المزمور الرابع: صلاة المساء

مزمور توسّل، يرتّله المؤمن وقت الضيق والشدة، يعبّر فيه عن ثقة كاملة بالرب إلهه، بالرغم من كل ما يحيط به من صعوبات، ويطلب منه أن يرفع غضبه عن شعبه ليعرف الناس جميعاً أنه الإله الحق.

كما يبدو من خلال النص أن البلاد كانت تمر في ضيقة أو مجاعة أو موسم جفاف، فتذمر الناسُ وتكلموا بالسخط وتململوا "من يرينا الخيرات"، بل ويمكن أن يكونوا قد " تمردوا على الرب وعلى مسيحه" وتوجّهوا إلى آلهة أخرى يسألونها المعونة التي يظنون أن الرب يعجز الرب عنها أو يضن بها عليهم.

لذلك يصرخ المرنم داوود كقائد (نبي وملك وكاهن) اختاره الله وجعله في موقع المسؤولية، ويصلّي بحرارة وينتظر جوابًا من الرب واثقاً أنه سيتجلى ويظهر قدراته أمام شعبه فيتبرر مختاروه وأصفيَّاؤه كما برر سابقاً رسله وأنبياءه. لذلك فداود النبي واثق من معونة الرب، لكنه في انتظار علامة جديدة على حبّه ومساندته له التي لا تتأخر أبداً عن مختاريه الصديقين الذين يصرخون إليه بكل قلوبهم.

وبالرغم من زوغان عيون الكثير من الشعب وانضمامهم إلى "معسكر الشر"، وتذمرهم على الرب وعلى مسيحه وقيامهم على أبناء النور، نري داوود وأتباعه المؤمنين الذين يعرفون الحقيقة بحكم خبراتهم المتتالية والمتراكمة مع الله، ينامون في سلام، مطمئنو القلوب هادئو النفوس  وكأنهم مع النبي يرتلون " بالسلام أضجع وأنام" لهذا سمى الآباء هذا المزمور صلاة المساء وتستخدمه كنيستنا في صلاة النوم.

يمكن تقسيم المزمور على النحو التالي:

1 – صرخة استغاثة وثقة بالله

2- تحذير إلى الأعداء(2 – 4)

3 – نداء إلى المؤمنين نصائح روحية للعبادة الحقيقية (5- 6)

4- الرب فرح الصديقين يسكنهم في السلام. (7- 9).

2- حين أدعوك استجب لي يا إلهي وحافظ حقي، في الضيق وسعت لي، فتحنن واسمع صلاتي:

v   حين أدعوك استجب لي:

يا له من نداء يبدأ به داوود صلاته، إنه نداء يحمل كل علامات الثقة ويرسم صورة لعلاقة حميمة من نوع خاص. صيغة الطلب التي يبدأ بها داوود هذا المزمور تظهر مدى عمق العلاقة بينه وبين من يخاطبه إذ يستخدم عبارة لا يمكن أن تستخدم في مخاطبة الملوك والرؤساء، بل تعتبر تعبيرا دارجاً بين أصدقاء ذوي علاقة حميمة: " ردّ عليّ لما أناديك" …

v   يا إلهي وحافظ حقي:

يستطرد مستدركا اندفاعية الصرخة الأولى، ليذكر نفسه والشعب الذي يصلى عنه مع من يتكلم، إنه هاهنا أمام جلال الله وفي حضرته، وهو ربه وسيده، ناصره وراعيه، هو رب القوات الذي حماه ورعاه ودافع عنه وعن حقوقه أمام مضطهديه فهو" حافظ حق"  الذين يتقونه ويصرخون إليه من كل قلوبهم.

v    في الضيق وسعت لي:

إنك المنقذ الوحيد من جميع الشدائد والضيقات، هذه خبرتي الشخصية معك، طلبتك دوماً يا رب في أوقات شدتي ومحنتي فوجدت فيك نعم المعين، عرفت فيك الآب الحنون والراعي الصالح والحامي الأمين، لقد أجزتني في الماء والنار وأخرجتني إلى الراحة ، سرت بجواري في وادي الظلمة وظلال الموت ونصرتني على الأفعى والتنين… فكلي ثقة بك.

v    فتحنن واسمع صلاتي

هاأنذا أرتمي في حضنك الأبوي اليوم، أعود أصلي إليك طالبا منك القوة والمعونة، فتحنن يا رب واستمع صلاتي، فليس لي سواك من ملجأ… هلم وليلن قلبك الرءوف على ابنك الذي يصرخ نحوك " فاسمع صلاتي" لا بأذنيك المرهفتيي السمع بل بقلبك المتحنن، ، إنه لا يطلب رحمة أو عدلاً بل حناناً، يا له من دلال بنين على أبيهم!!!

