العلمنة من وجهة نظر إيمانية

قبل الخوض في هذا الموضوع، ينبغي بادئ ذي بدء تحديد المقصود بعبارة "العلمنة". فالعبارة رائجة كثيراً في هذه الأيام، إلا أن معناها قد يكون مشوّشاً في أذهان الكثيرين. فإذا عدنا إلى الخبرة التاريخية للشعوب التي حاولت أن تطبق العلمنة ابتداء من الثورة الفرنسية، وبشكل أخص ابتداءً من مطلع القرن العشرين، وجدنا أن المقصود بالعلمنة، فصل الدين عن الدولة، بمعنى استقلالية كل منهما عن الآخر. فمن جهة لا تمارس الجماعة الدينية سلطة سياسية ولا تتخذ طابع كيان سياسي يمارس الحكم أو يشارك فيه، مما يجعل الدولة مستقلة لا عن رجال الدين وحسب، بل عن الجماعة الدينية ككل من حيث هي هيئة دينية منظمة لها عقائدها وطقوسها وشرائعها، ومن جهة أخرى، لا تتدخل الدولة في شؤون الدين، فلا تتبنى مذهباً دينياً محدداً (أو أكثر من مذهب)، ولا تسخّر مؤسساتها لدعمه ونشره، ولا تفرض تعاليمه وشرائعه بقوة القانون وبأجهزة السلطة، إنما تعتمد في سنّ شرائعها، العقل وما يقود إليه من قناعة عند أكثرية المواطنين، مما لا يحول دون استلهامها، إذا اقتضى الأمر، بعض ما تنصّ عنه الشرائع الدينية، إذا تلاقت حوله قناعات أكثر المواطنين إلى أي دين أو مذهب انتموا.
إن عدم تدخل الدولة هذا في شؤون الدين يفترض أن العلمنة – خلافاً لوهم شائع ولبعض الممارسات الخاطئة في تاريخها – لا تعني مطلقاً عداء الدولة للدين، ذلك أن اتخاذ الدولة موقفاً معادياً للدين إنما يعني تدخلاً منها في شؤونه، لا يبرره مفهوم العلمنة النقي (هذا ما فهمه الفرنسيون مثلاً أكثر فأكثر بعد أن اقترنت العلمنة عندهم في أول عهدها بعداء للدين كان بالفعل، إلى حد بعيد، ردّ فعل عكسي ضد السلطة السياسية التي كان يمارسها الاكليروس محاولاً أن يعرقل بها حركة التغيير السياسي والاجتماعي). لا بل أن عداء الدولة للدين يعني تبنّيها موقفاً دينياً بمعنى من المعاني، لأن مناهضة الدين إنّما هي تعبير عن موقف من الأمور الأخروية، وإن كان هذا الموقف سلبياً، وبعبارة أخرى فاللادينية هي أيضاً مذهب ديني لا يجوز للدولة العلمانية أن تتبناه كما لا يجوز لها أن تتبنى ديناً من الأديان. العلمنة ليست إذًا أن تعادي الدولة الدين وأن تسعى لملاشاته بكافة الوسائل من إدارية وتربوية وسواها، إنما هي أن تترك الدولة الدين لمجال الضمائر، فلا تتدخل في هذا المجال الحميم لا سلبياً ولا إيجابيًا.
