على مسافة سنة من محاضرة البابا بندكتس السادس عشر في ريغينسبورغ

مقابلة مع أمين سر المجلس الحبري عدالة وسلام، المونسينيور جامباولو كريبالدي

روما، 12 سبتمبر 2007 (ZENIT.org). –

في 12 سبتمبر 2006، بمناسبة زيارته الرعوية إلى بافاريا، ألقى البابا بندكتس السادس عشر   محاضرة تعليمية في القاعة الكبرى في جامعة ريغينسبورغ بعنوان: "الإيمان والعقل والجامعة: ذكريات وتأملات".

جميعنا يذكر الوقع الواسع الذي ناله هذا الخطاب والنقاشات، العنيفة أحيانًا، التي تلته.

على مسافة سنة من هذه المحاضرة، وبعد أن هدأت النفوس، يبدو هذا الخطاب كمَعْلَم هام في تعليم الحبر الأعظم، وفي حياة الكنيسة نفسها.

بحسب المونسينيور كريبالدي "إن محتوى المحاضرة الجوهري، ما وراء التفاسير المتكلفة، وعمق الفكر المعروض يجعل من هذه الوثيقة نصًا لا يمكن تجاهله، غني بالدلالات البعيدة النظر حول موضوع العلاقة بين الإيمان المسيحي والعقل البشري، بين الكنيسة والعالم، بين المسيحية والأديان الأخرى".

على مسافة سنة من المحاضرة، طلبت زينيت إلى أمين سر المجلس الحبري عدالة وسلام، المونسينيور جامباولو كريبالدي أن يعلق على ذلك النص العميق رغم قصره.

 
* * *

صاحب السيادة، هل يجب اعتبار محاضرة ريغينسبورغ واقعًا جديدًا في تعليم البابا بندكتس السادس عشر، ومعْلمًا هامًا أو يجب اعتبارها كاستمرارية طبيعية لما قاله البابا في ما قبل؟

كريبالدي: كِلا الأمرين. فمحاضرة ريغينسبورغ هي نص ذو تأثير نادر وقيمة كبيرة إن من الناحية النظرية أو من الناحية التواصلية.

في الوقت عينه، تعرض المحاضرة علينا، بشكل واضح المعالم، تعاليم بندكتس السادس عشر السابقة، ومن بينها الرسالة العامة "الله محبة"، ويمكنني أن أقول أيضًا أنها تعرض علينا بعض ملامح لاهوت يوسف راتسنغر، بدءًا بكتابه "مدخل إلى المسيحية" (1969)، الذي يتضمن كل الأفكار التي تم التعبير عنها في ريغينسبورغ.

 

بنظركم، هل منع الجدل الذي تعرضت له المحاضرة من تقبل الرسالة التي حملتها بشكل صحيح؟

كريبالدي: أعتقد أن الجدل الذي نتج، بالرغم من دوافعه التي لم تجد ركيزة في خطاب البابا، كان تعبيرًا عن الاعتراف بقوة الحقيقة المكنونة في الخطاب.

ففي ريغينسبورغ لم يضيع البابا الوقت في أسئلة هامشية، بل ذهب مباشرة إلى المسألة الرئيسية المتمثلة بقناعة المسيحية بأنها الديانة الحقيقية.

حتى ولو قيل هذا بمحبة – لأن المسيحية هي أيضًا ديانة الحب – فهذا الأمر لا يروق إلى الكثير من الآذان.

 

لقد أسهم الجدل في تركيز الانتباه على الإسلام. هل أدى هذا الأمر بنظركم إلى إغفال عناصر أخرى هامة في المحاضرة؟

كريبالدي: بالنسبة إلى الرأي العام أعتقد أن الجواب للأسف هو نعم. لهذا من الضروري الرجوع إلى دراسة المحاضرة بتروٍ. وعلى مسافة سنة من المحاضرة، صدرت مؤلفات كثيرة، وعقدت مؤتمرات عالية المستوى، وكرست أعداد كاملة في العديد من المجلات لموضوع ريغينسبورغ. وهذا علامة بأن المشاكل التي أشار إليها البابا ليست مواضيع سطحية.

أعتقد أن هنالك موضوع هام وقد بقي في الظل إذ طغت عليه مواضيع أخرى. في مطلع حديثه، يتحدث البابا عن "تماسك داخلي في عالم العقل"، أي ما يمكننا تسميته بحسب التسمية القديمة: وحدة المعرفة.

في الماضي، كانت الجامعة تعيش بهذه القناعة، أما اليوم فالأمر لم يعد كذلك. أود أن أذكر بأن الرسالة العامة "الإيمان والعقل تقول بأن هذا النقص يولد ضياعًا في الإنسان المعاصر، وتشير الرسالة إلى أنه من خلال الإمساك من جديد بزمام وحدة المعرفة نجد الأفق الواسع لالتزام المفكرين المسيحيين في الألفية الجديدة.

 

 

هل من الممكن التوصل إلى  توطيد الحوار بين مختلف فروع المعرفة، التي تسمونها وحدة المعرفة، من خلال العقل فقط دون الرجوع إلى المسيحية؟

كريبالدي: يشكل هذا الأمر أحد الأفكار الرئيسية التي نجدها في محاضرة ريغينسبورغ، حيث يتم ربط المسألة بقضية "تطهير" العقل التي يتحدث عنها البابا في رسالته العامة "الله محبة".