وكأن لسان حال داود يقول: هكذا حالي دوما كثيراً ما أتناساك في أوقات فرحي ومرحي، وغالباً ما أتجاهل وجودك وقت ملذاتي وآثامي، لكني كل مرة تنفذ قواي وأشعر بالضيق وبالخوف، كل مرة أكتشف نفسي وحيداً طريداً بائساً، لا أجد لي من ملجأ سواك، فأنت في حياتي ينبوع الحب والحنان.

3- إلى متى تجرحون كرامتي أنتم يا بني البشر، إلى متى تحبون الباطل وتبتغون الكذب:

بعد أن فرغ من صلاة المناجاة، الصلاة القلبية العميقة مع ربه إلهه وأبيه، وأيقن أنه حاضر يسمع ويرى ويستجيب،  وعرف انه سيتولى أمره ويعضده أمام أعداءه ويقويه ، اطمئن قلبه وسكن روعه،  لذلك يتوجه بحواره في اتجاه آخر: ها نحن نراه يواجه إخوته بتي البشر بقوة جديدة وطاقة متجددة، فنراه  يلومهم ويعاتبهم ويعتبر أن كل ما يقومون به من طقوس وعبادات، وما يقربونه من قرابين وذبائح، وما يتلفظون به من تجديف وتذمر على الرب إلههم ، جرح للعهد مع الله وجرح لكرامته هو شخصياً، كقائد (نبي وملك وكاهن) اختاره الله وجعله النبي الملك البار الممسوح الذي لا تقل بالطبع عن كرامة من برره ومسحه ونصبه ملكاً على شعبه." من أكرمك أكرمني ومن أكرمني أكرمه أبي الذي في السموات"  

 

v   إلى متى تحبون الباطل وتبتغون الكذب:

سؤال استنكاري يوجهه إلى أتباع " معسكر الشر" وقد سئم من أساليبهم البطّالة وطرقهم الملتوية وحبهم للشر، وسعيهم الدءوب خلف الباطل، وفي هذه الحالة بالذات تشفعهم بآلهة الأمم والأصنام واستخدام الطقوس والعبادات المبتذلة التي كانت تمارسها الشعوب الوثنية لجلب رضي الآلهة واستنزال المطر، والتي كان بعض اليهود يلجئون إليها في زمن الجفاف حين لا تمطر السماء…

ونحن ألا نلجأ إلى العرافين والسحرة حين تتعقد الأمور؟ إلا نعتقد في العفاريت والأرواح ونخشى أعمال الشعوذة وعدم رضا الأسياد؟ ألا نتفاءل ونتشاءم ونؤمن بالحظ والطالع؟ ألا نسلك كثيراً سلوك الأمم ونصدق الكذب بل ونسعى وراءه؟

4- اعلموا أن الر ب قد اختارني لأني أنا تقيه، الرب يسمع لي إذا صرخت إليه :

وبعد ان وبخ إخوته تحرر المرنم من الضيق فطلب من الرب معونة جديدة تجعل هؤلاء الناس يشاهدون بعيونهم تدخّله العجيب لأجل أحبائه الذين يؤمنون به ويتمسكون بناموسه، حتى تظهر عليهم مخافة الرب فُتبعدهم عن الخطيئة أو التشبّه بسلوك هؤلاء الذين تمرّدوا على الله وعلى النبيّ ولم يصرخوا إلى الرب، بل راحوا يسخرون منه ومن إلهه وحتى من صلاته التي لا تجدي في نظرهم ولن تخرجهم من الجفاف والجوع، بالتالي لا يرون لها أي أثر على حياتهم ومعاناتهم اليومية… لذلك يذكرهم النبي المرنم ببعض البديهيات:

v   1- الر ب قد اختارني:

البديهية الأولى: الرب اختارني ومسحني نبياً وملكاً وكاهناً لأكون الوسيط بينكم وبينه، لا لاستحقاقي بل لمحبته وتحننه " لستم أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم". وقد أسهبنا الشرح في المزامير الثلاثة السابقة في ماهية ونوعية هذا الاختيار والتفاعل المتبادل بين الرب وأتقياءه وعرفنا أن الرب لا ينقض عهده لهم.

v   2- لأني أنا تقيّه:

البديهية الثانية: وأنا من جهتي أتقيه فأحيا في مخافته "رأس الحكمة هي مخافة الرب" والتقوى تعني الطاعة التامة والخضوع الكامل لإرادته المقدسة، والعمل بوصاياه في كل لحظة وساعة ويوم ، واستحضاره المستمر في كل خطوة وحركة، ليتمم مشيئته في الحياة كلها وإلى النفس الأخير. وتقوى المرنم الحقيقّية تدفعه إلى الرجوع الدائم إلى الله. والسير في طرقه وحفظ وصاياه…وهو لا يقدمها هنا للتباهي والتفاخر بل كأسلوب وحيد نستطيع به الوصول إلى الله  

v    3- الرب يسمع لي إذا صرخت إليه:

البديهية الثالثة: النبي واثق إن الرب سيستجيب له وينجيه عندما يصرخ نحوه بثقة البنين لذلك فهو يصرح طالما إني أتقي الرب فهو لن يتخلى عني. من هذا المنطلق الراسخ، والثقة المطلقة تولد البديهية الثالثة.

وبذا نخرج بنتيجة حتمية وهي:

–       إن النبي يثق في الله الذي اختاره، والله يثق فيه كرجل بار يتقيه ويصنع إرادته

–       إن النبي يعمل بوصايا الله ويحفظ ناموسه في حياته، والرب يعتني بالنبي وشعبه ورعيته

–       إن النبي عندما يدعو الله فإن الله يستجيب له.

5- ارتجفوا خوفاً ولا تخطأوا. تكلموا في أعماق قلوبكم وأنتم على مضاجعكم صامتون:

وبعد أن فرغ النبي من البديهيات الثلاث يرى أن الموقف يحتاج حتماً إلى أن يوجه بعض النصائح الهامة لإخوته بني البشر من المعسكرين ويضع لهم بعض القواعد الأساسية في أسلوب وطريقة التوجه والوقوف أمام الرب:

أولا: إن التعامل مع الله غير التعامل مع باقي الآلهة من الأصنام والبشر فهو رب الأرباب

ثانياً: الوقوف بين يدي الله يتطلب وعياً بمقدار ضاءلتنا: قفوا أمام الرب بخوف ورعدة

ثالثاً: الدخول في حضرة الله يتطلب طهارة: لا تخطأوا كي تكونوا أهلاً للمثول في أمامه

رابعاً: الكلام مع الرب يتطلب عمقاً: تكلموا معه بأعماق القلب وليس بكلام الشفاه

خامساً: متى صليتم لا تكثروا الكلام بل الأفضل أن تصلوا في صمت.

6- قربوا ذبائحكم كما يليق وعلى الرب توكلوا:

يكمل سلسلة النصائح الذهبية الهامة التي بدأها في الآية السابقة في طرق التعامل مع الرب الإله وعبادته:

سادساً: تقديم ذبائح للرب يختلف فهو لا يسر بلحم الكباش بل بعمل إرادته،" الذبيحة لله روح منسحق".

سابعاً: إذا قدمتم الذبائح فاختاروا أفضل ما لديكم وقدموه بالصورة المذكورة في الشريعة والناموس "لا تذبحوا للرب إلهكم ثوراً أو شاةً يكون فيه أي عيب أو عاهة لأن ذلك يكون رجساً لدى الرب إلهكم"  (تثنية 17: 1)

ثامناً: ارقدوا في سلام مطمئنين، فطلبتكم قد سمعت وصلاتكم الصامتة قد استجبت بعد أن تكلمتم معه من أعماق القلب، وصليتم في هيكله وقدمتم الذبائح كما يليق بمجده وكرامته.

v   وعلى الرب توكلوا:

تاسعاً: وأخيراً توكلوا على الله إذن بكل قلوبكم… على الرب توكلت فلا أخزي…من أكثر العبارات تكرارا في الكتاب المقدس وسفر المزامير بنوع خاص وتعني الاعتماد المطلق عليه وحده فملعون من يتكل على زراع بشر…وهذا يعني الثقة والاتكال وعدم التذمر أو الشك أو الشكوى …نفذوا هذه الوصايا ولن تبقى لكم ذكرى تبكون عليها أو أمنية بدون تحقيق.

