مريم المجدليّة

 قبل انسحاب يسوع من عرس قانا الجليل، وقد حوّل الماء إلى خمر طيّبة جداً، حدّقت مريم المجدليّة بنَهم في عينيه. لقد آنَست بنات العنب، وها هو من يصنعها بجودة، وبدون تعب. لقد اعتادت الحصول على الأشياء بدون تعب! أعجبها يسوع في الحصول على الأشياء بدون تعب!..فكان لها معه لقاء.. لا بل لقاءات.. ولكن ليست بدون تعب!!..

يبدو أن يسوع لا يغير الأشياء وحسب، بل الأشخاص أيضاً!..
يبدو أن مريم المجدليّة، لها دَور في حياة الناس، كدَور العظماء. تُدعى إلى الأفراح لتغني وترقص وتزيدها فرحاً. وفي الأحزان، هي أكثر من يتأثر ويبكي. وعندما يصاب أحد بمشكلة أو بمصيبة، دون كلمة، تتولّج مداواته..تتعطل لغة الكلمة!..
الجميع يعرفها، ولا أحد يتعرّف إليها. وهي أيضاً لا توّد أن تتعرف إلى أحد، مع أنها تعرف الجميع، بتفاصيل آهاتهم، وحرارة دموعهم، ورعشة قلقهم، ونشوة لذّتهم. تعرف كل التفاصيل بدقة، وتحفظها في قلبها بصمت.
تعيش وحيدة كالأنبياء، مع أن الناس لا يفارقونها.
يدخلون إليها بلا أسماء، ويخرجون من عندها بلا أسماء، وكأنهم يبحثون عن آدمٍ جديدٍ يسميهم كما فعل الأول بالخليقة الأولى. لأنهم لو تسموا عندها لفقدوا أسماءهم الحقيقيّة، فالأفضل أن يأتوا إليها غرباء، ويتركوها غرباء.
مريم.. أهذا هو اسمها الحقيقي، أم أنها غريبة مثلنا، تستعير الاسم وقت تحتاجه؟.. هل لها أبوان وأهل مثلنا؟.. أم أنها آتية من بلد غريب وزمن غريب؟..
ربما..
كان أبوها، ذاك قتله الرومان لأنه كان من جماعة الغيورين، التي كانت تُشعل الفتن ضد المحتل الكافر. فلم تجد أمها كسرة الخبز بعد موت زوجها، وقد كانت مريم آنذاك ابنة عشرة سنوات.
كانت أم مريم من بقعة المجدل، وكانت هي الأخرى تسمّى المجدليّة. كانت جميلة جداً، وساحرة جداً، وجذّابة جداً.. حاولت أولاً أن تعتاش من أعمال الغزل والحياكة والخياطة، ولكن مستخدميها فُتنوا بجمالها، وشيئاً فشيئاً بدأ الناس يتهامسون حول صيتها ويقولون: لا دخان من دون نار، ومع كثرة الأقاويل صارت النار متأججة وواضحة وضوح النهار.
تقول جدتي: لا تفرحوا بولادة البنت الجميلة!..
يقول الناس: لا تفرحوا بولادة البنت مطلقاً!..
مريم ابنة أمها، جميلة، وأجمل من أمها.. ساحرة وأكثر سحراً من أمها.. جذّابة وأكثر فتنةً من أمها. خلفت أمها بجدارة في لقب "الخاطئة" وأبدعت، حتى أنه يخيّل أن فيها سبعة شياطين. ومع ذلك كله كان معظمهم يتردد إليها، فيرتاح من مسؤوليّة اسمه ومتطلبات موقعه.
اللحظة عندها لذيذة جداً،
ألأنها تُختَبر في العتم والسر؟..
(تنويه: هذا النص هو خواطر لا أكثر، ليس تاريخيّاً ولا لاهوتيّاً..)
الإنسان يحب العتم، لأنه يحتاج إليه ليرتاح من صلابة النور.
ويحب السرّ أيضاً، ليرتاح من ثقل الحقيقة.
إن نفسيّة الإنسان تقسم إلى طبقتين: "وعي"، و"لاوعي". الوعي هو جزيرة صغيرة عائمة في بحيرة اللاوعي الكبيرة. الوعي هو ما يرتبط مع الذاكرة، نستحضره وقت نشاء، ويحضر هو أيضاً بنفسه وقت اللزوم. أما اللاوعي فهو ما يختفي فيها، ويُكبت، ويرقد في "النسيان"، ويبقى في نفسيّة الإنسان، لكن دون ارتباط مباشر بالذاكرة النشطة.
