الكاهن معلّم الكلمة وخادم الأسرار ودليل الجماعة تأهبا للألف المسيحي الثالث: مجمع الإكليروس

 

LE PRÊTRE, MAÎTRE DE LA PAROLE,

MINISTRE DES SACREMENTS

ET GUIDE DE LA COMMUNAUTÉ EN VUE

DU TROISIÈME MILLÉNAIRE CHRÉTIEN

 

حاضرة  الفاتيكان

1999

الفاتيكان، في 19 آذار ‏1999‏

 

الاحتفال بعيد القديس يوسف شفيع الكنيسة العالمية

 

إلى الرعاة أصحاب النيافة والسيادة

 

الكنيسة كلها تتأهب، بروح التوبة، للدخول عن قريب في الألف الثالث لتجسّد الكلمة. إن ما يكنّه خليفة بطرس من الاهتمام الرسولي المتواصل يدفع به إلى أن يتذكّر أكثر فأكثر إرادة مؤسسها الإلهي.

إن المجمع المعنيّ بشؤون الإكليروس قرّرفي الجمعية العمومية في 13-15 ت1 1998، أن يكل إلى كلَّ من الرعاة هذه الرسالة الدورية التي يوجهها بواسطتهم إلى جميع الكهنة. إن الأب الأقدس، في الخطاب الذي ألقاه في هذه المناسبة، أكَّد أن«فكرة البشارة الجديدة تصل إلى ذروتها الشاهقة في التجنّد لليوبيل الكبير». هنا تتقاطع، بإرادة ربانيّة، الطرق المرسومة في الرسالة الرسولية «إطلالة الألف الثالث» وفي الكتب التوجيهيّة الموضوعة للكهنة والشمامسة الدائمين، وفي التعليمات المتعلقة بتعاون المؤمنين العلمانيين في خدمة الكهنة وفي ما سوف يصدر عن هذه الجمعية العمومية. فإذا نفّذنا هذه الوثائق بطريقة شاملة وواعية، أضحى بالإمكان أن نترجم «البشارة الجديدة»  – وقد أصبحت هذه العبارة مألوفة لدينا إلى عمل فعال».

وثيقة هدفها بعث فحص ضمير- باعتبار الظروف الراهنة عند كل كاهن وكل مصفٍ كهنوتي، علماً بأن اسم المحبّة، عبر الأزمنة، هو اسم الأمانة. هذا النص يتناول التعاليم المجمعيّة والحبرية، مع الرجوع إلى الوثائق الأخرى التي يستعين بها الحبر الأعظم: إنها وثائق أساسية لتلبية المقتضيات الصحيحة التي تفرضها الأزمنة ولئلا نخوض عبثاً الرسالة التبشيرية. الأسئلة التي ذيَّلنا بها كل فصل من فصول هذه الوثيقة لا تستدعي أي جواب يُردّ إلى هذه الدائرة، وإنما هي على سبيل المساعدة من حيث إنها تسعى إلى إيقاظ الحقيقة اليوميّة في ضوء التعاليم التي أشرنا إليها آنفاً. إن الذين تتوجه إليهم هذه الوثيقة بإمكانهم أن يستعملوها بالطريقة التي يرونها أكثر فائدة.

نحن نعلم أن ليس من عمل رساليّ بإمكانه أن يتحقق إلاَّ إذا تطوّع له الكهنة تطوّعاً واعياً وناشطاً وذلك بإنهم أول وأثمن أعوان المصفّ الأسقفي. ولذا فنحن نرغب، في ما نرغب فيه، من خلال هذه الرسالة الدوريَّة، أن نساعد أيضاً في اللقاءات الكهنوتية والخلوات والتمارين الروحيّة والاجتماعات الكهنوتية في كل منطقة، في غضون هذا الزمن الإعدادي لليوبيل الكبير وخصوصاً في سياقه.

أمنيتي إلى سلطانة الرسل أن تهدي كنجمة ساطعة خطى كهنتها الأعزاء، أبنائها في ابنها، في دروب الشركة الحقيقية والأمانة وممارسة خدمتهم التي لا بدّ منها ممارسة سخيّة وكاملة؛ وفيما أرجو منها ذلك أتمنى لكم كل خير حقيقي في الربّ وأؤكد لكم خالص التفاني في رباط المحبّة الجماعيّة.

 

                    الكردينال داريو كاستريّون هويوس                                 رئيس المجمع

 

                      +  كسابا ترنياك

                          أمين السرّ



مقدمة

العقيدة التي تصف الكاهن معلّماً للكلمة وخادماً للأسرار ومرشداً للجماعة المسيحية الموكولة إليه قد ترعرعت في الأرض الخصبة التي نما فيها التقليد الكاثوليكي الكبير، وهي بمثابة طريقة للتفكير في هويته ورسالته في حضن الكنيسة. هذه العقيدة الثابتة والدائمة التجدّد بحاجة إلى أن نتأمل فيها اليوم أيضاً بإيمان ورجاء، نظراً إلى البشارة الجديدة التي يدعو إليها الروحُ القدس جميع المؤمنين، عبر شخص الأب الأقدس وسلطته.

من الضروري أن يقوم في الكنيسة جهد رسولي متنامٍ، فرديّ وجماعي معاً، متجدّد وسخي. على الرعاة والمؤمنين، بتشجيع خاص من البابا يوحنا بولس الثاني، عبر شهادته الشخصية وتعليمه الوضَّاء، أن يفهموا بمزيد من العمق أن قد حان الوقت لتسريع الخطى، كما حان الوقت أيضاً للتطلع إلى الأمام بروحٍ رسولي متوقّد، والتأهب لاجتياز عتبة القرن الحادي والعشرين، في موقف يهدف إلى إشراع أبواب التاريخ واسعة أمام يسوع المسيح إلهنا ومخلصنا الأوحد. على الرعاة والمؤمنين أن يعرفوا أنهم مدعوّون إلى السعي بحيث «يتعالى، في السنة الألفيـن، إعلان الحقيقة بقوّة متجدّده: "ها قد ولد مخلص العالم"»[1].

«في البلاد العريقة في تقليدها المسيحي، ولكن أحياناً حتى في الكنائس الحديثة، نجد فئات برمتها من المعمَّدين الذين فقدوا معنى الإيمان الحي أو الذين أوغلوا إلى حدّ التنكّر لكونهم أعضاء في الكنيسة، فراحوا يقضون حياتهم بمنأى عن المسيح وإنجيله. في مثل هذا الوضع لا بدَّ من «بشارة جديدة» أو «إعادة تبشير»[2]. البشارة الجديدة هي إذن، قبل أي شيء آخر، ردَّة فعل والدية من قِبَل الكنيسة، في مواجهة تراخي الإيمان وانحجاب نور المقتضيات الأخلاقية المتصلة بالحياة المسيحيّة في ضمائر عددٍ من أبنائها. والواقع أن كثيراً من المعمَّدين من أبناء عالم لا مبالٍ بشؤون الدين، ومع أنهم لا يزالون يحتفظون بشيءٍ من الإيمان، إلاّ أنهم يعيشون عملياً في اللامبالاة الدينيّة والأخلاقية، بعيداً عن كلام الله والأسرار، وهي مصادر جوهرية من مصادر الحياة المسيحيّة. ولكن هناك أيضاً كثيرين آخرين ولدوا من والدين مسيحيين وربما معمَّدين، لم يتلقّوا أسس الإيمان ويعيشون في الواقع حياةً ملحدة. إن الكنيسة تنظر إليهم جميعاً نظرة حبّ وتوجس في شأنهم خصوصاً ما يُلزِمها بإلحاح بأن تجتذبهم إلى الشركة الكنسيّة حيث يلقون يسوع المسيح والآب بنعمة الروح القدس.

بالإضافة إلى هذا الجهد الذي تستلزمه البشارة الجديدة والذي يجب أن يذكي نور الإيمان في ضمائر مسيحيَّة كثيرة ويذيع بشرى الخلاص في المجتمع، تشعر الكنيسة شعوراً قوياً بمسؤولية رسالتها الدائمة في اتجاه الأمم أي بما عليها من واجب وما لها مـن حق في حمل الإنجيل إلى جميع الناس الذين لا يعرفون المسيح بعد ولا يستفيدون من مواهبه الخلاصية. بالنسبة إلى الكنيسة الأمّ والمعلّمة، الرسالة إلى الأمم والبشارة الجديدة هما اليوم، أكثر من أي يوم مضى، وجهان لا ينفصلان مما وُكِل إليها من رسالة التعليم والتقديس وهداية جميع الناس إلى الآب. حتى الحارُّون من بين المسيحيين وهم كثُر- بحاجة إلى تشجيع ليّن ومتواصل ليسعوا إلى القداسة التي يدعوهم الله والكنيسة إليها. ذاك هو المحرِّك الحقيقي للبشارة الجديدة.

كل مؤمن مسيحي، كل ابن من أبناء الكنيسة عليه أن يدرك ما يترتب عليه من مسؤولية مشتركة وملحة، وخصوصاً الكهنة الذين اختارهم الله، بطريقة فارقة، وقدّسهم وأرسلهم لينادوا بمعاصريّة المسيح ويصبحوا له ممثلين ومبشرين مُخلصين[3].

إذن ضرورة ملزمة لمساعدة جميع الكهنة الأبرشيين والرهبان ليعتنقوا، بطريقة شخصية، ما يترتب عليهم بالأولوية من «مهمَّة القيام بالبشارة الجديدة»[4]، ويكتشفوا ثانية، في ضوء هذا الالتزام، النداء الإلهي للقيام بخدمة ما وكل إليهم من شعب الله بصفتهم معلمي الكلمة، وَخَدَمة الأسرار ورعاة القطيع.

 

 



الفصل الأول

في خدمة البشارة الجديدة

«إني اخترتكم وأقمتكم لتذهبوا» (يو 15، 16)

 

 1.        البشارة الجديدة: مهمة الكنيسة كلها

إن ما قام به الربّ من نداء وإرسال لا يزال راهناً حتى اليوم، ولكنه يكتسي نتوءاً خاصاً في الظروف الحاضرة. نهاية القرن العشرين تتميّز ببعض الظاهرات المتضاربة من الناحية الدينيّة.  فنحن نلحظ، من جهة، درجة عالية من علمنة المجتمع الذي بات يشيح بوجهه عن الله وينغلق على كل مرجعيّة عُلويَّة؛ ولكننا نرى، من جهة أخرى، ظهور مزيدٍ من التَقَوِيَّة الساعية إلى إرواء الظمأ الفطري إلى الله وهو ظمأ ماثل في قلب كل إنسان ولكن دون الوصول دائماً إلى منفذٍ شافٍ. «رسالة المسيح الفادي الموكولة إلى الكنيسة لا تزال بعيدة عن أوجها. ففي نهاية الألف الثاني لمجيئه، إذا ألقينا نظرة عميمة على البشرية، تبيّن لنا أن هذه الرسالة لا تزال في مطلعها، وأنه لا بدّ لنا من أن نتجنَّد بكل قوانا لخدمته»[5]. هذا التطوع الرسالي المُلِحّ يتحقق اليوم، بمعظمه، في إطار البشارة الجديدة في كثير من البلدان المسيحيّة العريقة حيث نلحظ مع ذلك هبوطاً ذريعاً في معنى الحياة المسيحيّة. ولكن هذا التطوع يتحقق أيضاً في نطاق البشرية جمعاء حيث الناس لم يسمعوا بعد أو لم يفهموا حق الفهم بشرى الخلاص التي جاء بها المسيح.

إنه لحقيقة مؤلمة ما نلحظه، في مواقع كثيرة وفي كثير من الأوساط الحياتية، من وجود اناسٍ سمعوا عن يسوع المسيح ولكنهم يعرفون ويقبلون تعليمه على أنه مجموعة من القيم الأدبية العامَّـة، لا التزامٍ حياتي واقعي. ثمة عدد غفير من المعمَّدين الذين يبتعدون عن اتّباع المسيح ويعيشون نمطاً من الحياة مطبوعاً بطابع النسبويّة. لقد أمسى دور الإيمان المسيحي، في كثير من الأحوال، مجرّد عامل ثقافي محصور، في معظم الأحيان، في حيّزٍ فـردي لا أثر له في حياة الأفراد والشعوب[6].

المجالات المفتوحة أمام المهمَّة الرسولية في أعقاب عشرين قرناً من المسيحيّة ليست لا نادرة ولا ضيّـقة. على المسيحيين كلهم أن يدركوا أنهم مدعوون، بقوّة كهنوتهم العمادي، (را 1 بطر 2، 4-5، 9؛ رؤ 1، 5-6، 9-10؛ 20، 6) إلى المساهمة، بحسب ظروفهم الشخصية، في الرسالة التبشيرية الجديدة التي هي بمثابة مسؤولية كنسيّة مشتركة[7]. مسؤولية النشاط الرسالي «تقع أولاً على مصف الأساقفة، وفي مقدمتهم خليفة بطرس[8]». «إن الكهنة، بصفتهم أعوان الأسقف، بقوَّة سرّ الرتبة، مدعوون إلى أن يساهموا في الاهتمام بالرسالة»[9]. يمكن القول إذن أن الكهنة «هم نوعاً ما أول المسؤولين عن هذه البشارة الجديدة في الألف الثالث»[10].

لقد طوّر المجتمع المعاصر، بتشجيع من البحوث العلمية والتقنية الكثيرة، حساً عميقاً باستقلالية النقد تجاه كل سلطة وتعليم، على الصعيد العلماني كما على الصعيد الديني. وهذا يقتضي أن يُفسَّر البلاغ المسيحيّ في شأن الخلاص الذي يبقى دائماً في نطاق السرّ، ويُعلن بذات اللين والقوّة والجاذبية التي تميّزت بها البشارة الأولى، مع اللجوء الحكيم إلى جميع الوسائل الملائمة التي توفّرها التقنيّات الحديثة، ولكن بدون أن يغيب عن بالنا أن الوسائل المستعملة لا يمكن أبداً أن تحلَّ محلَّ الشهادة الشخصية النابعة من قداسة الحياة والسيرة. الكنيسة بحاجة إلى شهود حقيقيين ينقلون الإنجيل إلى كل قطاع من قطاعات الحياة الاجتماعية. وينجم عن ذلك أن المسيحيين بعامة والكهنة بخاصة عليهم أن يتسلّحوا بتنشئة فلسفيّة ولاهوتيّة عميقة وسليمة[11] تمكنّهم من أن يقيموا الدليل على إيمانهم ورجائهم ويشعروا بما يتحتم عليهم من ضرورة إعلانهما بطريقة بنّاءة دائماً، عبر موقف شخصي من الحوار والتفهّم. بيد أن إعلان الإنجيل لا يمكن، ولا بوجه من الوجوه، أن ينحصر في الحوار، وذلك بأن الشجاعة في الحقيقة هي تحدٍّ لمسوّلات التواطؤ وطلب الشعبية الرخيصة والطمأنينة الصغيرة.

