لنتأمل مع بندكتس 1-31 من أكتوبر

الأول من أكتوبر

روما، الأربعاء 1 أكتوبر 2008 –zenit.org

ننشر في ما يلي تأمل اليوم من أكتوبر للبابا بندكتس السادس عشر، من كتاب "بندكتس".

لاهوت الطفولة

إن لاهوت الطفولة هو عنصر أساسي في المسيحية. ففي نهاية المطاف، إن فحوى إيماننا هو أن عظمة الله السامية تتجلى بالتحديد في الضعف. في المدى البعيد، إن قوة التاريخ تتجلى في أولئك الذين يحبون، أي في قوةٍ – إذا ما أردنا التعبير بشكل مناسب – لا يمكن قياسها بواسطة معايير القوة. ولذا، لكي يبين الله هويته، أراد الكشف عن نفسه في ضعف الناصرة والجلجلة. الأقوى ليس ذلك الذي يستطيع أن يدمر أكثر – ففي العالم ما زالت قدرة التدمير هي الدليل الحقيقي للقوة – بل، على العكس، فأضعف ما في الحب هو أعظم من أكبر قوة مدمرة… جوهر الدين هو علاقة الإنسان أبعد من ذاته بذلك الواقع المجهول الذي يسميه الإيمانُ الله. باستطاعة الإنسان الذهاب أبعد من كل ما هو ملموس، وكل الوقائع المحسوسة للدخول في هذه العلاقة الأولية. يعيش الإنسان عبر العلاقات التي يقيمها، وصلاح حياته يعتمد على صلاح علاقاته الأساسية… ولكن ما من واحدة من هذه العلاقات تستطيع أن تكون جيدة ما لم تكن جيدة العلاقة مع الله. يمكنني القول بأن هذه العلاقة بالذات هي فحوى الدين.

الثاني من أكتوبر

الله ينتظرنا

 في الكتاب المقدس، يمثل الخبز حاجة الإنسان في حياته اليومية. يجعل الماء الأرض خصبة: وهو الهبة الأساسية التي تجعل الحياة ممكنة. من ناحية أخرى، يعبر الخمر عن امتياز الخليقة ويعطينا الاحتفال الذي من خلاله نستطيع أن نذهب ما وراء حدود رتابة حياتنا اليومية؛ يقول المزمور: "الخمر يفرح قلب الإنسان". هذا الخمر، ومعه، الكرمة، صارا صورة لهبة الحب التي من خلالها نستطيع أن نتذوق نكهة الألوهة. لقد خلق الله الكرمة لذاته – وهذه صورة لتاريخ حبه للبشرية، وحبه لإسرائيل الذي اصطفاه . لقد وضع الله في الرجل والمرأة، اللذين خلقهما على صورته، القدرة على الحب، وبالتالي القدرة على محبته كخالقهما. مع نشيد حب النبي أشعيا، يريد الله أن يخاطب قلب شعبه – وأن يخاطب كلاً منا. يقول لنا: "لقد خلقتكم على صورتي ومثالي. أنا المحبة، وأنتم صورتي بقدر ما يشع فيكم تألق الحب، وبقدر ما تجيبون بمحبة على نداء حبي". الله ينتظرنا ويريدنا أن نحبه: ألا يجدر بقلوبنا أن تتحرك لهذا النداء؟ يأتي للقائنا، يأتي إلى لقائي. هل سيلقى جوابًا؟ أو هل سيحدث معنا ما جرى مع الكرمة التي يقول فيها الرب في أشعيا: "لقد انتظرت أن تثمر عنبًا فأثمرت حصرما"؟ أليست حياتنا المسيحية غالبًا أشبه بالخل منه بالخمر؟ أليست حياة رثاء للذات، وصدام، ولامبالاة؟

الثالث من أكتوبر

حاجة العالم إلى التحول

إن سر الله المقدس، حبة الخردل الذي هو الإنجيل، لا يستطيع أن يتطابق مع العالم بل يجب عليه أن يخمر كل العالم. لهذا السبب يجب علينا أن نجد من جديد الشجاعة لنلتزم بما هو مقدس، شجاعة تمييز ما هو مسيحي – لا بغية فصله بل تحويله – شجاعة أن نكون ديناميكيين حقًا. في مقابلة معه في عام 1975، عبّر أوجين يونسكو، أحد مؤسسي المسرح الهزلي، عن هذا الأمر بحماسة البحث والتفتيش التي تميز الإنسان المعاصر. أستشهد هنا ببعض العبارات من هذه المقابلة: "لا تريد الكنيسة أن تفقد أعضاءها الحاليين؛ ولكنها لا تريد أن تربح أعضاء جدد. والنتيجة هي نوع من العلمنة المثيرة للشفقة حقًا. العالم يضيع سبيله؛ والكنيسة تضيع نفسها في العالم… لقد سمعت كاهنًا يقول مرة في الكنيسة: ‘لنكن فرحين، لنصافح بعضنا البعض… يسر يسوع أن يتمنى لكم نهارًا سعيدًا!‘. لن يطول بهم الأمر قبل أن يفتحوا المقاهي في الكنيسة لشركة الخبز والخمر ولتقديم الساندويتشات والمشروبات… لم يعد بحوزتنا أي شيء؛ ما من شيء صلب. كل شيء قد انصهر. ولكننا بحاجة إلى صخرة". يبدو لي أننا إذا ما أصغينا إلى أصوات عصرنا، لأصوات أشخاص يعيشون ويتألمون ويحبون بوعي في عالم اليوم، سنعي بأننا لا نستطيع أن نخدم هذا العالم بنوع من الفضولية السخيفة. فالعالم لا يحتاج إلى تأكيد بل إلى تحويل، يحتاج إلى جذرية الإنجيل.

الرابع من أكتوبر

احترام الخالق والخليقة

تخبر قصة بأن فرنسيس أمر أحد الإخوة المسؤولين عن الحديقة ألا يزرع الرقعة بأسرها بالخضار، بل أن يترك جزءًا منها للزهور، لكي تنتج في كل فصول السنة أخواتنا، الزهور، حبًا بتلك المدعوة "زهرة الحقل وزنبق الأودية" (نش 2، 1). وبالشكل عينه أراد أن يكون هناك غرز زهور جميل لكي يتمكن الناس في كل الأوقات أن يتأثروا فتدفعهم الزهور إلى تسبيح الخالق، "لأن كل خليقة تهتف أمامنا: لقد خلقني الله لأجلك أيها الإنسان" (مرآة الكمال، 11، 118). لا يمكننا أن نأخذ هذه القصة تاركين العنصر الديني خارجًا كذخيرة زمن ولّى ومضى، بينما نقبل ما تقوله بشأن رفض المنفعة البحتة وتقديرها لغنى الأصناف والأجناس. فهذا الأمر لا ينطبق البتة على ما فعله وقصده فرنسيس… عندما يخرج الإنسان من إطاره الخاص ولا يستطيع أن يعبر عن نفسه، لا تستطيع الطبيعة أن تزهر. على العكس: يجب على الإنسان أن يكون أولاً بتناغم مع ذاته؛ وعندها فقط يستطيع أن يدخل بتناغم مع الخليقة، والخليقة معه. وهذا الأمر ممكن فقط إذا ما كان بتناغم مع الخالق الذي صمم الطبيعة وصممنا نحن أيضًا. احترام الإنسان واحترام الطبيعة يتماشيان سوية، ولكنهما ينميان ويجدان مقياسهما الحق عندما نحترم، في الطبيعة والإنسان، الخالق وخليقته. فالإنسان والطبيعة ينسجمان فقط عبر العلاقة مع الخالق. لن تستطيع أن نجد التوازن المفقود إذا ما رفضنا أن ننطلق إلى الأمام لكي نكتشف هذه العلاقة. فلنسمح لفرنسيس الأسيزي أن يجعلنا نفكر؛ لنفسح له أن يثبت خطانا في السبيل المناسب.

