كلمة البابا خلال الاحتفال بأربعاء الرماد

الخميس 26 فبراير 2009 (zenit.org).

ننشر في ما يلي الكلمة التي القاها بندكتس السادس عشر خلال القداس الذي احتفل به بمناسبة أربعاء الرماد في كنيسة القديسة سابينا في روما.

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء!

اليوم، في أربعاء الرماد – الباب الليتورجي الذي يفتتح زمن الصوم –  تلخص النصوص المعدة للاحتفال فيزيونوميا فترة الصوم بكاملها. الكنيسة تعنى بإظهار ما ينبغي أن يكون التوجيه لروحنا، وتقدم لنا العون الإلهي لنمضي قدماً بتصميم وشجاعة، مستنيرين ببهاء السر الفصحي، هذه المسيرة الفريدة التي بدأناها للتو.

"عودوا إلي بكل قلبكم". هذه الدعوة الى الاهتداء هي الموضوع الرئيسي في كل مكونات ليتورجية اليوم. في صلاة البدء، نسمع بأن الرب ينسى ويغفر خطايا التائبين؛ ثم بعدها نسمع النداء الى كل واحد منا لسلوك "مسيرة توبة حقيقية".

في القراءة الأولى، يدعو النبي يوئيل الى العودة الى الآب " بكل القلب وبالصوم والبكاء والانتنحاب… لأن الرب حنون رحيم، طويل الأناة وكثير الرحمة" (2: 12-13). إن وعد الله واضح: إذا سمع الشعب الدعوة الى التوبة، فستفيض رحمة الله، وسيغمر أصفياءه بالنعم. في المزمور 50، تتحد الجماعة لتطلب من الرب أن "يخلق فينا "قلباً نقياً" وان يجدد في داخلنا "روحاً مستقيماً"".

أما المقطع الإنجيلي، الذي يحذرنا فيه يسوع من الغرور والمكر والسطحية والاكتفاء الذاتي، فيحثنا على تنمية استقامة القلب. وهو في الوقت عينه يدلنا على الوسيلة لننمو في نقاوة النوايا: تنمية الحميمة مع الآب السماوي.

في هذه السنة البولسية التي نحتقل فيها بذكرى الالفي سنة على ولادة رسول الأمم، تضع هذه المناسبة أمامنا الرسالة الثانية الى أهل كورنثوس: "نسألكم باسم المسيح أن تدعوا الله يصالحكم" (5: 20). دعوة الرسول هذه هي دافع إضافي لأخذ مسألة التوبة خلال الصوم على محمل الجد.

لقد اختبر بولس بطريقة رائعة قوة نعمة الله، نعمة السر الفصحي الذي منه يحيا زمن الصوم. وهو يقدم ذاته لنا كـ "سفير" للرب. ومن أفضل منه يمكنه أن يساعدنا على القيام بهذه المسيرة من التوبة الداخلية بطريقة مثمرة؟ في الرسالة الأولى الى تيموتاوس يقول: " المسيح جاء الى العالم ليخلص الخاطئين، وانا أولهم"، ويضيف: " فإني ما نلت الرحمة إلا ليظهر المسيح يسوع طول أناته فيّ أولاً، ويجعل مني مثلاً للذين سيؤمنون به، في سبيل الحياة الأبدية (1: 15-16).

الرسول إذاً يعي بأنه الرب اختاره مثالاً ، ومثاله يتعلق بالاهتداء، التحول الذي حصل في حياته بفضل محبة الله الرحومة. "أنا الذي كان في ما مضى مجدفاً مضطهداً عنيفاً، ولكني نلت الرحمة … ففاضت نعمة الرب" (1: 13-14). تبشير بولس بكامله – وقبل ذلك ايضاً كل وجوده الرسولي، قاداه الى عيش خبرة النعمة العميقة. " بنعمة الله ما انا عليه – يكتب الى اهل كورنثوس – … فقد جهدت أكثر منهم جميعاً (الرسل)، وما أنا جهدت بل نعمة الله التي هي معي (1 كو 15: 10). إنه إدراك يظهر في كل كتاباته، وكان بمثابة رافعة داخلية استعان بها الله ليدفعه الى الأمام، نحو حدود تتخطى الجغرافيا، حدود روحية.