ويجب ألاّ ننسى أيضاً، عندما نُقدِم على عمل البشارة، أنَّ ثمة مفردات ومفاهيم درج استعمالها تقليدياً وقد أمست عملياً مستغلقة في نظر الكثير من الثقافات المعاصرة. هناك مقولات كالخطيئة الأصلية وتبعاتها والفداء والصليب وضرورة الصلاة والتضحية الاختيارية والعفة والقناعة والطاعة والتواضع والتوبة والفقر قد فقدت، في هذه القرائن، المعنى الإيجابي الذي كانت تتميّز به في مطلع المسيحية. ومن ثم فعلى دعاة البشارة الجديدة أن يلتزموا الأمانة لعقيدة الإيمان التي لم تنفك الكنيسة تعلمها والحسَّ العميق بالمسؤولية تجاه القاموس العقائدي المسيحي؛ كما عليهم أيضاً أن يجدوا الوسائل الموافقة للأداء المعاصر ويساعدوا في إعادة اكتشاف هذه الحقائق الإنسانية والمسيحيّة الأساسيّة في معناها العميق من دون العزوف، بسبب ذلك، عن التعابير الإيمانية المقرّرة بطريقة نهائية والملخصة في قانون الإيمان[12].

 2.        مهمَّة ضروريّة ولا بديل منها

يعلم الرعاة «أن المسيح لم يُقِمْهم ليتحمَّلوا وحدهم كل الرسالة الخلاصيَّة التي تضطلع بها الكنيسة تجاه العالم»[13]. ومع ذلك فهم يقومون بدور بشاري لا يمكن الاستغناء عنه ولا بوجه من الوجوه. إن ما لا بدَّ منه من بشارة جديدة يفرض إذن بإلحاح ضرورة العثور على طريقة في ممارسة الخدمة الكهنوتية تناسب الوضع الراهن وتبثُّ فيها دينامية جديدة وتمكّنها من أن تلبي، بطريقة ملائمة، الظروف التي يجب أن تتحقق فيها. ولكن لا بدّ من أن يتمّ ذلك بالرجوع دائماً إلى المسيح، مثالنا الأوحد، ومن دون أن تحوّل ظروف عصرنا بصرَنا عن الهدف الأخير. وذلك بأن الظروف الاجتماعية الثقافية يجب ألا تدفعنا وحدها إلى ما لا بدَّ منه من تجدّد رعائي بل ما يجب أن يتوقّد في قلبنا من حبّ للمسيح وللكنيسة.

إن الهدف من كل الجهود التي نبذلها إنما هو ملكوت المسيح إلى الأبد، وتجدّد كل الخلائق فيه.. هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق إلاَّ في نهاية الأزمنة ولكن هذا الملكوت حاضرٌ بواسطة الروح المحيي الذي به أقام يسوع المسيح جسده أي الكنيسة علامةَ خلاص عميمة[14].

إن المسيح رأس الكنيسة وربّ كل خليقة لا يزال يعمل بطريقة خلاصية بين الناس؛ في هذا الإطار تجد الخدمة الكهنوتية محلّها المناسب. لكي يجتذب المسيح إليه جميع الناس (را يو 12، 32)، يطلب من كهنتة مشاركة خاصة. نحن هنا بإزاء تدبير إلهي (إرادة الله أن يجنّد الكنيسة وخَدَمَة الكنيسة في عمل الفداء). بالإمكان، ولا شك، أن نثبّته بوضوح من ناحية المعتقد الإيماني واللاهوت، بيد أنه يتضمن عقبات كثيرة في نظر أناس عصرنا. والواقع أن كثيرين يعارضون اليوم الوساطة الأسرارية والبنية الإيررخية في الكنيسة، ويشكّون في ضرورتهما ودوافعهما.

حياة الكاهن، يجب أن تكون، مثل حياة المسيح مكرَّسة باسمه للتبشير، بطريقة شرعية، بإرادة الآب المُحِبَّة. (را يو 17، 4؛ عب 10،7-10). هكذا تصرَّف المسيح فقضى سني حياته العلنية «يعمل ويبشّر»، (رسل 1، 1) متكلماً  كلام إنسان له سلطان (را متى 7، 29). هذا السلطان كان يأتيه ولا شك أوَّلاً من ألوهيته، ولكن أيضاً، في نظر الناس، من طريقته في التصرف بإخلاص وقداسة وكمال. كذلك على الكاهن أن يجمع إلى السلطة الروحيّة الموضوعية التي يملكها بقوة رسامته المقدَّسة[15] السلطة الذاتية النابعة من حياته الصادقة والمقدَّسة[16]، من محبته الراعوية، انعكاس محبّة المسيح[17]. الإرشاد الذي كان يوجهه غورغوريوس الكبير إلى كهنته لم يفقد شيئاً من معاصريته: «على الراعي أن يكون طاهر الفكر، مثالياً في العمل، كتوماً في صمته، مفيداً بكلامه؛ ليكن لكل من يعمل الخير حليفاً متواضعاً، وليكن، بغيرته على البرّ، حازماً في وجه رذائل الخطأة. إياه أن يتوانى عن حياته الباطنية بانهماكاته الخارجية، أو أن يهمل الاهتمام بالأشياء الخارجيّة، في سبيل الخير الباطن»[18].

في أيامنا، كما في كل زمن، تحتاج الكنيسة إلى دُعاةٍ للإنجيل خبراء في الشأن الإنساني، يفهمون قلب الإنسان المعاصر فهماً محكماً ويشاطرونه أفراحه وآماله، مضايقه وجشونه، ويكونون في الوقت نفسه رجالاً تأمليّين مشغوفين بالله. «ولذلك يؤكد الأب الأقدس في شأن إعادة تنصير أوروّبا، ولكن بتعابير شمولية لا بدَّ من قديسين جدد. القديسون هم الذين بشروا أوروبا. وعلينا أن نتوسَّل إلى الربّ أن يكثر روح القداسة في الكنيسة وأن يبعث إلينا قديسين جدداّ ليبشروا عالم اليوم»[19]. يجب أن نتذكر أن كثيرين من أهل عصرنا لهم عن المسيح وعن الكنيسة فكرةٌ مستوحاةٌ من الخَدَمة المكرَّسين؛ ومن ثم، فشهادتهم الإنجيليّة الحقيقية تصبح أشدَّ لزوماً من حيث هي «صورة حيّة وشفافة للمسيح الكاهن»[20].

في إطار عمل المسيح الخلاصي، بإمكاننا أن نلحظ هدفين متلازمين. هناك، من جهة، غاية نستطيع أن نصفها بالغاية العقلية: وقوامها تعليم الجماهير وتثقيفها لأنها كانت كغنم لا راعي لها (متى 9، 36) وتوجيه الأذهان في اتجاه التوبة (را متى 4، 17). الوجه الآخر قوامه حث المستمعين على أن يوجسوا في قلوبهم الرغبة في التوبة والتكفير عن خطاياهم وإعدادهم لقبول الصفح الإلهي. هذا الوضع لا يزال قائماً حتى اليوم: «الدعوة إلى البشارة الجديدة هي أولاً دعوة إلى التوبة»[21]، وعندما تُلقِّن كلمة الله ذهنَ الإنسان وتحرّك إرادته وتبعده عن الخطيئة، عندئذ يبلغ العمل التبشيري ذروته في المشاركة المثمرة في الأسرار وبخاصة الاحتفال بسر الإفخارستيا. وهذا ما يعلّمه بولس السادس بقوله: «مهمة التبشير إنما هي العمل على التربية في الإيمان بحيث تدفع بكل مسيحي إلى أن يعيش الأسرار حقيقة من حيث هي أسرار إيمان، لا أن يتلقاها بطريقة سلبيّة أو مرغمة»[22].

تفترض البشارة إعلاناً وشهادة وحواراً وخدمة، وترتكز على عناصر ثلاثة متّحدة ومتلازمة: إعلان الكلمة والخدمة الأسرارية وهداية المؤمنين[23]. الكرازة التي لا تعمل على تنشئة المؤمنين تنشئة دائمة ولا تفضي إلى ممارسة الأسرار ليس لها أي معنى، وكذلك المشاركة في الأسرار إذا عُزِلت عن تقبّل الإيمان تقبلاً كاملاً وعن المبادىء الأخلاقية، أو إذا خَلَت من توبة القلب الحقيقية. من المَلحَظ الرعائي يعود المكان الأول، في نظام العمل، ومن الوجهة المنطقية، إلى وظيفة الكرازة[24]. وأما في نظام الهدف أو الغاية فيعود المكان الأول إلى الاحتفال بالأسرار وبخاصة سرّي التوبة والإفخارستيا[25]. فإذا اجتمعت هاتان الوظيفتان اجتماعاً نسيقاً، تمَّ اكتمال الخدمة الرعائية التي يضطلع بها الكاهن في سبيل البشارة الجديدة.

تنشئة المؤمنين مسكونياً هي اليوم وجه من وجوه هذه البشارة الجديدة، يزداد أهمية أكثر فأكثر. لقد حث المجمع الفاتيكاني الثاني كل المؤمنين الكاثوليك على «المساهمة بطريقة فاعلة في الجهد المسكوني» وعلى «احترام القيم المسيحيّة الحقيقيّة النابعة من الميراث المشترك والتي نجدها عند إخوتنا المنفصلين»[26]. ولا بدَّ أيضاً من الإشارة إلى أن «ليس هناك شيء أبعد عن الروح المسكونية من هذه المسالمة الزائفة التي تعكِّر صفو العقيدة الكاثوليكيّة وتطمس محتواها الحقيقي الراسخ[27]». ومن ثمَّ فعلى الكهنة أن يحرصوا على أن تمارَس الحركةُ المسكونية بالتقيد بأمانةٍ بالمبادىء التي بينتها السلطة التعليمية في الكنيسة والتي لا يشوبها أي تصدّع بل تتميّز بتواصل متناغم.



بعض الأفكار للتأمل في

الفصل الأوّل

 

                1.        هل تشعر جماعاتنا المسيحيّة حقيقة وبخاصة الكهنة بضرورة إلحاحية البشارة الجديدة؟

                2.         هل لهذه الضرورة ولهذه الإلحاحية صدىً في الكرازة؟ وهل نجدها في اجتماعات الكهنة وفي البرامج الرعائية وفي وسائل التنشئة الدائمة؟

                3.         هل يسعى الكهنة خصوصاً لتعزيز رسالة تبشيرية جديدة «في وهجها، وأساليبها ولغتها»[28].

                4.         هل يتوسَّم المؤمنون في الكهنوت عطية إلهية، سواء بالنسبة إلى الكاهن أم بالنسبة إلى الجماعة، أم ينظرون إلى الكهنوت من منظار الوظيفة والتنظيم؟ هل ثمة شعور بضرورة الصلاة لكي يُنعم الربّ على الكنيسة بدعوات كهنوتية، ولكي يظل فيها من السخاء ما يؤهلها لتلبية تلك الدعوات بطريقة إيجابية؟

                5.         هل نحافظ، في الكرازة  وفي التعليم المسيحي، على التوازنات الصحيحة بين التفقيه في الإيمان وممارسة الأسرار؟ هل يتميّز النشاط التبشيري عند الكهنة بالتكامل بين الوعظ ومنح الأسـرار، بين مهمة التعليم ومهمة التقديس؟



الفصل الثاني

معلّمو الكلمة

«إذهبوا في العالم كله وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين» (مر 16، 15)

 

1.         الكهنة معلّمو الكلمة «باسم المسيح وباسم الكنيسة»

اعتبار الوحي الإلهي في ذاته يُشكِّل منطلقاً جيداً لنفهم بطريقة صحيحة المهمة الرعائية في خدمة الكلمة. «في هذا الوحي يتوجه الإله اللامنظور (را قول 1، 15؛ 1 تيم 1، 17) إلى البشر في حبه اللامتناهي، كأنما إلى أصدقاء (را خر 33، 11؛ يو 15، 14-15)، ويخاطبهم (را با 3، 38) ويدعوهم ليشاطروه حياته[29]. في الكتاب المقدّس، إعلان الملكوت لا يتحدّث فقط عن مجد الله، بل يبعثه من هذا الإعلان نفسه. الإنجيل الذي تنادي به الكنيسة ليس فقط مجرّد بلاغ بل هو عمل إلهي وخلاصي يختبره الذين يؤمنون ويسمعون ويذعنون للبلاغ ويتقبلونه.

ومن ثم فالوحي لا يكتفي بأن يحيطنا علماً بطبيعة هذا الإله الذي يحيا في هالة من النور لا يُدنى منها، بل يطلعنا أيضاً على ما يصنعه الله لأجلنا بواسطة النعمة. الكلام الموحى يُحيَّن ويُفَعَّل في الكنيسة وبالكنيسة فيصبح أداةً يستعملها المسيح ليعمل فينا بواسطة الروح القدس. فهو، في آن واحد، دينونة ونعمة. عندما نصغي إلى الكلمة نصبح في مواجهة مع الله نفسه الذي يناشد قلوب الناس ويطالبها بقرار لا يستوي على صعيد المعرفة الذهنيَّة وحدها بل يستلزم توبة القلب.

«إن أول واجب يقع على الكهنة، بصفتهم معاوني الأساقفة، هو حمل إنجيل الله إلى الناس أجمعين، وهكذا [] يولد شعب الله ويترعرع»[30]. المناداة بالكلمة ليست مجرد بلاغ ذهني يُنقل، بل هي «قدرة الله لخلاص كل من يؤمن»، (روم 1، 16) ويتحقق دفعة واحدة في المسيح؛ ومن ثم فالمناداة بالكلمة في الكنيسة تتطلب لدى الوُعّاظ أساساً فائق الطبيعة يكفل صحتها وفاعليتها. إن  المناداة بالكلمة، على لسان الخَدَمَة المكرَّسين، تشارك، نوعاً ما، في الطابع الخلاصي الذي يتميّز به كلام الله نفسه، لا بمجرّد حديثهم عن المسيح بل لأنهم يبشِّرون مستمعيهم بتلك السلطة المستحِثّة النابعة من مشاركتهم في تكرّس كلمة الله المتجسّد ورسالته. هذه الكلمات التي نطق بها الربّ لا تزال ترنَّ في آذان الخَدَمَة الكهنوتيين: «من سمع إليكم سمع إليَّ ومن أعرض عنكم أعرض عني». (لو 10/16) وبإمكان هؤلاء أن يردّدوا قول القديس بولس: «لم ننل نحن روح العالم بل نلنا الروح الذي أتى من الله لنعرف ما أنعم الله به علينا من المواهب. وإنا لا نتكلم عليها بكلام مأخوذ من الحكمة البشرية بل بكلام مأخوذ عن الروح فنعبِّر عن الأمور الروحانية بعبـارات روحانية» (1 قور 2، 12-13).

هكذا تبقى الكرازة أشبه بخدمة نابعةٍ من سرّ الكهنوت وتتحقق بسلطان المسيح. بيد أن قدرة الروح القدس لا تضمن بالطريقة نفسها جميع أفعال الخَدَمَة. فبينما هذه الضمانة تُعطى عند منح الأسرار بحيث إن خطيئة الخادم نفسها لا تمنع ثمرة النعمة، هناك أفعال أخرى كثيرة حيث الطابع البشري يكتسب لدى الخادم أهمية كبيرة. هذا الطابع قد يكون مفيداً كما يمكن أن يكون مؤذياً الخصب الرسولي في الكنيسة[31]. ومع أن الطابع الخِدَمي يجب أن يتخلّل المهمة الرعائية كلها، فهذا الطابع يبدو على درجةٍ خاصة من الضرورة في خدمة الكرازة. فبمقدار ما يكون الواعظ خادماً للكلمة لا سيدها، تصبح الكلمة قادرة على أن تؤدّي فاعليتها الخلاصية.

