الضمير في الكتاب المقدس

لا يورد الكتاب المقدس لفظاً معيناً للدلالة على الضمير إلا على أثر اتصاله بالبيئة اليونانية. فإن لفظ Syneidésis لا يظهر بالفعل إلا في كتاب الجامعة 10/20 المعنى قراءة النفس:

"لا تلعن الملك ولو في فكرك

ولا تلعن الغني ولو في غرفة نومكَ

فإن طائر السماء ينقل الصوت

وذا الجناح يخبُر بالكلام".

وهذا اللفظ اليوناني للضمير غائب عن الإنجيل، إنما يستخدمه خاصة بولس الرسول. أما الحقيقة الفعلية المقصودة بلفظ ضمير فواردة على مدى الكتاب المقدس كلّه.

فكيف يتحدث الكتاب المقدس عن حقيقة الضمير؟

في العهد القديم، هي لفظة القلب والكليتان اللتان تنوبان مناب كلمة الضمير اليونانية الواردة في الأدب والفلسفة اليونانيتين. إليك بعض الأمثلة عن ذلك

أولاً – 2صم 24/10

"فخفق قلب داود من بعد إحصاء الشعب، وقال داود للرب: قد خطئت خطيئة كبيرة فيما صنعت، والآن يا رب اغفر إثم عبدك، لأني بحماقة كبيرة تصرّفت".

الشرح: علينا أن نتوقف عند كلمة قلب، ومناسبة الحدث هو أنهم كانوا يعتبرون الإحصاء كفراً لأنه ينال من امتيازات الله الذي بيده سجلات الذين يحيون أو يموتون (خر 32/32 – 33 وراجع خر 30/12)

ثانياً – 1صم 24/6

"وبعد ذلك خفق قلب داود لقطعه طَرَف رداء شاول. وقال لرجاله: "حاش لي بالرب أن أصنع هذا الأمر بسيدي مسيح الرب، وأرفع يدي، لأنه مسيح الرب".

الشرح: التشديد أيضاً على القلب. لقد ندم داود على ما فعل، لأن اللباس هو بديل الشخص (راجع 18/4) فمن مسَّ الرداء مسَّ الشخص.

ثالثاً – 1صم 25/31

" فلا يكن سفككَ للدَّمِ بلا سبب أو انتقامُ سيدي لنفسه صدمة ومعثرة قلبٍ لسيدي…".

الشرح: نلفت أيضاً الانتباه إلى كلمة معثرة قلب. هي قصة نابال وأبيجائيل زوجته. لم ينتقم داود من نابال ولم يكن فيه سوء، بل هو الله الذي انتقم له بموت نابال. وكان نابال قد أهان الملك داود، إلا أنه أبيجائيل قامت بواساطة السلام.

رابعاً – إر 11/20

"فيا رب القوات الحاكم بالبر

الفاحص الكلى والقلوب

سأرى انتقامي منهم،

لأني إليك أبحت بقضيتي".

إر 17/9 – 10

"القلب أخدع كل شيء

واخبثه فمن يعرفه؟

أنا الرب أفحص القلوب

وأمتحن الكلى…".

الشرح: الرب هو الذي يسبر أغوار القلوب والكُلى.

خامساً – مشكلة أيوب:

إن سِفر أيوب يطرح السؤال التالي: هل حكم الضمير مستمد من الحضور الإلهي؟

يصرخ أيوب أمام المستهزئين، بل أمام الله نفسه، مؤكداً نقاوة قلبه:

أي 27/6

"تمسكت ببرّي فلا أرضيه، لأن ضميري (قلبي في العبرية) لا يخجل على يومٍ من أيامي".

الشرح: ضميري مرتاح ولا يؤنبني شيء.

سادساً – الفريسيون:

وخلافاً لأيوب وبرّه، الذي يسعى إلى وضع قلبه مهما كان مستقيماً تحت إرادة الله التي يبحث عنها، فالفريسيون الذين يدينهم يسوع، يعكسون ضمير برّهم، في ممارسة مادية للشريعة. إن يسوع لا يلغي الشريعة، ولكنه يوضّح أن نقاء النية ينبغي أن يكون الضابط لممارستنا للشريعة (راجع متى 15/10 – 20، لو 11/34 – 36 ومتى 6/ 4 و6 و18).

