حضارة قايين: ألعلّي حارس لأخي؟ (لوقا 31:6-36) عظة الأب أنطوان يوحنّا لطّوف

"ثمة أمر فاسد في دولة الدانمرك". هكذا يقول هاملت في مسرحيّة شكسبير. لكنّ الفساد من سمات الحضارة البشريّة. نحن جميعًا نسل قايين، وقصّة قايين هي قصّة الحضارة البشريّة بمُجملها.

كان قايين أوّل طفل يولَد على الأرض. وكان رجاء والديه بسبب وعد الربّ أنّ مُخلِّصًا يخرج من نسل حوّاء ويسحق رأس الحيّة ويُعيدهما إلى الجنّة. لهذا أسمياه قايين وأصل اسمه بالعبريّة "قاناه" أي "لقد اقتنيناه، لقد حصلنا عليه".

وعندما أنجبا ولدهما الثاني أسمياه هابيل ومعنى اسمه "ضعيف البُنية". لأنّ آثار السقطة بدأت تظهر على "البشريّة التي أُخضعت لعبوديّة الفساد" (رومة 21:8). لهذا صار قايين مُزارعًا يقوم بأعمال شاقة بينما صار هابيل راعي غنم.

ولعلّ قايين كان المُفضَّل لوالديه لأنّه البكر والقويّ وقد رأيا فيه المُخلِّص، بينما رأيا في هابيل "الولد الآخر، الضعيف". وهذا أفسد قايين فكان الولد المُدلّل الذي لا يُرفَض له طلب، وقد ضربه الخُيلاء والكبرياء. وتصرُّفه مع أخيه يدلّ على عدم نُضج وعقل طُفوليّ.

وبعد أيام قدّم كلّ من الأخوين تقدمة للربّ. "فنظر الربّ إلى هابيل وتقدمته وإلى قاين وتقدمته لم ينظر" (تكوين 4:4-5).

ورغم أنّ الله حذَّره من الخطيئة (كانت المرّة الأولى حيث ترِد كلمة "خطيئة" في الكتاب المُقدَّس) وأعطاه فُرصة ثانية ليُقدّم ذبيحة مرضيّة (تكوين 7:4) لكنّه لكبريائه لم يكترث. وبدلاً من ذلك تملّكه الغضب حتى رغب الموت لأخيه.

وهكذا لأوّل مرّة وُلد الحقد بين البشر، وبين الأخ وأخيه. وخادع قايين أخاه وقاده إلى الصحراء، حيث أوّل شخص مولود للبشريّة اخترع القتل وارتكب عمدًا الجريمة الأولى في التاريخ عن سابق تصوّر وتصميم، وبلامُبالاة كليّة.

"قال قايين لهابيل أخيه لنخرج إلى الصحراء. فلمّا كانا في الصحراء وثب قايين على أخيه فقتله. فقال الربّ لقايين أين هابيل أخوك. قال لا أعلم. ألعلّي حارس لأخي" (تكوين 8:4-9).

الله بنعمته أعطى قايين فُرصة لأن يعترف بخطيئته ويُكفِّر عنها. لكنّه واجه سؤال الربّ بالكذب والنُكران: "لا أدري". ثمّ طرح على الربّ أوّل سؤال يطرحه بشريّ على الإطلاق: "ألعلّي حارس لأخي"؟ مُدَّعيًا جهله لما حصل ومُبرِّئًا ذاته ومُنكِرًا مسؤوليّته عن مقتل أخيه.

أيّ كبرياء هذا! إنها حضارة قايين الذين نحن نسلُه. المُتكبّر القويّ الذي تعوّد أن ينال كلّ ما يُريد، لا ينظر إلى الكثير الذي لديه بل يشتهي القليل الذي عند الآخرين ويُريد إزالتهم من الوجود لأنّهم نالوا كرامة لم يحصل عليها هو، أو لأنهم يملكون أمرًا قد يكون عنده أفضل منه، وليس هو بحاجة إليه.

وعندما يعرف أنّه الأقوى يتنكّر للأخوّة والمودّة وينقضّ على الآخر ليجعله فريسته، ثم يُنكر فعلته. كلّ ذلك يعملُه دونما اكتراث ومن دون رحمة.

الذي اعتقدت حوّاء أنّه سوف يُعطيها الحياة، أورث البشريّة حضارة الظُلم والقتل. إنها الحضارة التي أطلقت اللص برأبّا وحكمت على يسوع البار وصلبته بين لصَّين. حضارة انعدام العدالة وانعدام الرحمة اخترعت أساليب للقتل أكثر هولاً وعاشت في حروب ونِزاعات لا مُبرِّر لها ودفعت الثمن ملايين الضحايا.