7- كثيرون يقولون "من يرينا الخيرات" فيا رب يا إلهنا ارفع علينا نور وجهك:

هذه العبارة "من يرينا الخيرات"، ليست غريبة على ألسنة بني إسرائيل ولا على آذان الله… لقد سمعها حتى سأم منها. وليس ما حدث مع  موسى النبي في البرية ببعيد عن الذاكرة أو الأذهان حيث كان إيمان موسى يضعه أمام قداسة الله، بينما كانت مسؤوليّته كقائد ونبيّ تجعله ذلك المتوسّل الدائم الذي يطلب من الرب أن يرفع الضربات عن شعبه القاسي الرقاب الدائم التذمر والشكوى:

 * تذمروا حين رأوا جيوش فرعون تتبعهم: (خروج 14: 9-11) ولما اقترب فرعون رفع بنو إسرائيل عيونهم فرأوا المصريين يتبعونهم فخافوا جداً وصرخوا إلى الرب وقالوا لموسى" أما في مصر قبور فأخذتنا لنموت في هذه البرية؟ماذا عملت بنا فأخرجتنا من أرض مصر، أما قلنا لك في مصر دعنا نخدم المصريين فخدمتنا لهم خير من أن تموت في البرية؟ ماذا فعلت بنا؟ فقال موسى الرب يحارب عنكم، لا تخافوا قفوا وانظروا خلاص الرب… فقال الرب لموسى ارفع عصاك ومد يدك على البحر فينشق….

* تذمروا حين جاعوا: (خروج 16: 2-4) :في اليوم الخامس عشر من الشهر الثاني لخروجهم من ارض مصر. فالقوا اللوم على موسى وعلى هارون في البرية وقالوا:" ليتنا متنا بيد الرب في أرض مصر. فهناك كنا نجلس عند قدور اللحم ونأكل من الطعام حتى نشبع، فلماذا اخرجتمانا إلى البرية لتميتا هذا الجمع كله بالجوع"

*  تذمروا حين عطشوا: (خروج 17: 2-7) فخاصموا موسى وقالوا " أعطونا ماء نشربه"…" لماذا أصعدتنا من مصر لتميتنا نحن وبنونا ومواشينا بالعطش؟" فصرخ موسى إلى الرب " ماذا افعل بهؤلاء الشعب؟ بعد قليل يرجمونني" فقال له الرب "…خذ عصاك التي ضربت بها البحر واذهب فتجدني واقف أمامك هناك عند الصخرة في حوريب فتضرب الصخرة فيخرج منا ماء يشرب منه الشعب"

* تذمروا حين غاب فعبدوا العجل: (خروج 32:1)  ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمعوا على هارون وقالوا له: "قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا، فهذا الرجل موسى الذي أخرجنا من أرض مصر لا نعرف ماذا أصابه"

* وغضب الرب كثيراً: حتى أنه قال لموسى (خروج 32: 9-11) وقال الرب لموسى: "رأيت هؤلاء الشعب، فإذا هم شعب  قساة الرقاب، والآن دع غضبي يشتد عليهم فأفنيهم وأجعلك أنت امة عظيمة". فتضرع موسى إلى الرب …"ارجع عن شدة  غضبك وعد عن الإساءة إلى شعبك واذكر عهدك …" فعاد الرب عن السوء الذي قال إنه سينزله بشعبه. "دعني أبيد هذا الشعب وأجعلك أنت قائداً لأمة ليست غليظة الرقبة مثل هؤلاء"

* وأنبهم موسى وحذرهم كثيراً (خروج 32: 11-14)  وفي الغد قال موسى للشعب "خطئتم إلى الرب خطيئة عظيمة، والآن أصعد إلى الرب لعلى أكفر عن خطاياكم"،

* وتشفع موسى عنهم كثيراً ورجع موسى إلى الرب وقال " يا رب خطئ هؤلاء الشعب خطيئة عظيمة فإما تغفر خطيئتهم أو تمحوني من كتابك الذي كتبته" فقال الرب لموسى" لا أمحو من كتابي إلا الذي خطئ إليّ" والآن تذهب  وتقود الشعب إلى حيث قلت لك وهاهو ملاكي يسير أمامك ولكن يجيء يوم أعاقبهم فيه على خطيئتهم".