هذه الخدمة تتطلب من الواعظ أن يتطوّع شخصياً لخدمة الكلمة تطوّعاً يتوجه، في آخر المطاف، إلى الله نفسه، «الله الذي أعبد في روحي مبلّغاً بشارة ابنه» (روم 1، 9). على خادم الكلمة ألاّ يضع أي حاجزٍ بينه وبينها، فلا يتوخى أهدافاً غريبة عن رسالته، ولا يستند على حكمة البشر ولا على اختبارات ذاتية قد تعكّر صفو الإنجيل. كلام الله لا يسوغ إذن أن نستخدمه وسيلة، بل على الواعظ، بالعكس، أن «يمتلك أُلفة شخصية كبيرة مع كلمة الله () وأن يكون أول مؤمن بها، مدركاً كل الإدراك أن الكلمات التي يستعملها في كرازته ليست له بل لمن أرسله»[32].

هناك إذن علاقة جوهرية بين الصلاة الشخصية والكرازة. من التأمل بكلام الله في الصلاة الشخصية يجب أن تتفجَّر أيضاً، بطريقة عفوية، «أوَّلية شهادة الحياة التي تُظهِر قدرة الحب الإلهي وتجعل كلامه مقنعاً»[33]. كل كرازة تنبع من الصلاة الشخصية تصبح حاسمة لا بقوة تماسكها النظري وحسب، بل لأنها تخرج من قلب مخلصٍ ومصلٍّ يدرك أن مهمَّة خدام الكلمة «أن يعلِّموا لا ما عندهم من حكمة بل كلام الله، ويدعوا جميع الناس بإلحاح إلى التوبة وإلى القداسة»[34]. كرازة خَدَمة المسيح تقتضي إذن، لتكون فاعلة، أن تتجذر عميقاً في روح صلاتهم البنوية: كن مصليا قبل أن تكون خطيباً»[35].

إن ما يملكه الكهنة من وعيٍ لطبيعة خدمتهم، ومعنى الدعوة التي تُميِّز حياتهم وإيمانهم الحيّ والرسولي، كلُّ ذلك يجد في ممارستهم حياة الصلاة دعماً وحافزاً. في هذه الصلاة يستقون، يوماً بعد يوم، اندفاعهم في خدمة البشارة. هذه البشارة، إذا أصبحت قناعة شخصية، تنعكس كرازةً مقنعة ومتماسكة. من هنا نستنتج أن الاحتفال بليترجيَّا الساعات ليس له علاقة بالتقوى الشخصية وحسب ولا ينحصر في كونه صلاة عمومية من صلوات الكنيسة، بل يعود على الشعب بفائدة رعائية كبرى»[36]، لأنه يصبح مناسبة مميّزة للتآلف أكثر فأكثر مع العقيدة البيلية والآبائية واللاهوتية والتعليمية في طورها التأمّلي أوَّلاً ثم في توزيعها على الشعب في الكرازة.

2.  في سبيل مناداة فاعلة بالكلمة

في خط البشارة الجديدة ينبغي أن نلفت النظر إلى أهمية العمل على إنضاج معنى الدعوة العمادية عند المؤمنين، فيدركون أن الله دعاهم إلى اتباع المسيح عن كثب وإلى المساهمة شخصياً في رسالة الكنيسة.

«نقل الإيمان إنما هو إظهار الدعوة المسيحيّة والمناداة بها والتعمق في معناها أي النداء الذي يوجهه الله إلى كل إنسان مظهراً له سرّ الخلاص»[37]. مهمة الكرازة هي أن تُعرِّف الناس بالمسيح، لأنه وحده، «بصفته آدم الجديد، يكشف سرّ الآب وحبّه، ويُظهر الإنسان لذاته إظهاراً كاملاً ويكشف له سموّ دعوته»[38].

البشارة الجديدة والدعوة المسيحيّة تسيران معاً: تلك هي البشارة الجديدة التي يجب أن نعلنها للمؤمنين بدون أن نخفّض لا من قيمتها ولا من مقتضياتها، ومع التذكير بأن من «واجب المسيحي ومن ملزِماته أن يكافح الشر وإن كلفَّه ذلك معاناة الشدائد وتحمّل الموت. ولكن إذا اشترك في السرَّ الفصحي وتشبه بموت المسيح فسوف يلقى القيامة مؤيِّداً بالرجاء»[39].

البشارة الجديدة تتطلب التطوّع لخدمة الكلمة خدمة مضطرمة وكاملة وقائمة على أساس متين، مع محتوى لاهوتي وروحي وليتورجي وأخلاقي واضح جداً ومتنبّه لما لا بدَّ من تلبيته من حاجات بشرية واقعية. ومن البديهي أننا لا نستطيع أن ننجرَّ لمتاهات العقلانية وخطر تعكير الأذهان المسيحيّة بدلاً من العمل على تنويرها، بل علينا أن نُفعِّل «محبّة عقليّة» صادقة عبر تعليم مسيحي صبور ومستمرّ يتناول الحقائق الأساسية في الإيمان والأخلاق الكاثوليكية وأثرها في الحياة الروحية. التعليم المسيحي يبرز، بوجه خاص، في عداد الأعمال الروحيّة الرحيمة: فالخلاص يأتي بمعرفة المسيح، إذ «لا خلاص بأحدٍ غيره وما من اسم آخر تحت السماء أُطلق على أحدِ الناس ننال به الخلاص». هذه البشارة التعليمية لا يمكن أن تتحقق إلاَّ بدعم لاهوت سليم (رسل 4، 12). فمن الواضح أننا لا نستطيع أن نكتفي بترداد العقيدة الموحاة، يل علينا، بواسطتها، أن نعمل على تنشئة الفكر والضمير عند المؤمنين، ليتمكنوا من أن يطبِّقوا، بطريقة متماسكة، مقتضيات الدعوة العمادية. البشارة الجديدة لا تتمّ إلا بمقدار ما يتمكن كل مسيحي، وليس فقط الكنيسة في مجموعها وفي مختلف مؤسساتها، أن يعيش الإيمان ويجعل من حياته سبب مصداقية حيّة ودفاع مقنع عن الإيمان.

التبشير هو العمل بكل الوسائل المتاحة، الشريفة والمناسبة، على إعلان وإذاعة محتويات الحقائق الموحاة (الإيمان الثالوثي والكريستولوجي، معنى عقيدة الخلق، الحقائق الأخروية، العقيدة في شأن الكنيسة والإنسان، علم الإيمان في شأن الأسرار ووسائل الخلاص الأخرى). ويعني هذا أيضاً أن نُفهِم الناس، بفضل التنشئة الأخلاقية والروحيّة، كيف يترجمون هذه الحقائق إلى حياة  واقعية وشهادة التزام رسالي.

الجهد المبذول في سبيل التنشئة اللاهوتية والروحية المطلوبة (على صعيد التنشئة الدائمة للكهنة والشمامسة وتنشئة كل المؤمنين) لا يمكن حصره ولا التملص منه. لا بدَّ إذن، في ممارسة خدمة الكلمة، من أن يكون خدَّام  الكلمة في مستوى الظروف. فاعلية التبشير بالكلمة منوطة بارتكازها جوهرياً على معونة الله وباستنادها أيضاً إلى أكبر قدر ممكن من الكمال البشري. المناداة العقائدية واللاهوتية والروحية المتجدّدة بالبلاغ المسيحي لا يمكن أن تُرتَجَل بطريقة متوانية أو لا مسؤولة، بل يجب أن تُلهِبَ وتنقي أولاً ضمائر المعمَّدين. مسؤولية الكهنة في الاضطلاع شخصياً بمهمَّة التبشير لا يمكن أن تنتفي وبخاصة في مهمّة الوعظ التي لا يمكن أن توكل إلاّ لمن نال الرسامة المقدّسة[40] كما لا يمكن أن تُفوَّض بسهولة إلى من ليس مُعَدًّا لها.

عندما نفكّرِّ بالكرازة الكهنوتية، لا بدَّ من أن نُلحَّ، كما كان يتمّ ذلك دائماً، على أهمية الاستعداد البعيد المدى الذي يتميّز، مثلاً، بالعمل على توجيه المطالعات توجيهاً مناسباً، ولفت الأنظار إلى ما يمكن أن يُحسِّن إعداد الخَدَمَة المرسومين. الحسُّ الرعائي لدى الوعَّاظ يجب أن يكون دائماً على تيقّظ لتحديد المعضلات التي تشغل معاصرينا وحلولها الممكنة. «هذا ويجب على الكهنة، ليتمكَّنوا من إسداء الأجوبة المناسبة للمسائل التي يطرحها أهل زماننا، أن يطَّلعوا حق الاطّلاع على وثائق السلطة التعليمية» – كما تطوّرت ولا تزال تتطوّر بتناغم عبر القرون – «وبخاصة وثائق المجامع والأحبار الرومانيين، وعليهم أيضاً أن يستشيروا أفضل المؤلفين اللاهوتيين وأكثرهم خبرة»[41]، من غير أن يهملوا الرجوع إلى التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية. في هذا المعنى، ينبغي أن نلح، بلا مَلَل، على أهمية التنبّه لتنشئة الإكليروس الدائمة، مع الرجوع في تحديد محتواها إلى دليل خدمة الكهنة[42] وحياتهم. كل جهد في هذا المجال لا بدّ من أن يؤتي ثماراً وافرة. بالإضافة إلى ما قيل حتى الآن، هناك إعداد قصير المدى للكرازة بكلمة الله وهو أيضاَ على جانب من الأهمية. باستثناء بعض الحالات النادرة حيث لا يمكن التصرف بطريقة آخرى، يجب أن نجد في التواضع وحب العمل ما يحفزنا، مثلاْ، على إعداد ما يجب أن نقوله إعداداً متقناً، ولو بواسطة تصميم مختصر. المصدر الرئيس للكرازة يجب أن يكون، من باب المنطق، الكتاب المقدّس نتأمله بعمق في صلاتنا الشخصية، ونقف عليه عبر الدراسة ومطالعة الكتب المناسبة[43]. الخبرة الرعائية تعلّمنا أن قوة النص المقدّس وبلاغته يؤثران في المستمعين تأثيراً عميقاً. كتابات آباء الكنيسة وغيرهم من كبار المؤلفين في مجال التراث المسيحي تعلِّمنا أن نتمعَّن ونُفهِّم الأخرين معنى الكلام الموحى[44]، بعيداً عن كل شكل من أشكال «الاصولية البيبلية» أو «تشويه البلاغ الإلهي». ويجب أن نجد أيضاً في الأسلوب التربوي الذي تستعمله الليترجيا الكنسيّة عندما تقرأ وتفسّر وتطبق كلام الله في مختلف أزمنة السنة الليترجية، مرجعاً يساعدنا في الاستعداد للكرازة. ثم إن اعتبار حياة القديسين بما عُرِفَ عنهم من صراعات وبطولات قد أدى دائماً إلى ثمارٍ وفيرة في نفوس المسيحيين. المؤمنون، بما يشاهدونه اليوم أيضاً من انحرافات في التصرف ومن تعاليم مشبوهة، هم بحاجة ملِحة إلى مثل هذه السِيَر البطولية المبذولة في سبيل حبّ الله وحبّ الآخرين لأجل الله. كل هذا يفيد البشارة، كما يُشجّع المؤمنين على أن يُنموا في ذواتهم، حباً بالله، معنى التضامن مع الجميع، وروح الخدمة وبذل الذات بذلاً سخياً. إن الضمير المسيحي لا ينضج إلا بالتماسه دائماً مقياس المحبّة.

تـنبه الكاهن للنواحي الشكلية في الكرازة يبدو أيضاً على جانب كبير من الأهمية. إننا نعيش في زمن الإعلام والاتصال السريع حيث تعوّدنا الاستماع والنظر إلى أناس مهنيّين قد نالوا الإعجاب في عالمي التلفزيون والإذاعة. إن الكاهن الذي هو أيضاً رجل اتصال اجتماعي خاص يَدخُلُ، نوعاً ما، في منافسة سلمية مع الإعلاميين أمام المؤمنين عندما ينقل إليهم بلاغاً لا بدَّ من تقديمه بطريقة مشوِّقة. عليه، بالإضافة إلى مهارته في استعمال «المنابر الجديدة، أي وسائل الاتصال، أن يسعى خصوصاً إلى أن يكون مضمون كرازته بمستوى الكلمة التي ينادي بها. الإخصائيون في الوسائل السمعيّة البصرية يستعّدون باهتمام للقيام بعملهم؛ فليس من المغالاة إذن أن نرى معلّمي الكلمة يهتمُّون بصبر ودراية بتحسين النوعية «المهنية» لهذا الوجه من خدمتهم الرعائية. نحن نرى اليوم، مثلاً، في عددٍ من الأوساط الجامعية والثقافية، عودة إلى الاهتمام بفنّ الكلام، فلا بدَّ إذن من أن نوقظ هذا الاهتمام أيضاً عند الكهنة مقروناً إلى اسلوب متواضع وشريف في إظهار الذات وترسيخها.

الكرازة الكهنوتية يجب أن تتمَّ، على غرار كرازة المسيح، بطريقة إيجابية وحافزة تدفع الناس إلى معرفة جودة الله وجماله وحقيقته. على المسيحيين أن «يُشرقوا معرفة مجد الله، ذاك المجد الذي على وجه المسيح» (2 قور 4، 6) وأن يعلنوا الحقيقة التي تلقَّوها بطريقة جذابة. كيف يمكن ألاَّ ندرك الطابع الجذاب الذي يتميّز به الوجود المسيحي في مقتضياته الصارمة والمطمئنة؟ ليس ثمة ما يمكن أن نخشاه. «منذ أن تلقّت الكنيسة، في السرّ الفصحي، موهبة الحقيقة القصوى في شأن حياة الإنسان، انطلقت في حِجتها على دروب العالم لتنادي بأن المسيح هو «الطريق والحق والحياة» (يو 14، 6). في جملة الخدمات التي يجب أن تقدمها للبشرية، هناك خدمة تلزم مسؤوليتها بطريقة مميّزة جداً: وهي خدمة الحقيقة»[45].

