إنجيل بولس و إنجيل يسوع

في العهد الجديد شخصيّتان بارزتان: يسوع وبولس.

وبشـارتان أساسيّتان: إنجيل يسوع ورسائل بولس (عددها 13 بالإضافة إلى العبرانيّين).

ولا شكّ في أنّ بولس الرسول وضع في رسائله القواعد المثبتة لديانة ذات طابع عقائديّ: التجسّـد، الفداء، الثالوث الأقـدس، ألوهيَّة المسيح، النعمة الإلهيَّة، الأسرار، السُلطة الكنسيَّة، التبرير، الخلاص…

فهل يختلف "إنجيل بولس" عن إنجيل المسيح؟ وهل بولس هو المؤسِّس الحقيقيّ للديانة المسيحيَّة كما يعتقد بعضهم؟

هذا ما سنسعى للإجابة عنه في دراستنا هذه.

 أوّلاً- مقارنة بين الأناجيل ورسائل بولس

مَن يقرأ الأناجيل ثمّ ينتقل إلى مطالعة رسائل بولس يشعر وكأنّه يقوم بقفزة بين جبلين، ولكن، لا يلبث أن يتأكّد له أنّه لم يقفز، بل تابع المسيرة صعوداً منطلقاً من قمم الإنجيل إلى قمم الرسائل.

يعود هذا الاختلاف إلى أمور عديدة نلخّصها في ما يلي:

 آ- الفنّ الأدبيّ

تتميّز الأناجيل بفنّ أدبيّ خاصّ يرتكز على الرواية، فهناك سيرة حياة المسيح وأعماله وتعاليمه. وقد جاءت هذه التعاليم من دون رباط منطقيّ واستند أكثرها إلى فنّ الأمثال والحكم وهو الأقرب إلى أسلوب "المدراش" التعليميّ المنتشر في ذلك الزمان.

أمّا رسائل بولس فهي تُصنَّف في فنّ الخطابة حيث يُعرَض الموضوع في ثلاثة أبواب: مقدّمة – مناقشة جدليَّة – خاتمة. راجع مثلاً: المواهب الروحيَّة (1قور 12 إلى 14)، وقيامة الموتى (1قور 15).

وتأتي المناقشة ضمن منطق معيّن مرتكزة على مصطلحات فلسفيَّة ولاهوتيَّة.

لقد أخذ بولس هذا الأسلوب من العالَم الهلّينيّ اليونانيّ الذي قلّما نجده في الأناجيل الإزائيَّة وفي منطق يسوع التعليميّ.

ربّما نجد تأثير الأسلوب اليونانيّ في إنجيل يوحنّا حيث يضع تعاليم المسيح ضمن خطب طويلة يستخدم فيها التعابير والثنائيّات اليونانيَّة بدءاً من المقدّمة: الكلمة والعالَم، النور والظلام، النعمة والحقّ ، الماء والروح، الخبز والحياة، الموت والقيامة، المجد والفرح..

ولكنّ إنجيل يوحنّا يبقى إنجيلاً ولا يخرج عن هذا الفنّ الأدبيّ إلاّ عندما يحرّر الكاتب رسائله اللاحقة.

ب- شخصيَّة المسيح

يشعر الدارس، لأوّل وهلة، أنّ ثمّة تمييزاً بين وجه المسيح كما ترسمه الأناجيل ووجه المسيح الذي يرسمه بولس الرسول.

تصف لنا الأناجيل الإزائيَّة وجه المسيح الإنسانيّ انطلاقاً من مولده إلى مختلف مراحل حياته الأرضيَّة. ونكتشف مع الرسل تدريجيّاً ألوهيّته إلى أن نصرخ مع قائد المئة: "حقّاً كان ابن الله". ويبقى الشكّ إلى ما بعد القيامة والصعود حتَّى نزول الروح القدس.

أمّا بالنسبة إلى رسائل بولس فالمسيح هو ابن الله أوّلاً وأخيراً حتَّى قال بعضهم: "إنّ صورة المسيح لدى بولس هي من البعد السماويّ بمكان، حتَّى إنّها ابتعدت عن الإنسانيَّة". حقّاً إنّ القارئ ليستغرب ضآلة ما ذكره بولس الرسول عن حياة يسوع الأرضيَّة. أضف إلى ذلك أنّه لا يذكر شيئاً عن عجائبه وأمثاله.

