رسالة بندكتس السادس عشر خلال قمة منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة الفاو التي عقدت في روما

روما، الخميس 5 يونيو 2008 (ZENIT.org)

 ليس الجوع وسوء التغذية بأمرين حتميين والمطلوب قرارات شجاعة وإصلاحات بنيوية، حسب ما طالب به بندكتس السادس عشر.

 وجه البابا رسالة إلى المشاركين في قمة منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) المنعقدة  في مقر هذه المنظمة في روما لغاية 5 يونيو.

 وقد قرأ رسالة البابا الكاردينال ترشيسيو برتوني، أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان، عند افتتاح هذه القمة. والأمر عبارةٌ عن "مؤتمر على مستوى عالٍ حول الأمن الغذائي العالمي: تحدي التغيرات المناخية والطاقات الحيوية".

 ننشر في ما يلي رسالة بندكتس السادس عشر

 
***

 
فخامة رئيس الجمهورية الإيطالية

معالي رؤساء الدول والحكومات

حضرة مدير عام منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو)

حضرة أمين عام منظمة الأمم المتحدة

سيداتي وسادتي

 أشعر بالسعادة لتوجيه تحية قلبية ملؤها الاحترام لكم، أنتم الذين تمثلون بدرجات مختلفة، مختلف عناصر العائلة البشرية، والذين اجتمعتم في روما للتوافق على حلول ملائمة لمواجهة مشكلة الفقر وسوء التغذية.

 إلى الكاردينال ترشيسيو برتوني، أمين سر الدولة، طلبت أن يخبركم عن الانتباه الخاص الذي أتابع به عملكم، وأن يطمئنكم عن الأهمية الكبيرة التي أوليها للمهمة المضنية التي تنتظركم.

إليكم يتطلع ملايين الرجال والنساء في الوقت الذي تهدد فيه عقبات جديدة بقاءهم، وتعرض أوضاع مقلقة أمنَ بلادهم للخطر. والحقيقة أن العولمة المتزايدة للأسواق لا تساعد دوماً على توفر الأغذية، وأن أنظمة الإنتاج غالباً ما تستجيب لشروط بنيوية، وسياسات حمائية، ومظاهر مضاربة تقصي شعوباً بأكملها عن هامش سياق التطور. وفي ضوء وضع مماثل، يجب تجديد القول بقوة بأن الجوع وسوء التغذية أمران غير مقبولان في عالم يملك في الحقيقة مستويات إنتاج، وموارد ومعلومات كافية للحد من كوارث مماثلة ومن تبعاتها. والتحدي الأكبر الذي يواجهنا اليوم هو "عولمة ليس فقط المصالح الاقتصادية والتجارية، لا بل أيضاً رغبات التضامن، ضمن احترام وتنمية حصة كل عنصر بشري" (الكلمة إلى مؤسسة "السنة المائة للحبر الأعظم ، 31 مايو 2008).

 إلى الفاو ومديرها العام، أوجه بالتالي تقديري وامتناني لجذب انتباه المجتمع الدولي مجدداً إلى الأمور التي تعيق مكافحة الجوع، ولدعوته للقيام بتحرك تكمن فعاليته في أن يكون اتحادياً ومنسقاً.

 ولهذه الغاية، وإلى الأشخاص المشاركين في هذه القمة أجدد تمنياتي التي عبرت عنها خلال زيارتي الأخيرة لمقر منظمة الأمم المتحدة: من الملح تخطي "تناقض التوافق المتعدد الفرقاء الذي يستمر بالتأزم بسبب خضوعه لقرارات مجموعة صغيرة من الأشخاص" (الكلمة إلى الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة، 18 أبريل 2008). كما أسمح لنفسي بأن أدعوكم للتعاون بطريقة أكثر شفافية مع منظمات المجتمعات المدنية التي تعمل على ردم الفجوات التي تتوسع بين الغنى والفقر. وأحثكم أيضاً على استكمال هذه الإصلاحات البنيوية التي لا بد منها على الصعيد الوطني للمواجهة الناجحة لمشاكل التخلف، التي يتأتى عنها مباشرةً الجوع وسوء التغذية. وأعلم كم أن هذا كله مضنٍ ومعقد!

 ومع ذلك، كيف لنا ألا نشعر بنداءات أولئك الذين في مختلف القارات لا يتغذون كفاية للعيش؟ إن الجوع وسوء التغذية ليسا بمجرد نكبة تحدثها أحوال بيئية غير مؤاتية أو كوارث طبيعية. ومن ناحية أخرى، يجب ألا تغلب الأسباب ذات الطابع التقني أو الاقتصادي على واجبات العدل تجاه أولئك الذين يعانون من الجوع. إن الحق في الغذاء "يتفق بشكل رئيسي مع تحفيز أخلاقي: "أطعموا الجياع" (راجع متى 35،25)، يدفع إلى مشاركة الخيرات المادية كعلامة المحبة التي نحن جميعاً بحاجة إليها […] هذا الحق الأساسي في الغذاء مرتبط جوهرياً بالمحافظة والدفاع عن الحياة البشرية، الصخرة الصلبة والمنيعة التي يقوم عليها نظام حقوق الإنسان" (الكلمة إلى سفير غواتيمالا الجديد، 31 مايو 2008). لكل شخص الحق في الحياة، لذا من الضروري تعزيز الاستعمال الفعال لحق مماثل، ومساعدة الشعوب التي تعاني من نقص في الأغذية في أن تصبح قادرة تدريجياً على تلبية احتياجاتها في تغذية كافية وسليمة.