الخامس من أكتوبر

مثل الوزنات

كل حياة تتمتع بدعوتها الخاصة. ولها نظامها وسبيلها. ما من أحد هو تقليد، طُبع مع مجموعة من مماثلين. ولذا فكل واحد منا يحتاج إلى الشجاعة الخلاقة لكي يعيش حياته الخاصة، ولا يحول ذاته إلى نسخة لأحد آخر. إذا ما نظرنا إلى مثل الخادم الكسول، الذي دفن وزنته لكي لا يصيبها أي مكروه، نفهم ما أريد أن أقوله. فنحن بصدد شخص لا يريد أن يجازف في عيش حياته انطلاقًا من فرادتها ولا يريد أن يتركها تنمي؛ أو أن يعرضها للمخاطر التي تظهر بالتأكيد مع هذا الأمر… كل شخص يسعى إلى إيجاد أحد ما لكي يشرح له الأمور، شخصًا يستطيع أن يطرح عليه السؤال: كيف تمكنت من فعل هذا؟ كيف تمكن هو من فعل هذا؟ كيف يمكنني أِن أفعل أنا أيضًا؟ كيف يمكنني أن أتعرف على ذاتي وأكتشف مقدراتي الذاتية؟ نحن مقتنعون بأن مصدر المعلومات الأساسي وذا السلطان، هو المسيح. من ناحية، يهب لنا المسيح الخطوط العريضة الأساسية، ومن ناحية أخرى، يدخل في علاقة حميمية جدًا مع كل منا فنتمكن معه، وفي جماعة المؤمنين، نستطيع أن نكتشف أصالتنا الخاصة – ونستطيع بالتالي أن نجمع بين الجماعة والأصالة والإبداع.

السادس من أكتوبر

صورة الله

لقد خُلق الإنسان على صورة الله ومثاله (تك 1، 26 – 27). في الكائن البشري، تلامس السماء الأرض. في الكائن البشري، يلج الله في خليقته؛ ويرتبط الكائن البشري بالله مباشرة. فالله يدعو الكائن البشري وتنطبق كلمة الله في العهد القديم على كل كائن بشري: "لقد دعوتك باسمك وأنت لي". الله يعرف كل كائن بشري ويحبه. الله يريد كلًا منا، وكلٌ منا على صورة الله. هذا الأمر هو أعمق وأعظم ركيزة لوحدة الجنس البشري – كل منا، كل كائن بشري، يحقق مشروع الله الواحد ويصدر عن فكرة الله الخلاقة عينها. ولذا يقول الكتاب المقدس أن كل من يتعدى على كائن بشري يتعدى على ملك الله (تك 9، 5). يحمي الله الحياة البشرية حماية خاصة، لأن كل كائن بشري، مهما كان بائسًا أو مجيدًا، مهما كان مريضًا أو متألمًا، مهما كان عديم الفائدة أو مُهمًا، أوُلد أم لم يولد، أكان مصابًا بمرض عضال أو كان مشعًا بالصحة – كل إنسان يحمل نسمة الله في داخله، وكل إنسان هو صورة الله. هذه هي الركيزة الأعمق لحصانة الكرامة البشرية، وعلى أسسها تبنى أية حضارة. عندما  لا نعود ننظر إلى الإنسان كمحمي من الله وحامل لنفَس الله، عندها نبدأ بالنظر إلى الإنسان انطلاقًا من موضة المنفعة. وعندها تظهر البربرية والوحشية التي تدوس الكرامة البشرية. وبالمقابل: عندما نرى هذه الصورة، تظهر جليًا درجة عالية من الروحانية والخلقية.

السابع من أكتوبر

الوردية

تعود صلاة الوردية تاريخيًا إلى العصور الوسطى. لقد تطلع الناس إلى مزامير تناسبهم فوجدوا الصلاة إلى مريم مع أسرار حياة يسوع المسيح التي كانوا يلفون أعناقهم بخرزات عقدها. تؤثر بك هذه الصلاة بطابعها التأملي، والتكرار يساعد النفس على الاستقرار في الهدوء، عبر التمسك بـ "الكلمة"، وفوق كل شيء بشخصية مريم وبصور المسيح التي تمر بك، فتحرر روحك وتمنحك رؤية الله. تقدم لنا الوردية صلة بهذه المعرفة الأولية القائلة بأن التكرار هو جزء من الصلاة، من التأمل، بأن التكرار هو سبيل إلى استقرار النفس في إيقاع الهدوء. إنها مسألة السماح لذاتي بأن تُرفع على أيدي التكرار الهادئ والإيقاع الثابت. وهذا الأمر جيد بقدر ما لا يخلو النص من المعنى. فالنص يضع أمام ناظري صورًا ورؤى رائعة، وفوق كل شيء شخصية مريم – ومن خلالها شخصية يسوع. لقد احتاج هؤلاء الناس إلى الصلاة التي تمنحهم الهدوء، والتي تخرجهم من ذواتهم، بعيدًا عن مشاكلهم، وتضع أمامهم التعزية والشفاء. هذه الخبرة الأساسية في تاريخ الأديان، هذا الترداد، والإيقاع، والكلمات المؤتلفة، والغناء سوية، التي تحملني وتسكّنني وتملأ فسحاتي، ولا تلوعني بل تمنحني الهدوء وتعزيني وتحررني، أضحت هنا خبرة مسيحية بالكامل، يصلي فيها الناس ببساطة في الإطار المريمي وفي إطار اعتلان المسيح إلى البشر، وفي الوقت عينه يفسحون المجال لهذه الصلاة لكي تصبح صلاة داخلية في حياتهم، في فسحة يتحد فيها الروح بالكلمة.

الثامن من أكتوبر

الأمثال

علم يسوع بشكل كبير عبر الأمثال… يصرح يسوع بشكل علني بأن الأمثال هي السبيل الذي من خلاله تتحقق معرفة الإيمان في العالم (يو 16، 25)… للأمثال دوران أساسيان. من جهة، تتخطى الأمثال بُعد الخليقة، لكيما عبر هذا التجاوز، تتمكن من جذب الخليقة أبعد من ذاتها، نحو الخالق. من ناحية أخرى، تقبل خبرة إيمان الماضي، فتشكل امتدادًا للأمثال التي نمت مع تاريخ إسرائيل. يجب أن نضيف هنا نقطة ثالثة: تفسر الأمثالُ العالم البسيط، عالم الحياة اليومية، لكي تبين كيف يتم فيه تجاوز ما هو مجرد أفكار شائعة بشرية بحت. من جهة، يتجلى محتوى الإيمان في المثل، ولكن من جهة أخرى، يوضح المثل نواة الواقع عينه. وهذا الأمر ممكن بفضل طبيعة المثل. وبالتالي، فقط من خلال المثل نتعرف على طبيعة العالم والإنسان… لا يقارب المثل خبرتنا للعالم من الخارج؛ على العكس، المثل هو ما يمنح هذه الخبرة عمقها الذاتي ويكشف ما هو مستتر في الأمور. الواقع هو حقيقة تتجاوز ذاتها، والمثل يحمل الإنسان على تجاوزها، فيفهم الإنسان لا الله وحسب، بل أيضًا، وللمرة الأولى، يفهم الواقع ويسمح لذاته وللخليقة أن تكون ما يجب أن تكون. فقط بما أن الخليقة هي مثل، يمكنها أن تضحي كلمة المثل.