لا بدّ من التأكيد .. رغم النقاشات الحادة أن العلمنة هي عبارة عن إصدار تشريع مدني للأحوال الشخصية، قد يستلهم تعاليم الأديان في هذا أو ذاك من بنوده، ولكنه مبني أساساً على الاجتهاد العقلي وموافقة أكثرية المواطنين المعبّر عنها ديمقراطياً من خلال ممثليهم في السلطة التشريعية. إن قانوناً كهذا لا يلغي بالطبع أحكام الشرائع الدينية المختلفة، إذ يبقى للمؤمن ملء الحق بأن يتقيد بها بشكل اختياري وفقاً لقناعته. فمثلاً إذا أجاز القانون المدني الطلاق يمكن للكاثوليكي المؤمن الذي لا تقرُّ كنيسته إمكانية فسخ الزواج، أن لا يستفيد من أحكام القانون المدني. وإذا كان تصميم تشريع مدني كهذا يثير بعض الحساسيات ويطرح بعض المشاكل، خاصة بالنسبة إلى الإخوة المسلمين، الذين قد لا تجيز نصوصهم الدينية فصل الدين عن الدولة بالقدر الذي تجيزه، لا بل تفرضه، النصوص الدينية المسيحية، فهناك على الأقل أمر لا بدّ منه بنظري، ألا وهو إقرار تشريع مدني اختياري يراعي وضع المواطنين، وهم لا شك كُثُر، الذين، وإن وُلدوا وسُجلوا في طائفة من الطوائف، إلا أنهم، مع ذلك، لم يعودوا ينتمون، على الصعيد الإيماني الوجداني، إلى أي من المذاهب الدينية المعترف .. (كالملحدين مثلاً). فإصدار تشريع مدني اختياري للأحوال الشخصية يمنع من أن تفرض على هؤلاء، مكرهين، كما هي الحال الآن، أحكام شريعة دين لم يعودوا يؤمنون به، مما يشكل خرقاً فاضحاً لحرية الضمير وكرامة المواطن، وهما أساسان لكل نظام ديمقراطي.
إيجابيات العلمنة من وجهة نظر إيمانية
إذا كانت للعلمنة، كما ألمحنا، إيجابيات على الصعيد السياسي، إذ تفسح المجال أمام بروز دولة قوية يتساوى أمامها المواطنون، فتعطيهم وفقاً لحاجاتهم وتأخذ منهم تبعاً لقدراتهم، دون النظر إلى انتمائهم الفئوي، دولة ينصهر المواطنون فيها في بوتقة واحدة، على تعدّد العائلات الروحية التي ينتمون إليها، دولة تعود فيها إلى المواطن كرامته كشخص إنساني فلا يعود يقيّم على أساس حجم طائفته وعلوّ شأن نفوذها، ولا تفرض عليه أحكام طائفة لمجرد انتمائه إليها بصدفة الولادة، إذا كانت هذه إيجابيات العلمنة على الصعيد السياسي والإنساني، فإنني أود أيضاً أن أؤكّد على إيجابياتها من وجهة نظر إيمانية بحتة، إذ أرى أنها لا تقلّ أهمية عن تلك التي وجدناها على الصعيد الأول. هذا التلاقي بين الأصعدة ليس بالأمر الغريب. فالدين، إذا فهم على وجهه الصحيح، لا يتنكّر للإنسان، إنما يهدف إلى تحقيق ملء إنسانية الإنسان، لأن بذلك وبذلك وحده، يتمجد الله مبدع الإنسان وغايته الأخيرة.
سوف أنطلق، في تحديدي لإيجابيات العلمنة على الصعيد الإيماني، من منطلقات مسيحية، ولكنني أعتقد أن الكثيرين من الإخوة الذين لا ينتمون إلى مذهبي سوف يتجاوبون مع زبدة ما سوف أقوله، لأن الله واحد وإن اختلفت نظرتنا إليه، ولأن الحواجز التي تفصل بيننا لا تبلغ إلى علوّ سمائه، كما أنها لا تصل إلى تلك الأعماق التي يتجذّر فيها إيمان الذين يجتهدون بأن يخلصوا لله ويُسلموا أنفسهم إليه، على اختلاف مذاهبهم.
