محنة الزواج!.. دعوة إلى القداسة

ليس غريباً أنّ أُولى معجزات المسيح صنعها في عرس قانا الجليل، بعد إلحاحٍ من أُمّه العذراء مريم. إنّ حضور يسوع هذا العرس، ثمّ تدخّله العجيب في إنقاذه لمّا حوّل الماء خمراً، له دلالته العميقة. إنّه يريد أن يقول لنا إنّ الزواج سرّ مقدَّس وإنّ الفرح الذي فيه سينقص إذا لم يكن حاضراً هو فيه.
أقول هذا في الوقت الذي نشاهد زواجات كثيرة تفشل، وآلاماً كبيرة تنتج. ربّما لا تصل أغلب الحالات المتأزّمة إلى المحاكم الروحيَّة لأسباب كثيرة فيحمل كلّ من الزوج والزوجة مشروعهما الحياتيّ مستقلاًّ عن الآخَر: الزوج في وادٍ والزوجة في وادٍ آخَر!
البابا الراحل يوحنّا بولس الثاني قال في إحدى زياراته الرعويَّة مشدّداً على أهمّيَّة العائلة: "لا يوجد في العالَم صورة أُخرى أكثر كمالاً وأكثر جمالاً غير صورة الله إنّه (وحدة ومشارَكة) كذلك لا توجد حقيقة بَشَريَّة تقابل أكثر هذا السرّ الإلهيّ غير صورة العائلة".
لن أعرض المشاكل الكثيرة في العائلات المجروحة. وهي متنوّعة ويعرفها أصحاب الاختصاص. ولكن، تخطر في ذهني حالتان واجهتهما في الفترة الأخيرة. الأُولى، حين جاءت سيّدة في ريعان الشباب تطلب يد العون من جمعيّتنا، جمعيَّة القدِّيس منصور الخيريَّة. وكعادتها كلّفت الجمعيَّة اثنين من الإخوة لزيارة العائلة وتفقّد أحوالها. وهكذا كان حيث زرنا السيّدة في منـزلها المتواضع، حالتها يرثى لها.. أثاث معدم وأولاد ثلاثة أكبرهم في التاسعة من عمره.. وقد بدا عليهم الشحوب وعلامات التعب.
شكت حالتها وبكت! ومن خلال عينيها المغرورقتين بالدمع بان لنا لون أزرق يحيط بإحداهما، وعرفنا منها كم كان زوجها يضربها. إنّه مهمل لعائلته، سكّير يبحث عن ملذّاته وقد اعتبر زواجه سجناً… إلخ.
حاليّاً الزوج غير موجود. سافر وترك العائلة في حالة شقاء لا مورد لها ولا معيل. لن أطيل أكثر. خرجنا من المنـزل وقد أحزننا ما شاهدناه. صدق مَن قال: "الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون".
 أمّا القصّة الأُخرى فهي قصّة شابّ استعدّ الاستعداد الذي لا يوصف للزواج. وبعد سنوات من الاستعداد المادّيّ قرّر أخونا الإقدام على هذه الخطوة بعد أن وجد ابنة الحلال التي تليق به (جَمال وكمال ومال…). فترة الخطوبة رائعة.. مثّل كلا الطرفين بعضهما على بعض أحسن تمثيل.
جاء يوم الزواج الموعود وقد احتشد المدعوّون في الكنيسة التي غصّت بهم فكان كلّ شيء كما أراد (ما ترك شي ناقص). شهر العسل بدأ في تايلاند وانتهى بعد أسبوعين في المنـزل مع الصريخ و(أوّل كفّ وثاني لكمة)! تدخّل الجيران لإنقاذ الزوجة. ومع نهاية الأسبوع الثاني سقط الزواج بالضربة القاضية وبدأ ما يُسمّى "شهر البصل" في المحاكم الروحيَّة و"الشرشحة".. كلّ يكيل التهم إلى الآخَر كالعادة. تألّمنا كثيراً وفشلت كلّ وساطات الخير لحلّ النـزاع والقضيَّة مستمرّة برسم التحصيل!