التاسع من أكتوبر

تحدي الرسالة

يستطيع الإيمان المسيحي، الذي يحمل في داخله تراث الأديان العظيم والذي يفتح هذا التراث على اللوغوس، أي العقل الحق، أن يقدم للأديان ركيزة جديدة في البعد الأعمق، ويستطيع في الوقت عينه أن يقدم خلاصة حقيقية ممكنة بين العقلانية التقنية والدين، وهو أمر يمكن أن يحدث، لا عبر اللجوء إلى اللاعقلاني، بل عبر انفتاح العقل على سموه وسعته الحقة. تكمن هنا مهمة اللحظة التاريخية الراهنة. من دون شك، يجب على الرسالة المسيحية أن تفهم الأديان الأخرى بعمق وتقبلها بعمق لم تتوصل إليه حتى الآن، ولكن يجب على هذه الأديان، من ناحية أخرى – إذا ما أرادت الحفاظ على أفضل عناصرها – أن تعترف بطابعها الانتظاري، وبالطريقة التي تشير بها إلى المسيح. إذا ما قمنا بهذا المعنى ببحث عن آثار مسيرة نحو حقيقة مشتركة، سيظهر أمر غير متوقع: هناك أمور مشتركة أكثر بين المسيحية والثقافات القديمة منه بينها وبين العالم النسبوي وعالم العقلانية… لأن معرفة أن الإنسان يجب أن يرجع ويلتفت إلى الله، إلى ما هو أبدي، هي أمر يقع على تقاطع طرق الثقافات؛ معرفة الخطيئة، والتوبة، والغفران؛ المعرفة المتعلقة بالشركة مع الله وبالحياة الأبدية؛ وأخيرًا معرفة القواعد الأساسية للأخلاقيات، كما نلاقيها في الوصايا العشر.

العاشر من أكتوبر

إله إسرائيل

في المجرى الطبيعي للأمور، الإله الذي يرخي يده، ويترك شعبه للهزيمة، ولا يستطيع أن يحمي هيكله، هو إله فاشل. ليس لديه ما يقوله من بعد. هو إله محاه التاريخ. عندما ذهب إسرائيل إلى المنفى، حدث – وللدهشة الكبرى – عكس ذلك. فقد ظهر قوام هذا الإله، وكيف أنه مغاير بالكلية عن كل آلهة ديانات العالم، وأخذ إيمان إسرائيل شكله وقوامه النهائي. فهذا الإله يستطيع السماح للآخرين بأن يأخذوا أرضه لأنه لا يرتبط بأية أمة. ويستطيع أن يسمح بأن يخسر شعبه لكي يوقظه بالتالي من أحلامه الدينية الخادعة. لم يكن الله مرتبطًا بشكل تبعي بهذا الشعب، ولكن مع ذلك فهو لم يتخل عنه في لحظة الفشل… وبهذا الشكل، مع مفهوم أعمق لله، تطورت فكرة عبادة جديدة. بالطبع، منذ أيام سليمان، تمت مطابقة إله الآباء بالإله الأسمى، الخالق، المعروف في كل الأديان، والذي مع ذلك لم يكن يحظى بالعبادة لأن الناس كانت تعتقد أنه ليس المسؤول عن الحاجات الفردية. هذه المطابقة، التي تمت على صعيد مبدأي، رغم أنها حتى ذلك الحين لم تكن لتؤثر إلا قليلًا على وعي الناس، أصبحت الآن القوة الدافعة لبقاء الإيمان على قيد الحياة: ليس لدى إسرائيل  إلهًا معينًا، بل هو يعبد ببساطة الإله الواحد الحق. هذا الإله خاطب إبراهيم واختار إسرائيل، ولكنه بالحقيقة إله كل الشعوب، إله الكل الذي يقود مسار التاريخ… التقدمة الحقة هي الإنسان الذي يضحي أهلاً لهذا الإله.

الحادي عشر من أكتوبر

قوة الحقيقة

يحتل الإيمان مكانة أساسية في حياة الكنيسة، لأن هبة الله لذاته في الوحي هي هبة أساسية، وهذه الهبة يقبلها الإنسان بالإيمان… إذا ما وضع الإيمان ببساطة وبشكل حازم في صلب الوجود المسيحي، تتجدد الحياة الإنسانية وتعاش في حب لا يعرف حدًا. تتحرك المحبة من قلب الآب إلى قلب يسوع المسيح، وعبر روحه القدوس إلى العالم. هذا الحب يتولد من لقاء المسيح بالإيمان… يسوع المسيح هو الحقيقة الشخصانية التي تجذب العالم إلى ذاتها. النور الذي يشع من المسيح هو تألق الحقيقة. كل حقيقة أخرى هي فلذة من الحقيقة التي هي المسيح، وهي تشير إليه… بمعزل عن معرفة الحقيقة، تنحط الحرية، وتنعزل، وتضحي مجرد غوغائية عقيمة. مع يسوع، نكتشف الحرية من جديد، ونكتشف أن الله خلقها من أجل خيرنا وأننا نعبر عنها عبر أعمال المحبة وفي تصرفاتنا. وبالتالي يهب يسوع للرجال والنساء الدالة الكاملة نحو الحقيقة ويدعوهم باستمرار إلى العيش في هذه الحقيقة. الحقيقة المقدمة كواقع ترمم صورة الكائن البشري وبالوقت عينه تتجاوزه وترفعه أعلى من ذاته، كسرّ يغمر زخم فكره وفي الوقت عينه يتخطاه. ما من شيء أفضل من حب الحقيقة يستطيع أن يدفع الفكر البشري نحو آفاق جديدة. يجذب يسوع المسيح إلى ذاته قلب كل إنسان، ويوسعه ويملأه بالقرح الذي يحرك ويجذب الكائن البشري إلى العبادة الحرة، إلى الانحناء باحترام قلبي أمام "الحقيقة" التي التقى بها.

الثاني عشر من أكتوبر

الله يضحي غنانا

الفقر الذي يقصده يسوع – والذي يقصده الأنبياء – يتطلب قبل كل شيء حرية داخلية من جشع التملك وهوس السلطة. هذا الواقع هو أكبر بكثير عن توزيع مختلف للأملاك، لأن هذا الأخير يعني الاستمرار في الإطار المادي، وبالتالي يسهم في جعل القلوب أكثر قساوة. إنها أولاً وخاصة مسألة تطهير للقلب، الذي من خلاله يكتشف المرء الملكية كمسؤولية، كواجب نحو الآخرين، ويضع نفسه تحت نظر الله ويسمح للمسيح أن يهديه، المسيح الذي كان غنيًا فافتقر لأجلنا (راجع 2كور 8، 9). الحرية الداخلية هي شرط أساسي للتغلب على الفساد والجشع اللذين يجتاحان عالم اليوم. يمكننا أن نجد هذه الحرية إذا أصبح الله غنانا؛ يمكننا أن نجدها في صبر التضحية اليومي، الذي تنمو الحرية الحقة من خلاله. يدلنا الملك على السبيل لتحقيق هذا الهدف: يسوع، الذي نهتف له في أحد الشعانين، والذي نطلب إليه أن يجعلنا نمشي معه في سبيله… يأتي إلى كل الثقافات وإلى كل أنحاء العالم، إلى كل مكان، في الأكواخ الحقيرة وفي المناطق القروية الفقيرة كما إلى تألق الكاتدرائيات. يسوع هو هو في كل مكان، هو الواحد، وبالتالي، يتحد أولئك الذين يلتفون حوله ومعه للصلاة والمناولة في جسد واحد. يحكم المسيح من خلال صيرورته خبزنا، ومن خلال هبة ذاته لنا. هذه هي الوسيلة لبناء ملكوته.