يحدّثنا "بولتمان – Bultmann" عن التمييز بين مسيح الإيمان (القائم من بين الأموات موضوع الكرازة الرسوليَّة الأولى) وبين يسوع التاريخيّ، النبيّ والمبشّر الجوّال بملكوت الله.

لا نريد أن ندخل في مناقشة هذه المقولة ولكنّها تبدو مقبولة في مجموعة رسائل بولس حيث نجد وجه المسيح الربّ، ولا نجد ملامح وجه النبيّ الجوّال، والمعلّم، وصانع المعجزات كما وصفته الأناجيل.

قليلاً ما يذكر بولس يسوعَ باسمه. غالباً ما يشير إليه بتعبير "يسوع المسيح"، أو "الربّ يسوع المسيح"، ويكتفي أحياناً بالصفـات والألقـاب: "المسيح"، "الربّ". وتعود كلّها، في سياق الكلام أو في الخطـابات، إلى يسوع.

وهنا أيضاً لا بدّ من الإشارة إلى إنجيل يوحنّا الذي هو أقرب إلى منطق بولس فيبدأ مشدِّداً على كون المسيح منذ الأزل ابن الله: "في البدء كان الكلمة…" ولكنّه يعود إلى مولده بالجسد ولا يتخلّى عن فنّ الرواية كسائر الإنجيليّين.

ج- البيئـة والمحيـط

تدور أحداث الأناجيل في محيط ضيّق لا يتجاوز حدود فلسطين.

فكان يسوع المسيح يتجوّل بين الجليل واليهوديَّة مروراً بالسامرة. وقد تمركزت أهمّ الأحداث في أورشليم العـاصمة الدينيَّة آنذاك. وبالرغم من وجود السُلطة الرومانيَّة والتجّـار الغرباء فإنّ الحياة كانت مطبوعة بالعادات اليهوديَّة والتقاليد الموسويَّة والطقوس التشريعيَّة التي حاربها السيّد المسيح وسعى إلى تنقيتها متمِّماً عمل الأنبياء الذين سبقوه.

أمّا كتابات بولس فهي تخرج من هذا المحيط الضيّق وتأخذ بعين الاعتبار الشعوب المنتشرة حول البحر الأبيض المتوسّط من ديار العرب (غلا 1/17) إلى أورشليم إلى أنطاكية إلى أفسس إلى قورنتس إلى أثيناوصولاً إلى روما.

 فالتفاعل واضح بين الثقافات والحضارات والعادات. وقد استطاع بولس بعبقريّته الخاصّة أن يجمع بين التقاليد اليهوديَّة والثقافة اليونانيَّة تحت الحكم الرومانيّ وحضارته.

فلا عجبَ إذا كان بولس أشدّ ابتعاداً عن الشريعة اليهوديَّة، وأكثر تشديداً على الشموليَّة.

وما هذا الانتقال من الفكر اليهوديّ التشريعيّ الضيّق إلى الفكر الشموليّ العالَميّ سوى تطبيق لما قاله يسوع قبل انتقاله إلى السماء: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم..".

د- بين المبشِّر والكاتب

اقتصرت رسالة المسيح على إعلان البشرى، فلم يكتب شيئاً ولم يترك وصيَّة خطّيَّة.

بشّر المسيح طيلة ثلاث سنوات شفويّاً. وبعد موته تناقل الرسل هذه البشرى، وما دوّنوها إلاّ بعد مضيّ نحو أربعين سنة على موته وقيامته أي بدءاً من العام 70 (الإنجيل بحسب مرقس).

ولذلك، فمَن يقرأ الأناجيل يكتشف أنّها لم تُنقل حرفيّاً، بل دُوّنت في وقت لاحـق امتدّ بين العـامين 70 و95 استناداً إلى الذاكرة وقراءة الأحداث في ضوء القيامة.

أمّا بولس فقد كان كاتباً. لا شكّ في أنّه بشّر أوّلاً، بشكل شفويّ كما جاء في أعمال الرسل ولكنّه أعطى الكتابة أهمّيَّة كبرى. وخير دليل على ذلك أنّ الرسالة الأولى التي كتبها بولس تعود إلى العام 51 (الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيقي) أي قبل تدوين أوّل إنجيل بعشرين سنة.

هذا لا يعني أنّ الكتابة أرفع شأناً من الكلام الشفويّ. فانطلاقة الكنيسة لم تكن مبنيَّة على الرسائل، بل على الشهادة الشفويَّة. وما الرسائل سوى وسائل للحفاظ على البشارة الأولى والإيمان الأصيل.

