى مع العولمة بعقلية البشير أو النذير، لأنني لست نبيا لكي أبشر أو أُنذر. وإنما أحاول أن أفهم وأشخّص ما يحدث، لكي أحيل علاقتي بالمتغيرات إلى نتاج معرفي أو إلى عمل فكري، بقدر ما أمارس خصوصيتي الثقافية بصورة تخرج معها مخرجا اكثر غنى وثراء واكثر فاعلية وحضورا. وتلك هي مهمتي الأولى: استخراج الإمكان بالتعامل مع الحدث بلغته المفهومية والعمل على صوغه صياغة عقلانية، كما تعاملت مع الثورة التقنية والتحولات الحضارية في كتابي: حديث النهايات.

هذا ما يجعلني أرى إلى العولمة بوصفها إمكانا للوجود والحياة، أو للمعرفة والعمل، ينفتح الآن بقدر ما تنفتح العوالم بعضها على بعض، وبقدر ما تترافق مع نشوء مخلوقات جديدة، أو ولادة شكل جديد للإنتاج والاتصال والتداول، أو انبثاق قوى وفاعليات جديدة على المسرح الكوني.

من هنا، فإني وإن أخذتني الحماسة في الكلام على الفتوحات العلمية والثورات التقنية لعصر العولمة، فإني لا أتخلى عن مهمتي المعرفية، لكي أشتغل بالتصفيق للعولمة، ولا لكي أنشغل برجمها، على ما يظن الذين يتعاملون معها بعقلية إيديولوجية نضالية، أي الذين يطربون للهجوم على العولمة بمفاهيم وقيم مستهلَكة مآلها أن القوى التي تقود العولمة تزداد قوة.

12- لا أعتبر أن مشكلتي هي مع العولمة، وإنما هي مع الداعية الأصولي الذي يريد أن يختم على عقلي ووجداني وجسمي بعقيدته المغلقة وأحكامه المطلقة، بقدر ما هي مع المثقف الحداثي بمفاهيمه الهشة ونماذجه المستهلكة.

بالطبع، ليست مشكلتي مع تراثي، بل مع الداعية التراثي الذي يحيل علاقتي بالتراث الحي والغني والرحب إلى معرفة ميتة أو إلى متحجرات فكرية. وفي المقابل ليست مشكلتي مع ما بعد الحداثة، بل هي مع المثقف الحداثي الذي حول علاقته بمنجزات الحداثة الخارقة إلى تهويمات أيديولوجية وشعارات خاوية أو إلى ادعاءات ومشاريع فاشلة.

إذاً، المشكلة هي في عبادة الأصول القديمة والنماذج الحديثة على السواء. وهي من أهم وأخطر العوائق المانعة للتجديد والإبداع، للنمو والتقدم. بهذا المعنى، ليست الأزمة في البلاد العربية، لدى رجالات المال والأعمال والإعلام، بقدر ما هي لدى المثقفين والدعاة، أي حماة الهوية بالذات، وأقصد بهم الذين يفكرون بالمقلوب، بقدر ما يحيلون الإمكانات الوجودية التي تتكشف عنها الأحداث إلى عجز فكري أو إلى قصور عملي.

هذا هو موقفي مما يحدث: أن لا تستعبدني عقيدة أو مقولة أو نظرية وان لا يستعمرني اسم أو أصل أو نموذج، بحيث أمارس حريتي وهويتي في التفكير النقدي غير المشروط، إلا بشروط النقد المعرفي والفحص العقلي، لكي أساهم في المناقشات العالمية الدائرة حول القضايا الراهنة بلغة مفهومية جديدة ومغايرة.