الثالث عشر من أكتوبر

لا يمكن الفصل بين مريم والمسيح

لا تتمتع مريم بعلاقة فريدة بالمسيح وحده، كابن الله الذي أراد كإنسان أن يضحي ابنها. بل أيضًا، وبما أنها كانت متحدة بالكلية بالمسيح، فهي أيضًا خاصتنا نحن. نعم، يمكننا أن نقول أن مريم قريبة منا أكثر من أي كائن بشري آخر، لأن المسيح يضحي بشرًا من أجل كل رجل وامرأة وكيانه بأسره هو "كيان لأجلنا". المسيح-الرأس هو غير منفصل عن جسده الذي هو الكنيسة، ويشكل معها، كيانًا حياً فريدًا. أُم الرأس هي أيضًا أُم الكنيسة بأسرها؛ لقد أخلت مريم، بشكل ما، ذاتها بالكلية؛ لقد وهبت ذاتها بالكلية إلى المسيح ومن خلاله هي هبة لنا جميعًا. بالواقع، بقدر ما يهب الكائن البشري ذاته، بقدر ذلك يجد ذاته. ومريم هي متداخلة بشكل كبير في سر الكنيسة، لدرجة أنه لا يمكن الفصل بينها وبين الكنيسة، تمامًا كما أنه لا يمكن الفصل بينها وبين المسيح. تعكس مريم صورة الكنيسة، وتستبق الكنيسة في شخصها، وفي كل المضايق التي تصيب الكنيسة المتألمة والمجاهدة، تبقى مريم نجمة الخلاص. في مريم نجد محور ثقتنا الحقيقي، حتى ولو أن الأطراف غالبًا ما تثقل روحنا. في مريم، البريئة من الدنس، نجد جوهر الكنيسة دون أي تشويه. يجب علينا أن نتعلم منها أن نضحي بدورنا "نفوسًا كنسية" لكي نتمكن، بانسجام مع كلمات القديس بولس، أن نحفظ أنفسنا "دون لوم" في نظر الرب، تمامًا كما أرادنا منذ البدء (راجع كول 1، 21 – 2؛ أف 1، 4). مريم هي إسرائيل المقدس: تقول مريم "نعم" إلى الرب، وتضع نفسها بكليتها في خدمته، وتضحي بالتالي، هيكل الله المقدس والحي.

الرابع عشر من أكتوبر

حقيقة الكذب

عندما يغيب التلاحم مع النظام المتسامي للأشياء، وكذلك أيضا احترام "قواعد" الحوار الذي هو النظام الأدبي الجامع، المكتوب في قلب الإنسان، ويتعثر النمو الكامل للشخص وتنتهك حقوقه الأساسية، وتضطر شعوب كثيرة إلى معاناة الظلم واللامساواة، كيف لنا عندئذ أن نأمل بتحقيق عطية السلام؟ تتقلص، في هذه الحالة، العوامل الجوهرية التي تجسد حقيقة هذه العطية. لقد وصف القديس أغوسطينوس السلام بأنه "نظام هادىء"، أي بالوضع الذي يسمح، في نهاية المطاف، باحترام حقيقة الإنسان وتحقيقها. إذن، من وماذا يحول دون تحقيق السلام؟ يتطرق الكتاب المقدس، في هذا الصدد، في سفر التكوين، إلى الكذب الذي تكلم به الشيطان منذ مطلع التاريخ والذي قال عنه الإنجيلي يوحنا إنه "أبو الكذب" (يو 8، 44). الكذب أيضا إحدى الخطايا الواردة في الكتاب المقدس، في رؤيا يوحنا، إشارة إلى استثناء الكذبة عن أورشليم السماوية:"ليبق خارجا كل من يحب الكذب ويعمل به!" (22، 15). وترتبط بالكذب مأساة الخطيئة ونتائجها المنحرفة التي تؤدي إلى تأثيرات مدمرة على حياة الأفراد والأمم. يكفي التفكير بما حصل في القرن المنصرم حين شوهت أنظمة إيديولوجية وسياسية زائغة، بشكل مبرمج، الحقيقة وقادت إلى استغلال وقمع عدد كبير من الرجال والنساء وإبادة أسر وجماعات برمتها. كيف لنا ألا نقلق، بعد هذه الخبرات، أمام أكاذيب زماننا التي ترسم سيناريوهات موت في مناطق عديدة في العالم؟ لا بد للبحث الأصيل عن السلام أن ينطلق من الوعي بأن مسألة الحقيقة والكذب تطال كل رجل وامرأة وهي مصيرية لمستقبل سلمي في كوكبنا.

الخامس عشر من أكتوبر

الحقيقة التي تمنحنا السلام

إن السلام رغبة مضطرمة في قلب كل شخص بغض النظر عن الميزات الثقافية الخاصة. ولهذا السبب بالذات على كل فرد أن يشعر بأنه ملتزم في خدمة خير ثمين ويعمل كي لا تشوبه شائبة. إن جميع البشر ينتمون إلى عائلة واحدة. كما أن التعظيم المفرط للاختلافات الذاتية يتناقض مع هذه الحقيقة الأساسية. لا بد من استعادة الوعي بالمصير المشترك، في نهاية المطاف، لتقييم أفضل للاختلافات التاريخية والثقافية الذاتية بدون تضارب إنما بتجانس مع المنتمين إلى الثقافات الأخرى. هذه هي الحقائق البسيطة التي تجعل السلام ممكنا وتصبح سهلة الإدراك عندما ينصت المرء إلى قلبه بنوايا طاهرة. عندئذ يظهر السلام بطريقة جديدة: لا كانعدام الحرب بل في شكل تعايش بين المواطنين الأفراد في مجتمع تحكمه العدالة وحيث يتم، قدر المستطاع، تحقيق خير كل واحد منهم. إن حقيقة السلام تدعو الجميع إلى زرع علاقات مثمرة وتحث على البحث عن دروب المسامحة والمصالحة والسير عليها وعلى الشفافية في التعامل والأمانة للوعود. وبخاصة فإن تلميذ المسيح، الذي يشعر بمكيدة الشر ويحتاج بالتالي إلى تدخل المعلم الإلهي المحرِّر، يتوجه إليه بثقة وعيا منه "أنه لم يقترف خطيئة قط، ولم يكن في فمه مكر" (1 بط 2، 22؛ أش 53، 9). في الواقع، قال يسوع عن نفسه "أنا هو الحق"، وتحدث في رؤيا القديس يوحنا عن معارضته "كل من يحب الدجل ويعمل به"، وأعلن ملء حقيقة الإنسان والتاريخ. وبقوة نعمته بإمكاننا أن نكون في الحقيقة ونعيش فيها لأنه هو فقط صادق وأمين. يسوع هو الحق الذي يعطينا السلام.