ويبدو من المفيد أيضاً، منطقياً، أن نستعمل في الكرازة لغة صحيحة وأنيقة، مفهومة عند معاصرينا من كل الطبقات الاجتماعية، وبعيدة عن التفاهات والمواضيع المبتذلة[46]. يجب التكلم من منطلق رؤية إيمانية سليمة، ولكن بتعابير مفهومة في مختلف أوساط الحياة، بمنأى عن لغة الإخصائيين وعن كل تواطؤ مع روح العالم. الكرازة المثمرة بالكلمة لها «سرّها» البشري: وهو، إلى حدّ كبير «احترافية» الواعظ الذي يعرف ماذا يريد أن يقول وكيف يقوله والذي استعدّ لمهمته، في المدى القصير والبعيد،

فلا يرضى بالكلام الذي يرتجله الهواة. طمس قوة الحقيقة بكل مقوّماتها إنما هو ضرب من «المهادنة» المؤذية. لا بدَّ إذن من العناية والتنبّه لمحتوى الألفاظ وأسلوب الإنشاء والإلقاء. يجب أن نفكر بما يحسن التركيز عليه بمزيد من القوّة بدون الوقوع في مباحثات مشبوهة ومع الحرص على أن يكون لنا صوت مستحب. يجب أن نعلم إلى أين نريد أن نصل، ونعرف حق المعرفة ما يتميّز به مستمعونا العاديّون من واقعٍ وجودي وثقافي. ولئلا يقع الواعظ في النظريات والعموميات المجرّدة يجب أن يعرف رعيته. ويحسن اللجوء إلى أسلوب ممتعٍ وإيجابي لا يجرح الناس وإن «جرح» ضمائرهم وبدون التخوف من تسمية الأشياء بأسمائها.

ومن النافع جداً للكهنة الذين يتعاونون في مختلف المهامّ الرعائية أن يساعدوا بعضهم بعضاً، بنصائح أخوية، في شأن هذا أو ذاك من وجوه خدمة الكلمة: في شأن محتوى الكرازة، مثلاً، ونوعيتها اللاهوتية واللغوية، وفي شأن الأسلوب ومدة الكلام التي يجب أن تكون دائماً معتدلة وفي طرق التعبير والتحرك وراء المنبر، وفي نبرة الصوت الذي يجب أن تكون عاديَّة ومتنوِّعة بتنوع مراحل الكرازة، ولكن بدون تصنع مرة أخرى يبدو التواضع ضرورياً لكي يرضى الكاهن أن يتلقَّى المساعدة من إخوته، وحتى، بطريقة غير مباشرة، من المؤمنين الذين يساهمون في الأعمال الرعائية.

 

بعض الأفكار للتأمل في الفصل الثاني

 

6.      هل نملك الوسائل لنقيس وقع خدمة الكلمة على حياة جماعاتنا؟ هل يهمنا أن نستعمل هذه الوسيلة الجوهرية على صعيد البشارة ونحن أقرب ما يمكن، بشرياً، من النموذج المهني؟

7.      في دروس التنشئة الدائمة للإكليروس هل نُعنى بتحسين الكرازة في مختلف أشكالها؟

8.      هل يُشجَّع الكهنة على أن يكرِّسوا بعض وقتهم لدراسة اللاهوت وقراءة الآباء وملافنة الكنيسة والقديسين؟ هل تُبذلُ جهودٌ لنعرِف الروحانيين الكبار ونُعرِّف بهم ؟

9.       هل تُشجِّع إقامة مكتبات كهنوتية بتوجّه عملي وخطٍ عقائدي سليم؟

10.    هل نعرف، في هذا المجال، امكاناتٍ محليّة للارتباط  بمكتبات على الأنترنيت على غرار ما بدأ يتحقق على موقع مجمع الإكليروس (www.clerus.org).

11.    هل يستعين الكهنة بمواعظ الأب الأقدس وتعاليمه وسائر وثائق الكرسي الرسولي؟

12.    هل نعي أهمية العمل على تنشئة الأشخاص (الكهنة والشمامسة الدائمين والرهبان والعلمانيين) المؤهلين لأن يحقّقوا، في درجة راقية، هذا الوجه الجوهري من وجوه تبشير الثقافة المعاصرة، أي الإعلام؟

 



الفصل الثالث

خَدَمَة الأسرار

«فليعتبرنا الناس خَدَماً للمسيح ووكلاء أسرار الله» (1 قور 4،1)

 1.        «في شخص المسيح»

«رسالة الكنيسة لا تضاف إلى رسالة المسيح والروح القدس، بل هي سرّها: فالكنيسة بكل كيانها وبكامل أعضائها مرسلةٌ لتبشّر وتشهد وتفعِّل وتنشر سرّ شركة الثالوث المقدّس»[47]. هذا الطابع الأسراري الذي تتميّز به رسالة الكنيسة في جملتها ينبع من كيانها، بوصفها حقيقة  «بشرية وإلهية مرئيّة وحافلة باللامنظورات، حثيثةً في العمل ومستغرقة في التأمل، ماثلة في العالم وغريبة عنه»[48]. في هذه القرائن التي تعيش فيها الكنيسة، «وهي سرّ الخلاص العميم»[49] التي «يُظهر فيها المسيح ويُفعِّـل، في آن واحد، سرّ حب الله للإنسان»[50] تقع الأسرار في محور الخدمة الكهنوتية، بصفتها لحظات مميّزة تنتقل فيها الحياة الإلهية إلى الإنسان. ويعي الكهنة حق الوعي أنهم أدوات حيّة في يد المسيح الكاهن، مزيتّهم أن يكونوا رجالاً مؤهلين، بفضل الطابع الكهنوتي، لأن يدعموا عمل الله، بمشاركتهم في ما تتميّز به الآلة من فعّالية.

تصوُّرُ الكاهن بصورة المسيح «بالتكرّس الكهنوتي» يضع الكاهن في وسط شعب الله، ويجعله يشترك، على طريقته الخاصة، بالانسجام مع البنية العضوية في الجماعة الكنسيّة، في مهمة المسيح المثلثة. فعندما يعمل الكاهن، في شخص المسيح الرأس، فهو يقود شعب الله ويهديه الطريق إلى القداسة[51]. وفي هذا ما يؤكّد «ضرورة شهادة الإيمان من قِبَل الكاهن في كل حياته، ولكن خصوصاً في طريقة تقديره لقيمة الأسرار والاحتفال بها»[52]. يجب أن نأخذ بعين الاعتبار التعليم الشائع الذي استعاده المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، ومفاده: «إن صح القول بأن نعمة الله قادرة أيضاً أن تحقق عمل الخلاص، عبر خَدَمةٍ غير مؤهلين، إلاّ أنه يصح القول أيضاً إن الله عادة يؤثر إظهار عظائمه عبر من يُسلِسون أمرهم لهبَّات الروح القدس وتوجيهاته ويستطيعون أن يقولوا مع الرسول، من منطلق اتحادهم الوثيق بالمسيح ومن منطلق قداسة حياتهم: «ما أنا أحيا بـل المسيح يحيا فيّ» (غل 2، 20)[53].

الاحتفالات الأسرارية التي يعمل فيها الكهنة بصفتهم خَدَمَةَ المسيح، ويشاركون بطريقة خاصة في كهنوته بالروح القدس[54] هي لحظات عبادة لها أهميّة فارقة بالنسبة إلى البشارة الجديدة. ويجب ألا يغيب عن فكرنا أيضاً، بالنسبة إلى جميع المؤمنين وخصوصاً البعيدين عادة عن الممارسة الدينية، مع مشاركتهم بطريقة شبه متواترة في احتفالات ليترجية في مناسبات عيليّة أو اجتماعيّة (عمادات، حفلات تثبيت، زواجات، ورسامات كهنوتية، جنازات) أن هذه المناسبات قد أمست هي الأوقات الفعّالة الوحيدة لنقل محتويات الإيمان. ومهما يكن من أمر، فالموقف الإيماني الذي يجب أن يتميَّزَ به الكاهن يجب أن يرتبط «بنوعيّة ممتازة في الاحتفال من الناحيّة الليترجيّة والطقسيّة»[55]. وعلى الكاهن ألاّ يتوخىَّ الإخراج المسرحي بل أن يتنبّه لأن «يُخضِع العنصر البشري لما هو إلهي والمنظور للاّمنظور والعمل للتأمّل والحاضر للمدينة الآتيّة التي نسعى لها»[56].

2.         خدّام الإفخارستيا: «محور الخدمة الكهنوتيّة»

«لقد دعا يسوع الرسل "أصدقاءه". وهكذا يريد أن يدعونا نحن الذين، بفضل سرّ الكهنوت، نشاركه كهنوته (…). أفكان بإمكان يسوع أن يعبِّر لنا عن صداقته بطريقة أبلغ من أن يتيح لنا، نحن كهنة العهد الجديد، أن نعمل باسمه، في شخص المسيح الرأس؟ وهذا بالتحديد ما يجري في خدمتنا الكهنوتية، كل مرة نوزع الأسرار وخصوصاً عندما نحتفل بالإفخارستيا. نحن نكرِّر ذات الألفاظ التي نطق بها على الخبز والخمر، وبالخدمة التي نقوم بها يتم نفس التكريس الذي حققه المسيح. أيمكن أن يكون هناك تعبير عن الصداقة أكمل من هذا التعبير الذي يشكِّل محور خدمتنا الكهنوتية؟»[57].

البشارة الجديدة يجب أن تكون أيضاً للمؤمنين نوراً جديداً بالنظر إلى الطابع المحوري لسرّ الإفخارستيا، قمة الحياة المسيحيّة كلها[58]، وذلك، بأن «ليس هناك من جماعة مسيحيّة، يمكن أن تُبنى من دون أن يكون لها جذر ومحور في الاحتفال بالإفخارستيا»[59]، ولأن «الأسرار وجميع الخِدَم الكنسية والمهامّ الرسولية كلها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالإفخارستيا ومشدودة إليها؛ وذلك بأن الإفخارستيا المقدَّسة تحتوي كنز الكنيسة الروحي كلَّه»[60].

 

في الخدمة الراعوية تُشكِّل الإفخارستيا أيضاً هدفاً، وعلى المؤمنين أن يتأهبوا لها إذا أرادوا أن يجنوا منها ثمراً. فإذا شجعناهم، من جهة، على أن يشاركوا في الليترجيا مشاركة «لائقة ومتنبهة ومثمرة»، فمن الضروري على الإطلاق، من جه أخرى، أن نوعيِّهم على أنهم، بهذه الطريقة، «مدعوّون ومحمولون على أن يقدموا، بالاتحاد مع المسيح، حياتهم وعملهم والخليقة بأسرها. وذلك بأن الإفخارستيا هي، بلا مَراء، مصدر وقمة كل البشارة»[61]. تلك حقيقة ينجم عنها نتائج رعائية كثيرة.



من الجوهري أن نلقِّن المؤمنين قوام الذبيحة المقدّسة المقدّمة على المذبح ونشجعهم على المشاركة المثمرة في الإفخارستيا[62]. ومن الضروري أيضاً الإلحاح، بلا كلل ولا خوف، على إلزاميّة التقيّد بوصيّة الأحد[63]، وعلى فائدة الاشتراك المتواتر واليومي، إن أمكن، في الاحتفال بالقداس والمناولة الإفخارستية. ولا بدَّ من التذكير بالواجب الثقيل الذي يملي علينا أن نتناول جسد المسيح بموجب الشروط الروحيّة والجسديّة المطلوبة، أي أن نبدأ بالاعتراف الفردي إذا أدركنا أننا لسنا في حالة النعمة. تَفَتُّح الحياة المسيحية في كل كنيسة خاصة وفي كل جماعة رعوية منوط، إلى حدٍّ كبير، بالعودة إلى اكتشاف العطية الكبرى، عطية الإفخارستيا، بروح إيمان وتقوى. إذا لم نفلح في تعليمنا العقائدي وفي الكرازة وفي الحياة أن نُظهِر الترابط القائم بين الحياة اليومية والإفخارستيا فالممارسة الإفخارستية تمسي على طريق الإهمال.

من هذا الملحظ أيضاً، مثالية الكاهن المحتفل أمر أساسي. «الاحتفال المتقن هو كرازة أولى ومهمّة في شأن الذبيحة الإلهية[64]». من الأهميّة بمكان أن يرى الؤمنون الكاهن وإن لم تكن تلك نيته يستعّد بخشوع للاحتفال بالذبيحة المقدّسة، وأن يكونوا شهود ما يبديه في الاحتفال من دلالات الحب والتقوى، ويتعلموا منه أن يتريثوا بعض الوقت في الشكر بعد المناولة.

إذا كان جزء جوهري من عمل البشارة في الكنيسة يقوم على تعليم الناس أن يصلّوا إلى الآب بالابن وفي الروح القدس، فالبشارة الجديدة تفترض أن نكتشف ثانية ونقوي بعض الممارسات الراعوية التي يتجلَّى فيها الإيمان بوجود الرب الحقيقي تحت الأشكال الإفخارستية. «مهمّة الكاهن أن يشجِّع التعبّد للحضور الإفخارستي، حتى خارج الاحتفالات بالقداس، وأن يجعل من الكنيسة «بيت صلاة مسيحي»[65]. ولا بدّ قبلا من أن يعرف المؤمنون معرفة عميقة الشروط اللازمة لتناول الإفخارستيا بطريقة مفيدة. ومن المهم أيضاً أن نشجع تعبّدهم للمسيح الذي ينتظرهم بحب في بيت القربان. هناك طريقة بسيطة وفعَّاله للقيام بكرازة إفخارستية وهي العناية الماديّة بكل ما له علاقة بالكنيسة وخصوصاً بالمذبح وبيت القربان: ليكن كل شيء نظيفاً وأنيقاً: ولا بدّ من مراعاة كرامة الألبسة الكهنوتية والأواني المقدّسة، والتنبه لطريقة القيام بالحفلات الليترجية[66] وحني الركبة بطريقة متقنة… هذا ومن الأهميّة بمكان أن يُؤَمَّن مناخ من الخشوع في كابيلا القربان المقدس، وفقاً للتقليد الكنسي القديم، وذلك حرصاً على الصمت الذي يسهِّل الحوار الودّي مع الرب. هذه الكابيلا أو أي مكان يحفظ فيه المسيح الإفخارستي في سرّ القربان ويُعبد هو، بلا شك، بمثابة القلب في أمكنتنا المقدّسة، وعلينا، من هذا المنطلق، أن نظهره ونسهّل الوصول إليه أطوَل ما يمكن في بحر النهار. ويجب أيضاً أن نزّينه بخالص الحبّ.

من الواضح أن كل هذه الاحتفالات التي لا تمتّ إلى «روحانية» غامضة، بل إلى تقوى مرتكزة على أسس لاهوتية ليست ممكنة إلاّ إذا كان الكاهن حقيقة رجل صلاة هائماً بحب الإفخارستيا. الراعي الذي يصلِّي قادر وحده على أن يعلِّم الآخرين الصلاة ويجتذب نعمة الله على من هم منوطون بخدمته الراعوية فتنتعش بذلك حالات الاهتداء والتصميم على حياة أكثر حرارة والدعوات الكهنوتية وحالات التكرّس الخاص. وقصارى القول أن الكاهن الذي يمارس كل يوم خبرة «الحديث مع أهل السماء» ويسعى إلى أن تصبح صداقته مع المسيح هي حياة حياته، بإمكانه وحده أن يكتسب أهبة حقيقية لبشارة سليمة ومتجدّدة.