 في هذا الوقت بالذات، وفي ظل الأمن الغذائي المهدد جراء ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية، يجب أيضاً إعداد مخططات جديدة لمكافحة الفقر ولتعزيز التنمية الريفية. كما يجب أن يتم ذلك بفضل عمليات إصلاح بنيوية تمكن من مواجهة تحديات هذا الأمن والتغيرات المناخية، كما يجب زيادة توفر الغذاء مع تحسين مهارة المزارعين الصغار، وضمانهم الوصول إلى الأسواق. ومع ذلك لن يكون الارتفاع العالمي للإنتاج الزراعي فعالاً إلا إذا كان مصحوباً بتوزيع حقيقي لهذا الإنتاج ومخصصاً أولاً لتلبية الاحتياجات الأساسية. وهذا الأمر ليس بالسهل طبعاً، ولكنه قد يمكن من إعادة اكتشاف قيمة العائلة الريفية: فهي لا تقتصر فقط على الحفاظ على نقل طرق الزراعة، وحفظ الأغذية وتوزيعها، من الأهل إلى الأولاد، لا بل إنها بخاصة طريقة عيش، وتربية، وثقافة، وورع. كما أنها تؤمن من الناحية الإقتصادية رعاية فعالة ومليئة بالمحبة للأكثر فقراً، وبموجب مبدأ الفرعية، تستطيع أن تؤدي دوراً مباشراً في سلسلة توزيع وتسويق المنتجات الزراعية المرصودة للأغذية، بتخفيض أسعار الوسطاء، وبتسهيل الإنتاج على المستوى الصغير.

 سيداتي وسادتي

 إن مصاعب اليوم تظهر كيف أن التكنولوجيا الحديثة لا تكفي وحدها لتخطي مشكلة النقص الغذائي، ولا الحسابات الإحصائية، ولا إرسال المساعدات الغذائية في الحالات الطارئة. بكل تأكيد، كل هذا له أهمية كبيرة، ولكن يجب أن يتم إنجازه وتوجيهه بعمل سياسي يحمي كرامة الإنسان، باستلهامه من مبادئ القانون الطبيعي المحفور في قلب الإنسان. وبهذه الطريقة، يحترم نظام الخلق أيضاً، "وتكون مصلحة الجميع معيار التوجيه" (رسالة في يوم السلام العالمي، 1 يناير 2008، رقم 7). إذاً، وحدها حماية الإنسان تمكن من مكافحة السبب الرئيسي للجوع، أي انغلاق الإنسان تجاه نظرائه، الأمر الذي يحل التضامن، ويبرر طرق العيش الفانية، ويفكك النسيج الاجتماعي، بالحفاظ لا بل بتعميق قاعدة التوازنات غير العادلة، وبإهمال المتطلبات الأكثر أهمية للخير (راجع الرسالة العامة "الله محبة" رقم 28). وبالتالي، إذا فرض على طاولة المفاوضات تنفيذ قرارات، واحترام الكرامة البشرية، نتخطى العراقيل المنيعة، ونحذف أو على الأقل نخفض نقص الاهتمام بمصلحة الغير. وبذلك، يصبح من الممكن اتخاذ إجراءات لا تضعف في مواجهة الجوع، وسوء التغذية، كما لو كانا مجرد ظاهرتين دائمتين وعسيرتين. والدفاع عن الكرامة الإنسانية في العمل الدولي، بما فيه الطوارئ، يساعد أيضاً على تقدير الفائض من أجل تلبية احتياجات الغير، وإدارة ثمار الخلق بعدل بوضعها في متناول جميع الأجيال.

 على ضوء مبادئ كهذه، أتمنى أن تضطلع الوفود الحاضرة في هذا الاجتماع بالتزامات جديدة، وتنظر في تحقيقها بعزم ثابت. ومن جهتها، تتمنى الكنيسة الكاثوليكية أن تنضم للقيام بهذه الجهود! وبروح التعاون، تستخلص من الحكمة القديمة، الموحاة من الإنجيل، نداءً راسخاً وعاماً ما يزال راهناً بالنسبة للمشاركين في هذه القمة: "أطعم الذي يموت جوعاً لأنك إن لم تطعمه، تكون أنت الذي قتلته". أؤكد لكم أنه بإمكانكم الاعتماد على مشاركة الكرسي الرسولي على هذه الدرب. وعلى الرغم من اختلافه عن باقي الدول، فإنه يتحد مع أهدافها الأكثر نبلاً من أجل ترسيخ التزام يشمل كل المجتمع الدولي: تشجيع كل شعب على مشاركة احتياجات الشعوب الأخرى، ومشاركة خيرات الأرض التي خصصها الخالق للعائلة البشرية جمعاء.

بهذه المشاعر، أعبر عن تمنياتي الحارة بنجاح الأعمال، وألتمس بركة العلي لكم ولأولئك الذين يعملون من أجل التطور الحقيقي للإنسان والمجتمع.

 صدر عن الفاتيكان في 2 يونيو 2008

 نقلته من الفرنسية إلى العربية غرة معيط