السادس عشر من أكتوبر

مهمة إعلان إنجيل السلام

لا تزال حقيقة السلام حتى يومنا هذا معرضة للخطر ومنكرة بشكل مأسوي من قبل الإرهاب القادر، بتهديداته وأفعاله الإجرامية، على إبقاء العالم في حالة من القلق وغياب الأمن. وفي الواقع، يبدو أن هذه المخططات مستوحاة من عدمية مأسوية. إن نظرة العدمية والتعصب الأصولي للحقيقة خاطئة: فأتباع العدمية يرفضون وجود أي حقيقة في ما الأصوليون يدَّعون فرضها بالقوة. يجمع بين العدمية والتعصب الأصولي تحقير للإنسان وحياته، وفي نهاية المطاف، لله ذاته. إن هذه النتيجة المأسوية، في الواقع، تعكر صفو ملء حقيقة الله: العدمية التي ترفض وجود الله وحضوره في التاريخ والتعصب الأصولي الذي يشوه وجه الله الحبيب والرحيم ليبدله بأوثان على صورته. إننا إذ نتقصى أسباب ظاهرة الإرهاب المعاصرة، نأمل بأن تؤخذ بعين الاعتبار، إلى جانب المبررات ذات الطابع السياسي والاجتماعي، الدوافع الثقافية والدينية والإيديولوجية. أمام المخاطر التي تحدق بالإنسانية في عصرنا هذا، تقع على عاتق الكاثوليك في مختلف أنحاء العالم مهمة تكثيف الإعلان "بإنجيل السلام" والشهادة له والتأكيد على أن الإقرار بملء حقيقة الله شرط لا غنى عنه لتدعيم حقيقة السلام. الله هو محبة مخلِّصة، أب عطوف يرغب برؤية أبنائه يقرون بكونهم أخوة ويسعون إلى وضع مواهبهم في خدمة الخير المشترك للعائلة البشرية. الله ينبوع لا يسبر غوره للرجاء الذي يعطي معنى للحياة الشخصية والجماعية. الله، وحده الله، يحرك عمل الخير والسلام.

السابع عشر من أكتوبر

الحفاظ على خير السلام

ولقد أثبت التاريخ أن محاربة الله لاستئصاله من قلوب البشر تقود بالبشرية، الخائفة والمنهكة، نحو خيارات بدون مستقبل. ولا بد أن يدفع هذا الأمر بالمؤمنين بالمسيح إلى أن يكونوا شهودا لله الذي هو حقيقة ومحبة، ويعملوا في خدمة السلام في إطار تعاون مسكوني واسع مع الديانات الأخرى وكذلك أيضا مع جميع البشر ذوي الإرادة الحسنة. إن حقيقة السلام تتطلب من الجميع تغيير الاتجاه عبر خيارات واضحة وحازمة والتطلع نحو نزع السلاح النووي بشكل تدريجي وتوفيقي. بالإمكان عندئذ استخدام الموارد المدَّخرة في مشاريع تنموية لما فيه خير جميع السكان، وبالدرجة الأولى، الأشد فقرا. الأمنية التي تنطلق من صميم القلب هي أن يجد المجتمع الدولي من جديد الشجاعة والحكمة لإطلاق عملية نزع السلاح وتطبيق الحق في السلام الذي هو لكل إنسان وكل شعب. إن التزام مختلف هيئات المجتمع الدولي في صون خير السلام يسمح لها باستعادة السلطة اللازمة كي تكون مبادراتها أكثر مصداقية وحزما. فلنوجه أنظارنا بثقة وتجرد إلى مريم، والدة أمير السلام. في مطلع السنة الجديدة نطلب منها أن تساعد شعب الله كله كي يكون في مختلف الظروف فاعل سلام ويستنير من الحقيقة التي تحرر (يوحنا 8،32). وليزداد، بشفاعة العذراء مريم، تقدير البشرية لهذا الخير الأساسي كي تلتزم في ترسيخ وجوده في العالم لتعطي الأجيال الآتية مستقبلا أكثر أمنا وصفاء.

الثامن عشر من أكتوبر

القلب الجديد

لقد كشف الله عبر النبي حزقيال أنه إذا ما أراد الإنسان أن يعيش هذه الدعوة، فهو بحاجة إلى قلب جديد؛ بدل القلب الحجر – كما يقول حزقيال – نحتاج إلى قلب من لحم، إلى قلب إنساني حقًا. "يزرع" الله هذا القلب عبر الإيمان عندما ننال المعمودية. ليست المسألة قضية زرع جسدي، ولكن ربما يمكننا أن نستعين بهذا التشبيه. بعد زرع الأعضاء، يحتاج الجسد إلى عناية، يحتاج إلى أدوية ضرورية تساعده على العيش مع القلب الجديد، لكي يضحي "قلبه هو" وليس "قلب آخر". ينطبق الأمر عينه على "الزرع الروحي" عندما يزرع الله في داخلنا القلب الجديد، قلبًا منفتحًا على الخالق، على دعوة الله. لكيما نتعايش مع هذا القلب الجديد نحن بحاجة إلى عناية خاصة، يجب علينا أن نلجأ إلى الأدوية المناسبة لكي يضحي "قلبنا" حقًا… يمنحنا الرب قلبًا جديدًا ويجب أن نعيش مع هذا القلب الجديد مستعملين العلاج المناسب لكي نضمن حقًا أن هذا القلب أضحى قلبنا. بهذا الشكل نعيش مع كل ما وهبنا الله وهذا الأمر يولد حياة سعيدة حقًا… الحياة هي كذلك. أن نضحي رجالاً ونساءً بحسب قلب يسوع هو أمر يتطلب تضحية، ولكن هذه التضحيات ليست سلبية أبدًا؛ على العكس، تساعدنا هذه التضحيات على العيش كأشخاص ذوي قلب جديد، تساعدنا على عيش حياة إنسانية وسعيدة حقًا. وبما أن هناك ثقافة إستهلاكية تسعى إلى جعلنا نعيش بعيدًا عن مشروع الله، يجب علينا أن نتحلى بالشجاعة لكي نخلق جُزرًا، واحات، ومساحات شاسعة من الثقافة الكاثوليكية حيث يتم العيش بحس مشروع الخالق.

التاسع عشر من أكتوبر

إعداد مكان لله في المجتمع

نتساءل جميعًا عما يريده الله منا… هناك ميل إلى تقليص حضور الله إلى البعد الفردي الخاص، وإلى مجرد عاطفة… ونتيجة لذلك، يبتكر كل إنسان مشروع حياته. ولكن هذه النظرة، التي يتم عرضها وكأنها نظرة علمية تقبل فقط ما يمكن برهانه، في تعاملها مع إله لا يمكن اختباره بشكل مخبري مباشر، ينتهي بها الأمر بأن تجرح المجتمع أيضًا. فالنتيجة هي أن كل فرد يقوم بتنظيم مشروعه فيجد نفسه في نهاية المطاف في موقف معادٍ للآخر. كما يمكننا أن نرى، لا يمكن العيش وهذه الحال. يجب أن نجعل الله حاضرًا من جديد في مجتمعنا. هذا هو العنصر الجوهري الأساسي: أن يضحي الله من جديد حاضرًا في حياتنا، وألا نعيش كما لو كنا مستقلين، مؤهلين أن نخترع معنى الحرية والحياة. يجب أن ندرك أننا خلائق، وأن هناك إلهًا خلقنا وأن العيش بحسب إرادته ليس تبعية بل هو هبة حب يحيينا. وبالتالي، النقطة الأولى تتمثل بمعرفة الله، بمعرفته بشكل أفضل فأفضل، والتعرف على الله في حياتي، والإقرار بأن لله مكانه… النقطة الثانية، بالتالي، هي التعرف على الله الذي كشف عن وجهه في يسوع، الذي تألم لأجلنا، والذي أحبنا حتى الموت، فانتصر بالتالي على العنف. من الضروري أن نجعل الله الحي حاضرًا في "حياتنا" قبل كل شيء… لا إلهًا يبتكره فكرنا، بل إلهًا كشف عن نفسه، كشف عن كيانه وعن محيّاه. فقط بهذا الشكل تضحي حياتنا إنسانية وأصيلة حقًا؛ وبهذا الشكل تظهر في المجتمع معايير الأنسية الحقة.