إن اللاوعي يتحكّم في تصرفاتنا ومواقفنا ومشاعرنا وأجسادنا. ولأنه لاوعي لا نعيه. أي أن هناك الكثير من جوانب حياتنا، إن لم نقل معظمها، تظهر بفعل لاوعينا. فنتساءل عن سبب هذا التصرف أو عن ذاك الموقف دون أن نعرف. وكأن لا حريّة لنا!..
هناك تصرفات أو أفعال تصدر عنّا، نعتقد أن سببها هو أمر ما، في حين يكون "الدافع" الحقيقي لها هو آخر، لا يصارحنا بنفسه.
لولا الكبت والنسيان في حياة الإنسان لأصيب بالجنون.
لو أن كل شيء يبقى في الذاكرة النشطة لانفجر الدماغ وصار صاحبه أشلاء..
أما العتم فهو نعمة للإنسان لأنه فيه ينام. وفي النوم يستيقظ اللاوعي ويتحرر، دون أن يرتبط بالذاكرة طبعاً، لذلك لا يُقلِق، فتُظهِر الأحلام مكبوتات الإنسان، ولكن بطريقة حرة، فنيّة ورمزيّة، وسريعة، يتسرّب بعضها في الأحلام.
يؤكد فرويد، كبير علماء التحليل النفسي، أن الطاقة الجنسيّة في الإنسان، ويسميها Libido، هي أساس طاقاته وحياته النفسيّة. وهي، لكونها بطانة اللاوعي، تُسيّر الإنسان.
الجنس يسيّر الإنسان!..
الأرض تدور حول الشمس، لا العكس.
الأرض كوكب صغير جداً في اتساع الكون الفسيح.. 
إذاً: لسنا محور الكون!… (كوبرنيك وغاليله)
الإنسان حصيلة مسيرة نموٍّ في الطبيعة يتأصّل فيه الحيوان..
لسنا محور التاريخ!.. (داروين)
اللاوعي هو سيد الإنسان، يجعله يتصرف ولا يعرف لماذا.. لسنا محور الذات!.. (فرويد)
الجنس!…..
وماذا بعد؟!..
إن الجنس يسيطر على مواطني المجتمع الشرقي على نحوٍ كبير، حيث يظهر في الكلام الذي يحتمل التأويلات، والنكات والحزازير والرموز وطريقة اللباس والتزيّن والأغاني والرقص….، ومع هذا كله، يخاف هذا المجتمع الجنس والكلام عنه مباشرة، يخاف تقديسه كما وجد في فكر الله. فالكلام عن الجنس هو من "المحرمات".
انطلاقاً مما سبق نستنتج:
العتم والسرّ عند "الخاطئة" يمنحان الانسجام في حياة الرجل، الذي يترك اسمه جانباً، ولو للحظات قد تدوم ليلة، ويختبر "المحرّم" دون رقابة النور وقيود الشريعة والدين والمجتمع.
لا يحمل الرجل "الخطيئة" فقد تكفّل المجتمع والتاريخ بأن يحمّلها "للخاطئة". التي يحتّم دورها عليها ذلك. فإن لم تكن "الخاطئة" فماذا تكون؟!..
مع تركه اسمه، يترك همومه وصعوباته وجمود وعيه، المتصلّب بأنا المجتمع القاسية، يصبح طفلاً..
يقول نيتشه: في قلب كل رجل يوجد طفل. وأتابع فأقول (عذراً منك يا نيتشه!): غالباً ما تظهر هذه الطفولة، للحظات قد تستمر قليلاً، في اختبارات الجنس المحرّم (وحتى غير المحرم شكلياً، على أساس أن الجنس، لكونه جنساً، يحمل طابع التحريم أو أقله التعتيم).
 
لا تخرج المجدليّة من بيتها إلا في المناسبات. وإن خرجت عن المألوف أشير إليها بالبنان.
خرجت مرةً. حاول المتشددون من الغيورين زملاء أبيها رجمها، ليقتلوها كما قتلوا أمها من قبل. فبعد مطاردتها، جعلوها وسط حلقة. وجعلوا يسوع يتحلق معهم حولها وطلبوا إليه أن يحكم عليها، فقال لهم، بعد أن انكبّ على الأرض يخط بإصبعه: من منكم بلا خطيئة فليبدأ ويرمها بالحجارة. تكسّرت الحلقة! ولما توارى الجميع، المسنون قبل الشباب، قال لها يسوع: يا ابنتي ولا أنا أحكم عليك، انطلقي ولا تعودي إلى الخطيئة.
كان هذا اللقاء مع المجدليّة هو الثاني بعد عرس قانا الجليل.
ولكن هذه المرة،

كانت هي الماء الذي يتحول إلى خمر..

عن القديسة تيريزا