كلها نصوص تذكرنا بالتذمر الدائم والشكوى المستمرة والشك المريع، وهي ليست بغريبة على بني إسرائيل فتاريخهم برغم عظمة أعمال الله معهم وذراعه القديرة التي خلصتهم يدل على أنهم كانوا دائمي التذمر والشك في حضور الله وعمله، سمات أصبحت ملازمة لهذا الشعب، ولولا الشفاعة القوية والأكيدة لموسى وداود وكثير من الأنبياء لكان أبادهم بالفعل. ومرة أخرى يبدو أن القحط الشديد أو المجاعة قد أزاغت عيون الشعب من جديد، مما جعله يلجأ إلى الآلهة الغريبة والطقوس الوثنية والعبادات الغير طقسية بل تجاوز الأمر ذلك إلى حالة من التذمر الكامل على الله والملك: أين منا خيرات الماضي.

v   فيا رب يا إلهنا ارفع علينا نور وجهك

انتهى النبي من الصلاة والدعاء وتقديم النصائح لإخوته وأبناء شعبه، وانتقاد أسلو بهم المريض في التنكر والنسيان والخيانة والضلال.. وبصلاة ختامية جميلة وبليغة بتوجه بالدعاء إلى الله أن يفرج كربه ويفرح قلبه وقلوب جميع أبناءه الذين يترجونه فهو وهم لم يعودوا يترجون سوى وجه الله، يكفي أن  يشرق عليهم بنور وجهه، وهذه من صيغ الصلاة والأدعية التي تتردد كثيراً في الكتاب المقدس وسفر المزامير بنوع خاص، وتعني لصاحب المزمور نهاية كل الأزمات والخروج منتصراً رافع الرأس. فحيث خسر الآخرون كل رجاء يشرق الله بوجهه فيجد أتباعه الحل النهائي لجميع ما يواجهون من مشاكل بينما يكون في هذا الظهور الإلهي نفسه النهاية الأكيدة والهلاك المبين لأعداء الله والملك.

8- بعثت فرحاً في قلبي أين منه فرح الأغنياء بكثرة حنطتهم والخمر؟:

يشعر النبي الآن بارتياح كبير وقد فرغ من مناجاته الواثقة الصلاة العميقة لله مخلص نفسه وفاديه، ويتجاوز الاحساس بالخوف والقلق فيخرج إلى الفرح والسرور!!! فما هي يا ترى دوافع هذا الشعور الغامر بالسعادة والحبور؟ بالرغم من عدم وجود أية إشارة لزوال القحط وعودة المطر حاملا الخير للزرع والضرع، نجد النبي فرحاً مطمئن الوجدان…هذه هي باختصار شديد ثمرة الصلاة القلبية، فالنتيجة لا تهم لأن ثقة قلب الإنسان الذي يصلي كفيلة وحدها بتغير العالم كله، وليس المهم تغيير الظروف الخارجية فهي بطبعها شديدة التقلب سريعة الزوال، المهم هو تغيير الظروف الداخلية من توتر وخوف وقلق إلى فرح وسعادة وسلام…

v    أين منه فرح الأغنياء بكثرة حنطتهم والخمر:

 حيث يعطي الغنى والمال وكثرة الخيرات اطمئنانا ونعيما لأصحابها، يجد المرنم في الله وحده ذلك الفرح الكامل الذي لا يوثِّر فيه جوع ولا تهزه محنة، فالفرح الذي يملأ قلبه فرح مختلف عن فرح سكان العالم. الفرح الحقيقي لا يكمن في كثرة الخيرات الأرضية بل في الخير السماوي الذي يمنح نفوس الأتقياء سلاما لا يصفه لسان ولا يدركه عقل…

9 –في سلام أضطجع وأنام، لأنك وحدك يا رب تجعل مسكني آمنا:

v   في سلام أضطجع وأنام:

هذا السلام يجعل المرنم يغط في نوم عميق فإحساسه أن "الرب راعيه فلا شيء يعوزه"  كفيل بمحو الخوف من قلبه وإذابة الهموم من فكره والتغلب على المخاوف في وجدانه ومتى اطمئن القلب والفكر والوجدان … حينئذ ننام في سلام، هكذا حال المرنم، ولعل داوود وأبناء الله قد اعتادوا هذه المعارك فنراه ينام في سلام مطمأناً وإن اصطف حوله جيش كامل وهاجمته الكواسر والوحوش بل وحتى إن كان بطنه فارغًا فهو لا يبالي، لأن حضور الرب في حياته هو ينبوع كل شبع وتعزية وبركة وسلام وفرح. صلاة المرنم ونجواه وإن لم تحرره من الضيق المادي لكنها حررته مما هو أمّر وأصعب وأكثر إيلاماً: لقد تحرر من الخوف والقلق والعبودية. لقد شبعت نفسه من الخيرات الروحية فلم تعد تلك المادية تمثل له شيئاً يذكر، ولم يعد يهتم بها أو يطلبها في صلاته " كل هذه تطلبها الأمم وأبوكم السماوي يعلم ما انتم بحاجة إليه، أطلبوا أولا ملكوت الله وبره والباقي يزاد لكم ويتم"  لذا صارت صلاته وكل طلبته من الرب: نعمة تجعل الناس جميعاً يشاهدون أمام عيونهم تدخّله العجيب من أجل  أحبائه، حتى تظهر مخافة الرب على المؤمنين لتُبعدهم عن الخطيئة فلا يتشبّهون بهؤلاء الأغنياء والمقتدرين الذين اعتمدوا على أموالهم ولم يصرخوا إلى الرب في قلوبهم." ما اعسر على المتكلين على الأموال أن يدخلوا ملكوت السماوات".