مجمل ما سوف أحاول أن أبينه هو أن العلمنة ليس فقط لا تعارض الإيمان، إنما هي عنصر أساسي في تنقيته وإعادته إلى أصالته. هذا ما سوف يتضّح من الأمور التالية:
إعادة الدين إلى أصالته كعلاقة شخصية حرة بين الإنسان وربّه
فمن جهة تساهم العلمنة في إعادة الدين إلى أصالته كعلاقة شخصية حرة بين الإنسان وربه.هكذا يكون الدين وإلا تحوّل إلى قشور وتمثيل. ذلك أن كل علاقة إنسانية لا تعمق إلا على قدر الالتزام الشخصي الحر بها. فالصديق هو الذي اختارته نفسي بين كل الذين جمعتني بهم ظروف الحياة، والحبيب هو الذي أفرده المحبّ وتعلّق به دون سواه، والوطن لا يصبح وطني لمجرد ولادتي في ربوعه بل إذا ارتضيت أن التصق به في قرارة نفسي. فعلى هذا القياس يمكن القول بأن الدين، وهو يتناول الإنسان في أعماق أعماقه، لأنه يربطه بينبوع وجوده وبغاية هذا الوجود، لا يستقيم إلا إذا كان انتماءً شخصياً صميمياً. فلا يكفي أن أعرف الله رباً للعالمين ومبدعاً للأكوان إن لم أتخذه إلهاً لي وأسلم له نفسي مختاراً. في الطفولة تختار العائلة عني ويكون موقفي الديني امتداداً لموقفها ولموقف الجماعة التي تنتمي إليها. ولكن المراهقة مع ما تحمله من اكتمال للشخصية وولوج في مرحلة الرشد، تفرض عليّ بإلحاح أن أقف من الله موقفاً شخصياً لا يستطيع آخر، أياً كان، أن يتخذه عني، عندئذ أدخل فعلاً في معاناة الإيمان، وهذه تستمر طيلة العمر لأن ظروف الحياة ومراحلها المختلفة وشؤونها وشجونها، كلها تضع إيماني أو عدم إيماني على المحك، كلّها تتطلب مني اتخاذ مواقف وإعادة نظر في مواقفي السابقة.
ذلك هو الإيمان، إذا شئنا أن نأخذه على محمل الجدّ ونحفظ له طاقته الحيّة، الخلاّقة. ولكن النظام الطائفي يطمس معالم الإيمان ويمسخه، محوّلاً إياه إلى مجرد إفراز اجتماعي. فالإنسان، عندنا، لا يُسأل رأيه في موضوع الإيمان، بل تُحدِّد انتماءَه الديني، بصورة آلية، ظروف ولادته وعملية تسجيله في دائرة النفوس، إنه، شاء أو أبى، محسوب من طائفة معينة طيلة حياته وفي كافة ظروفها، يُسجَّل مذهبه هذا على بطاقة هويته، وعلى أساسه يتوظف ويتزوج وتُحلّ خلافاته الزوجية في حال حصولها، ويَنتخب ويُنتخب ويرث ويورث، لا بل ويدفن بعد موته[1]، دون أن يُطلب رأيه في تلك الهوية الدينية التي تُلصَق به إلصاقاً وبموجبها تُحسم أمور تتعلق أحياناً بشؤونه الأكثر صميمية وخطورة[2]. هكذا يُحكم في كثير من الأحوال على الإنسان اللبناني، المصنَّف حكماً في إحدى الطوائف بغضّ النظر عن موقفه الوجداني، أن يبقى تديّنه واجهة اجتماعية لا تعنيه في قرارة نفسه ولا تلزمه في الأعماق، مما ينشئ عنده ازدواجية مؤسفة بين مواقفه الباطنية وتصرفاته الخارجية، ازدواجية تنتقص من أصالته الدينية والإنسانية بآن. فلا عجب، والحالة هذه، إذا كان هذا التدين الخارجي ضئيل الفعالية في حياتنا الخاصة والعامة، شبه عاجز عن توجيه أخلاقنا وتهذيبها. ولا غرابة إذا حصلت، أثناء الحوادث المفجعة الأخيرة، في بلد يدّعي التديّن، كل تلك الفظائع والجرائم التي تشجبها أبسط مبادئ الدين.