3.  خَدَمَة المصالحة مع الله ومع الكنيسة

في عالم أمسى فيه الحسّ بالخطيئة على تضاؤل كبير[67] لا بدّ من أن نذكِّر بإلحاحٍ أن انتـفاء حبنا لله هو الذي يحول دون وقوفنا على واقع الخطيئة في كل خبثها. بدء التوبة ليس فقط كفعل باطن وقتي بل كاستعداد ثابت، ينطلق من المعرفة الحقيقية لمحبة الله ورحمته. «الذين يُفلحون في معرفة الله هكذا، الذين "يرونه" هكذا، لا يمكنهم أن يعيشوا إلاّ في الرجوع إليه رجوعاً متواصلاً. إنهم يعيشون إذن في حالة ارتداد»[68]. التوبة تصبح، والحالة هذه، بمثابة إرث ثابت في حياة المؤمنين الكنسية، المطبوعة مع ذلك بطابع رجاء الغفران: «كنتم لا تنالون الرحمة، وأمّا اليوم فتُرحَمُون» (1 بط 2، 10).

البشارة الجديدة تقتضي إذن وهذا مقتضىً رعائي لا يمكن التلاعب فيه التزاماً مجدّداً بحثِّ المؤمنين على التقرّب من سرّ التوبة[69] «الذي يمهّد الطريق لكلٍ منا، أيّاً كانت الكبائر التي يرزح تحتها. في هذا السرّ، يستطيع كل إنسان أن يختبر، بطريقة فريدة، الرحمة أي الحب الأقوى من الخطيئة»[70]. يجب ألاّ نخاف البتة من تشجيع المؤمنين بحرارة على ممارسة هذا السرّ، مع العمل بفهم، على تجديد وإذكاء تقاليد مسيحية موروثة منذ زمن بعيد ومفيدة. في مرحلة أولى، علينا أن ندفع المؤمنين، بمعونة الروح القدس، إلى توبة عميقة تفضي إلى الاعتراف، بطريقة صريحة ونادمة، بالفوضى الأخلاقيّة القائمة في حياة كلٍ منا؛ ولا بدّ، من بعد ذلك، من أن نعلِّم المؤمنين أهميّة الاعتراف الفردي والمتواتر، إلى أن نصل، قدر المستطاع، إلى ممارسة إرشادٍ روحي شخصي وصحيح.

على الكهنة ألاّ يخلطوا بين اللحظة التي يتم فيها سرّ التوبة والوقت الذي يتم فيه الإرشاد الروحي. وعليهم أيضاً، من منطلق الاحتفال بالسرّ، أن ينتهزوا الفرصة لبدء حديثٍ في الإرشاد الروحي. «العودة إلى اكتشاف هذه الممارسة وتعميمها، حتى خارج الأوقات التي يُمنح فيها سرّ التوبة، تعودان بالفائدة الكبرى على كنيسة عصرنا»[71]. هذه الطريقة في التصرّف تساهم في العودة إلى اكتشاف معنى سرّ التوبة وفاعليته وإرساء الأسس لتجاوز الأزمة التي يمرّ بها هذا السرّ. الإرشاد الروحي الشخصي يتيح تنشئة رسل حقيقين قادرين على أن ينشروا البشارة الجديدة في المجتمع المدني. لكي نتمكن من السير قدماً في الرسالة الهادفة إلى إعادة تبشير عدد كبير من المعمّدين الذين ابتعدوا عن الكنيسة، لا بدّ من أن نزوِّد القريبين بتنشئة ممتازة.

البشارة الجديدة تقتضي الاعتماد على عددٍ لا بأس به من الكهنة: الخبرة المتقادمة العهد تعلمنا أن عدداً كبيراً من التلبية الإيجابية لدعوات الكهنوتية هو حصيلة الإرشاد الروحي ومثال حياة الكهنة الأمينين لهويتهم في الظاهر وفي الباطن. «على كل كاهن أن يتنبّه تنبهاً خاصاً لرعاية الدعوات ولا يتهامل ( ) في تشجيع مبادرات مناسبة من خلال علاقة شخصية تمكِّنه من اكتشاف الطاقات والوقوف على إرادة الله لاختيار جريء لمن يريدون اتباع المسيح () هذا مقتضىً لا محيد عنه من مقتضيات المحبة الراعوية، وعلى كل كاهن بتعاونه مع نعمة الروح القدس أن يهتم لبعث ولو دعوة كهنوتية واحدة تواصل خدمته الكهنوتية[72].

لكي نتمكن من أن نتيح لجميع المؤمنين أن يُقبلوا على الاعتراف، فهذا يتطلّب منا، ولا شك، كثيراً من الوقت[73]. وإننا لَننصح بشدّة أن تُحدَّد مسبقاً أوقات للاعتراف يعرفها الجميع وألاّ يُقتَصَرَ على جهوزية نظريّة. قد يتفق أحياناً أن البحث عن معرِّف قد يردع مؤقتاً عن نيّة الاعتراف، بينما المؤمنون «يذهبون بطيبة خاطر لقبول هذا السر حيث يعلمون أن ثمة كهنة جاهزين لهذه المهمة»[74]. الرعايا، وبعامة، الكنائس المعدّة للعبادة، عليها أن توفّـر توقيتاً واضحاً وموسَّعاً وميسّراً للاعترافات؛ ويُطلب من الكهنة أن يحافظوا على انتظام هذا الوقت. وانسجاماً مع هذا الاهتمام بتسهيل الإقبال على سرّ المصالحة بأكبر قدر ممكن، يُستحسن أيضاً الاهتمام بالأماكن حيث توجد كراسي الاعتراف، لتكون نظيفة ومرئية ومجهّزة بمشبَّك يضمن للمعترفين حقَّ التكتم[75].

ليس من السهل دائماً المحافظة على هذه الممارسات الرعائية والدفاع عنها، ولكن ليس في هذا ما يعلّل غضَّ النظر عن فاعليتها والفائدة من استعادتها في الأماكن التي سقط فيها استعمالها. ولا بدّ، لتأمين هذه الجهوزية الأساسية على الصعيد الراعوي، من تعزيز التعاون بين الكهنة الأبرشيين والرهبان. ولا بدّ كذلك من أن ننوّه، بإجلالٍ، بالخدمة اليومية التي تؤديها، بطريقة رائعة، داخل كراسي الاعتراف، جمهرة من الكهنة المسنين الذين أصبحوا بمثابة معلّمين روحيين حقيقيين في مختلف الجماعات المسيحية.

كل هذه الخدمة التي نؤدّيها للكنيسة تصبح سهلة إلى حدٍّ لا يُقاس لو كان الكهنة أول المعترفين بطريقة نظيمة[76]. والواقع أن استعانة الكاهن الشخصية بهذا السرّ بصفته تائباً هي شرط لا بدّ منه للقيام بخدمة المصالحة بطريقة سخية: «الحياة الكهنوتية كلها تهبط هبوطاً لا محيد عنه إذا لم يلجأ الكاهن، بطريقة منتظمة وبإيمان وتقوى راهنين، إلى سرّ التوبة. الكاهن الذي يُهمِل الاعتراف أو يعترف بطريقة سيئة، يتأثر كيانه الكهنوتي وعمله الكهنوتي بذلك تأثراً سريعاً، ولا تلبث الجماعة التي يرعاها أن تلاحظ عليه ذلك»[77].

«خدمة الكهنة هي، قبل كل شيء، شركة وتعاون مسؤول وضروري مع خدمة الأسقف، في الاهتمام بالكنيسة جمعاء وبالكنائس الخاصة التي يكوِّنون مع الأسقف، في خدمتها، جسماً كهنوتياً واحداً»[78]. الإخوة في الكهنوت يجب أن يكونوا هم الهدف المميّز لمحبة الكاهن الراعوية: فإذا ساعدنا الكهنة روحياً ومادياً، وسهّلنا عليهم الاعتراف والإرشاد الروحي بطريقة رقيقة وجعلناهم يستعذبون طريق الخدمة، وكنا بقربهم في كل حاجة ماسّة، ورافقناهم بروح من المسارعة الأخويّة في كل صعوبة، في الشيخوخة وفي المرض، فذلك مجال نفيس لممارسة الفضائل الكهنوتية.

الفطنة الراعوية فضيلة أساسية بين الفضائل المطلوبة للقيام بخدمة المصالحة بطريقة مثمرة. فكما أن خادم السرّ يشارك في العمل الأسراري بصفته أداة فعّالة عندما يعطي الحلّة، كذلك عليه أيضاً، في سائر الأعمال التي يقتضيها سرّ التوبة، أن يجعل التائب بإزاء المسيح، ويساعد في تحقيق اللقاء الرحيم بكثير من اللطف والرقة. وهذا يقتضي العزوف عن المواعظ المبهمة التي لا تبالي بواقع الخطيئة. ومن ثمّ، فالمعرِّف بحاجة إلى ما يناسب من مؤديات العلم[79] ولكن، في الوقت نفسه، يجب أن يظلّ حوار التوبة متسماً بذاك التفهم الذي يقود النفوس تدريجياً في دروب التوبة من دون أي تنازل لما يسمّى «بتدرّجية» المبادىء الأخلاقيّة.

 

منذ الزمن الذي بدأت تتقلّص فيه ممارسة الاعتراف في كثير من الأماكن، وذلك على حساب الحياة الأخلاقية وسلامة ضمير المؤمنين، بدأ يظهر بكل وضوح خطر تقلّص المتانة اللاهوتية والراعوية التي يعمد اليها خادم الاعتراف في القيام بوظيفته. على المعرّف أن يسأل الروح المعزّي القدرة على ملء هذه اللحظة الخلاصيّة بروح تفوق الطبيعة[80] وجعلها لقاءً حقيقياً بين الخاطىء ويسوع الغافر. وعليه، في الوقت نفسه، أن يستفيد من مناسبة الاعتراف لكي يبني ضمير التائب بنياناً صحيحاً – وتلك مهمّة على جانب كبير من الأهميّة وذلك بأن يطرح عليه بتؤدة الأسئلة التي لا بدّ منها لتأمين كمول الاعتراف وصحة السرّ ويساعده في أن يؤدي الشكر، من أعماق قلبه، إلى رحمة الله إليه، وينتهي إلى قصد ثابت بتصحيح سلوكه الأخلاقي. ويجب على المعرّف ألاّ ينسى أن يوجه إليه بعض كلمات التشجيع والتعزية ويحفزه على القيام بأعمال توبة تساعده في النموّ في الفضائل علاوة على ما يجب أن يؤدّيه كفّارة عن ذنوبه.



 

بعض الأفكار للتأمل في الفصل الثالث

 

13. الأسرار، في جوهرها ومعناها الخلاصي، لا تتغيّر. إنطلاقاً من هذا اليقين الراسخ، كيف نجدِّد الأساليب الراعوية في إقامة الأسرار ووضعها في خدمة البشارة الجديدة؟

14. هل جماعاتنا هي «كنيسة الإفخارستيا والتوبة»؟ هل نغذّي فيها التقوى الإفخارستية في كل أشكالها؟ هل نشرح ونسهِّل ممارسة الاعتراف الفردي؟

15. هل نذكِّر عادة بحضور الرب الحقيقي في بيت القربان، وهل نشجِّع مثلاً زيارة القربان المقدّس وما تؤتيه من ثمار روحية؟ هل هناك إقبال على ممارسة العبادة الإفخارستية؟ هل في كنائسنا الأماكن التي تشجِّع على الصلاة أمام القربان المقدّس؟

16. هل نهتمُّ اهتماماً خاصاً، وبروح راعوي، بكرامة الكنائس؟ وهل يلبس الكهنة بطريقة منتظمة ولائقة اللباس الذي يفرضه القانون (را البند 284 و669؛ الدليل فقرة 66)، وفي ممارسة الطقوس الإلهية، هل يلبسون الحلل المطلوبة (را بند 929)؟

17. هل يعترف الكهنة بطريقة منتظمة، وهل يتطوَّعون، بدورهم، للقيام بهذه الخدمة الأساسيّة؟

18. هل تُنظَّم مبادرات تهدف إلى تنشئة الإكليروس تنشئة متواصلة في ما يتعلّق بتحسين خدمة المعرِّفين؟ هل تشجَّع إعادة تأهيل الرعاة لهذه الخدمة التي لا بديل منها؟

19. نظراً إلى ما هنالك من أهميّة كبرى في إحياء ممارسة الاعتراف الفردي في إطار البشارة الجديدة، هل تُحتَرَم الضوابط القانونيّة في شأن الحلّة العمومية؟ وهل تُنظَّم بفطنة ومحبة راعوية في كل الرعايا والكنائس الاحتفالات الليترجيّة التوبية؟

20. هل هناك من مبادرات مناسبة تساعد المؤمنين عملياً في القيام بوصية الأحد واستيعاب معناها؟



الفصل الرابع

رعاة يُحِبّون القطيع الموكول إليهم

«الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف» (يو 10، 11)

 1.         مع المسيح لتجسيد رحمة الله ونشرها

«الكنيسة تحيا حياة حقيقية عندما تعترف وتنادي بالرحمة، وهي صفة من أروع صفات الخالق والفادي، وعندما تقود الناس إلى ينابيع رحمة المخلّص التي أقيمت عليها قيِّمة وموزّعة»[81]. هذه الحقيقة تميّز الكنيسة، بطريقة جوهريّة، عن المؤسسات الأخرى التي تعمل في سبيل الناس والتي، وإن تمكّنت أحياناً من أن تلعب دوراً كبيراً في خدمة التضامن والمحبة الإنسانية – وقد يكون هذا الدور موسوماً بوسم الروح الديني – إلاّ أنها لن تتمكن أبداً من أن تظهر وحدها بمظهر من يقوم حقيقة بتوزيع نعم الرحمة الإلهية. في محاذاة تصوّر معلمن للرحمة لا يُفلح في تغيير دخيلة الإنسان تبدو لنا الرحمة الإلهية التي تقدِّمها الكنيسة موسومة بوسم الصفح والدواء الخلاصي. لكي تُؤثِّر الحقيقة في الإنسان تأثيراً فاعلاً، عليه أن يقبلها كاملة في كيانه وعمله وخطأه. من هنا ضرورة التوبة التي تُلزِم الإنسان بأن يقيم الرباط بين المناداة بالرحمة والحقيقة الكاملة. هذه الحقائق تكتسي أهميّة كبرى في ما يتعلّق بالكهنة المدعوين في الكنيسة ومن قِبَل الكنيسة، بدعوة فريدة، إلى أن يكشفوا ويفعِّلوا، في الوقت نفسه، سرّ محبة الآب من خلال خدمتهم، يؤدونها «للحق في المحبة» (أف 4، 15)، ومن خلال انقيادهم لنفحات الروح القدس.

اللقاء مع الرحمة الإلهية يَتِمُّ في المسيح بوصفه تجلياً لمحبة الله الأبوية. والواقع أن المسيح، بكشفه للناس عن دوره المسيحاني، (را لو 4، 18) قد أبدى ذاته رحمةً من لدن الآب تجاه كل المحتاجين وبخاصة تجاه الخطأة المفتقرين إلى الصفح والسلام الباطن. «بالنسبة إلى هؤلاء الناس خصوصاً أصبح المسيح آية مرئية تشهد بأن الله محبة. لقد أصبح آيةً من آيات الله. في هذه الآية المرئية يستطيع الناس من أهل زماننا كما في الزمان الغابر أن يروا الآب»[82]. الله الذي «هو محبة» (1 يو 4، 16) لا يمكن أن يُظهِر ذاته إلاّ رحمةً[83]. ولقد أراد الآب أن يُظهِر لنا محبته عبر ذبيحة إبنه في مأساة خلاص الناس.