v   وحدك يا رب تجعل مسكني آمنا:

علامة استماع واستجابة الرب لأصفيائه الذين يدعونه كما أسلفنا، علامة داخلية وليست خارجية، وها هو المرنم يشعر بقدرة الله تلمسه وتحيط بمسكنه فيتزايد عنده الشعور بالسلام والأمان وكأني بمسكنه آمنا يفيض بالخيرات بالرغم أنه لم ير مخازنه وقد امتلأت حنطة ولا قواريره تفيض زيتا ولم يشعر بالخمر وقد طفحت من أوانيها… لكنه متأكد أن تحنن الرب وحضوره يغير الحال كلياً .

كيف عاش الرب يسوع  المسيح هذا المزمور؟

نستطيع القول أن المزمور ينطبق على حياة الرب يسوع، وقد فسّره آباء الكنيسة بطريقة مسيحانية فجعلوا كلماته تطابق حياة المسيح وكلامه وها نحن نرى شخص الرب يسوع:

–       حين أدعوك استجب لي: مثل النبي نرى الرب يسوع واثق من استجابة الآب الفورية  فهو يصلى أمام قبر لعاذر " أيها الآب أشكرك لأنك استجبت لي وانأ اعرف انك تستجيب لي في كل حين ولكني أقول هذا من اجل هؤلاء الناس حولى، حتى يؤمنوا انك أرسلتني " ( يوحنا 11 : 41-43)

–       في الضيق وسعت لي: لا شكّ في أن المسيح صلّى هذا المزمور مرارًا ليعبّر به عن ثقته بالآب في كل ما لاقاه حلال حياته على الأرض من آلتم ومتاعب وحتى في ساعات الألم والموت.

–       إلى متى تجرحون كرامتي أنتم يا بني البشر: " إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله" ألم يجرح يسوع في بيت أحباءه؟ الم تمتهن كرامته ويهان ويبصق على وجهه ويجلد ويسخر منه ويعلق على الصليب ملعوناً من إخوته البشر الذين أحبهم إلى المنتهى؟

–       إلى متى تحبون الباطل وتبتغون الكذب: ألم يتحقق هذا في حياة الرب يسوع " النور جاء إلى الظلمة والظلمة لم تدركه" ألم يصرخ الشعب "أطلق لنا براباس" لأنهم أحبوا مجد العالم الباطل ورفضوا المجد الذي من الله.

–       اعلموا أن الر ب قد اختارني: هذا الذي قدسه الله وأرسله إلى العالم الذي قال عنه " هذا هو ابني الحبيب فله اسمعوا" هو الذي رفضوه وقتلوه معلقين إياه على خشبة"

–       لأني أنا تقيه: " انأ لا أعمل شيئا من عندي بل ما أعطاني الأب إياه أفعل أنا لا اقول شيئاً من ذاتي بل كما علمني الأب كذلك أقول" ، "لتكن مشيئتك لا مشيئتي "،"هذا هو حمل الله الحامل خطيئة العالم". أليس هذا هو المسيح!

–       تكلموا في أعماق قلوبكم: كانت صلاة يسوع وكلماته من عمق القلب بها يخاطب الأب وهكذا علمنا

–       كونوا صامتين : ظل يسوع صامتاً كشاة تساق إلى الذبح وكحمل صامت أمام جازيه ظلم ولم يفتح فاه

–       قدموا الذبائح : وقدم نفسه ذبيحة حقيقية حية زكية مقبولة لدى الأب كحمل لا عيب فيه

–       وعلى الرب توكلوا: كانت حياته منذ ميلاده إلى يوم صلبه وقيامته وصعوده سلسلة من الاتكال المستمر والاعتماد الكامل على الله وحده " الحق أقول لكم ستتركونني وحدي ولن أكون وحدي لأن أبي يكون معي" لقد اتكل على الرب فلينجه".