بعد هذا كلّه.. هل نتحمّل مسؤوليَّة تربية أولادنا وإعدادهم للمرحلة المقبلة؟
أتذكّر أنّه منذ زمن كانت النسوة يهيّئن لبناتهنّ "الجهاز" الذي سيأخذنه يوماً ما إلى بيتهنّ. ويعلّمهنّ الأشغال اليدويَّة والطبخ وأمور المنـزل، إضافةً إلى أمور أُخرى أهمّها: محبّة الزوج والتضحية في سبيل سعادة الأسرة. وكذلك الصبـيّ منذ طفولته إذ يبدؤون بإعداده للزواج الموعود ويباشرون تعليمه أو وضعه عند معلّم صنعة ليتعلّم منه كسب رزقه. أمّا اليوم فإنّك تجد الشباب في حيرة وضياع!!.. سألت أحد الشباب: "ماذا تخطّط لمستقبلك وقد بلغت حدود الثلاثين؟". أجابني: "لا أعرف.. الدراسة لم أتابعها.. وإذا تابعتها فأنت ترى ماذا سأربح مادّيّاً؟! وبالنسبة إلى الصنعة فأنا لم أنجح في أيَّة مهنة حاولت تعلّمها.. والآن أنا "صايع" على باب الله!". ثمّ ضحك مقهقهاً وتابع: "لا بأس، أفكّر في الهجرة كغيري". ولمّا سألته: "ومتى ستفكّر في تكوين أسرة؟". صرخ في سخريَّة: "بَلا زواج وبَلا مصايب.. ألا ترى مَن يتزوّج إمّا ينتهي في محكمة أو يأكل ملبّسة" (أي جلطة).. لم يصدمني جوابه لأنّ هناك أزمة في الواقع الذي نعيشه، أزمة حقيقيَّة. فمؤسّسة الزواج بدأت تتعرّض للخطر القادم إلينا من الغرب الضائع كأنفلونزا الطيور.
قال الأب لويس إيفلي في كتاب "حُبّ وزواج": "إنّ الزواج هو إرادة حُبّ… وهذه الإرادة هي الحرص على البقاء أحياء.. (لو كنتُ أفضل لكانت زوجتي أقلّ سوءاً). يجب ألاّ نسجن الشريك الآخَر (أنا أملكها، لقد تزوّجتها، لديّ زوجة أو لديّ زوج) لكنّ النموّ الحياتيّ والبهجة الزوجيَّة هما عمليَّة خلق يوميَّة".
مَن المسؤول؟! لا أملك الجواب. ربّما جميعنا: الكنيسة بكاملها.. الإكليرُس والعلمانيّون.. ربّما ظروف التطوّر الوافد إلينا باسم "روح العصر". ولكن، ألا يجدر بنا دقّ ناقوس الخطر ووعي خطورة الحال قبل فوات الأوان، ونحن لا نزال نتغنّى بمجتمعنا الشرقيّ المحافظ؟!
 
دعوة إلى القداسة
كنت في زيارة عائليَّة مع عائلات أُخرى نتجاذب أطراف الحديث، وإذا بأحدهم يقول لي: "أنت بطل قوميّ في وسطنا المسيحيّ هذه الأيّام بإنجابك أربعة أولاد". وتابع متهكّماً: "ولكن ماذا ستفعل لمستقبلهم، يا شاطر؟". قلت له: "نحن لا نملك سوى اللحظة التي نعيشها أمّا المستقبل فهو بيد الله. حين أنجب آباؤنا عشرة أولاد أو أكثر.. لم يفكّروا في مِثل تفكيرك الذي تعيش فيه". ثمّ تابعت: "وإذا أراد الله أن يختار أحد أولادي للدعوة الكهنوتيَّة أكون في غاية السرور". مع انتهاء كلامي علا الصراخ والضحك، وصار كلّ واحد يُدلي بدلوه! فقال أحدهم: "مجنون". وأُخرى أضافت: "بنات هالزمن بنات موضة وفقش مو رهبنة". وثالثهم علّق: "شوف قسوس اليوم و…". ما عدت أتمالك نَفْسي فصرخت بشدّة من ألمي: "إنّها خطوط حمر.. أبداً لا نهزأ بها، يمكنكم أن تتكلّموا بما تشاؤون. ولكن أن نقف موقفاً ساخراً أو رافضاً في شأنٍ إيمانيّ حياتيّ فهذا لا أقبل به أبداً". وها أنا أقول: "إنّي أصرّ على كلمتي. إذا لم تكن العائلة هي الحاضنة والمعدّة لكاهن أو راهبة الغد فمَن يكون إذاً؟". إذا كنّا ندّعي بأنّنا مسيحيّون مؤمنون فكيف نعيش الازدواجيَّة في حياتنا، ربّما هذا ما ينقصنا: أن نكون صادقين مع قناعاتنا وإيماننا!
قرأت ذات مرّة عن أحد الأطفال لمّا سأله معلّمه: "ماذا تريد أن تصبح في المستقبل؟". أجابه الطفل: "قدِّيساً". ففتح المعلّم فاه مندهشاً ومستغرباً. ولكنّ هذا الطفل أصبح فعلاً القدِّيس "دومينيك سافيو". ولكنّ الفضل الأوّل في ذلك يعود إلى أُمّه المؤمنة، المثال الذي اقتدى به.
