من هم عظماؤك ؟

عن جريدة النهار اللبنانية

كل منا له مثال يعظمه او يقتدي به لان كل انسان له تصوّر للاعلى او للاسمى. فعظيمك الانسان الجميل او الغني او السياسي او المثقف او القديس. قل لي من عظيمك اقل لك من انت. هذه هي طريقة لامتحان قلبك امام الحقيقة.
انا افهم ان تحب الجمال. هذا شيء لا يحيد عنه الابرار اذا استقلّوا روحياً عن هذا العالم لكنه مسعى باطل اذ لا تقدر كما قال السيد ان تزيد على قامتك ذراعاً واحدة، ان تقصّر مثلاً انفك الضخم او ان تغيّر لون عينيك. لا تستطيع ان تقتدي بالآخر تشريحياً ولو اقتديت بالاناقة. حتى هذه لا تُكتسب اكتساباً اذ تحتاج الى ذوق فيك. ثم ما يعني الجمال وما هي فائدته في العمق؟ اذا سحرت الصبية بذكاء مفرط او سمو خُلق تستغني عن فتنة جسدها. خذ مسافة من المنحوت البشري لانه ليس مكان لقاء حق. هذا سر الله في مخلوقاته وليس لك فيه شيء.
راقب اعجابك لان كل اعجاب التزام كما علّمني مرة بطريركي السيد اغناطيوس الرابع. ما تتأمله اعرف مداه واحتشم في الكلام لان انفراط الكلمة يؤدي الى التفرّط بالعمل ودع الله وحده يسرّ بخلائقه.
بقوة هذا الخطر اغراء نفسيتك بالمال هذا الذي قال الله عنه انه ينافسه في الربوبية وقال فيه بولس مفسراً: "محبة المال اصل كل الشرور". الاكتناز فرصة عشق والعشق له مكانة موقتة في نمونا العاطفي حتى ينتهي بالزواج. اما استمراره فمصدر اضطراب او خلل مقيم حتى يضربه الله بنعمة من عنده. هذه شهوة عدّها آباؤنا من الشهوات المؤذية. اذا ادركت سلطانك على المال وجعلته لا شيء في عينيك فتدبّر امره بمشاريع عظيمة او اغدقه بالاحسان. عندئذ يعظم في عينيك الكريم من اصحاب الثراء لان هذا يكون قد صار محباً ويكون قد تحرر من رؤية نفسه ذا كرامة خاصة.
أنا ما قلت لك الا تجتهد لتحصيل الثروة بالطرق المشروعة. ولكن اذا لم يحصل هذا فتبقى على بهائك الروحي وعلى فهمك وتأكل خبزك بعرق جبينك وتكتفي بما تيسّر اي ما اتاك من يسر الله.
خشيتي من الوفرة لانها باب السلطة والسلطة طريق الى التسلّط. اذ ذاك انت معبود. واذ ذاك اخشى عليك منافسة الله. خوفي ان تشتهي ان يتوسلك الناس وان يتملقوا حولك اشتهاء منهم لبعض مما عندك. عند ذاك لا يقيمون معك علاقة انسان بانسان لانك قد صرت فرصة لشهوتهم وقطعت حقاً علاقة القلب بالقلب.
في كل هذا اسهر على استقلالك عما بين يديك، عما تعطيه وما تأخذه واسع فقط الى انسكاب قلبك في قلوب الآخرين بالوداعة غير مقتحم احداً تجد ميزاناً لاستعمال المال. هذا يهديك الى العطاء والعطاء يزيدك محبة.