–        "من يرينا الخيرات": هو جاء ليرينا الخيرات ويشبعنا بفيض بره " جال يصنع خيراً ويشفي كل سقم" وعندما رأى الجموع "تحنن عليها لأنها كانت كخراف لا راع لها" وأعطاهم الخبز ليأكلوا وعندما رآهم يبحثون عنه من جديد "قال لهم: الحق أقول لكم أنكم لا تبحثون عني لأجل كلمة الله بل لأنكم أكلتم المن في البرية وشبعتم"  لأنهم حين شبعوا خبزاً عادوا بالذاكرة إلى الزمن القديم حيث كان الرب يقوتهم في البرية، لكن الرب يسوع يريدهم إن يغيروا أساليبهم القديمة التي طالما قادتهم إلى التذمر والعصيان فيقول "إعملوا لا للطعام الفاني بل للطعام الباقي للحياة الأبدية الذي يعطيكم إياه ابن البشر".

–       فيا رب يا إلهنا ارفع علينا نور وجهك: ألم يشرق وينير بوجهه علينا حين كلمنا أخيرا بابنه الوحيد صورة الله وضياء مجده وصارت ثيابه بيضاء لامعة…كنور حقيقي أشرقت للضالين وغير العارفين. النور أضاء في الظلمة وقسم التاريخ إلى قسمين ما قبل ميلاده وما بعده.

–       بعثت فرحاً في قلبي : إني أفرح من أجلكم وفرح المسيح يفوق كل إدراك والإنجيل يقول افرحوا في كل حين وأقول أيضاً افرحوا .

–       في سلام أضطجع وأنام :رقد المسيح بسلام ونام في القبر وانتظر جواب الآب له عبر النور والفرح .

–       لأنك وحدك أضجعتني على الرجاء: ونحن نقرأ هذا المزمور في نهاية البصخة يوم الجمعة العظيمة عند طقوس الدفن واثقين مع الراقد والمرنم والكنيسة وكلنا رجاء بالقيامة والخلاص والعبور من الموت إلى الحياة، إلى الفصح…

كيف نعيش هذا المزمور في حياتنا كمسيحيين:

لا جدال على أن هذا المزمور هو أيضا تجسيد للطوبى التي يحياها المسيحي الحقيقي:

–       حين أدعوك استجب لي: هي طلباتنا وطلبة الكنيسة " الهيتينيات" في كل صلاة في كل الطقوس في كل العبادات لكل الشعوب بكل اللغات…بل لا نبالغ أن نقول إننا نتجاوز كثيراً في الطلبات بدلا من الشكر وترك المساحة ليتمم الله إرادته في حياتنا. كذلك لنتعلم الثقة والصلاة الحقيقية  ليست الصلاة كلمات تخرج الكلمات من أفواهنا بل لتكن صلاتنا الصامتة في قلبنا، وكما يقول القديس أغسطينوس: "لا تكون الصلاة صحيحة إلاّ حين تتكلّم النفس وحدها إلى الربّ". " إسألوا تعطوا طلبوا تجدوا" (مت 7:7).

–       في الضيق وسعت لي: تردّد الكنيسة هذا المزمور صلاة واثقة منتظرة من الله أن يصنع فيها معجزاته. وقد انشده الملايين من الشهداء عبر التاريخ وهم يقدمون حياتهم على هذا الرجاء ويُنشده المؤمن عند المساء وقبل راحة النوم، فيستسلم بثقة إلى الرب متذكّرًا كلام القديس بولس: "وسلام الله الذي يفوق كل ادراك يحفظ عقولكم وقلوبكم في المسيح يسوع".(فيليبي 4: 7).

–         إلى متى تجرحون كرامتي أنتم يا بني البشر: إنه تحقيق للطوبى التي منحها الرب يسوع لأتباعه "طوبى لكم إذا عيروكم واضطهدوكم وقالوا عنكم كل كلمة سوء من أجلي كاذبين إفرحوا بهذا" (مت 5:11)

–       إلى متى تحبون الباطل وتبتغون الكذب: العالم حولنا غارق في الفساد والشر والخطيئة والممارسات الفاسدة…ونحن ألا نلجأ إلى العرافين والسحرة حين تتعقد الأمور؟ إلا نعتقد في العفاريت والأرواح ونخشى عدم رضا الأسياد ونتفاءل ونتشاءم ونؤمن بالحظ والطالع؟ ألا نسلك كثيراً سلوك الأمم ونصدق الكذب بل ونسعى وراءه؟

–         اعلموا أن الر ب قد اختارني: نحن أبناء الله المحبوبين "لستم انتم اخترتموني بل انا اخترتكم" "فنحن لم نحب الله بل هو الذي احبنا اولاً" وهو "الذي اصطفانا قبل إنشاء العالم"  وأحبنا وبذل ذاته من أجلنا.