أما العلمنة، فإنها تعيد إلى الإيمان حظّه في الأصالة، إذ أنها تجعل كل إمرىء على المحك، فيشعر أن انتماءَه الديني لم يَعُد يُفرض عليه كما في السابق، لأن لا بطاقة الهوية عادت تحدده ولا النظام السياسي ولا القانون، وأنه بالتالي مدعوّ إلى أن يختاره بملء حريته وأن يكون مسؤولاً عن هذا الاختيار وملتزماً به. قد يتخوّف البعض من أن يتقلّص الدين عند الكثيرين إذا لم تعد تدعمه الضغوط الاجتماعية، ولكن قد تديّنًا مبنياً على تلك الضغوط، لا يستحق البقاء بنظري، ناهيك عن كونه ينشئ النفور لدى الكثيرين، خاصة الشباب منهم، ويساهم، بالتالي، في إبعادهم عن الإيمان. فالأفضل أن تتقلّص رقعة التديّن عددياً وأن تزداد نوعيته صفاءً ورسوخاً[3]. إن العلمنة تضطر المؤسسات الدينية إلى إصلاح ما فَسُد فيها لتكسب ثقة أتباعها واستمرارهم في الولاء لها، كما أنها تضطرها إلى مجابهة قضايا الحياة والعصر مجابهة رصينة، خلاّقة، عوض الاكتفاء باجترار رتيب خانق لعادات وتقاليد وتعابير الماضي.
العلمنة تساهم في إعادة الجماعة الدينية إلى أصالتها كخادمة لله، لا كمتاجرة به
إذا كانت العلمنة تساهم، كما بيّنا، في تنقية الهوية الدينية عند الأفراد، فإن لها أيضاً دوراً هاماً في إعادة الجماعة الدينية ككلّ إلى هويتها الأصيلة.
ذلك أن المبرر الأساسيّ لوجود أية جماعة دينية، إنما هو الشهادة لله، والتعاون على خدمته والتقرب إليه. غايتها إذًا ليست في ذاتها، إنما في الله الذي يلهمها ويستقطبها بآن. لا عزة لها سوى عزته ولا مجد لها سوى مجده. فممتلكاتها ومؤسساتها ومعابدها ليست هدفاً بحدّ ذاتها وموضوعاً للزهو والافتخار، إنما هي مجرد وسائل لإشاعة نور الله وتتميم وصاياه. وأفرادها، مهما سما شأنهم، لا يعتبرون انتماؤهم إليها ذريعة لتحصيل الثروات والأمجاد، بل دافعاً لتخطي ذواتهم في سعي متجرّد إلى وجهه الكريم. أما الطائفية، فإنها، بتأكيدها على الوجه الاجتماعي للطائفة على حساب وجهها الروحي، وبدفعها الطوائف في حلبة التسابق على الكراسي والمغانم والنفوذ، تحوّلها عن اتجاهها الأصيل بحيث يلهيها الانهماك بذاتها عن السعي إلى تتميم إرادة الله، وهاجس عزّتها عن واجب تمجيده بالأعمال الصالحة، وينسيها زهوها بشموخ وازدهار مؤسساتها، الغاية الحقيقية لتلك المؤسسات. أما أفراد الطوائف فإنهم يعتادون أن ينظروا إلى انتمائهم الديني، لا من حيث المسؤوليات التي يلقيها على عاتقهم بقدر ما هو من حيث الوظائف والمقامات التي يسمح لهم هذا الانتماء بولوجها، أي من زاوية التهافت على مصالحهم ومكاسبهم الخاصة[4].
مجمل الكلام أن الطائفة، والحالة هذه، تتعبّد لذاتها عوض أن تعبد الله، وتستخدمه تعالى عوض أن تخدمه، تتخذه تغطية لعنفوانها، فتقع في الكفر من حيث لا تدري، علماً أن أخبث أنواع الكفر إنما هو ذاك الذي ينتحل زي التقوى والتدين. ثم أن ذلك العنفوان الطائفي ذات الطابع الصنميّ تسقطه الطائفة على أفراد منها تتخذهم زعماء – وقد لا يكونون من الالتزام الإيماني بشيء – فترى في سؤددهم ونفوذهم تجسيداً لعزّتها ونفوذها، وبالمقابل تَدَعَهم يتصرفون بمقدّراتها كما يحلو لهم ويستغلون حماس أبنائها وفقاً لمآربهم، وفيما يتعارض مع المصلحة الحقيقية للسواد الأعظم من أفراد هذه الطائفة[5]. أما العلمنة، فمن شأنها أن تساعد الطوائف على العودة إلى صفاء هويتها، فتكتشف ذاتها لا أحزاباً مأخوذة بهوى التسلط وشهوة الحكم، بل جماعات عابدة همّها الأساسي تتميم الرسالة التي من أجلها وُجدت، وتسخير كل مقدّراتها في خدمة تلك الرسالة، جماعات لا يتميز فيها أحد عن الآخر إلا بمقدار تجرده وإخلاصه، فقيرة إلى ربها، لا يحوّلها طمع في مكاسب الدنيا عن التماس وجهه والشهادة النبوية الجريئة لنوره وحقّه. أما أفراد تلك الطوائف، فالعلمنة تساهم في تنقية إيمانهم من كل نفعيّة تشوبه، وفي جعله أكثر صفاءً وتجرداً وأصالة….