العشرون من أكتوبر

المسيحية كوحي

يمكننا أن نقول أن الإيمان المسيحي، أسوة بإيمان إبراهيم، هو أمر لا يمكن أن يزعم أحد ملكيته. فهو ليس أبدًا نتيجة عمل في داخلنا، بل يأتينا من الخارج. وما زال الأمر كذلك حتى الآن. ما من أحد يولد مسيحيًا، ولا حتى في عالم مسيحي ومن أهل مسيحيين. أن يكون المرء مسيحيًا هو دومًا ثمرة ولادة جديدة. الصيرورة المسيحية تبدأ مع المعمودية، التي هي موت وقيامة (رو 6)، وليست ولادة بيولوجية… الإيمان المسيحي ليس ثمرة خبرتنا الشخصية؛ بل بالحري هو حدث يأتي إلينا من الخارج. يرتكز الإيمان على لقائنا بشيء (أو بشخص) يتخطى قدرتنا على استيعاب الأمور. لسنا بصدد توسع وتعمق لخبرتنا، بل بصدد حدوث أمر ما. تصف مفاهيم "اللقاء" و "الآخَرية"، و "الحدث" الأصول الداخلية للإيمان المسيحي وتبين لنا حدود مفهوم "الخبرة". بالطبع، يولِّد ما يلمسنا هناك خبرة ما، ولكن هذه الخبرة هي نتيجة حدث، وليست نتيجة غوص أعمق في ذواتنا. هذا هو بالضبط معنى مفهوم الوحي: هو أمر ليس خاصتنا، ولا يمكننا أن نجده في ممتلكاتنا، بل هو يأتي إلي ويخرجني مما هو لي، أبعد من ذاتي، ويخلق أمرًا جديدًا. وهذا الأمر يحدد طبيعة المسيحية التاريخية، التي ترتكز على أحداث لا على التوصل إلى وعي أعمق للذات الباطنية، أي ما يعرف بـ "الاستنارة". الثالوث ليس عنصرًا من عناصر خبرتنا بل هو واقع يأتينا من الخارج، يأتي إلي من الخارج كـ "وحي".

الحادي والعشرون من أكتوبر

الطابع الإرسالي للكنيسة

يريد المرء الذي يثق ويشترك في إيمان الكنيسة أن يؤمن بهذه الكنيسة. وهذا الأمر يبدو كمسيرة حج تدوم مدى الحياة: للوصول بحياتنا  بأسرها إلى شركة الإيمان. يمكننا أن نقدم هذا الأمر لأي شخص، لكيما يستطيع رويدًا رويدًا أن ينتمي وأن يقوم بخطوة إلى الأمام نحو إيمان الكنيسة، وأن ينخرط في حج الإيمان هذا، لكي ما يقبل نور الإيمان… جوهر المسيحية ليس فكرة بل شخصًا. لقد حاول لاهوتيون عظام أن يصفوا الفكرة الجوهرية التي تكون المسيحية. في نهاية المطاف، لم تكن المسيحية التي بنوها مقنعة، لأن المسيحية في المقام الأول هي حدث، هي شخص. وبالتالي، في هذا الشخص نكتشف غنى محتوى المسيحية… كيف يمكن أن يكتشف المرء أصالته الشخصية أي أن في قلبه ينتظر يسوع حقيقة، إذا ما كانت أصالة الشخص كامنة بالضبط مع المسيح لا من دونه؟ إذا كنا قد وجدنا الرب وإذا كان هو نور وفرح حياتنا، هل نحن أكيدون أنه إذا لم يجد أحد ما المسيح فهو ينقصه شيء جوهري وأن من واجبنا أن نقدم له هذا الأمر الجوهري؟… إذا كنا مقتنعين أننا اختبرنا أن الحياة دون المسيح ليست كاملة، أنه ينقصها أمرٌ وواقع مهم، يجب علينا أن نقتنع أيضًا بأننا لا نؤذي أحدًا إذا ما عرفناه على المسيح وقدمنا له بهذا الشكل أيضًا إمكانية الاكتشاف، فرح اكتشاف الحياة.

 

الثاني والعشرون من أكتوبر 

معنى التبشير بالإنجيل

ما معنى "التبشير"؟ ماذا يحدث عندما نبشر بالإنجيل؟ ما هو الإنجيل؟… لا يمكن الفصل بين الكلمة والعلامات. في كل مرة يتم اعتبار العلامات مجرد عجائب، منفصلة عن الكلمة التي تتضمنها، يتوقف يسوع عن القيام بما هو فاعله. ولكنه لا يقدم تعليمه كمجرد مسألة فكرية، كمسألة نقاش: تتطلب كلماته قرارًا؛ وتخلق واقعًا. بهذا المعنى كلمته هي كلمة "متجسدة"؛ العلاقة بين الكلمة والعلامة تبين عن بنية "أسرارية". يجب علينا أن نقوم بخطوة أخرى. لا يقدم يسوع مكنونات منفصلة عن شخصه، كما هو الحال عادة مع أي علّامة أو راوٍ. فهو أكثر من حاخام، هو مختلف. بقدر ما يتقدم في تعليمه ، يضحي واضحًا أنه يتحدث في أمثاله عن ذاته ، وأن "الملكوت" وشخصه هما الأمر عينه، وأن الملكوت آتٍ في شخصه. الخيار الذي يتطلبه هو خيار يرتبط بنوعية العلاقة التي يقيمها المرء معه… وبالتالي نفهم الآن أن وعظ يسوع هو "أسراري" بمعنى أعمق مما رأينا أعلاه: تحمل رسالته في طياتها واقع التجسد الملموس وموضوع الصليب والقيامة. إنها فعل-قول بأعمق ما في الكلمة من معنى. وبالتالي، تقوم الكنيسة بالإشارة إلى العلاقة المتبادلة بين الوعظ والافخارستيا، وأيضًا إلى العلاقة بين الوعظ وشهادة الحياة في الآلام… ليس موضوع الوعظ المسيحي الكلمات بل "الكلمة".

الثالث والعشرون من أكتوبر

الوعظ كهبة ذات

"أنا" المسيح منفتح بالكامل عن "أنت" الآب؛ لا يبقى منطويًا على ذاته، بل يحملنا إلى داخل حياة الثالوث. هذا يعني أنه لا يجب على الواعظ المسيحي أن يتحدث عن ذاته، بل يجب عليه أن يضحي صوت المسيح بالذات، ويمهد الطريق للوغوس، ويوصل عبر الشركة مع الإنسان-يسوع إلى الشركة مع الله الحي… تتطلب خدمة الكلمة من الكاهن أن يتجرد عن ذاته بشكل عميق… تتطلب خدمة الكلمة شركة في إخلاء ذات (kenosis) المسيح، في "نموه ونقصانه". وأن يقوم الكاهن بالحديث لا عن ذاته بل عن رسالة آخر، لا يعني بكل تأكيد أن الأمر لا يعنيه شخصيًا، بل العكس هو صحيح: فعبر إخلاء ذاته في المسيح يدخل في سره الفصحي، ويجد ذاته حقًا، ويدخل في شركة مع كلمة الله بالذات. إن البنية الفصحية لهذا "اللا ذات" الذي يظهر بالحقيقة كـ "الذات الحقة" يبين، في نهاية المطاف، أن خدمة الكلمة تصل أبعد من كل "الوظائف" لكي تصل إلى كيان الكاهن بالذات، وهذا الأمر يتطلب أن يكون الكهنوت سرًا.