–       لأني أنا تقيه: إذا كان النبيّ قد تحدّث بهذه الطريقة، فلم يفعل ليعرّفنا بتقواه ويتفاخر بدلاله على الله وقوة تأثيره، بل ليعلّمنا ما يجب أن نفعل إذا أردنا أن يستجيب الله لنا بسرعة ويمنحنا ما نطلبه في صلواتنا. فالملك النبيّ لم يقل: بعد أن دعوته ولكن حين دعوته استجاب لي، وهذا هو وعدُ الله بواسطة نبيّه لمن يدعوه: "ساعة تكون متكلّمًا، أقول هاءنذا" (أش 58: 9). فالذي يعطي صلاتنا قوّة الإقناع على قلب الله، ليست كثرة الكلمات، بل الضمير النقيّ وممارسة الأعمال الصالحة.

–       "أفضتَ فرحًا في قلبي": يجب أن لا نطلب فرحنا في الخارج، لدى الذين ثقُل قلبهم فأحبّوا الباطل وطلبوا الكذب. وكما يقول القديس أغسطينوس: يجب أن نطلبه في الداخل، في عمق نفسنا المطبوعة بنور وجه الله.هو لم يكن يكلّمه في الخارج، بل في عمق قلبه، ففي هذا الخدر المغلَق يجب أن نصلّي.

–   فيا رب يا إلهنا ارفع علينا نور وجهك: من الممكن القول بأن المرنم استُجيب من قبل الله، لأنه كان داودَ النبي أما أنا الصغير والقليل الأهميّة، فلا أستطيع أن أرجو شيئًا." الحق اقول لكم ليس في مواليد النساء أعظم من يوحنا، لكن الأصعر في ملكوت السموات اعظم منه"  لا تخف أيها المسيحي أن تطلب كلا فالله لا يحابي الوجوه بل يتفحّص بدقة أعمال من يصلّي إليه وتوجهات قلبه. فإذا استطعت أن تقدّم أعمالك لكي تسند صلاتك، سوف تُستجاب دائمًا. ولكن، إن ناقضت أعمالك صلاتك، فلا تستطيع أن تجعل قلب الله يلين.

–   يجب ان تكون لدينا هذه الثقة: بما أن الله يرغب في صداقتنا ويطلبها، فهو يعمل كل شيء لكي يوطد إيماننا ويلهمنا الثقة به. وحين يرانا نصلي بإيمان وحرارة وإلحاح " صلوا في كل حين ولا تملوا"،" اطلبوا تجدوا اقرعوا بفتح لكم" يتنازل لمستوى رغباتنا. هذا ما فعله تجاه الكنعانيّة التي قامت بمحاولات عديدة، فمنحها ما طلبته. وإن تظاهر أولاً وكأنه يريد أن يتأخّر… ولكنه لم يشأ أن يؤجل إلى يوم آخر النعمة التي طلبتها هذه المرأة. بل أراد أن يتوّج ثباتها بشكل ساطع ويجعل طلبتها حيّة وحميمة.

–   لنستعدّ إذن للصلاة  باعتناء وإلحاح إلى الله، ولنتعلّم كيف يجب أن نوجّه إليه طلبتنا.. يقول القديس يوحنا فم الذهب "يكفي أن تريد الله فأنت تعرفه معرفة تامّة وهكذا تستطيع أن تدافع عن قضيّتك كما تدافع عن قضيّة الآخرين".

–   بالسلام اضطجع وأنام: إنه سلام الله وفرحه الذي يحيا فيه مختاريه والذي يفوق فرح أغنياء الأرض الذين لا يعرفون السعادة الحقيقية الكامنة في مخافة الرب، بل يتكلون على كثرة خيراتهم" يا نفسي كلى وتمتعي لديك خيرات كثيرة لأزمنة عديدة" لذلك يخاطبهم " اليوم تؤخذ نفسك منك أيها الجاهل فكل الذي أعددته لمن يكون"…

 

فليحفظنا من كل الشرور وإذا سمح بالتجارب فصرخنا " يا رب نجني" فليقم ويشرق بنوره علينا فيتبدد أعداؤنا ويرتدوا إلى الوراء. وليعطنا نعمة أن نعش في سلام الرب الذي يعلوا ويفوق كل فهم. آمــــــــــين

 

 

الأب/ بولس جرس