وكما أنّ جميع أقوال المسيح لم تُدوَّن (يو 21/25) كذلك لم تُدوَّن جميع أقوال بولس الرسول.

نستنتج ممّا سبق:

إنّ المقارنة بين الأناجيل والرسائل ليست على مستوى واحد فثمّة اختلاف واضح بينهما على صعيد الفنّ الأدبيّ، والكشف عن شخصيَّة المسيح، والبيئة، والتدوين.

هذا لا يعني أنّ الاختلاف موجود أيضاً على مستوى الفكر وفحوى البشرى. ربّما تغيّر الأسلوب وتطوّر التفسير، ولكنّ جوهر البشارة يبقى واحداً إن في الأناجيل وإن في الرسائل البولسيَّة.

بعد هذا العرض المقتضب حول الاختلاف بين أسلوبَي الأناجيل ورسائل بولس، يبادرنا السؤال: هل يعني ذلك أنّ بولس لم يكن أميناً لفكر السيّد المسيح وأنّه أنشأ ديانة جديدة؟

 

ثانياً- بولس والتعاليم الإنجيليَّة

إذا بحثنا بحثاً جدّيّاً عن طريق المقارنة بين تعليم بولس الرسول وتعليم المسيح وتعليم سائر الرسل لوجدنا أنّ بولس لم يكن وراء تأسيس ديانة جديدة وذلك لسببين أساسيّين:

آ- السبب الأوّل يعود إلى المطابقة التامّة بين تعليم بولس والمسيح. إليكم بعض المواقف والآيات التي تؤكّد صحّة ما ذهبنا إليه:

1- إنّ بولس لا يخالف أبداً تعاليم المسيح، بل على العكس، يعدّ قول يسوع مرجعَ كلامه الأوّلَ والأخير: "مِن بولس عبد المسيح يسوع دعي ليكون رسولاً وأفرد ليعلن بشارة الله" (روما 1/1).

2- يميّز بولس بين الأوامر التي أخذها عن المسيح والتوجيهات التي تأتي من عنده. ولا شكّ في أنّه يعطي كلام المسيح الصـدارة والأولويَّة: "لستُ أنا الموصي، بل الربّ"، "أمّا الآخـرون فأقول لهم أنا لا الربّ" (1قور 7/10-12).

3- إنّ بولس، رغم نجاح رسالته، لا يستقطب اهتمام المسيحيّين، بل يوجّه أنظارهم نحو المسيح: "أناشدكم بالمسيح… تخلّقوا بخلق المسيح… كيمـا تجثو لاسم يسوع كلّ ركبة في السموات وفي الأرض وتحت الأرض ويشهد كلّ لسان أنّ يسوع المسيح هو الربّ" (فيلبي 2/1).

4- يعدّ بولس نفسه مرسَلاً من المسيح ومن أجل المسيح، فحياته كلّها هي المسيح: "فالحياة عندي هي المسيح، والموت ربح" (فيلبي 1/21).

5- إنّ محور تفكير بولس وتعليمه هو المسيح فمنه كلّ شيء وبه كلّ شيء وإليه كلّ شيء. فعبثاً نسعى إذا أردنا أن نكتشف في صفحات رسائله شخصيَّة أخرى غير المسيح ابن الله الذي تجسّد ومات وقام ليخلّصنا: "وجعل كلّ شيء تحت قدميه ووهبه لنا فوق كلّ شيء رأساً للكنيسة، وهي جسده وملء ذاك الذي يمتلئ تماماً بجميع الناس" (أفسس 1/22).

 

ب- أمّا السبب الثاني فيعود إلى الوحدة التامّة بين تعليم بولس وتعليم الرسل. فالمقارنة بين رسائل بولس وسائر الرسائل في العهد الجديد تصل بنا إلى النتائج التالية:

1- إنّ العقائد التي بشّر بها بولس موجودة في رسائل يوحنّا وبطرس ويعقوب، وهذا دليل على أنّها ليست من تأليفه، بل مأخوذة من منبع واحد. نذكر مثلاً مصطلحَي: "التبرير، والخلاص". (راجع: يع 2/24، 4/12، 5/15، 5/20، 1بط 1/3-12، 2بط 3/15، 1يو 1/7، 1يو 4/10-15…).