العلمنة تساعد على إعادة الجماعة الدينية إلى أصالتها كخادمة للإنسان
بهذا الاهتداء إلى ربها، الذي تفسح العلمنة المجال أمامه، تهتدي الجماعات الدينية، بحركة واحدة، إلى الإنسان. ذلك أن النظام الطائفي، بتغذيته الأنانية الجماعية في كل طائفة، لا يفصلها عن ربّها وحسب، بل وعن الإنسان الآخر أيضاً، إذ يدفعها إلى الانهماك في التهافت على مصالحها ونفوذها، جماعة وأفراداً، فلا يسعها، والحالة هذه، أن تنظر إلى الجماعات الأخرى إلا كمنافسات لها وعقبات في سبيل ما تطمح إليه. هذه تتشبث بامتيازات سبق أن حصلت عليها في ظروف مؤاتية، وتنظر نظرة العداء والبغضاء إلى من يحاول انتزاع هذه الامتيازات منها؛ وتلك تسعى إلى مشاركة أوفر في السلطة والمكاسب، ولكنها تبقى إلى حدّ ما أسيرة هذا الطرح الفئوي للموضوع، فلا تتجاوزه كفاية إلى رؤية وحدويّة لوطن يتساوى فيه الجميع بالحقوق والواجبات بغضّ النظر عن انتمائهم الطائفي، وينال فيه كل مواطن حقه من الخدمات العامة وقسطه من المسؤولية بصفته مواطناً وإنساناً، لا بموجب انتمائه إلى هذه الطائفة أو تلك. …..
العنصرية أمر رهيب لأنها تنحر الإنسانية في من يمارسها وفي من يتعرض لها على حدّ سواء، إذ أنني بتجريدي الآخر عن الصفة الإنسانية وارتكابي أعمالاً لا إنسانية بحقه، أكون أنا قد استقلتُ من إنسانيتي وتحوّلت إلى وحش كاسر، لا بل، إذا تذكرنا أن الغريزة تردع الحيوان، أيًا كان توحّشه، عن قتل أبناء جنسه إلا في حالات نادرة للغاية، أكون قد تحوّلت إلى ما هو أدنى من الحيوان، إلى آلة تحرّكها الأهواء المجنونة بشكل عشوائي مدمّر…. فأين الله من كل ذلك التفسخ الفئوي والتناحر الطائفي والعنصرية البغيضة، التي تتخذه ذريعة لها. أين الجماعات الدينية من الرسالة الأصيلة الملقاة على عاتقها؟ من كان موحِّداً بالفعل، لا بمجرد الكلام – وكلّنا ندّعي بأننا موحِّدون – من كان موحِّداً فإنه يؤمن من صميم الكيان أن الله ربّ الناس أجمعين ومبدعهم، أياً كان انتماؤهم الديني، وأن الجماعة الدينية، بالتالي، اذا كانت مخلصة حقًا لربها، فهي في خدمة لا أعضائها فحسب، بل في خدمة الناس أجمعين، هؤلاء الذين يعتبرهم الإنجيل كلهم أولادًا لله يوليهم تعالى جميعًا عنايته، حتى اذا ابتعدوا عن الصراط المستقيم، إذ "يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين" كما قال السيد المسيح، هؤلاء الذين يقول عنهم الحديث النبوي الشريف "الخلق كلهم عيال الله وأحبّهم إليه أنفعهم لعياله[7]". فالجماعة الدينية وجدت بالتالي، لا للانهماك بذاتها والاستخفاف بمن سواها، مما يجعلها تنحرف إلى صنمية التعبّد للذات، بل لافتقاد الوجه الكريم الذي تعبده خارج حدودها أيضًا، فتجد انعكاسات له في كل الذين منحهم الباري نعمة الوجود وجعلهم شركاء لها في الإنسانية. ….