إذا كان يُقال: "وراء كلّ عظيم امرأة". أستطيع أن أقول: "وراء كلّ قدِّيس أُمّ، ووراء كلّ دعوة مكرَّسة أُمّ". نعم، هذا ما شاهدته على التلفزيون حين كانوا يتحدّثون عن الراهب اللبنانيّ يعقوب الكبّوجي ودَور أُمّه في حياته. وكيف كانت تصلّي دائماً إلى الله ليختار أحد أبنائها للدعوة الكهنوتيَّة. وكيف أنّها لم تكن تنقطع عن صلاة السُبحة الورديَّة قطّ. ماذا نعلّم أولادنا اليوم.. هل تلبية رغباتهم وأنانيّاتهم؟ أو ماذا تعلّمهم أُمّهاتهم.. هل السلوك الحسن و"الموضة" المحتشمة، أم العكس؟
دعت ابنتي رفيقات ورفاق صفّها إلى عيد ميلادها. فسألتهم زوجتي من باب المداعبة: "ماذا تريدون أن تصبحوا في المستقبل؟". أجابوا كلّ حسب رغبته (طيّار، معلّمة، طبيب…). كنت أنظر من بعيد فتقدّمت وسألت: "ومَن منكم يُحبّ أن يصبح كاهناً أو راهبة؟". ساد الصمت بين الأطفال مع الابتسامات.. فنهضت إحدى الأُمّهات وقالت: "هل تريد أن تعقّد أولادنا؟؟ ما شاء الله عليك، ما ناقصنا!". ثمّ تابعت: "العبوا يا أولاد هادا عمّو ليون عبمزح". لا، لم أكن أمزح! ولكنّني شعرت بلطمة على خدّي أدارتني إلى الوراء. وقلت في نَفْسي: آه لو كنت طرحت سؤالاً عصريّاً يناسب هذا الزمن ويناسب الأُمّهات أكثر. أما كان الأجدى لو سألت: "مَن منكم يُحبّ أن يكون مثل الفنّان النطّاط (س) أو المغنّية الراقصة ذات الإغراء (هـ).." ربّما كان سُرّ الجميع ولم ينـزعجوا.
كنت مدعوّاً مع زوجتي إلى الاحتفال بأوّل مناولة ابنة صديقنا. وكان الاحتفال المكمّل، كعادة هذه الأيّام، في أحد المطاعم. وفي أثناء الغداء صاحت زوجة صديقنا عارضةً مواهب ابنتها قائلة: "أسمعيهم، حبيبتي، ما تعرفين". ظننت للوهلة الأُولى أنّني سأسمع ترتيلة دِينيَّة من وحي المناسبة. وكم كنت جاهلاً! إذ إنّ الابنة، على براءتها، بدأت الوصلة بأغنية راقصة لإحدى الفنّانات الصاعدات (اللهلوبات). فأخذت تقلّدها بحركاتها ومشيتها وغنجها. ومع ثوب المناولة الأبيض أخذ الصليب التَذكاريّ الخشبيّ المتدلّي من رقبتها يهتزّ يميناً ويساراً وسط تصفيق الحاضرين.
لم أتمالك ذاتي كالعادة. وبعد انتهاء الوصلة قلت للأُمّ: "مبروك. إنّ لابنتك مستقبلاً واعداً، وخاصّة أنّها من كثرة مشاهدتها التلفزيون حفظت الأغنية مع الحركات تماماً أكثر من "فعل الندامة"!!". نابتني كالعادة نظرة حادّة معاتبة مع بعض الكلمات من العيار المتوسّط بحجم المناسبة!
أمثال هذه الطفلة البريئة كثير. والأهل من ورائهم والشاشات والصرعات المغرية من أمامهم. سألت نَفْسي: إلى متى نبقى نستهتر بالمقدَّس. حتّى الطهارة نحوّلها إلى لهو وعبث، والقِيَم الدِينيَّة نميّعها، والمقدَّسات أصبحت عند الكثيرين بالية. ثمّ همست في أذن زوجتي قائلاً: إذا كان الجيل الذي نعدّه بأنفسنا من هذا النمط فلا نلومنّ حالنا على المستقبل لأنّنا سنحصد غداً ما نزرعه اليوم.. وبئس الحصاد‍!
نقلاً عن نشرة أبرشيّة حلب للأرمن الكاثوليك، تحن عنوان: "في صميم العائلة"، العدد 1-4، 2005