2- كان هناك، منذ البدء، تعليم رسوليّ مشترك وحقائق متعارف عليها. فهناك مجموعة من التعاليم الثابتة التي انطلق منها الرسل في تبشيرهم. وكانت هذه التعاليم في جعبة بولس أيضاً لمّا بدأ رسالته فاستند إليها شارحاً ومقيِّماً (أقام في دمشق مع حنَنْيا والتلاميذ، وأقام في أورشليم مع الرسل، كما جاء في أعمال 9/19-30). ونذكر من هذه الموضوعات:

آ- معطيات تاريخيَّة: حياة يسوع. وُلد من امرأة في حكم الشريعة (غلا 4/4)، من نسل داود بحسب الطبيعة البشريَّة (روما 1/3)، كسر الخبز في العشـاء الأخير (1قور 11/23)، مات على الصليبوقـام من بين الأموات…

ب- معطيات عقائديَّة: الثالوث الأقدس (الآب والابن والروح القدس)، الفداء والصليب، القيامةوالصعود، الدينونة والمجيء الثاني…

ج- معطيات طقسيَّة: العماد والإفخارستيا، ثمّ الصوم والصلاة والصدقة، والأناشيد المسيحانيَّة، وكلمة أبّـا، يا أبتاه…

د- معطيات أدبيَّة: الأخلاق الحميدة والمحبّة (الوصيَّة الكبرى) والصفح عن الخطأة، ورفض الطلاق،وقبول الصغار والضعفاء، ودخول الملكوت، والطاهر والنجس…

3- كانت جماعة الرسل قلباً واحداً وفكراً واحداً وجاءت شهادتهم واحدة، وخير دليل على ذلك مجمع أورشليم حيث تمّ توحيد الكلمة. فلم يكن هناك مجال لأن ينفرد كلّ رسول بتعاليم جديدة، بل كان عليه أن يبقى حامياً لتعليم المسيح. ولذلك نجد بولس، رغم رحلاته، على اتّصال دائم بأورشليم وسائر الكنائس. كما نجده محافظاً على الوديعة. وهكذا بقيت العقيدة واحدة في منطقة البحر الأبيض المتوسّط ولم تنشأ الخلافات العقائديَّة في الكنيسة إلاّ بعد موت الرسل جميعاً.

4- لمّا كانت هناك عقيدة واحدة، ومسيح واحد يجمع بين مختلف أسفار العهد الجديد فلم يكن في استطاعة بولس أن يعرض أفكاراً خارجة عن هذا النطاق وأن يفسّر الحقائق على هواه، فإنّه كان، كسائر الرسل، مؤتَمناً على تقاليد، وكان عليه أن يوصل الأمانة من دون تحريف وأن يحافظ عليها من الضلال.

وهذا ما فعل في الواقع وإن اختلف عن سائر الرسل في طريقة الشرح والعرض بأسلوبه المنطقيّ الجدليّ.

 

خلاصة القول:

1- لم يخترع بولس شيئاً جديداً عن حياة يسوع وتعليمه. فالأناجيل تحتوي على جميع الحقائق الواردة في رسائله بشكل نواة. وجديده أنّه عاش تجربة ذاتيَّة مع المسيح تختلف عن سائر الرسل، هزّت كِيانه وأنارت بصيرته فأدرك تعليم المسيح على وجه خاصّ.

2- لم يؤلِّف بولس من عنده شيئاً جديداً، بل جمع ونظّم ونسّق على نحوٍ أفضل من الآخرين في ما كانوا يبشّرون به هم أيضاً وفي ما أخذوه عن المسيح. وسبب ذلك يعود إلى تبحّره في العِلم والفلسفة والثقافة.

3- لم يضع بولس العقيدة المسيحيَّة، بل تسلّمها وشرحها في ضوء الأنبياء والعهد القديم. فكأنّنا به يكتشف سرّ المسيح المختفي في العهد القديم ويفهم العهد القديم في ضوء الإنجيل.

 

استناداً إلى ما سبق نقول:

إنّ بولس لم يُنشئ ديانة جديدة، ولم يضع عقائد إيمانيَّة تختلف عن إنجيل المسيح، ولم ينحرف عن تعاليم الرسل والتقليد الذي أُوكل إليه. وكما حافظ هو شخصيّاً على الإيمان (2طيم4/7)، طلب في رسائله إلى تلميذه طيموثاوس أن "يحفظ الوديعة التي أُوكلت إليه" (1طيم 6/20 و 2طيم1/14).