القديس بولس يعترف بأن كل ما هو فيه هو عمل الرحمة الإلهية، ولا ينسى بأنه من الأهمية الاقتراب بحرية من هبة الحياة الجديدة المعطاة في العماد. في الفصل السادس من الرسالة الى أهل روما – والذي سيقرأ في أمسية الفصح – يكتب بولس: " فلا تسودن الخطيئة جسدكم الفاني فتذعنوا لشهواتكم، ولا تجعلوا من أعضائكم سلاحاً للظلم في سبيل الخطيئة، بل اجعلوا أنفسكم في خدمة الله، على أنكم أحياء قاموا من بين الأموات، واجعلوا من أعضائكم سلاحاً للبر في سبيل الله" (6: 12-13). في هذه الكلمات نجد كيان الصوم، ببعده العمادي. فمن جهة، يظهر انتصار المسيح على الخطيئة بموته وقيامته؛ ومن جهة أخرى، نحن مدعوون الى عدم تقديم اعضائنا للخطيئة، اي ان لا ندع الخطيئة تثأر منا. انتصار المسيح هو ايضاً انتصار الرسول، وهذا يحصل قبل كل شيء في العماد، الذي من خلاله – وبالاتحاد بيسوع – أصبحنا أحياء، عائدين من الموت". على المعمد – الذي يملك يسوع في نفسه – ان يتبع تعاليم الرب بأمانة، ويجب ألا يتوانى عن حذره، لكي لا يسمح للعدو أن يستعيد ميدانه بطريقة ما.

ولكن كيف تبلغ دعوة العماد ملأها، وكيف ننتصر في الصراع بين الجسد والروح، بين الخير والشر، صراع يسم وجودنا؟ في المقطع الإنجيلي، يقترح علينا الرب ثلاث وسائل: الصلاة، الصدقة والصوم. في خبرة وفي كتابات بولس نجد ايضاً ما يدل على ذلك.

في ما يتعلق بالصلاة، يحث بولس على "المثابرة" و"على السهر، والشكر" (رو 12: 12 و كو 4: 2)، على "الصلاة بلا انقطاع" (1تي 5: 17). أما في ما يتعلق بالصدقة، فتلقى أهمية، الصفحات التي كتبها عن مساعدة الإخوة الفقراء (2 كو 8 – 9)، ولكن من الأهمية التركيز على أنه بالنسبة إليه تحتل المحبة قمة حياة المؤمن "رباط الكمال": " والبسوا فوق كل ذلك – يكتب لأهل كولوسي – ثوب المحبة، فإنها رباط الكمال" (كو 3: 14). عن الصوم لا يقول بولس الكثير، غير أنه يحث على الوعي والرشد، كميزة المدعو للسهر بانتظار الرب (راجع 1 تي 5: 6-8، و 2: 12). مثير للاهتمام ايضاً الجهاد الروحي الذي يتطلب ضبط النفس: " كل مبار – يكتب بولس الى اهل كونثوس – يحرم نفسه كل شيء. اما هؤلاء فلكي ينالوا إكليلاً يزول، وأما نحن فلكي ننال إكليلاً لا يزول" (1 كو 9: 25).

هذه إذن هي دعوة المسيحيين: بقيامتهم في المسيح، عبروا الموت، وباتت حياتهم مع المسيح في الله (راجع كو 3: 1-2). لعيش هذا "الحضور" الجديد في الله، لا بد لنا من أن نتغذى من كلمة الله.

يسوع يقولها بوضوح عندما يجيب على أول تجربة في الصحراء :"ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بكل بكل كلمة تخرج من فم الله (مت 4: 4). لقد فهم القديس بولس ذلك ولذلك يقول: "لتنزل فيكم كلمة المسيح وافرة، لتعلموا بعضكم بعضاً وتتبادلوا النصيحة بكل حكمة. رتلوا لله من صميم قلوبكم، شاكرين بمزامير وتسابيح وأناشيد روحية" (كو 3: 16)

بولس شاهد على كل ذلك: رسائله دليل قاطع على انه كان يعيش من كلمة الله: الفكر، العمل، اللاهوت، التبشير، كل ما فيه هو ثمرة الكلمة، التي تلقاها منذ حداثته في الإيمان اليهودي، والتي ظهرت بملئها لعينيه خلال اللقاء بيسوع المائت والقائم، ومن ثم بشر بها طيلة حياته الإرسالية. له أُظهر بأن الله قال في يسوع المسيح كلمته الاخيرة، كلمة الخلاص التي اكتملت في سر الصليب. لقد ختم بولس: "أما انا فلا افتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح! وفيه أصبح العالم مصلوباً عندي، وأصبحت أنا مصلوباً عند العالم" (غل 6: 14). في بولس، اضحت الكلمة حياة، وافتخاره الوحيد هو يسوع المصلوب والقائم.

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، بينما نستعد لنقبل الرماد على رؤوسنا، علامة الاهتداء والتوبة، فلنفتح قلوبنا على عمل كلمة الله المحيي. فيلكن الصوم – الذي يتميز بإصغاء أكبر لكلمة الله، وبالصلاة الحارة، وبنمط حياة توبة – دافعاً الى الاهتداء والى المحبة الصادقة تجاه الإخوة، وبخاصة الفقراء والمعوزين.

فليرافقنا القديس بولس، ولترشدنا مريم – عذراء الإصغاء وخادمة الرب المتواضعة، لنحتفل – متجددين بالروح – بفرح الفصح. آمين

نقله الى العربية طوني عساف – وكالة زينيت العالمية (zenit.org)