الرابع والعشرون من أكتوبر

الرسالة وخسران الذات

اللقاء بالكلمة هو نعمة بالنسبة لنا، ننالها لكي نستطيع أن نهبها للآخرين بالمجانية عينها التي تلقيناها بها. لقد قام الله بخيار… ويمكننا أن نعترف بتواضع أننا لسنا موفودين غير مستحقين لا نبشر بذواتنا، بل نتحدث بورع مقدس عن أمر ليس خاصتنا، بل يأتي من الله. فقط بهذا الشكل يمكننا أن نفهم العمل الإرسالي… نجد تحديدًا واضحًا  لنموذج العمل الإرسالي في الرسل وفي الكنيسة الأولى، وخصوصًا في خطابات يسوع الإرسالية. في أول مقام، يتطلب العمل الإرسالي الجهوزية للاستشهاد، الجهوزية لخسران الذات من أجل الحقيقة ومن أجل الآخرين. فقط بهذا الشكل يمكنها أن تضحي أهلاً للتصديق؛ ولقد كان هذا حال الإرساليات مرات كثيرة، وهو سيبقى كذلك دومًا. فعند ذلك الحين فقط سيرفع المسيحيون مستوى أولية الحقيقة… تستطيع الحقيقة ويتوجب عليها ألا تحمل أي سلاح إلا ذاتها. يجد المؤمن في الحقيقة الجوهرة التي هو مستعد أن يهب أي شيء، حتى ذاته، للحصول عليها. لأنه يعرف أنه يجد نفسه عندما يخسرها، وأن وحدها حبة الحنطة التي تموت تستطيع أن تأتي بثمر كثير. من آمن وقال أننا "وجدنا الحب" لا بد له أن ينقل هذه الهبة لآخرين. فهو يعرف أنه لا يقوم بأي عمل عنف بهذا الشكل، وأنه لا يدمر هوية أحد، وأنه لا يدمر أية حضارة، بل هو يحررها لكي تحقق مؤهلاتها العظمى؛ ويعرف أنه بهذا الشكل يتمم مسؤولياته.

الخامس والعشرون من أكتوبر

الشريعة: وجه الحقيقة المرئي

الشريعة هي وجه الحقيقة المرئي، هي وجه الله الظاهر، وهي تمنحنا إمكانية العيش المستقيم. أليست هذه أسئلتنا: من أنا؟ إلى أين أنا ذاهب؟ ماذا يجب علي أن أفعل لكي أنظم حياتي؟ إن النشيد لكلمة الله الذي نجده في المزمور 119 يعبر عن فرح الخلاص، فرح معرفة إرادة الله. لأن إرادته هي حقيقتنا وبالتالي سبيلنا؛ إنها جل ما يبحث عنه كل البشر… من خصائص المسيح – الذي هو "أعظم من موسى" – أن يحمل التفسير الكامل للتوراة، لأن التوراة بالذات تتجدد فيه، إذ يظهر الآن جوهرها الحق بكل نقاوته وطابعه، تمامًا كما تضحي النعمة واقعًا لا اعوجاج فيه… توراة المسيح هي المسيح يسوع بالذات. فهو الذي تشير إليه توصية "أصغوا إليه". بهذا الشكل تضحي الشريعة جامعة؛ هي النعمة التي تشكل شعبًا يحقق هويته عبر الإصغاء للكلمة وعبر عيش الارتداد. في هذه التوراة، التي هي يسوع بالذات، يضحي جوهر ما كان مكتوبًا من قبل على لوحي الوصايا مكتوبًا في كائنات حية، وبالتحديد في بعدي وصية الحب. يتم الإشارة إلى هذا  الأمر في الرسالة إلى الفيليبيين (2، 5) في تعبير "فكر المسيح". الاقتداء به والتتلمذ والسير وراءه هو إذُا حفظ التوراة، التي اكتملت فيه بشكل نهائي. ولذا فقط تم تجاوز عهد سيناء. ولكن بعدما زال منه ما كان عابرًا، نستطيع أن نرى ما هو ثابت فيه.

السادس والعشرون من أكتوبر

طبيعة العهد

من طبع الله أن يحب ما خلق؛ ولذا من طبيعته أن يرتبط، وفي قيامه بذلك، يسير مسيرة الصليب. وبالتالي، بحسب نظر الكتاب المقدس، تؤدي طبيعة عمل الله اللامشروطة إلى علاقة ثنائية تضحي فيها الوصية عهدًا. لقد وصف آباء الكنيسة هذه الثنائية الجديدة، التي تنبع من الإيمان بالمسيح محقق الوعود بعبارتين: "تجسد الله" و "تأليه الإنسان". يرتبط الله بنا عبر هبة الكتاب المقدس ككلمة وعد ملزمة، ولكنه يذهب أبعد من ذلك عبر ربط ذاته، ووجوده، بالخليقة البشرية آخذًا الطبيعة البشرية. هذا يعني بأن حلم الإنسان الأولي يضحي حقيقة، إذ يضحي الإنسان "مثل الله": في تبادل الطبائع، أضحت طبيعة العهد اللامشروطة علاقة ثنائية نهائية… عندما نقول أن الإنسان هو صورة الله، فهذا يعني أنه خلق للدخول في علاقة، وأنه يسعى إلى العلاقة التي هي ركيزة وجوده. في هذا الإطار، يشكل العهد جواب الإنسان كصورة الله؛ يبين لنا العهد هويتنا وهوية الله. وبالنسبة لله، كونه علاقة بكليته، لن يكون العهد أمرًا خارجيًا في التاريخ، بعيدًا عن كيانه، بل التعبير عن ذاته، و"تألق وجهه".

السابع والعشرون من أكتوبر

يقين الرسالة

الكلمة الأخيرة التي يوجهها القائم من الموت إلى تلاميذه هي كلمة رسالة إلى أقاصي الأرض: "اذهبوا وتلمذوا كل الأمم، وعمدوهم… [و] علموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به" (مت 28، 19؛ راجع رسل 1، 8). لقد دخلت المسيحية العالم في وعي مهمة شاملة. منذ اللحظة الأولى، عرف المؤمنون بالمسيح أن من مسؤوليتهم أن يسلموا إيمانهم إلى العالم بأسره؛ رأوا في إيمانهم أمرًا لا يخصهم وحدهم، أمرًا يستطيع أيًا كان أن يحصل عليه. ولكان عدم أمانة ألا يحملوا ما قد تلقوه إلى أقاصي الأرض. لم تكن السلطة الدافع الذي أطلق شمولية المسيحية، بل اليقين بأن المسيحيين تلقوا علم الخلاص والحب الفادي الذي تنتظره وتتوق إليه كل الشعوب من أعماق كيانها. كانت الرسالة تعتبر، لا كضمّ للشعوب إلى دائرة سيطرة المسيحية، بل كتسليم وكواجب نقل ما هو للجميع، وما يحتاجه الجميع.