زِدْ على ذلك تأكيد بولس في رسائله أنّ الإنجيل الذي أعلنه هو إنجيل يسوع. نذكر على سبيل المثال: "فأعلمكم، أيّها الإخوة، بأنّ البشارة التي بشّرت بها ليست على سنّة البشر، لأنّي ما تلقّيتها ولا أخذتها عن إنسان، بل بوحي من يسوع المسيح" (غلا 1/11، 2/2، روم 16/25، 2طيم 2/8). "فقد بلغنا إليكم حقّاً ومعنا بشارة المسيح" (2قور 10/14، 1قور 9/12-20، 2قور 4/3).

فإذا كان الأمر كذلك فما دَور بولس إذاً، وما هي مكانته، وما هو الجديد الذي أتى به فأصبح رسول الأمم وركناً من أركان الكنيسة؟

ثالثاً- دَور بولس في حياة الكنيسة

كان لبولس دَور هامّ فريد في انتشار الديانة المسيحيَّة من خلال تفعيل الفكر اللاهوتيّ أوّلاً، وتطوير العقيدة الدينيَّة ثانياً.

آ- بولس والمنطق اللاهوتيّ

كان دَور بولس لاهوتيّاً. فإنّه لم يُنشئ العقيدة المسيحيَّة، بل جعلها مترابطة رغم أنّ رسائله لا تشبه كتاباً عقائديّاً لاهوتيّاً متسلسل الأفكار. إنّ عند بولس ما يُسمّى "المنطق اللاهوتيّ" أي النظرة الشاملة التي تدور حول محور واحد. لقد سعى علماء الكتاب المقدَّس إلى اكتشاف هذا المحور الذي تدور حوله تعاليم  بولس بشكل متكامل ومنطقيّ فجاؤوا بحلول كثيرة: فمنهم مَن وجد هذا المحور في فكرة الخلاص المجّانيّ أو ملكوت الله أو الجسد السرّيّ أو حياة المسيح فينا أو الموت والقيامة أو كشف السرّ الخفيّ.

هذا لا يعني أنّ المسيح لم يكن لاهوتيّاً. أو أنّ الإنجيليّين لم يكونوا لاهوتيّين.

أليس ما نقرأ في إنجيلي مرقـس ومتَّى عن "ابن الإنسان الذي جاء ليعطي ذاته فـداء عن الكثيرين"(مر10/45، متَّى 20/28) مطابقاً لتعليم بولس حول الفداء والخلاص؟

والأمثلة كثيرة في هذا الشأن، فالتعابير مختلفة ولكنّ الفكرة اللاهوتيَّة واحدة.

هذا وإنّ الإنجيليّين ينطلقون من لاهوت خاصّ بهم فهم يعطون المسيح وجهاً بحسب مخطّطهم التربويّ والتاريخيّ واللاهوتيّ. ومن هنا تميّز إنجيل يوحنّا بكونه "الإنجيل اللاهوتيّ".

إنّ اللاهوت الإنجيليّ يبقى روائيّاً أمّا اللاهوت البولسيّ فهو خطابيّ رسائليّ، ولمّا كانت لكلّ أسلوب أدبيّ لغته الخاصّة، فليس بالأمر المهمّ أن يُحافظ على المصطلحات فهذه قشور، وإنّما الأهمّ أن يُحترم المضمون، وإذا كان بولس غير أمين للحرف فهو أمين كلّ الأمانة للروح كما قال: "الروح يُحيي والحرف يقتل"(2قور 3/6).

ولكن، سيكون من البساطة بمكان أن نجمع في بضع كلمات غزارة تعليم بولس الرسول. فكلّما حصرنا هذا الفيض في بضع كلمات أفقدناه قوّته وغناه، وعلى العكس، كلّما توغّلنا في شرحه أبرزنا عمقه ومعاصرته.

ولذلك، يحتاج تعليم بولس دوماً إلى تفسير وشرح لا إلى تلخيص وحصر. وهذا ما فعله آباء الكنيسة منذ البدء وتبعهم المعلّمون والدارسون فأخذ بولس هذا الدَور المميَّز في توجيه حياة الكنيسة وتطوّر الفكر اللاهوتيّ.