وهكذا يعد يسوع الطريق لظهور الضمير الحر، انتظاراً لذلك اليوم الذي نرى فيه مع تعليم بولس، أن الشريعة ليست أمراً خارج الإنسان فقط، ولكنها ستستمد معناها وقوتها بفضل انسكاب الروح داخل القلوب.

سابعاً – الضمير في رسائل بولس الرسول:

لقد اقتبس القديس بولس لفظ Syneidésis اليوناني من لغة عصره الدينية. وكان بولس يعبّر بذلك على الأرجح عن الحُكم كرد فعل حر، يتطلبه مفهوم القلب في الكتاب المقدس.

فالانتقال من المفهوم السابق إلى هذا المفهوم واضح جداً، من القلب، إلى الضمير، في النصيحة التي يسديها بولس إلى طيموتاوس:

1 طيم 1/5

"وما غاية هذه الوصية إلا المحبة الناجمة عن قلبٍ طاهر وضميرٍ سليم وإيمانٍ لا رياءَ فيه".

فالقلب، والضمير، والإيمان تكون بصور متنوعة، مصدراً لفعل المحبة. فإذا كانت النية مستقيمة، وإن كان الإيمان يوفّر اقتناعاً راسخاً، فعندئذٍ يكون الضمير مرتاحاً.

روم 13/4 – 5

"… ولذلك لابُدَّ من الخضوع، لا خوفاً من الغضب وحسب، بل مراعاة للضمير أيضاً".

2قور 1/12

"فلا فخر لنا إلا بشهادة ضميرنا. إنه يشهد لنا بأننا بسـرنا في العالم ولا سيما بينكم سيرة القداسة والصدق اللذين من لدن الله، لا بحكمة البشر، بل بنعمة الله

إن المؤمن لا يطيع طاعة العبيد خشية من العقاب، بل بداعي ضميره وعلمه بأن السلطة من الله للخير العام. ولكن هذه الطاعة ليست عمياء، فإذا طلبت السلطة ما يخالف مشيئة الله، كالسجود للأصنام، لم يكن على المسيحي أن يمتثل ذلك الأمر.

 

ولا يستنتج من ذلك أن هذا الضمير مستقل بذاته، كما كان يعتقد الفلاسفة الرواقيون. فبحسب تعاليمهم، يكون الضمير حراً بمقتضى علمنا بقوانين الطبيعة. أمّا بالنسبة لبولس فإن حكم الضمير يخضع لحكم الله دائماً:

1قور 4/3 – 4

"أما أنا فلا يهمني كثيراً أن تدينوني أو تدينني محكمة بشرية، بل لا أدين نفسي، فضميري لا يؤنبني بشيء، على أني لست باراً بذلك، وإنما ديّاني الرب".

فأن تأكيدات بولس الصادرة عن ضمير خالص تكون عادة مصحوبة بالتنويه بالله، أو بشهادة الروح القدس. فالضمير من "شريعة الله"، وعندما يوصف "بالصالح" أو "بالطاهر" فمعنى ذلك أنه يستضيء أساساً بنور الإيمان الحقيقي.

الضمير نقطة التقاء بين نعمة الله وحرية الإنسان

بينما كانت الشريعة، بالنسبة إلى اليهود، تفرض الاختيار بين هذه اللحوم وتلك، بين هذا العيد أو ذاك، فإنه بالنسبة إلى المسيحي "كل شيءٍ طاهر" (روم 14/20)، "كل شيء يحل لي" (1قور 6/12 و10/23). فالإيمان قد وهب "العلم" (8/1) الذي يكشف عن طيبة كل المخلوقات. (راجع 1قور 3/21–23 و8/6 و10/25–26).

فالمسيحي ذو الضمير المستنير، يجد نفسه إذن متحرراً تجاه كل الفرائض الطقسية في الشريعة الموسوية:

"حيث يكون روح الرب، تكون الحرية" (2قور 3/17).