لئن كانت الرحمة، في كرازة المسيح، تكتسي من الملامح المؤثِّرة ما يتخطىًّ كل تصوّر بشري كما يظهر ذلك في مثل الابن الضال – (را لو 15، 11-32)، فإنها تتجلّى بوجه خاص في تقدمة ذاته على الصليب. في المسيح المصلوب تتجلّى رحمة الآب تجلّياً جذرياً، «أي تلك المحبة التي تناقض ما يكوِّن جذور الشر في التاريخ، أي الخطيئة والموت»[84]. لقد توسَّم التقليد الروحي المسيحي في قلب يسوع الأقدس الذي يجذب إليه القلوب الكهنوتية خلاصةً عميقة وسريّة لرحمة الآب اللامتناهية.

الطابع الخلاصي الذي يتميّز به مجموع المهمة الراعوية عند الكهنة، تتمحور إذن حول تذكار الذبيحة التي بذل بها يسوع حياته، أي الذبيحة الإفخارستية. «لا شك أن ثمة علاقة وثيقة بين الطابع المحوري للإفخارستيا والمحبّة الراعوية ووحدة حياة الكاهن ( ) فلئن كان الكاهن يهب المسيحَ، الكاهن الأسمى والأبدي، عقله وإرادته وصوته ويديه ليقدّم للآب، من خلال خدمته، ذبيحة الفداء الإفخارستية، فعليه أيضاً أن يتلبَّس استعدادات المعلم ويعيش مثله هذه العطية من أجل إخوته. عليه إذن أن يتعلّم أن يتحد بهذه التقدمة اتحاداً حميماً ويضع على المذبح حياته كلها، علامة تجلي الله في محبته المجانية ولطفه»[85].

لقد تقبّل الكهنة أسراريّاً، من خلال موهبة الذبيحة الإفخارستية الدائمة، وهي تذكار موت يسوع وقيامته، القدرةَ الفريدة والخارقة على أن يقدِّموا للناس، بصفتهم خَدَمَةً كهنوتيين، شهادة حب الله الذي لا ينضب والذي سوف يتجلّى، في الرؤية الأخروية لتاريخ الخلاص، أقوى من الخطيئة. المسيح الفصحي هو رحمة الله في تجسدّها الأبدي وعلامتُها الحيّة، بطابعها التاريخي والخلاصي والأخروي[86]. الكهنوت، على حدّ قول القديس خوري أرس، «هو حب قلب يسوع»[87]. الكهنة هم أيضاً معه، بفضل تكرُّسهم وخدمتهم، علامة حيّة وفاعلة لهذا الحب العظيم، «لمهمّة المحبة»، على حدّ قول القديس أوغسطينوس[88].

 2.         كاهن وذبيحة

طبيعة العطية من المقوِّمات الجوهريّة للرحمة الحقيقية. ويجب أن نقبلها بمثابة عطية لا نستحقها، تُقدَّم لنا مجاناً ولا تنجم من استحقاقاتنا الشخصية. هذه الأريحيّة تدخل في مخطط الآب الخلاصي: «تلك هي المحبة: نحن لم نحبّ الله بل هو الذي أحبّنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا» (1 يو 4، 10). والواقع أن الخدمة المكرَّسة تجد علة وجودها في هذا السياق. لا يستطيع أحدٌ أن يهب ذاته النعمة التي لا يمكن إلاّ أن تعطى وتقبل. ويفترض هذا أن يكون ثمة خِدمة للنعمة يكلّفهم بها المسيح ويؤهلهم لها. تقليد الكنيسة يسمي «سراً» الخدمة المكرّسة التي بها يستطيع مرسلو المسيح أن يتمّوا ويقدموا بمثابة عطية من الله ما لا يمكنهم أن يحققوه ويقدموه من تلقاء ذواتهم»[89].على الكهنة أن يحسبوا إذن ذواتهم علامات حيَّة تحمل الرحمة التي لا يقدمونها كما لو كانت صادرة منهم بل كعطيَّة من الله. بل هم، علاوة على ذلك، خُدَّام محبَّة الله للبشر وخَدَمَة الرحمة. إرادة الخدمة تدخل في ممارسة المهمة الكهنوتية كعنصر أساسي يفرض على الكاهن أن يتحلّى بالاستعدادات الأدبيّة الموازية. الكاهن يجعل يسوع حاضراً للناس، حضور الراعي الذي «لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدُم» (متى 20، 28). الكاهن يؤدِّي خدمته للمسيح أولاً، ولكن بطريقة تمرّ حتماً بالذبيحة السخيّة والرسالة التي تضطلع بها الكنيسة.

«إنه يحبنا وقد بذل دمه ليغسل خطايانا. لقد بذل نفسه لأجلنا. لقد أدخل المسيح في المقدس الأبدي ذبيحة ذاته وهي ثمن فدائنا. التقدمة، أي الذبيحة لا تنفصل عن الكاهن»[90]. ومع أن المسيح هو وحده الكاهن والذبيحة، إلاّ أن خادم المسيح المندمج في دينامية الكنيسة الرسالية هو كاهن عن طريق السر!، ولكن مع التنبه الدائم إلى أن يكون هو أيضاً محرقة، و«يكون فيه من الأخلاق ما هو في المسيح يسوع» (في 2، 5). بهذا الاتحاد الراسخ بين الكاهن والضحيّة[91]، بين الكاهن والإفخارستيا تتعلّق فاعلية كل عمل تبشيري. بهذه الوحدة المتينة في الروح القدس بين المسيح وخادمه، ومن دون أن يدَّعي هذا الأخير أن يحِلَّ محلّ المسيح، بل بالارتكاز عليه وجعله يعمل فيه ومن خلاله، تتعلّق اليوم أيضاً فاعلية الرحمة الإلهية، المتضَّمنة في الكلمة وفي الأسرار: «أنا الكرمة كما أن الغصن، إن لم يثبت في الكرمة، لا يستطيع أن يثمر من نفسه، فكذلك أنتم لا تستطيعون أن تثمروا إن لم تثبتوا فيَّ» (يو 15، 4). هذه الكلمات تشمل أيضاً العلاقة بين الكاهن ويسوع في الخدمة الكهنوتية.

تذكير الكاهن بأن يصير قرباناً مع يسوع هو أيضاً في أساس الالتزام بالبتولية التي تفترضها الخدمة الكهنوتية في سبيل الكنيسة. فالبتولية هي اندماج الكاهن في الذبيحة التي أحب بها المسيح الكنيسة وبذل ذاته لأجلها، ليقدّسها» (أف 5، 25-26). الكاهن مدعوّ إلى أن يكون «الصورة الحيّة ليسوع المسيح، عريس الكنيسة»[92] ويجعل من حياته كلها تقدمة في سبيلها. «البتولية الكهنوتية هي بذل ذاتٍ في المسيح ومع المسيح لكنيسته، وهي تعبِّر عن الخدمة التي يؤدِّيها الكاهن للكنيسة في الرب ومع الرب»[93].

 3.         الكهنة وخدمتهم الراعوية: قيادة الشعب في الحب والحزم

«إن الكهنة يمارسون باسم الأسقف، بالقدر من السلطة المعطاة لهم، مهمة المسيح الرأس والراعي، ويجمعون أسرة الله، وهي الأخوّة التي ليس لها سوى نفس واحدة، ويقودونها إلى الله الآب بالمسيح وفي الروح»[94]. إن ما لا يستطيع الكاهن أن يستغني عنه من ممارسة مهمّة القيادة إنما ينبع من سرّ الكهنوت، بعيداً عن كل اعتبار سوسيولوجي محض لقدرة الكاهن على التنظيم: «إن الكهنة، بقوة سرّ الكهنوت، وعلى صورة المسيح الكاهن الأسمى والأبدي (را عب 5، 1-10؛ 7،24؛ 9،11-28) قد كُرِّسوا لنشر الإنجيل وليكونوا رعاة المؤمنين  وليحتفلوا

 بالشعائر الإلهية بوصفهم كهنة حقيقيين للعهد الجديد»[95].

يتمتع الكهنة، بفعل اشتراكهم في سلطة المسيح، بنفوذ كبير على المؤمنين؛ ولكنهم يعلمون أن حضور المسيح في الكاهن «يجب ألاّ يُفهَم كما لو كان الكاهن معصوماً عن الضعف البشري وروح التسلط والأخطاء وحتى عن الخطيئة»[96]. كلام الكهنة وإرشاداتهم بإمكانها إذن أن تحظى بقدر كبير أو صغير من الفاعلية، وفقاً لصفاتهم الطبيعية أو صفاتهم المكتسبة من ذكاء وإرادة وحزم ونضج. هذا، إذا قُرن بمعرفة الجذور الأسرارية في المهمّة الراعوية، يقودهم إلى التشبه بيسوع الراعي الصالح، ويجعل من المحبة الراعوية فضيلة لا بدّ منها للقيام بخدمتهم بطريقة مثمرة.

«الهدف الأساسي لعملهم الراعوي وللسلطة التي أُعطيت لهم هي «أن يقودوا الجماعة التي وكلت إليهم إلى غاية نموّها في الحياة الروحية والكنسية»[97]. بيد أن «البعد الجماعي في العمل الراعوي () يجب ألاّ يَصرِف الكاهن عن حاجات كل مؤمن (). ويمكن القول إن يسوع نفسه، الراعي الصالح الذي يدعو خرافه كل واحد منها باسمه وبصوت تعرفه (يو 10، 3-4) قد أقام بالمثل أول مقياس للعمل الراعوي الفردي: المعرفة والعلاقة الصداقية بين الأشخاص»[98].  في الكنيسة يجب أن تتناغم الرؤية الجماعية والرؤية الفرديّة؛ بل على الراعي أن يتدرّج، في بناء الكنيسة، من البعد الشخصي إلى البعد الجماعي. وعليه أيضاً، في العلاقة مع كل فرد ومع الجماعة، أن يبذل جهده في معاملة جميع الناس «بتواضع كبير»[99]،  وألاّ يضع ذاته في خدمة إيديولوجية أو مجموعة بشرية معيَّنة[100] ويتصرّف مع الناس لا «من منطلق ما يرضيهم بل بمقتضى العقيدة والحياة المسيحيتين»[101].

وإنما يبدو اليوم، أكثر من أي يوم مضى، على جانب لافتٍ من الضرورة، أن نُكيِّف طريقة العمل الراعوي وفقاً لحالة المجتمعات العريقة في المسيحيّة والتي تعلمنت إلى حدّ كبير. اعتبار مهمّة القيادة يبدو إذن أشدّ نتوءًا في معناه الرسالي الحقيقي الذي يجب ألاّ نعتبره مجرّد وظيفة من وظائف التنظيم البوروقراطي. وهذا يتطلّب من الكهنة أن يمارسوا فضيلة القوّة بطريقة ودودة، مستوضحين نموذجها في يسوع ومواقفه الراعوية. فهو لا يتراجع أبداً، كما نلحظ ذلك في الأناجيل، أمام المسؤولية النابعة من سلطته المسيحانية، بل يمارسها بمحبة وقوة. ولذا فسلطته لم تكن قطَّ تسلّطاً طاغياً بل أهبة وروح خدمة. هذا الوجه المزدوج السلطة والخدمة يكوِّن المرجعيّة التي يجب أن يتقيّد بها الكاهن في ممارسة وظيفة القيادة : وعليه، من ثمّ، أن يسعى دائماً إلى أن يفعّل، بطريقة متماسكة، مشاركته في حالة المسيح الرأس وراعي قطيعه[102].

الكاهن هو أيضاً، مع الأسقف وتحت سلطته، راعي الجماعة الموكولة إليه، وعليه، من ثمّ، أن يتحرّك بدافع المحبّة الأخويّة، فلا يخشى أن يمارس سلطته في المجالات التي يُطلب منه الاهتمام بها، لأنه لهذا الغرض أُقيم في السلطة. ولا بدّ من التذكير بأن الكاهن حتى عندما يمارس هذه السلطة بالقوّة اللازمة يجب أن يتوخَّى الخدمة قبل السلطة[103]. من عليه أن يمارس السلطة يجب أن يحترز من تجربة الاستعفاء من هذه المسؤولية، لأنه إذا لم يمارسها فهو ينسحب من واجب الخدمة. وعليه، بالاتحاد الوثيق مع الأسقف وجميع المؤمنين، أن يتحاشى من أن يُدخل في خدمته الراعوية أشكالاً من التسلّط المرتجل أو أنماطاً من الإرادة الديمقراطية الغريبة عن أعمق ما في صميم الخدمة الكهنوتية والتي تفضي إما إلى علمنة الكاهن وإما إلى أكلرسة العلمانيين[104]. وراء مثل هذه التصرفات ليس من النادر أن يتلطىَّ الخوف من تحمل المسؤوليات أو من الوقوع في الخطأ أو من قلة الاعتبار أو من خسران الشعبية أو من الذهاب لملاقاة الصليب… نحن هنا بإزاء تبلبل الجذور الحقيقية للهوية الكهنوتية، وهي التصوّر بصورة المسيح الراعي والرأس.

في هذا المعنى تقتضي البشارة الجديدة من الكاهن أن يجعل حضوره في وضح النور، بحيث يتبيّن أن خَدَمَة يسوع المسيح حاضرون بين الناس ومتأهبون لخدمتهم. فمن الأهميّة بمكان أن يندمج الكهنة في الجماعة اندماج صداقة وأخوّة. في هذا السياق، ليس من الصعب أن نفهم الأهميّة الراعوية للنظام المتعلّق بالزيّ الكنسي الذي يجب على الكاهن ألاّ يستهتر به، وذلك بمقدار ما يساعد في إظهار تفانيه بطريقة معلنة، بلا حدود في الزمان ولا في المكان، في خدمة المسيح والأخوة وجميع الناس[105]. فبمقدار ما يحمل المجتمع سمات العلمنة، يحتاج إلى مزيد من العلامات.

على الكاهن أن يحذر الوقوع في فخ التناقض في التصرف وما قد ينجم عنه من الانصراف عن ممارسة السلطة في المجالات التابعة لصلاحيته المباشرة ليتدخل، بعد ذلك، في المسائل الزمنية كالنظام الاجتماعي السياسي [106]– التي تركها الله للناس يتصرفون بها كما يشاؤون.

ومع أن الكاهن يتمتع بقَدَر كبير من النفوذ لدى المؤمنين ولدى السلطات المدنية، في بعض الأماكن، فإنه من الضروري أن يتذكر اليوم، أكثر من أي يوم مضى، أن هذا النفوذ يجب أن يمارسه في التواضع ويستعمله استعمالاً سليما ليساهم مساهمة فاعلة في «خلاص النفوس»، متذكـراً أن المسيح وحده هو رأس شعب الله الحقيقي: فإليه يجب أن يُقاد الناس منصرفين عن التعلّق بشخص الكاهن. النفوس هي مِلك المسيح لا غير، لأنه هو وحده افتداها بدمه الكريم لمجد الآب. وكذلك هو وحده أيضاً ربّ الخيرات العلويّة والمعلِّم الذي يعلِّم بقوّة سلطانه الخاص والأصيل، وليس الكاهن سوى قيِّم، في المسيح وفي الكنيسة، على المواهب التي وكلتها إليه الكنيسة، وبهذه الصفة لا يحق له أن يهملها أو أن يسيء استعمالها أو أن يكيفها على هواه[107]،  فلا يسوغ له، مثلاً، ألاّ ينقل إلى المؤمنين الموكولين إليه إلاّ بعض حقائق الإيمان المسيحي، مهملاً حقائق أخرى يراها أعسر قبولاً أو أقل واقعية[108].