ولعلّ ما كتبه بطرس الرسول في رسالته الثانية خير توضيح لذلك: "عُدّوا صبر ربّنا وسيلة لخلاصكم، كما كتب بذلك أخونا الحبيب بولس على قدر ما أُوتي من الحكمة، شأنه في جميع الرسائل كلّما تناول هذه المسائل. وقد ورد فيها أمور غامضة يحرّفها الذين لا علم عندهم ولا ثبات، كما يفعلون في سائر الكتب، وإنّما يفعلون ذلك لهلاكهم" (2بط 3/15-16).

 

ب- بولس وتطوّر العقيدة المسيحيَّة

أمّا عن دَور بولس الأهمّ فنقول: إنّه أسهم، كسائر الرسل، في تطوّر العقيدة المسيحيَّة التي أسّسها المسيح. لا شكّ في أنّ هناك تطوّراً في العقيدة بما فيها من شكل ومضمون. فحين بشّر المسيح دامت بشارته ثلاث سنوات وانحصرت في بيئة محدّدة. وبموته وقيـامته ترك للرسـل إنجيل تعليمه وطابع شخصيّته وضمـان روحـه القدّوس.

وكان على الرسل أن يجابهوا عالَماً جديداً وبيئات مختلفة ومذاهب معادية وفلسفات متعدّدة بعد أن انتشرت دعوتهم وكثُر عدد المسيحيّين. فكان هذا الاحتكـاك بالديانة اليهوديَّة التقليديَّة والديانات الوثنيَّة والخرافات الشعبيَّة والفلسفات اليونانيَّة والحكم الرومانيّ دعوة ملحّة إلى مزيد من التوضيح لتعـاليم المسيح وشخصيّته: الإيمان – الشريعة – المعموديَّة – الفداء – الآخرة…

ولعلّ بولس الرسول أفضل مَن أسهم مِن بين الرسل في هذا التطوّر. والسبب يعود إلى رحلاته التبشيريَّة الواسعة الأرجاء التي فتحت أمامه آفاقاً جديدة، وطرحت أمامه مشكلات لم تكن في الحسبان.

إليكم بعض خصائص هذا التطوّر اللاهوتيّ عند بولس:

1- تطوّر العقيدة عنده ليس ترجمة لما يشعر به أو يخطر بباله، وليس تحليلاً علميّاً أو شخصيّاً لمسلّمات أو مبادئ، بل هو من وحي إلهيّ بحسب متطلّبات وأحداث خارجيَّة. فالرسائل كلّها توجيه إلى الحقّ، وحثّ على الخير، وتحذير من الضلال. ولذلك نقول مع الأب "برات –Prat ": "تطوّر العقيدة عند بولس يوازي ويتماشى مع تاريخ تطوّر الكنيسة الناشئة".

2- علماً بأنّ بشارة بولس لم تُكتب بكاملها في رسائله أو في أعمال الرسل، بل هناك تعليم شفويّ بشّر به في عظاته لم يُدوَّن بكامله. وهو يفترض في قارئيه أنّهم مطّلعون على بشارته الشفويَّة. فهناك تطوّر واضح بين بشارته الشفويَّة وتعليمه المكتوب.

3- وتجدر بنا الإشارة إلى أنّ التطوّر وارد في أفكار بولس ليس بالنسبة إلى تعليم المسيح وسائر الرسل وحسب، بل حتَّى في تعليمه أيضاً. فالعقيدة تظهر عنده تدريجيّاً وَفقاً لاحتياجات الكنائس. ولا عجبَ في أن نجده أكثر وضوحاً وتنسيقاً في الرسائل التي كتبها في آخر أيّام حياته. ومثالنا على تطوّر العقيدة عنده، الكنيسة: جسد واحد (جماعة واحدة)، جسد سرّيّ رأسه المسيح (جماعة روحيَّة)، جسد متدرّج الأعضاء (جماعة منظَّمة). وكذلك أيضاً تطوّر فكرة الدينونة الأخيرة: عودة المسيح قريبة (الرسالة الأولى إلى تسالونيقي) وتأخّر الموعد (الرسالة إلى روما)، التبرير الآن والخلاص بعد الموت. ويبدو التطوّر واضحاً في لاهوت المعموديَّة. فالمعموديَّة مرتبطة بالصليب (1قور 1/13-17) وهي دفن مع المسيح للقيامة معه إلى حياة جديدة (روم 6/3-5)، وهي ختان روحيّ، علامة التطهير والانتماء إلى الجماعة (قول 2/11).