المقال هو محاضرة ألقاها الكاتب في 4 تموز 1976 نقلاً (بتصرّف) عن موقع "حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة".
هوامش:
[1] كتب سلام الراسي: "يُنسب إلى مفكّر لبناني راحل قوله: "رجال الإكليروس في بلادنا، عندهم مفتاح السماء، ومفتاح القبر، فإذا كنت قد قررت أن تستغني عن السماء، فهل بإمكانك أن تستغني عن الدخول إلى القبر؟" سلام الراسي: في الزوايا … خبايا! مؤسسة نوفل، بيروت، الطبعة الثانية، 1979، ص 7.
 [2] كتب المطران جورج خضر بهذا الصدد في مقال صدر له سنة 1963:
"ليس في لبنان حرية دينية بهذا المعنى الكامل لأن لبنان يجبر الناس جميعاً على الانتماء إلى طائفة معينة. وإذا قالوا إنهم ملحدون فلا فرق عنده. الطائفية العقائدية قد لا تهمّ الدولة ولكن الطائفية الانتسابية تهمها. الدولة عندنا، من هذا القبيل، أكثر الدول جحوداً لأنها لا تبالي بيقين الناس أو شكّهم وترصفهم جميعاً في الكِتَل الدينية القائمة ضمن الحدود. وهذا يعني مثلاً أن اللبناني الذي نشأ في المسيحية وتركها مُجبَر على قبول بركة الكاهن ليتزوج. والزواج عند النصارى سر من أسرار الكنيسة وعمل غاية في القدسية يتهيأ الإنسان له بالتوبة والصلاة. الرجل الذي لا يؤمن بشيء من هذا عرضة لارتكاب الرياء والكاهن يجد نفسه أمام مشكلة وجدانية لا حلّ لها إذ لا يجوز له أن يقيم الصلاة لغير مؤمن.".. جورج خضر : حديث الأحد، منشورات النور، بيروت، 1970، ص 86 – 87
[3] يقول المطران جورج خضر بهذا الصدد، في مقال صدر له سنة 1966: "عندنا أن ألمؤمن قوي بالله لا بالأنظمة وأن جماعة المؤمنين مدعومة داخلياً بالنفحة الروحية لا بتسلطها على الدولة لتنفذ لها أحكاماً.".. جورج خضر : تساؤلات حول الزواج المدني، في حديث الأحد، منشورات النور، 1970، ص 414.
[4] وبالتالي، فقد يكون انتماؤهم الطائفي أبعد ما يكون عن الايمان الصحيح. يقول المطران جورج خضر في مقال له صدر سنة 1965: " الدستور (اللبناني) يقوم على نظام طائفي يستتبع التناحر على المناصب وتنازع مصالح يجعلان المرء متعلقاً بالطائفة التي ينتمي إليها لا إيماناً منه بدين بل دفاعاً عن مغنم".. جورج خضر: المسيحية والإسلام في لبنان، في حديث الأحد، منشورات النور، بيروت، 1970، ص 237.
[5] وقد كتب المطران جورج خضر بهذا الصدد في مقال آخر صدر له سنة 1965: "النظام الطائفي في لبنان، ماذا يعني في آخر المطاف، سوى سيادة الزعماء السياسيين، المتمولين من كل طائفة؟". جورج خضر: الاله العربي، في حديث الأحد، منشورات النور، بيروت، 1970، ص 259.
[7] وما أجمل، بهذا الصدد، تلك العبارة التي تلفظ بها جندي في "جيش لبنان العربي" من عكار، ونشرتها جريدة "السفير"، إذ قال: "لسنا طائفيين، لأننا نعبد "رب العالمين" جميعاً، وهو ما يأمرنا به الاسلام" ("السفير"، 3 أيار 1976، ص 4).