عندما نفكِّر بالبشارة الجديدة وتوجيه الكهنة راعوياً، من الأهميّة إذن بمكان أن نسعى لمساعدتهم جميعاً في القيام بتمييز متنبه ومخلص. وراء الرغبة في عدم «فرض الذات» قد يكمن جهل الكاهن للخدمة الراعوية في طبيعتها اللاهوتيّة أو ربما ضعف في الشخصيّة وتهرّب من المسؤوليات. ويجب ألاّ نقلِّـل من قيمة ما يمكن أن يكون هناك من تعلّق مسرف ببعض الأشخاص أو ببعض المراكز الكهنوتيّة أو من رغبة سافرة في التمتع بالشعبية أو من اعوجاج في النية. المحبّة الراعوية ليست بشيء بدون التواضع. وقد يكمن أحياناً وراء نمطٍ من التمرّد المعلّل ووراء التردّد إزاء ما يقترحه الأسقف من تغيير في النشاط الراعوي، أو وراء طريقة شاذّة في الوعظ والاحتفال بالليترجيا والاستغناء عن الثياب التي تقتضيها حالة الكاهن أو تبديلها على هواه، وراء هذه كلها قد يكمن دافع من الحب الذاتي والرغبة اللاواعية أحياناً في اجتذاب الانظار.

البشارة الجديدة تقتضي من الكاهن أيضاً أهبة متجدّدة لممارسة خدمته الراعوية حيث يبدو ذلك ألحَّ ضرورة: «ينوّه المجمع بأن العطية الروحية التي نالها الكهنة في الرسامة تُعِدِّهم لا لرسالة محدودة وضيقة بل لرسالة فسيحة جداً تتوخى الخلاص الشامل، حتى أقاصي الأرض». كل خدمة كهنوتيّة تشارك في الأبعاد الشاملة التي تتميّز بها الرسالة التي وكلها المسيح إلى الرسل»[109]. تقلُّص عدد الإكليروس في بعض البلدان مع الدينامية التي يتميّز بها العالم المعاصر، يفرض الاتكال، بطريقة خاصة، على كهنة مؤهبين لتحقيق الرسالة التي تستدعيها كل حال من الأحوال، ومستعدين لأن يضعوا جانباً أذواقهم ومشاريعهم الخاصة، حباً بالله. «على الكهنة، بدافع طبيعة خدمتهم، أن يتشبَّعوا ويتحركوّا بروح رسالي عميق، وبهذا الروح الكاثوليكي الصميم الذي يعوُّدهم التطلع إلى ما وراء حدود أبرشيتهم وأمّتهم وطقسهم، ليسُدُّوا حاجات الكنيسة جمعاء فيكونوا مستعدّين، من صميم قلبهم، لينادوا بالإنجيل في كل مكان»[110]. الكنيسة الخاصّة في معناها الصحيح يجب ألاّ تكسف، ولا بوجه من الوجوه، حتى في التنشئة المستمرة، معنى الكنيسة الجامعة، بل يجب أن تتناغم وإياه.



بعض الأفكار للتأمل في

الفصل الرابع

 

21. كيف نعلن بمزيد من الوهج، من خلال جماعاتنا، وخصوصاً من خلال الكهنة، رحمة الله تجاه المعوزين؟ هل نُلِحُّ مثلاً، بما فيه الكفاية، على ممارسة أعمال الرحمة، الروحيّة منها والجسديّة، فنجد في ذلك طريق نضج مسيحي ووسيلة بشارة؟

22. هل المحبة الراعوية، في كل أبعادها، هي حقيقة للكهنة «روح التنشئة المستمرة وقوَّتها»؟

23. هل يُشجَّع الكهنة، بطريقة محسوسة، على أن يُعنوَا بكل إخوتهم الكهنة بروح أخوّة مخلصة، وبخاصة المرضى منهم والمسنّين أو الذين هم في حالة عسر؟ هل هناك أشكال من الحياة المشتركة أو خبرات أخرى تشبهها اختارها الكهنة بطريقة حرّة؟

24. هل يفهم كهنتنا ويمارسون بطريقة لائقة وظيفتهم المميّزة بصفتهم مرشدين روحيين للجماعات الموكولة إليهم؟ وكيف يتحقق ذلك بطريقة واقعية؟

 

25. هل يُلحَظُ، في تنشئة الكهنة الروحيّة، المجالُ الكافي للبعد الرسالي في الخدمة المقدّسة ولشمولية الكنيسة؟

26. هل هناك حقائق إيمانية أو مبادىء أخلاقيّة تُهمَل بسهولة في الكرازة؟

27. من المهام المميّزة للخدمة الراعوية العمل على توحيد القوى في خدمة الرسالة التبشيرية. هل الدعوات محفوزة كلها داخل الكنيسة مع مراعاة المواهب الخاصة؟



الخلاصات

 

«البشارة الجديدة بحاجة إلى مبشرين جُدد، وهؤلاء هم الكهنة الذين يلتزمون عيش كهنوتهم طريقاً مميزاً إلى القداسة»[111]. ولكي تجري الأمور على هذا النحو، من الأساسيّ أن يعود كل كاهن ويكتشف يومياً ضرورة ما يتوجب عليه من قداسة شخصيّة. «على الكاهن أن يبدأ ويطهِّر ذاته قبل أن يطهِّر الآخرين؛ ولا بدّ أن يتعلّم قبل أن يُعلِّم وأن يكون نوراً لينير، ويتقرب من الله ليساعد الآخرين في التقرّب إليه ويتقدَّس ليقدِّس»[112]. هذا الجهد يتجسّد في السعي إلى وحدة حياة عميقة تقود الكاهن إلى أن يكون ويعيش كمسيح آخر في كل ظروف حياته.

المؤمنون في الرعية أو الذين يشاركون في مختلف النشاطات الراعوية يلحظون ويلاحظون ويسمعون ويصغون لا عند ما يُكرَز بكلمة الله وحسب، بل عندما يُحتَفل أيضاً بمختلف الشعائر الليترجيّة، وبخاصة القداس المقدّس، وعندما يقصدون مكتب الرعية حيث يتوقعون أن يلقوا استقبالاً باشّاً وودوداً[113]؛ وعندما يلحظون الكاهن يأكل ويستريح ويُبنَوْن بمثال قناعته واعتداله؛ وعندما يذهبون للقائه في بيته ويفرحون بما يمارسه في حياته من بساطة وفقرٍ كهنوتيين[114]؛ وعندما يرونه يرتدي زيّه الخاص بطريقة مناسبة ومنتظمة وكاملة؛ وعندما يتحدثون إليه، حتى في الشؤون العاديّة، ويشعرون بما يحظون لديه من مساندة ويتثبَّتون من نظرتة الفائقة الطبيعة إلى الأشياء ورقَّتة وأسلوبه الإنساني في تعاطيه مع الناس حتى الأكثر ضعة بنبلٍ كهنوتي حقيقي. «وهكذا تمتدُّ نعمة المذبح ومحبته إلى المنبر وكرسي الاعتراف، والمحفوظات الرعويّة والمدرسة وملتقى الأولاد، في البيوت والشوارع والمشافي ووسائل النقل والاتصال الاجتماعي وفي كل مكان يستطيع الكاهن أن يحقق فيه مهمته الراعوية. في كل هذه الأحوال نرى حصاده ينتشر، كما نرى اتحاده الروحي بالمسيح الكاهن والذبيحة يدفعه إلى أن يصير على حدِّ قول القديس إغناطيوس الأنطاكي حنطة الله وخبز المسيح الطاهر» (را الرسالة إلى الرومانيين، 4 ، 1) لخير الإخوة[115].

بهذه الطريقة يعمل كاهن الألف الثالث على أن تتكرَّر في أيامنا ردّة فعل تلميذَيْ عمّاوص اللذين لم يتمالكا، من بعد سماعهم من يسوع المعلّم الإلهي تفسير الكتاب المقدّس، من أن يتساءلا مُعْجبَين: «أما كان قلبنا متقداً في صدورنا حين كان يحدّثنا في الطريق ويشرح لنا الكتب؟» (لو 24، 32).

علينا أن نقدِّم ذواتنا، نحن الرعاة، لملكة الكنيسة وأمها لكي نتمكن، بالاتحاد مع نوايا نائب المسيح، من أن نكتشف كيف نفجِّر في جميع كهنة الكنيسة رغبة صادقة في تجديد ما يقومون به بصفتهم معلمي الكلمة وخَدَمَة الأسرار وهُداةَ الجماعة. إننا نسأل ملكة البشارة أن تتمكن كنيسة اليوم من أن تكتشف الدروب التي أعدتها رحمة الآب، في المسيح، بالروح، منذ الأزل، لتجتذب أيضاً أهل زماننا للاتحاد به.



روما، قصر المجامع، في 19 آذار 1999، في عيد القديس يوسف شفيع الكنيسة الجامعة.

 

                         الكردينال داريو كاستريّون هويوس                           رئيس المجمع

 

+ كسابا ترنياك

أسقف شرف إمينانزيانا
أمين السرّ



 

صلاة إلى العذراء مريم الكليّة القداسة

 

يا مريم

يا نجمة البشارة الجديدة

يا من، منذ البدء، دعَمت وشدّدت الرسل ومعاونيهم لبثّ الانجيل،

أنمي في الكهنة، في مطلع الألف الثالث، الشعور بأنهم أول المسؤولين عن البشارة الجديدة.

يا مريم

أُولى المبشَّرات والمبشِّرات

يا من لبَّتْ، بإيمان ورجاء ومحبة لا تضاهى، بشرى الملاك، توسّلي من أجل الذين تصوّروا بصورة ابنك، المسيح الكاهن، ليلبّوا هم أيضاً، بالروح عينه، النداء الملح الذي يوجهه إليهم الأب الأقدس باسم الله، بمناسبة اليوبيل الكبير.



يا مريم

معلّمة الإيمان الحي

يا من قبلت الكلمة الإلهية بطواعية كاملة، علِّمي الكهنة أن يؤالفوا بالصلاة هذه الكلمة وأن يتجندوا لخدمتها، بتواضع وحرارة، لتظلَّ قوتها الخلاصيّة نافذة، في غضون الألف الثالوث للفداء.

يا مريم

الممتلئة نعمة وأم النعمة

إعتني بأبنائك الكهنة المدعوّين مثلكِ إلى أن يكونوا معاوني الروح القدس الذي يجعل يسوع يولد ثانية في قلوب المؤمنين. في ذكرى ميلاد ابنك علّميهم أن يوزّعوا بأمانة أسرار الله: وهكذا بمعونتك يُفسِحون طريق المصالحة لنفوس كثيرة ويجعلون من الإفخارستيا ينبوع حياتهم وقمتها وحياة المؤمنين الموكولين إليهم،

يا مريم

يا نجمة صبح الألف الثالث

استمرّي هاديةً لكهنة يسوع المسيح حتى إذا ما تشبَّهوا بمثال حبك لله وللقريب تمكَّنوا من أن يكونوا رعاةً حقيقيين ويقودوا خطى جميع الناس إلى ابنك، النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان (را يو 1، 9). ألا فليسمع الكهنة، ومن خلالهم جمهور شعب الله، الدعوة المُحِبَة والملحة التي توجهينها إليهم عند عتبة الآلف الجديد لتاريخ الخلاص: «مهما قال لكم فافعلوه» (يو 2،5). «في السنة الألفيـن يقول لنا نائب المسيح لا بدَّ من أن يدوِّي، بقوّة متجدّدة، إعلان الحقيقة: «ها قد وُلد لكم اليوم مخلّص العالم» (إطلالة الألف الثالث، فقرة 38)».

 



فهرس

مقدمة………………………………………………………. 6

 

الفصل الأول

في خدمة البشارة الجديدة

 

1. البشارة الجديدة: مهمة الكنيسة كلها………………………… 10

2. مهمَّة ضروريّة ولا بديل منها…………………………….. 14

 

الفصل الثاني

معلِّمو الكلمة

 

1. الكهنة معلّمو الكلمة «باسم المسيح وباسم الكنيسة»…………………….. 22

2. في سبيل مناداة فاعلة بالكلمة……………………………… 26

 

الفصل الثالث

خَدَمَة الأسرار

 

1. «في شخص المسيح»……………………………………………………………… 37

2. خدّام الإفخارستيا: «محور الخدمة الكهنوتيّة»………………………….. 40

3.  خَدَمَة المصالحة مع الله ومع الكنيسة………………………. 45

 

الفصل الرابع

رعاة يُحِبّون القطيع الموكول إليهم

 

1. مع المسيح لتجسيد رحمة الله ونشرها……………………… 55

2. كاهن وذبيحة……………………………………………. 58

3. الكهنة وخدمتهم الراعوية: قيادة الشعب في الحب والحزم……… 61

 

الخلاصات………………………………………………… 72

 

 



[1] يوحنا بولس الثاني، إطلالة الألف الثالث (10 ت2 1994)، فقرة 38: أعمال الكرسي الرسولي 87 (1995)، ص 30.

[2] يوحنا بولس الثاني، رسالة الفادي (7 ك1 1990)، فقرة 33: أعمال الكرسي الرسولي 82 (1991) ص 279.

[3] مجمع الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم «الكنيسة كلُّها»، الدار الفاتيكانية للنشر، حاضرة الفاتيكان، 1994، فقرة 7.

[4] يوحنا بولس الثاني، «أعطيكم رعاة» (25 آذار 1992)، فقرة 18: أعمال الكرسي الرسولي 84 (1992)، ص 685.

[5] يوحنا بولس الثاني، رسالة الفادي، فقرة 1، ص 249.

[6] «في كثير من الأحيان يُخشى على الدين المسيحي أن يُعتبر ديناً ما بين الأديان أو أن يمسي مجرّد مناقبية اجتماعية في خدمة الإنسان. وهكذا لا تظهر دائماً جدّتُه الثوريَّة في التاريخ: إنه «السرّ»، إنه حدث ابن الله الذي تأنس ويمكّن من قبلوه أن يصيروا أبناء الله» (يو 1/12)». (يوحنا بولس الثاني، أعطيكم رعاة، فقرة 4، ص 738-739).

[7] را المجمع الفاتيكاني الثاني، خدمة الكهنة الراعوية، فقرة 2؛ يوحنا بولس الثاني، أعطيكم رعاة، فقرة 13، ص 677-678، مجمع الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم الكنيسة كلها، فقرة 1، 3، 6؛ مجمع الإكليروس، المجلس الحبري للعلمانيين، مجمع مؤسسات الحياة المكرَّسة وجمعيات الحياة الرسولية، المجمع الحبري لتفسير النصوص التشريعية، تعليم في شأن بعض المسائل المتعلقة بمساهمة المؤمنين العلمانيين في خدمة الكهنة، سرّ الكنيسة (15 آب 1977)، مقدمة: أعمال الكرسي الرسولي 89 (1977)، ص 852.