لقد قال البابا في أباريسيدا أنه، إذا لم نأخذ الله بعين الإعتبار، تصبح معرفة الوقائع مستحيلة. لذا لا غنى عن البعد المتسامي الذي يضمنه الدين، لأنه ينقذ العقل من الإنغلاق على ذاته ويجعله بالتالي ينفتح على عملية "تحديد ذاتي" تنجيه من الوقوع في أشراك النسبية العدمية.

إن الإيمان، بحسب الرسالة العامة "الإيمان والعقل"، يدفع العقل إلى عدم الاكتفاء بذاته. بهذا الشكل ينقذه من ذاته ويسمح له بأن يكون ذاته، مطهرًا إياه.

 

ولكن، أليس هنالك تناقض بين ما قاله البابا في ريغينسبورغ وما قلتموه لتوكم؟ ففي ريغينسبورغ أشار البابا أن العقل يملك قدرة "تقييم" الأديان، إذا جاز التعبير، لأن ما ليس عقلانيًا لا يأتي من الله. أما حضرتكم فتقولون بأن الإيمان هو ما يقيّم العقل مميزًا بين عقل منغلق وعقل منفتح على المطلق.

كريبالدي: ليس هنالك أي تناقض. الإيمان المسيحي يعرض قناعته بحقيقته، وبالتالي يقبل بأن يطرح معرض الدرس من قبل العقل. ولكن بهذا الشكل، تطرح المسيحية مسألة حقيقة العقل وتدعو العقل إلى النظر في ذاته. فالعقل الذي يجعل من ذاته حدود ذاته، كعقل المذهب العقلاني، أو عقل الفلسفات الوضعية أو العدمية، لا يستطيع أن يقيّم الدين لسبب بسيط وهو أنه ليس عقلاً بالمعنى الحقيقي، لأنه فقد فكرة حقيقته الذاتية.

إن الإيمان المسيحي يقبل بأن يُخضع للتقييم من قبل العقل بكليته، ولكن العقل، لكي يكون عقلاً بالملء، عليه أن ينفتح على الحقيقة المتسامية والمطلقة.

 

وعليه، إذا، البابا يقوم بتثبيت أولوية الإيمان حيث يقول أن المسيحية تقبل بأن يتم فحصها من قبل العقل؟

كريبالدي: نصرح بأن للعقل استقلاليته المنطقية والمنهجية، التي تجعل العلوم المختلفة ممكنة. ولكن، إذا لم يقبل العقل، بشكل مستمر، معونة الحوار مع الإيمان لكي يتنفس، يتعرض لخطر الاختناق.

هناك تعبير للفيلسوف الفرنسي جاك ماريتان يقول بأنه إذا اعتقد العقل بأن عليه أن يغلق على الإيمان في خزنة فإنما يعطب نفسه بذلك. فالأمر الملفت للنظر هو أنه حتى ولو أغلق العقل على الإيمان في خزنة، فهو إنما يقوم بذلك انطلاقًا من إيمان ما. لهذا السبب يقول بندكتس السادس عشر في كتاباته أنه من دون الله نصبح فريسة الآلهة. وهذا الأمر يحصل أيضًا مع العقل.

على سبيل المثال، إن المذهبين الوضعي والعقلاني، بالرغم من تغاير آراء الفلاسفة المنتمين إلى المدرستين الفلسفيتين، ينطلقون من قاعدة إيمان بقدرة العقل والعلم المطلقة لا بل الخلاصية حتى!.

 

وعليه يمكننا القول بأن الإيمان هو نقطة الإنطلاق، إن للمؤمن وإن لغير المؤمن؟

كريبالدي: نعم. وهذا لسبب بسيط ودراماتيكي في الوقت عينه. كتب راتسنغر عام 1969: على كل إنسان، بطريقة أو بأخرى، أن يأخذ موقفًا أمام قطاع الخيارات الأساسية. فالسؤال عما إذا كان العقل مطلقًا أم لا، هو قبل كل شيء سؤال إيماني، طبعًا دون إغفال الدور التالي الذي يلعبه العقل بالذات. من دون الإيمان، لا يستطيع العقل أن يعرف ماهيته الذاتية.

 

وفي الحوار مع الأديان الأخرى، ماذا يأتي أولاً، العقل أو الإيمان؟

كريبالدي: من خلال قراءة متمعنة لمحاضرة ريغينسبورغ، أعتقد أنه يمكننا القول بأن نقطة الإنطلاق هي الإيمان هنا أيضًا. ولكن من خلال الدور الذي يعطيه الإيمان للعقل في الحوار بين الأديان، يمكننا أن نفهم حقيقة الإيمان وحقيقة الحوار.

فالحوار نفسه، إذا لم يكن حقيقيًا فهو لا يأتي من الله. لكي يكون حقيقيًا، على الحوار أن يكون مهديًا من حقيقة العقل التي نتعرف عليها في حقيقة الإيمان.