عظة البطريرك صفير-الأحد 27/7/08

الديمان، ، الأحد 27 يوليو 2008 (zenit.org).

ننشر في ما يلي الكلمة التي ألقاها البطريرك الماروني الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير في عظته في قداس الاحد في كنيسة الصرح البطريركي في الديمان بعنوان "طوبى للودعاء فانهم يرثون الارض".

 
" ان الترجمة الفرنسية حذفت، لسوء الحظ، هذه المرادفات، فترجمت كل مرة الودعاء بكلمة مغايرة في هذه المروحة الكبيرة من النصوص – من سفر العدد فصل 12، لى زكريا (فصل9) وحتى الى التطويبات، ورواية احد الشعانين – نرى رؤية يسوع ملك السلام الذي رفع الحدود بين الشعوب، واقام "من بحر الى بحر اخر"، مساهمة سلام، وهو بطاعته يدعونا الى الدخول في هذا السلام ويغرسه فينا. ان عبارة "ودعاء ووضعاء" هي من مفردات شعب الله، اسرائيل الذي اصبح شاملا في المسيح، لكنها ايضا عبارة ملوكية تكشف عن طبيعة ملكية المسيح الجديدة. وبهذا المعنى يمكننا القول ان هذه العبارة تمت بصلة الى العقيدة المسيحية والكنسية. وهي، في كل حال، تذكرنا باتباع من كشف لنا عن جوهر ملكه، لدى دخوله اورشليم راكبا اتان.

ان نص انجيل متى يربط بهذه الطوبى الثانية الوعد بالارض:" طوبى الودعاء فانهم يرثون الارض". ما معنى ذلك ؟ ان الامل بالارض عنصر جوهري من الوعد المبدئي الذي تلقاه ابراهيم لدى عبور الصحراء، يبقى بلوغ ارض الميعاد، الهدف الثابت لشعب اسرائيل ومسيرته ان اسرائيل، وهو في الاسر، ينتظر العودة الى ارضه، ولكن يجب الا ننسى ان الوعد بالارض يذهب الى ابعد من مفهوم تملك قطعة من ارض، او ارض وطنية يحق لكل شعب ان يتملكها.

لدى الكفاح من اجل تحرير اسرائيل والخروج من مصر، كان الهدف اولا حق الحرية في العبادة، وبعدئذ الحرية في ممارسة العبادة الخاصة، وفضلا عن ذلك، على مدى تاريخ الشعب المختار، الوعد بالارض، كل هذا اخذ دائما بوضوح متزايد المعنى التالي: الارض معطاة لتكون مكان طاعة لله، في مفهوم الحرية والارض، وبالتالي هي ارض محررة من رجاسات عبادة الاصنام. ان طاعة الله، في مفهوم الحرية والارض، وبالتالي ان فكرة تنظيم هذه الارض تنظيما جيدا وعادلا، انما هي عناصر جوهرية: وفي هذا المنظور،المنفى وحرمان الارض يصبحان غير مفهومين، لان هذه الارض تحولت الى مكان لعبادة الاصنام، والتمرد، واصبحت ملكية الارض تعني غير ما لها من معنى صحيح.

وانطلاقا من ذلك، اتخذ الشتات معنى جديدا وضعيا. كان اسرائيل منتشرا في العالم، لكي يفسح لله في كل مكان مجالا، ويتم انذاك معنى الخلق، على ما ورد في رواية التكوين الاولى راجع تكوين 1:1-2،4 . والسبت هو حد الخلق، ويشير الى غايته: اذا كان هناك من خلق ذلك ان الله اراد ان يخلق مكانا يصير فيه التجاوب مع محبته، مكان طاعة وحرية. وشيئا فشيئا، عبر القبول بالآلام التي تتداخل في تاريخ علاقات اسرائيل بالله اتسع مفهوم الارض وتعمق وهو يرمي لا الى تملك الارض الوطنية، بل الى مد حق الله على العالم اجمع.

طبعا وفي لمحة اولى يمكن الا نرى في هذه العلاقة بين "الوداعة" والوعد بالارض، غير حكمة تاريخية، بسيطة: الفاتحون يأتون ويذهبون. البسطاء من الناس، الودعاء، الذين يحرثون الارض، ويواصلون الزرع، والحصاد، في الالم وفي الفرح، هؤلاء باقون، الودعاء، البسطاء، من الناحية التاريخية، البحت، هم الذين يستمرون اكثر من رجال العنف. ولكن الامر يعني شيئا اخر. ان تعميم مفهوم الارض المتنامي،انطلاقا من اصول الامل اللاهوتية، بتجاوب والافق الشامل الذي وجدناه لدى وعد زكريا: وهو ان ارض ملك السلام ليست دولة جديدة بواسطة السلام الاتي من الله. واخيرا، يقول لنا الرب، ان الارض هي "للودعاء" ولفاعلي السلام. ويجب ان تصبح "بلد ملك السلام". ان الطوبى الثانية تدعونا الى العيش والعمل في هذا المعنى.