[8] يوحنا بولس الثاني، رسالة الفادي، فقرة 63، ص 311.

[9] المرجع ذاته، فقرة 67، ص 315.

[10] مجمع الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم الكنيسة كلها، مقدمة؛ را يوحنا بولس الثاني، أعطيكم رعاة، فقرة 2 و 14: ص 659-660؛ 678-679.

[11] يوحنا بولس الثاني، الإيمان والعقل (14 أيلول 1998) فقرة 62.

[12] را التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، فقرة 171.

[13] المجمع الفاتيكاني الثاني، نور الأمم، فقرة 30.

[14] المرجع ذاته، فقرة 48.

[15] را يوحنا بولس الثاني، أعطيكم رعاة، فقرة 21، ص 688-680.

[16] المجمع الفاتيكاني الثاني، خدمة الكهنة الراعوية، فقرة 12؛ يوحنا بولس الثاني، أعطيكم رعاة، فقرة 25 ص 295-697.

[17] را مجمع الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم الكنيسة كلها، فقرة 43.

[18] القديس غورغوريوس الكبير، الفريضة الراعوية، 2، 1.

[19] يوحنا بولس الثاني، خطاب إلى الندوة السادسة لأساقفة أوروبا (11 ت2 1985) تعاليم يوحنا بولس الثاني، خطاب 8، 2 (1985)، ص 918-919. 

[20] را يوحنا بولس الثان، أعطيكم رعاة، فقرة 12، ص 675-677.

[21] يوحنا بولس الثاني، كلمة افتتاح الجمعيّة العموميّة الرابعة لأساقفة أميركا اللاتنية، سان دومنغ (12 ت1 1992)، فقرة 1: أعمال الكرسي الرسولي 85 (1993)، ص 808؛ را المصالحة والتوبة (2 ك1 1984)، فقرة 13: أعمال الكرسي الرسولي 77 (1985)، ص 208-211.

[22] بولس السادس، واجب إعلان البشارة (8 ك1 1975)، فقرة 47؛ أعمال الكرسي الرسولي 68 (1976)، ص 37.

[23] را المجمع الفاتيكاني الثاني، نور الأمم، فقرة 28.

[24] را المجمع الفاتيكاني الثاني، خدمة الكهنة الراعوية، فقرة 4؛ يوحنا بولس الثاني، أعطيكم رعاة، فقرة 26، ص 697-700.

[25] را المجمع الفاتيكاني الثاني، خدمة الكهنة الراعوية، فقرة 5، 13، 14؛ يوحنا بولس الثاني، أعطيكم رعاة، فقرة 23، ، 26، 48، ص 691-694؛ 697-700؛ 742-745؛ مجمع الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم، الكنيسة كلها، فقرة 48.

[26] المجمع الفاتيكاني الثاني، الحركة المسكونيّة، فقرة 4.

[27] المرجع ذاته، فقرة 11.

[28] را يوحنا بولس الثاني، خطاب إلى أساقفة اميركا الجنوبية (9 آذار 1983): تعاليم، 6، 1 (1983) ص 698؛ را أعطيكم رعاة، فقرة 18 ص 684-686.

[29] المجمع الفاتياني الثاني، الوحي الإلهي، فقرة 2.

[30] المجمع الفاتيكاني الثاني، خدمة الكهنة الراعوية، فقرة 4.

[31] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، فقرة 1550.

[32] يوحنا بولس الثاني، أعطيكم رعاة، فقرة 26، ص 698.

[33] مجمع الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم الكنيسة كلها، فقرة 45.

[34] المجمع الفاتيكاني الثاني، خدمة الكهنة الراعوية، فقرة 4.

[35] القديس أوغسطينوس، في المعتقد المسيحي، 4، 15، 32: الآباء اللاتين 34، 100.

[36] را بولس السادس، نشيد التسبيح (1 ت2 1970)، فقرة 8: أعمال الكرسي الرسولي 63، (1971)، 533-534.

[37] مجمع الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم الكنيسة كلها، فقرة 45.

[38] المجمع الفاتيكاني الثاني، فرح ورجاء، فقرة 22.

[39] المرجع ذاته.

[40] را مجمع الإكليروس، المجلس الحبري للعلمانيين، مجمع عقيدة الإيمان، مجمع العبادة الإلهية ونظام الأسرار، مجمع الأساقفة، مجمع تبشير الشعوب، مجمع مؤسسات الحياة المكرّسة وجمعيات الحياة الرسولية، المجلس الحبري لتفسير النصوص القانونية، توجيه في بعض المسـائل المتعلقة بمساهمة المؤمنين العلمانيين في خدمة الكهنة، «في سرّ الكنيسة» (15 آب 1997)، فقرة 3: أعمال الكرسي الرسولي 98 (1997) ص 852.

[41] المجمع الفاتيكاني الثاني، خدمة الكهنة الراعوية، فقرة 19.

[42] را المرحع ذاته؛ يوحنا بولس الثاني، أعطيكم رعاة، فقرة 70؛ مجمع الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم الكنيسة كلها، فقرة 69.

[43] را يوحنا بولس الثاني، أعطيكم رعاة، فقرة 26 و47، ص 697-700؛ 740-742؛ مجمع الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم الكنيسة كلها، فقرة 46.

[44] مجمع التربية الكاثوليكية والإكليريكيات والمؤسسات التعليمية، حديث توجيهي في دراسة آباء الكنيسة في التنشئة الكهنوتية (10 ت2 1989)، فقرة 26-27: أعمال الكرسي الرسولي 82 (1990)، ص 618-619.

[45] يوحنا بولس الثاني، الإيمان والعقل (14 ايلول 1998)، فقرة 2.

[46] را مجمع الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم الكنيسة كلها، فقرة 46.

 [47] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، فقرة 738.

 [48] المجمع الفاتيكاني الثاني،هذا المجمع المقدّس، فقرة 2.

 [49] المجمع الفاتيكاني الثاني، نور الأمم، فقرة 48.

[50] المجمع الفاتيكاني الثاني، فرح ورجاء، فقرة 45.

[51] را مجمع الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم الكنيسة كلها، فقرة 7 ب ج.

[52] المجمع الفاتيكاني الثاني، خدمة الكهنة الراعوية، فقرة 12 ج.

[53] المجمع الفاتيكاني الثاني، خدمة الكهنة الراعوية، فقرة 12 ج.

[54] را المرجع ذاته، فقرة 5.

[55] يوحنا بولس الثاني، حديث في المقابلة العمومية (12 أيار 1993): تعاليم 16، 1 (1993) ص 1197.

[56] المجمع الفاتيكاني الثاني، الليترجيا المقدّسة، فقرة 2.

[57] يوحنا بولس الثاني، رسالة إلى الكهنة بمناسبة الخميس المقدّس (16 آذار 1977)، فقرة 5: أعمال الكرسي الرسولي 89 (1977)، ص 622.

[58] را المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، الليترجيا المقدّسة، فقرة 2، 10.

[59] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، خدمة الكهنة الراعوية، فقرة 6.

[60] المرجع ذاته، فقرة 5.

[61] را المرجع ذاته.

[62] را يوحنا بولس الثاني عظة أثناء المقابلة العمومية (12 أيار 1993): تعاليم 16، 1 (1993)، ص 1197 1198.

[63] را يوحنا بولس الثاني، يوم الرب (31 أيار 1998)، فقرة 46: أعمال الكرسي الرسولي 90 (1998)، ص 742.

[64] مجمع الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم الكنيسة كلها، فقرة 49.

[65] يوحنا بولس الثاني عظة أثناء المقابلة العمومية (12 أيار 1993): تعاليم 16، 1 (1993)، ص 1198.

[66] را المرجع نفسه، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، الليترجيا المقدّسة، فقرة 112، 114، 116، 120، 122، 124، 128.

[67] را بيوس الثاني عشر، بلاغ مذاع لمؤتمر التعليم المسيحي الوطني في الولايات المتحدة (26 تشرين الأول 1946)، خطابات وبلاغات إذاعيّة 8 (1946)، ص 288؛ يوحنا بولس الثاني، المصالحة والتوبة (2 كانون الأول 1984)، فقرة 18: أعمال الكرسي الرسولي (1985)، ص 224 228.

[68] يوحنا بولس الثاني، في الرحمة الإلهية (30 تشرين الثاني 1980)، فقرة 13: أعمال الكرسي الرسولي 72 (1980) ص 1220-1221.

[69] را يوحنا بولس الثاني، كرازة أثناء المقابلة العمومية (22 أيلول 1993: تعاليم 16، 2 (1993)، ص 826.

[70] يوحنا بولس الثاني، في الرحمة الإلهية، فقرة 13، ص 1219.

[71] مجمع الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم الكنيسة كلها، فقرة 54؛ را يوحنا بولس الثاني المصالحة والتوبة، فقرة 31، ص 257-266.

[72] مجمع الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم الكنيسة كلها، فقرة 54؛ را يوحنا بولس الثاني، المصالحة والتوبة، فقرة 31: ص 257-266.

[73] را المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، خدمة الكهنة الراعوية، فقرة 13، مجمع الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم الكنيسة كلها، فقرة 53.

[74] مجمع الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم الكنيسة كلها، فقرة 52؛ را المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، خدمة الكهنة الراعوية، فقرة 13.

[75] را المجمع الحبري لتفسير النصوص القانونية، الجواب على القانون 946، 2، 212 (7 تموز 1998): أعمال الكرسي الرسولي 90 (1998)، ص 711.

[76] را المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، خدمة الكهنة الراعوية، فقرة 18؛ يوحنا بولس الثاني، أعطيكم رعاة، فقرة 26، 48، ص 697-700؛ 742-745؛ تعليم ديني أثناء المقابلة العمومية (26 أيار 1993) فقرة 4: تعاليم 16، 1 (1993)، ص 1331؛ المصالحة والتوبة، فقرة 31، ص 257-266؛ مجمع الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم الكنيسة كلها، فقرة 53.

[77] يوحنا بولس الثاني، المصالحة والتوبة، فقرة 31، 6: ص 266.

[78] يوحنا بولس الثاني، أعطيكم رعاة، فقرة 17، ص 683.

[79] يوحنا بولس الثاني، أعطيكم رعاة، فقرة 17، ص 683.

[80] را المرجع ذاته.

[81] يوحنا بولس الثاني، في الرحمة الإلهية، فقرة 13 ج، ص 1219.

[82] المرجع ذاته، فقرة 3 ص 1183.

[83] را المرجع ذاته، فقرة 13، ص 1218-1221.

[84] المرجع ذاته، فقرة 8، ص 1204.

[85] مجمع الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم   الكنيسة كلها، فقرة 48.

[86] را يوحنا بولس الثاني، أعطيكم رعاة، فقرة 8، ص 668-669.

[87] را جان ماري فيانة، خوري أرس: فكره وقلبه، من تقديم برنار نوده، لوبوي 1960، ص 100.

[88] القديس أوغسطينوس، دراسة في إنجيل يوحنا، 123، 5: CCL  36، 678.

[89] را التعليم المسيحي في الكنيسة الكاثوليكية، فقرة 875.

[90] يوحنا بولس الثاني، رسالة إلى الكهنة بمناسبة الخميس العظيم المقدس.

[91] را القديس توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية 3، المسألة 83 أ، 1، جواب على 3.

[92] يوحنا بولس الثاني، أعطيكم رعاة، فقرة 22، ص 691.

[93] المرجع ذاته، فقرة 29، ص 704.

[94] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، خدمة الكهنة الراعوية، فقرة 6.

[95] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، نور الأمم، فقرة 28.

[96] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، فقرة 1550.

[97] يوحنا بولس الثاني، تعليم بمناسبة المقابلة العمومية (19 أيار 1993، فقرة 2: تعاليم 16، 1 (1993)، ص 1245.

[98] المرجع ذاته، فقرة 4، ص 1255-1256.

[99] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، خدمة الكهنة الراعوية، فقرة 6 أ.

[100] را المرجع ذاته، 6و.

[101] المرجع ذاته 6 أ.

[102] را مجمع الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم الكنيسة كلها، فقرة 17.

[103] القديس أوغسطينوس، الرسالة 134،: CSEL  44، 85.

[104] را مجمع الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم الكنيسة كلها، فقرة 19؛ 1، يوحنا بولس الثاني، خطاب في ندوة «مساهمة العلمانيين في خدمة الكهنة الراعوية» (22 نيسان 1994)، فقرة 4: «الخدمة المقدسة» 1 (1995)، ص 64؛ مجمع الإكليروس، المجلس الحبري للعلمانيين، مجمع عقيدة الإيمان، مجمع العبادة الإلهية ونظام الأسرار؛ مجمع الأسافغة، مجمع بشارة الشعوب؛ مجمع مؤسسات الحياة المكرّسة وجمعيات الحياة الرسولية؛ المجمع الحبري لتفسير النصوص القانونية؛ تعليم في بعض المسائل المتعلّقة بمساهمة العلمانيين في خدمة الكهنة سرّ الكنيسة (15 آب 1997) مقدمّة: أعمال الكرسي الرسولي 89 (1997)، ص 852.

[105] را مجمع الإكليروس، دليل خدمة الكهنة وحياتهم الكنيسة كلها، فقرة 66.

[106] را التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، فقرة 242؛ الحق الكنسي، بند 227، مجمع الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم الكنيسة كلها، فقرة 33.

[107] را المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، المجمع المقدّس، فقرة 22؛ الحق القانوني الغربي، مادة 846، مجمع الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم الكنيسة كلها، فقرة 33.

[108] يوحنا بولس الثاني في أعطيكم رعاة، فقرة 26، ص 679 700؛ تعليم في أثناء المقابلة العمومية (21 نيسان 1993): تعاليم 16، 1 (1993)ص 938؛ مجمع الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم الكنيسة كلها، فقرة 45.

[109] يوحنا بولس الثاني أعطيكم رعاة، فقرة 18، ص 684؛ را المجمع المسكوني الفاتيكاني، خدمة الكهنة الراعوية، فقرة 10.

[110] يوحنا بولس الثاني أعطيكم رعاة، فقرة 18، ص 684؛ را المجمع الفاتيكاني الثاني، فقرة 20.

[111] يوحنا بولس الثاني في أعطيكم رعاة، فقرة 82 و  ص 801.

[112] القديس غوريغوريوس النـزينسي، ابتهالات، 2، 71: الآباء اليونانيون 35، 480 ب.

[113] المرجع ذاته، فقرة 43.

[114] را المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني خدمة الكهنة الراعوية، فقرة 17؛ مجموعة القوانين الكنسية، قانون 282؛ يوحنا بولس الثاني، أعطيكم رعاة، فقرة 30، ص 705 707؛ مجمع الإكليروس، دليل في خدمة الكهنة وحياتهم الكنيسة كلها، فقرة 67.

[115] يوحنا بولس الثاني، تعليم أثناء المقابلة العمومية (7 تموز 1993)، فقرة 7: تعاليم 16، 2 (1993)، ص 38.