ورغم مُرور آلاف السنين لم تبلُغ البشريّة مرحلة النُضج بل لا تزال تسودها عقليّة قايين الطُفوليّة حيث القويّ يُريد كلّ شيء لنفسه ويُعادي الآخرين من دون سبب ويُلغيهم من الوجود.

لكنّ ذلك ليس من دون عقاب. فدماء هابيل، ودماء جميع المظلومين المهدورة دماؤهم عبر التاريخ تصرخ عاليًا مُطالبة بالانتقام. قال الله لقايين: "ماذا صنعت. إنّ صوت دماء أخيك صارخ إليّ من الأرض" (تكوين 10:4).

لهذا أنصف الله هابيل وردّ الصاع لقايين جزاء جريمته وكذبه ونُكرانه وعدم اعترافه بإثمه وعدم إظهاره الندامة والتوبة. قال الله "ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دماء أخيك من يدك. وإذا حرثتَ الأرض فلا تُعطيك قوّتها. تائهًا شاردًا تكون في الأرض" (تكوين 11:4-12).

الأرض التي قبِلت دماء هابيل لن تكون رحيمة على قايين. ها هو في تغرّب دائم في الصحراء التي ارتكب فيها فعلته، وقد حكم الله عليه بالمشقّة والكدّ بلا طائل. إنّه العقم الروحيّ يُظلِّل البشريّة منذ قايين.

ولم يتحقّق رجاء حوّاء بمجيء مُعطي الحياة إلاّ بميلاد المسيح. ويسوع بموعظته الكُبرى على الجبل (متى 5؛ لوقا 6) لا يتوجّه إلى الجُموع وحسب بل إلى الحضارة البشريّة قاطبة. وهو في بداية تعليمه العلَني يهدف لأن يُزيل حضارة الموت ويُقيم حضارة محبّة ورحمة وحياة تُعاكس حضارة قايين.

وقف يسوع على قمّة الجبل كأنّه يُخاطب الحضارة جمعاء وقال: "أحبّوا أعداءكم"، مُزيلاً بذلك كل عداوة بين البشر ومُلغيًا حضارة قايين بمُجملها. فبدلاً من الحقد والغضب والرغبة في إلغاء الآخر، يُنادي يسوع بمحبّة القريب كائنًا مَن كان: "كما تُريدون أن يفعل الناس بكم كذلك افعلوا أنتُم بهم".

وبدلاً من التماس القوّة والرغبة في تملّك القليل الذي عند الآخرين، يُنادي يسوع بالإحسان والعطاء كعلامة محبّة: "إن أحببتُم الذين يُحبّونكم فأيّ منّة لكم. وإذا أحسنتُم إلى الذين يُحسنون إليكم فالخطأة هكذا يصنعون".

يسوع يدعو إلى إحلال المحبّة بدل الحقد، والعطاء بدل الأخذ، والرحمة بدل الظُلم. فالخيرات التي لدينا هي من إنعامات الله علينا لكي نجعلها في خدمة حضارة المحبّة.

بهذا يُلغي يسوع شعار قايين "ألعلّي حارس لأخي". يُلغي التنكُّر للأخوّة وخيانة المودّة والخداع لأجل الأذى، والانقضاض على الآخر كفريسة لأجل قتله وإزالته من الوجود، ثمّ الكذب والنكران واللامُبالاة وتبرئة الذات والتنصُّل من المسؤوليّة.

لهذا قال "أحبّوا أعداءكم وأحسنوا وأقرضوا غير مؤمّلين شيئًا فيكون أجرُكم عظيمًا وتكونون بني العليّ"، لا بني قايين. وإذا كان تصرّف قايين يدلّ على طفوليّة وعدم نُضج فكريّ وروحيّ، فيسوع بتعليمه عن المحبّة والمغفرة والعطاء والرحمة، يُحلّ حضارة المحبّة محلّ حضارة الموت، ويرتقي بالبشريّة إلى مرحلة النضج والمسؤوليّة.

وإذا كان قايين تنصّل من المسؤوليّة بقوله "ألعلّي حارس لأخي" فيسوع يُعلِّمُنا أن الآخر الغريب والفقير والوحيد والمرض والبعيد عن الله هو مسؤوليّتُنا، وعلينا أن نمدّ إليه يد العون على قدر طاقتنا، فنكون رُحماء على صورة خالقنا الذي أوصانا قائلاً: "كونوا رُحماء كما أنّ أباكم هو رحيم". والمجد ليسوع المسيح إلى الدهور. آمين.