الثامن والعشرون من أكتوبر

الشهادة لشخص

تتفق الأناجيل في القول أن دعوة الرسل رسمت الخطوات الأولى من مسيرة يسوع. كان هناك أشخاص ينتظرون ملكوت الله، ويتوقون إلى معرفة المسيح الآتي، والذي كان يقال بأنه قريب. وكان كافيًا أن يشير يوحنا المعمدان إلى يسوع كحمل الله (راجع يو 1، 36) لكي يشعل فيهم الشوق للقاء شخصي مع المعلم. بهذا الشكل بدأت مغامرة الرسل، كلقاء أشخاص منفتحين بعضهم على بعض. بالنسبة للرسل، كان هذا اللقاء بدء حميمية مباشرة مع المعلم، لمعرفة أين يقيم والبدء في التعرف عليه. فتبشيرهم المستقبلي لن يكون إعلان فكرة بل شهادة لشخص. وقبل أن يُرسلوا للتبشير، كان عليهم أن "يكونوا" مع يسوع (راجع مر 3، 14)، أي أن يقيموا علاقة شخصية معه. على هذا الأساس، ما كان التبشير بالإنجيل إلا إعلان ما خبروه، ودعوة للدخول في سر الشركة مع المسيح (راجع 1 يو 1، 1 – 3). وبالتالي فالاثنا عشر، عبر مشاركتهم في رسالة يسوع، يعاونون راعي الأزمنة الأخيرة، ويبحثون عن الخراف الضالة من بيت إسرائيل، أي يعلنون لشعب الوعد، الذي يعبر جمعه عن علامة خلاص لكل الشعوب، بدءَ شمولية العهد. إن وصية الله بجمع الشعوب طرًا في وحدة حبه ما تزال أمرًا ساريًا. هذا هو رجاؤنا وهذا هو تفويضنا: الإسهام في هذه الشمولية، في هذه الوحدة الحقيقية لغنى الثقافات، وفي الشركة مع ربنا الحق، يسوع المسيح.

التاسع والعشرون من أكتوبر

حقيقة الكتاب المقدس

تفسير الكتاب المقدس يعني، ليس فقط الاصغاء إلى الكتّاب التاريخيين الذين تعرضهم، لا بل تقدمهم في تعارضهم، بل البحث عن صوت الكلية الأوحد، والتفتيش عن الهوية الداخلية التي تسند وتربط الكل. تحاول الطريقة التاريخية البحت أن تجد لحظة الخلق، فتفصلها بالتالي عن الوقائع الأخرى وتحددها. أما التفسير اللاهوتي، فرغم أنه لا يرفض البحث التاريخي في مجاله، إلا أنه يتجاوزه. فاللحظة لا تتواجد بشكل منعزل. إنها جزء من الكل، ولا يمكنني أن أفهم هذا الجزء ما لم أفهمه في ارتباطه بالكل… الكتاب المقدس يشرح الكتاب المقدس… ولذا فقراءة الكتاب المقدس تحمل معها مبدأ آخر. وهي تعني أن قراءتها يجب أن تكون قراءة واقع هو حاضر الآن، ليس فقط لمعرفة ما جرى في الماضي وما كان الناس يفكرون به في الماضي، بل أيضًا لمعرفة الحق. وهذا هدف آخر لا يستطيع أن يتوصل إليه التفسير التاريخي البحت بشكل مباشر. فهذا النوع من التفسير يركز، في نهاية المطاف، على اللحظة الماضية في تفسير النص وبالتالي يقرأها بالضرورة تبعًا للتاريخ الذي يسبقها… إن مسألة الحقيقة هي مسألة ساذجة وغير علمية. ولكن مع ذلك فهي مسألة حقيقية في الكتاب المقدس… وتحوز المسألة معناها فقط إذا كان الكتاب المقدس واقعًا حاضرًا، إذا كان هناك فاعل حاضر يتكلم من خلال هذا الكتاب المقدس، وإذا كان هذا الفاعل الحاضر يتحدث في الكتاب المقدس، وإذا كان مختلفًا عن كل الفاعلين التاريخيين الأحياء، فذلك لأنه مرتبط بالحقيقة، وبالتالي يمكنه أن يسبغ على الخطاب البشري معرفةَ الحقيقة.

الثلاثون من أكتوبر

العقل الخالق هو الحب

من الأهمية بمكان أن ننتبه إلى إيماءات الرب في مسيرتنا. فهو يخاطبنا عبر الأحداث، عبر الأشخاص وعبر اللقاءات؛ من الضروري أن ننتبه إلى كل هذه الأمور. من الضروري أن ندخل في صداقة حقيقية مع يسوع عبر علاقة شخصية معه ولا أن نعرف من هو يسوع من خلال الآخرين ومن خلال الكتب، بل أن نعيش علاقة شخصية أعمق مع يسوع، حيث يمكننا أن نبدأ في فهم ما يريده منا… بقدر ما ننقب في العالم عبر فكرنا، بقدر ذلك يظهر بوضوح مشروع الخليقة. وفي نهاية المطاف، للوصول إلى السؤال النهائي أقول: هل الله موجود أو هو غير موجود. هناك خياران وحسب. فإما أن يعترف المرء بأولوية العقل، العقل الخلاق الذي هو مصدر كل الأشياء، وهو مبدأ كل الأشياء – أولوية العقل هي أيضًا أولوية الحرية – وإما أن يتمسك بأولوية اللاعقلاني، معتبرًا أن كل ما يجري في كوكبنا وفي حياتنا هو مجرد أمر عرضي، هامشي، ونتيجة للاعقلانية – ويكون العقل عندها ثمرة اللاعقلانية. ليس بإمكان المرء أن "يبرهن" عن حقيقة أي من هذين الخيارين، ولكن خيار المسيحية العظيم هو خيار العقلانية وخيار مبدأ أولوية العقل. وهذا بالنسبة لي هو خيار ممتاز يرينا أن وراء كل شيء هناك ذكاء عظيم يمكننا أن نوكل أنفسنا إليه… وبالتالي يمكننا أن نعمل بثقة على تكوين نظرة للعالم ترتكز على أولوية العقل، على هذه الثقة بأن العقل الخالق هو الحب، وأن هذا الحب هو الله.

 

الحادي والثلاثون من أكتوبر

تشابيه جهنم

تمر المسيرة نحو الحب الأصيل عبر خسران الذات وعبر كل آلام الخروج. وبالتالي تمتد على طول الطريق كل تلك التجارب التي تحرضنا للوصول إلى مرامنا بشكل أسرع، وتحضنا على القبول بالبدائل. فقط في وقت لاحق يمكننا أن ندرك بأن هذه البدائل لا تحمل إلينا إلا خيبة كبرى وتغرقنا في وحدة لا تحتمل، وفي إحباط وجود فارغ بالتمام. هذه صور عن جهنم. لأنه إذا ما سألنا أنفسنا عن معنى جهنم الحقيقي، كان الجواب التالي: عدم التمتع أبدًا بأي شيء البتة، وعدم محبة أي شيء أو أي أحد، وعدم التمتع بمحبة أحد. هو خسران كل قدرات الحب والخروج من دائرة إمكانية الحب – هذا هو الفراغ الكلي، التي يعيش فيها الإنسان في تناقض مع طبيعته، وتتدمر حياته بالكامل. إذا كانت خاصية الإنسان الجوهرية هي شبهه لله، وقدرته على المحبة، فالبشرية ككل وكل شخص منا يستطيع أن يبقى على قيد الحياة فقط حيث يوجد الحب وحيث نتعلم السبيل إلى هذا الحب. فلنرجع إلى المسيح: إن عمل المسيح الخلاصي يتألف من جعل حب الله مفهومًا بالنسبة لنا. يحمل المسيح هذه الحب إلى حميمية كل منا، وعبر مسيرة صليبه يرافق كل منا في سبيل فقدان الذات. وعبر تحويل شريعة الحب إلى هبة الحب، ينتصر المسيح على أكبر وحدة ممكنة، حالة عدم الخلاص.