وكل جماعة افخارستية هي بالنسبة الينا نحن المسيحيين مكان مماثل يمارس فيه ملك السلام سيادته. ان الجماعة الشاملة لكنيسة يسوع المسيح هي صورة بدائية لما ستكون عليه "رض" الغد التي يجب ان تصبح ارض سلام يسوع المسيح. وهي توضح بعض الشيء ما هو معنى "ملكوت الله"، ولو كانت هذه اللفظة تذهب الى ابعد من الوعد بالارض.

وقد لنا ان اشرنا الى الطوبى السابعة: "طوبى لفاعلي السلام، فانهم ابناء الله يدعون"، وتكفي دونما شك بعض اشارات الى هذه العبارة التي فاه بها يسوع. لننظر اولا الى خلفية التاريخ الشامل: كان لوقا قد اشار في رواية طفولة يسوع، الى التضاد بين هذا الولد والامبراطور اغوسطوس الكلي القدرة، الذي كان يحتفل به على انه "مخلص كل الجنس البشري"، وكأنه صانع السلام الاكبر. وكان قيصر سابقا طالب بلقب، "صانع السلام للمسكونة". ان هذه الفقرة توحي لمؤمني اسرائيل بذكرى الملك سليمان الذي يحتوي اسمه على لفظة سلام واليكم ما كان وعد به الرب داود:"اني في تلك الايام اعطي اسرائيل السلام والطمأنينة.. سيكون لي ابنا وسأكون له ابا (اخبار الايام الاول 22:9-10) وهذه الجملة تظهر علاقة بين البنوة الالهية وملكية السلام: يسوع هو الابن، وهو حقا كذلك. وهذا مايجعل منه سليمان الحقيقي الذي يحمل السلام. ان فعل السلام يعود من طبيعته الى واقع الابن. وهذه الطوبى السابعة تدعونا الى ان نكون ونعمل ما يعمله الابن لنكون نحن ايضا ابناء الله.

هذا يصح اولا على قدر صفير في فسحة حياة كل من الناس، ان نقطة الانطلاق هي ان القرار الاساسي ياخذه بولس باسم الله، ويرغب فيه بكل كيانه:" باسم المسيح نسألكم ذلك تصالحوا مع الله" (2كور 5:20). الخلاف مع الله هو في اساس كل الفساد البشري والتغلب على هذا الانفصال هو شرط سلام العالم الاساسي. ان الانسان المتصالح مع الله وحده بامكانه ان يتصالح مع نفسه، وان يكون منسجما مع ذاته، والانسان المتصالح مع الله ومع ذاته بامكانه ان يعمل عمل سلام حوله، وان ينشره في العالم كله. ولكن الاطار السياسي الذي يظهر في رسالة لوقا عن طفولة يسوع، كما لدى متى، في التطويبات، يشير الى ان مدى هذه العبارة:" السلام على الارض"(لو 2,14). هذه هي ارادة الله، وفي الوقت عينه ،المهمة الموكولة الى الناس. ان المسيحي يعرف ان وجود السلام على الارض مرتبط بان الانسان هو في مايريده الله له. والكفاح من اجل ان يكون الانسان في سلام مع الله، انما هو جزء من الكفاح من "اجل السلام على الارض"، وهو لابد منه، والى هذا مرد القوى اللازمة لمثل هذه الكفاح. حيثما يغيب الله عن نظر الانسان، يتلاشى السلام، ويتغلب العنف باشكال غير مسبوقة، وهذا مانراه جيدا اليوم.

ان التطوبات التي وردها السيد المسيح تسير عكس ما ألفه العالم. ان العالم يطوب الاغنياء، والاقوياء، واهل البطش، والسيد المسيح يطوب الفقراء الذين يعتمدون عليه تعالى، لذلك قال:" لان لهم ملكوت السماء"، وهذا هو الاهم، لان ملكوت السماء هو غاية الانسان من دنياه.
وطوب السيد المسيح الودعاء، والعالم يطوب اهل العنف والبطش والقوة، "لان الودعاء يرثون الارض". ان تعاليم المسيح تسير عكس تعاليم العالم الذي يمجد القوة الغشماء.

ان يمدنا بالقوة لنسير بمقتضى تعاليمه الالهية، وليس بمقتضى تعاليم العالم الخداعة.