"وحريتي لا تقيّد بضمير غيري" (1قور 10/29). فقد ينشأ تنازع بالفعل بين الضمائر التي لم تتطور كلها بنفس الكيفية، وعلى نفس المستوى. ففي نظر بعض المؤمنين اللحوم المكرّسة للآلهة تظل غير نقية، فبسبب اعتقادهم هذا ينبغي لهم تحاشي أكلها: ذلك ما يأمر به ضميرهم. والمؤمن "القوي" (روم 15/1) ينبغي أن يعمل ما في وسعه حتى لا يجرح أخاه، الذي لا يزال ضعيفاً: "فلا تعرّضن للهلاك بطعامك من مات المسيح لأجله" (روم 14/15). "كل شيء طاهر، ولكن من السوء أن يأكل المرء شيئاً به عثار لغيره" (روم 14/20 و1قور 8/9–13). فعلى العلم أن يتخلى عن الأولوية لتتقدم المحبة الأخوية.

وعلى الضمير أيضاً أن يقيّدَ الحرية، نظراً لأن الحضور الإلهي يضفي عليها معناها. "كل شيء يحل لي"، هكذا كان بولس يردد قول القورنثيين، ولكنه يضيف: "ولكنني لا أدع شيئاً يغلب عليَّ" (1قور 6/12). والعلم والحرية هما أيضاً محدودان بفعل شخص يبدو لي أملاً أنه آخر غير نفسي، ولكن يتضح تدريجياً في الإيمان، أنه يكمّل "الأنا" في الحق.

وهكذا نجد بولس لا يقف عند قواعد مكتوبة لا تتغيّر، وإن ما يلزم ضميره، هو علاقته الرب وبأخوته، وإن ما يعترف به ليس إطاراً جامداً أو مفروضاً بشريعة مكتوبة، وإنما هو العلاقة المرنة، ولو أنها متطلبة، مع "كلمة" الرب ومع الآخرين. إلا أن "الكلمة" لا تجعل القوانين مفرغة من مضامينها، ولكنها ترفع عنها الطابع المطلق الذي قد تتخذه أحياناً في نظر بعض النفوس المترددة.

الشريعة المكتوبة في قلب الإنسان

لاحظ بولس أن الوثنيين الذين بلا شريعة (موحى بها)، إذا عملوا بالفطرة ما تأمر به الشريعة، كوّنوا شريعة لأنفسهم مع أنهم بلا شريعة، فيدلّون على أن ما تأمر به الشريعة من الأعمال مكتوب في قلوبهم، وتشهد لهم ضمائرهم وأفكارهم، فهي تارة تشكوهم وتارة تدافع عنهم (روم 2/14–15).

فمثلاً، عندما يعصي آدم الله، فإنه يشعر بعريه ويهرب من وجه الله (تك 3/8–10). وهذا ما يفترض أيضاً على حد قول بولس، أن تدبير الله مسجّل في قلب كل إنسان، حتى قبل أن يحدده الوحي نهائياً. فالإنسان يولد وهو في حوار مع الله، وهو أمام أي عمل، يتفاعل بحسب تدبير الله (الشريعة الطبيعية).

الضمير المتطهر بالعبادة: إن دم المسيح وقيامته فقط هما اللذان يتيحان للضمير أن يصبح طاهراً.

تستخدم الرسالة إلى العبرانيين كثيراً هذا اللفظ: "الضمير المتطهر بالعبادة" في معرض الحديث عن الذبائح في العهد القديم، التي لم تستطع "أن تجعل من يقوم بالشعائر كامل الضمير" (عب 9/9)… وبالعكس فإن "دم المسيح… يطهّر ضمائرنا من الأعمال الميتة، لنعبد الله الحي" (عب 9/14).

وفي النهاية، فإن دم المسيح وقيامته فقط هما اللذان يتيحان للضمير أن يصبح طاهراً.

خاتمة

الروح القدس الموهوب لنا يجعل ضميرنا دائماً حياً غير مائت، دائم الاستعداد لتمييز إرادة الله وطريق المسيح في حياتنا.

 

 

عن موقع القديسة تريزا: جمعية التعليم المسيحي بحلب