***

اما السياسة عندنا فهي، في واقعها، ويلة الويلات وان كان لا بد منها، وفي العالم اجمع هي كابوس على من يقوم بها ان كان مستقيماً، وتجاورها اخطار كثيرة في الديموقراطيات اذا انحزب الناس ام لم ينحزبوا. ان يكون عندك سلطة وتمارسها بلا شهوة فأمر يكاد يكون مستحيلاً. انا لست اقول الا تتسيس ففي هذا خدمة للبلد، ولكن اعرف الا تدوس الناس وان تخاصم بشرف، بلا شتيمة ولا شماتة من اجل علو البلد ونقائه وقوته. قد لا يكون شيء فيه ترهب مثل النشاط السياسي. قد عرفنا ممن تبوأ اعلى سلطة في لبنان كادت طهارته تبلغ حد القداسة وفهم شعبنا في اويقات ان خدمة البلد في الادارة والقضاء والجندية ممكنة نقاوتها. جل ما اوحي به اليك الا تتزلف فالزلفى امام انسان آخر تقزّم. اجتنب هذا وكن مرفوع الرأس في دنياك اي مطأطئه امام الله وحده.
صعوبة المواطن العادي ان تقويمه للوضع السياسي يتطلب معرفة كبيرة بما يجري وهذا لا يتوافر الا لقلة. والصعوبة الثانية في البلدان الصغيرة التأثر بعوامل المنفعة الخاصة والطائفية وما اليها وهذا فيه بعض من خوف. وهذا ليس غريباً عن بلدان كبيرة. فعندما تتبعت الانتخابات الرئاسية الاخيرة في فرنسا لاحظت ان عناصر كثيرة في الاختيار لم تكن دائماً اسباباً سياسية واقتصادية وما اليها ولكن كانت ثمة عناصر عاطفية كثيرة لا تمت الى الفحص السياسي بصلة.
كن في كل هذا داعية خير وداعية فهم وتحاب بين الطوائف واقرب الى الوفاق ولو كان في الوفاق بعض من تسويات تخسر انت فيها ونحن لا نعرف دائماً الاقوم اذ السياسة في الاخير تجربة وان باتت ضمن الاخلاق. تحصن بهذه واعرف وفي بلدنا لا تتبع الذي يقوم لك بخدمة شخصية فله فيها حسابات، ولكن انتصر لمن اختبرته محباً للبلد ساعياً اولاً الى وحدته. من هنا انك تستطيع بما هو ممكن ان تستقل عن الدوافع العاطفية ليبقى ميزانك صحيحا.
واذا علمت ان معرفتك بهذا الزعيم او ذاك خيبتك فليكن لك خيار آخر وليس في التغيير عيب لاني اقول لك ايضا اننا في السياسة في عالم التجربة. هذا يذكرني بما قلته لقسس بريطانيين جمعني بهم مؤتمر ديني عندهم منذ ستين سنة. قلت لهم لماذا تعدون الشعوب بخيارات لكم وتغيرون مواقفكم؟ قالوا نحن لا نكذب ولكنا نجرب واذا اخفقت التجربة نحاول اخرى. انا افهم هذا الموقف في لبنان فلا تتحزب بسبب من علاقاتك او عائلتك او طائفتك او كتلة كنت فيها، ولكن حصّل ما استطعت من الوعي الوطني واختر ودقق في حسن اختيارك فترة بعد فترة ولا تعشق اي زعيم بعمى حتى يتبين لك الخيط الابيض من الخيط الاسود.
فوق الجميل والغني والسياسي نموذج المثقف عملا بقول الامام علي: الفهم، الفهم. فقلة التحصيل سبب الخلل في السلوك والخيارات والعصبيات. كان برغسون الفيلسوف الفرنسي يقول انت لا تستطيع ان تعرف لغة وتبغض شعبها. فالمعرفة تذيقك جمالات العقل وغنى الحضارات، وكلما عظمت تزيدك احاطة بالكون كله فيستقيم ميزان القيم عندك فتتحول الثقافة الى قدرة في دنياك وربما كشفت لك عظمة الله وتجعل لك ذوقا رهيفا وغالبا ما قادتك الى تهذيب كلامك واستقامة تعاطيك وتبطل عندك الكسل. انها ليست كثرة معارف. هي تنوع في المعارف ينزل الى القلب وكثيرا ما طهرت الاخلاق، فالمثقف الكبير لا يكذب لابتغائه الموضوعية ولا يتحزب لنفسه في النقاش ويسلم للحقيقة اذا انكشفت.
احيانا يتفاخر المتعلم بعلمه لكن الشائع ان المثقفين متواضعون ليقينهم ان علومهم اكتسبوها من الاسلاف وقد بنوا شخصيتهم بتعب كبير. وما من شك في ان الجهل مؤذ ولا يعوضه الا البر العظيم.
هذا يقودني الى قناعة لا تتزعزع ان اعظم البشر هم القديسون وهم قلة عزيزة. انها قداسة الله فيهم. فاذا تشبهت بهم تصبح منذ الآن انسانا من الملكوت. ان تقهر شهواتك المضرة في دنياك هو اعلان السماء انك صعدت اليها. هو فرح الله بك ليقود خطاك على الدرجات العلى من السمو. الكون يحفظه الابرار كما يوحي بذلك الكتاب الالهي.
هذه الدنيا المتعثرة خطاها، الرازحة تحت خطاياها لا ينقذها الا الطاهرون وهؤلاء لا يزحزحهم اغراء مهما عظم ولا يتعصبون لمخلوق ويهمهم فقط ان يجيئوا في كل قرار لهم من كلمة الله. هؤلاء وحدهم يعرفون كيف يتصرفون بالمال والسياسة والثقافة وكل مجال من مجالات الوجود. وهم احرار من الغنى اذا كان لهم ومن الفقر اذا كان نصيبهم ولا يفرحهم العلم، وان اضطروا الى معاملة السلاطين فلا يحابونهم وقد يوبخونهم او يلومون باتضاع. انهم ليسوا خارج هذا العالم اذ يأكلون ويشربون ويلبسون ولكن لهذه كلها صلة بقلوبهم.
انهم يحبون حرية الناس جميعا بلا تفريق مذهبي ويسعون الى الحق كائنا ما كان قائله ويرون خيرا كثيرا في كل الديانات ويعترفون بذلك بلا وجل، وسرهم العميق ان لا حد لمحبتهم ولا تمييز لهم بين انسان وانسان في الحب، فاذا جعلتهم نماذج لك ذكرهم وحده ينقذك من الضلال لان دأبهم ان يجعلوا الله في عقلك ونفسك والخيارات. واذا انشددت اليهم تنشد الى كيانك العميق حيث يتكلم الله ويحيي.
واذا جئت من هذا النموذج بعد اهتداء تكتسب حرية الحق، وبعد الهدى لك ان تنصرف الى العلم الكثير والى شيء من البحبوحة ان شئتها والى نشاط وطني حلال وخلاق. القداسة وحدها جمال الانسان في دنياه وآخرته.