13- خلاصة القول: لا أحد ينوب عنا في فهم واقعنا وصوغ مشكلاتنا أو حل أزماتنا، لا الماضون من العرب ولا المعاصرون من أهل الغرب: لا الشافعي ولا مونتسكيو، لا الفارابي ولا روسو، لا ابن سينا ولا ديكارت، لا ابن رشد ولا كنط، لا ابن خلدون ولا ماركس، لا تشومسكي ولا انطوني غيدنز…

نحن نصنع حياتنا ونحقق تقدمنا وازدهارنا، بقدر ما نحن قادرون على الخلق والابتكار، للمساهمة في ورشة الحضارة العالمية، بما ننتجه من المعارف والنظريات أو القيم والمعايير أو النظم والتشريعات أو الأدوات والتقنيات أو السلع والمعلومات. من غير ذلك نستقيل من مهمة التفكير الحي والخلاق، لكي نهمش ونحصد المزيد من التراجع قياسا إلى ما يحققه الغير من التقدم.

لا يعني ذلك بالطبع أن نستغني عن الماضين، كما لا يعني أن نحمّلهم مسؤولية ما نعاني منه من تعثر وتراجع أو من فشل وإخفاق. بالعكس، فالماضون كانوا خلاقين مبدعين، على اختلاف مدارسهم وتعارض مذاهبهم. وما تركوه من الآثار والأعمال هو رأسمال رمزي أو رصيد معرفي هائل، نعود إليه للاشتغال عليه، بغية توظيفه واستثماره أو خرقه وتجاوزه أو صرفه وتحويله إلى منجزات فكرية وسلع رمزية راهنة نغني بها عالم الفكر والمعرفة.

كذلك الأمر بالنسبة إلى مآثر المحدثين ومنجزاتهم. إنها ليست مصدر أزماتنا كما يهول الذين يحدثوننا حديث الغزو الثقافي، وإنما هي بالعكس معطيات ووقائع تفرض نفسها علينا، بقدر ما هي إمكانات مفتوحة أمامنا، لكي نفيد منها ونعمل عليها، توسيعا وتطويرا، أو إثراء وتجديدا، أو أيضا خرقا وتجاوزا، وبما يتيح لنا ان نكون من المساهمين في صناعة الحضارة العالمية وفي رسم مصير البشرية.

14- هذا هو رهاني كمشتغل في فرع من فروع المعرفة: أن أعمل بخصوصيتي وأن أتعاطى مع هويتي بصورة منتجة ومثمرة، بحيث أتخلى عن عقلية الضحية والمؤامرة لكي أتصرف بعقلية المسؤولية والشراكة، وأن أتخلى عن لغة الندب والشكوى المضادة للفهم والتعقل، لكي أتقن لغة الخلق وأعمل بمنطق الفتح والكشف. فذلك هو الدفاع الحقيقي عن الذات في مواجهة التحديات.

من هنا، فإن مهنتي المعرفية تتقدم عندي على مهمتي النضالية، سواء دفاعا عن هويتي الثقافية أو عن قيمي الإنسانية والكونية. فالمهنة بما هي عمل واختصاص أو أداء وإنجاز، لها الأولوية على الوطن والأمة أو على العقيدة والأدلوجة، وسواها من الانتماءات. إذ لا جدوى من هذه الأطر إن لم تتح للمرء العمل والإنتاج أو النمو والازدهار.

والأحرى القول إن الأعمال التي تمارَس بصورة خلاقة ومنتجة، هي السبيل إلى ممارسة الهويات والخصوصيات بصورة غنية وثمينة، وذلك على سبيل الاستحقاق والازدهار. من هنا، أعتبر أن مهمتي الآن، ليست الدفاع عن انتماءاتي، بل أن أفكك هويتي الثقافية لكي أفهم وقائع عجزي، أو أن أفكك هويتي الإنسانية لكي أفهم وقائع بربريتي، أي بما يتيح إعادة صوغ هويتي المركبة، على نحو جديد. فما نتشبث به من المفاهيم والقيم والأعراف قد يكون مصدر ما نشكو منه. وبالعكس، فما نخشى منه قد يكون هو مفتاح الخروج من المآزق الحضارية أو الوجودية، الجَمعية أو الفردية.

عن موقع جمعية التعليم المسيحي بحلب