وهذا لا يعني أنّه مع بولس تمّ تطوّر العقيدة، فالعقيدة في تطوّر أبداً بحسب تطوّر احتياجات المسيحيّين الدينيَّة. وخير دليل على ذلك أنّ رسائل بولس نفسها كانت تحتاج عبر تاريخ الكنيسة إلى مزيد من التوضيح والتفسير والشرح والتنسيق. فليس هناك إنجيل بولسيّ أو عقيدة بولسيَّة بقدر ما هو لاهوت بولسيّ أو روحانيَّة بولسيَّة.

أضف إلى ذلك أنّ بولس الرسول أصبح قدوة لجميع اللاهوتيّين اللاحقين من حيث التأصّل والإبداع. فكما أنّه كان متأصّلاً في تعاليم المسيح كان أيضاً خلاّقاً في شرح هذه التعاليم وتطبيقها وفق احتياجات أهل عصره.

أليست هذه رسـالة كنيسة اليوم: أن تكون أمينة للإنجيل من جهة، وأن تعطي، من جهة أخـرى، أجوبة عمليَّة وفق تسـاؤلات عالَمنا المعـاصر؟ (مثال على ذلك مسـألة الاستنساخ وأطفـال الأنابيب وصنع الأجنّة في المخابر…).

 

الخـاتمة

إذا أعدنا طرح السؤال الذي انطلقنا منه: هل بولس هو مؤسِّس الديانة المسيحيَّة؟ نستطيع أن نجيب مع "ويسترمان – Westermann" أحد علماء الكتاب المقدَّس: "إنّ بولس هو الأوّل بعد الأوحد". أي هو أوّل مَن أخرج العقيدة المسيحيَّة في حلّة جديدة بعد المسيح الذي وضعها. فهو، بصفته مسيحيّاً وعضواً من الجسد السرّيّ وبصفته رسولاً ومعلّماً، استقى عقيدته وأفكاره كلّها من "المعلّم الأوحد" الذي كان يحيا فيه وتكلّم بلسانه. أو كما يقول آخر بشكل أكثر وضوحاً: "إنّ بولس هو المؤسِّس الثاني للديانة المسيحيَّة".

ربّما نستطيع أن نقول إنّ بولس هو مُنشىء اللاهوت العقائديّ المسيحيّ، وهو بالتالي "أكبر لاهوتيي القرن الأوّل" على حدّ قول الأب "كينيل – Quesnel". وإذا كان ثمّة اختلاف بين الأناجيل والرسائل في عرض البشرى، إلاّ أنّه لا خلافَ بين بشارة بولس وبشارة يسوع. ولنقلْ: إنجيل بولس هو إنجيل يسوع نفسه.

ولذلك لم تُدعَ كتابات بولس في بدايات الكنيسة وفي العصور اللاحقة بالأناجيل، بل بالرسائل التي حملت البشارة والتعليم بوحي من المسيح وإلهام من الروح القدس.

فإذا استطاع بولس أن يُعيد صياغة ما تسلّمه وأن يضعه في قالب فكريّ منطقيّ لاهوتيّ فهل يعني ذلك أنّه خان الأمانة؟ كلاّ، إنّ إعادة صياغة الحقيقة بتعابير جديدة ليس خيانة لها، بل هي ضرورة حيويَّة للحفاظ عليها.

حقّاً إنّ حدث اختيار بولس وظهوره في الوقت المناسب ودَوره في انتشار الإنجيل دليل على تدخّل إصبع الله ودَور الروح القدس الذي اختار من الرعاة أنبياء، ومن الصيّادين رسلاً. وشاء أيضاً أن يجعل من الفِرّيسيّ المتعصّب داعياً للمسيح وراعياً للكنيسة.

مع بولس نكتشف اكتشافاً حسّيّاً كيف أنّ المسيح بروحه القدّوس يستطيع أن يغيّر قلب الإنسان ليجعل منه أداة له. وكما قال أحد الدارسين: "المسيح شمسنا. منه كلّ نور وحياة. وبولس مرآة عكست أشعّة هذه الشمس فألهبت عالَماً بكامله" .

 

عن موقع جمعية التعليم المسيحي بحلب

راجع :

– بولس ورسـائله، دراسات بيبليَّة رقم 23، منشورات الرابطة الكتابيَّة – لبنان، 2001.

– مدخل إلى رسائل القدِّيس بولس، الأب فاضل سيداروس اليسوعيّ، دراسات في الكتاب المقدَّس رقم 17، دار المشرق – بيروت 1989.